الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
(148) قوله تعالى هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ .. الآية 138
تاريخ النشر: ١٩ / جمادى الأولى / ١٤٣٨
التحميل: 464
مرات الإستماع: 945

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

في هذا السياق الذي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيه وقعة أُحد في سورة آل عمران، حيث عزى أهل الإيمان هذه التعزية، وسلاهم هذه التسلية، إلى أن قال: قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِين [آل عمران:137] فسُننه جارية على الجميع، لا تتبدل، ولا تتحول، وقد مضى الكلام على ذلك.

ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعده: هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ [آل عمران:138] أي: هذا القرآن بيان للناس، وأيضًا فإن ما مضى من الآيات في هذه السورة الكريمة بيان للناس، يُبين لهم الحقائق، وما يحتاجون إليه في تحصيل سعادتهم، وما يكون فيه رشدهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة، ويُبين لهم طريق الحق والإيمان، وشرائع الإسلام، وكذلك هو موعظة وهدى يهديهم إلى صراطه المستقيم، وهو موعظة يُذكرهم بها، ويعظهم من أجل أن تخشع القلوب، وتستكين النفوس والأرواح، وتستجيب لخالقها وباريها -جل جلاله وتقدست أسماؤه-.

وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين أي: الذين يجعلون بينهم وبين عذاب الله وقاية، بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى.

فيُؤخذ من قوله: هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ هذا القرآن، وهذا الذي مضى من الآيات بيان للناس، فهو بيان لجميع الخلق، يعُم كل من فقهه، يُبين لهم ويُرشدهم ويدلهم على الحق، والصراط المستقيم، أما الموعظة والهدى، فإنهما للمتقين، فقوله: هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ أي: لكل الناس، وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين خص المتقين بذلك لأن غير المتقين لا يحصل لهم الموعظة بهذا، ولا تتحرك قلوبهم، ولا تستجيب نفوسهم، ولا يهتدون به؛ ولذلك قال في أول سورة البقرة: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِين [البقرة:2] وذكر أوصافهم، وأيضًا فإن الكلمة الهادية لا يستشرفها إلا القلب المُهيأ المفتوح للهدى؛ ولذلك فإن التقوى هي الأمر الذي يحصل به التوطئة للقبول والاستجابة والإذعان والانقياد لأمر الله -تبارك وتعالى-، فمن ثَم فإنه لا ينتفع بهذا القرآن إلا القلب التقي الحي النابض بالإيمان، فهو الذي يتحرك، تُحركه المواعظ، وهدايات القرآن، أما البيان فهو للجميع هَـذَا بَيَانٌ فهذا يشمل المؤمن والكافر، والبر والفاجر، فهذا العموم لكل الناس مأخوذ من قوله: لِّلنَّاسِ فهذا للجنس، وهذا العموم على إطلاقه، بمعنى أنه بيان لهم في كل شيء فهو يُبين لكل الناس، وأيضًا حُذف المتعلق فلم يذكر المُبين ما هو؟ فيُحمل على العموم المناسب في كل مقام؛ لأن القاعدة: أن حذف المتعلق -يعني المُقدر- يُفيد العموم النسبي، فقال هنا: هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ بيان في ماذا؟ وفي أي شأن؟ في شؤون الأسرة؟ أم في شؤون الاعتقاد؟ أم في المعاملات؟ أو في العبادات؟ أطلقه، فهو بيان للناس فيما يتصل بالاعتقاد، والتعريف بالمعبود ، يعني بأسمائه وصفاته وإلهيته وربوبيته، فهو يُعرفهم بربهم وخالقهم ، ويُعرفهم بالطريق الموصل إليه، وتفاصيل الصراط المستقيم، كذلك يُبين لهم الدار التي يصلون إليها مفصلة، ويُبين لهم أيضًا المنشأ، من أين جاءوا؟ والغاية التي وجدوا من أجلها، وهي عبادة الله ، فكل هذا مما يُبينه لهم القرآن، فيُبين لهم كل ما يحتاجون إليه؛ ولهذا فإن القرآن هدى وبيان في كل شأن مما تدعو حاجة الناس إليه، ولا يُفهم من هذا بحال من الأحوال أن القرآن جاء ليُبين الأمور التي لا تتعلق بالهداية، كما ذهب بعضهم، حيث قالوا: إن القرآن قد تضمن جميع العلوم، فأدخلوا فيه علم الزراعة، والحساب، والطب، والهندسة، وعلم الآلات والحركة، وسائر العلوم المختلفة، وعدوا الآلاف من العلوم، فقالوا: كل ذلك موجود في القرآن، فإذا جاءت آية تتحدث عن الفلك أسهبوا وتوسعوا في شرحها وتفسيرها، وتكلموا على تلك العلوم بالتفصيل، والواقع أن القرآن لم يأتِ لهذا، نعم فيه إشارات إلى بعض الجوانب التي يربطهم من خلالها بالموضوع الأساس، وهو أن المعبود واحد، وأنه ذو القُدرة الكاملة الذي ينبغي أن تتوجه القلوب إليه، وأن يُعبد وحده دون من سواه، هذا ما جاء به القرآن، أما أن يُقحم في القرآن سائر العلوم، كما أُلفت في هذا كتب كثيرة، وبعض هذه الكتب يصل إلى خمسة وعشرين مجلدًا، وما تركوا شيئًا إلا أدخلوه في القرآن، فهذا غير صحيح، فالقرآن لم ينـزل ليشرح العلوم الطبيعية والفلكية والتجريبية، وما أشبه هذا، وإنما هو كتاب هداية، فإذا فهمنا هذا القدر نعلم بعد ذلك أنه لا يصح التوسع والإسراف عند تفسيره بإقحام هذه العلوم فيه.

وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين خصَّ الهدى والموعظة للمتقين، فدلَّ ذلك على أن الذي ينتفع بالقرآن هم أهل هذا الوصف (أهل التقوى) وقد عرفنا في مناسبات متعددة أن التقوى سبب للاتعاظ والقبول والهداية، ونحو ذلك.

إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29] يعني: تفرقون به بين الحق والباطل، فإذا التبست الأمور على الناس، ووقعت الفتن، أو الشُبهات، ونحو هذا، فيحصل الفرقان لأهل التقوى، ويُميزون بين معدن الحق ومعدن الشُبهات.

وأيضًا كما ذكرنا في القاعدة: أن الحكم المعلق على وصف، يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين فالوصف هو التقوى، والحكم أنه هدى وموعظة.

فإذا طبقنا القاعدة على هذا، فيكون للإنسان من الهداية والموعظة بهذا القرآن من الاهتداء والاتعاظ به بقدر ما عنده من التقوى، فإذا ضعُفت التقوى ضعُف الانتفاع بالقرآن والاهتداء به، والاتعاظ بمواعظه.

ثم لاحظ أيضًا أنه وصف القرآن كله بأنه موعظة بأحكامه وعقائده وأخباره، وما إلى ذلك، فكل القرآن موعظة، ومن ثَم فإنه لا يصح بحال من الأحوال النظر إلى الوعظ والموعظة على أنها مهنة لمن لا تحقيق له، ولا بصر له بالعلم، فيترفع عنها بعض من ينتسب إلى بعض العلوم، كالفقه والحديث، وما إلى ذلك، فهذا خطأ، ويسهم في وجود وعاظ وقُصاص يذكرون أخبار لا حقيقة لها، ويتزيدون فيها، ولا يُميزون بين الغث والسمين، وهذا لا يعني أن الموعظة تحمل أوصافًا قاصرة وناقصة، وأنها لا تليق بطالب العلم، هذا الكلام غير صحيح، فالله وصف القرآن بأنه موعظة، وأيضًا النبي ﷺ يعِظ، وقد جاء في الحديث: "وعظنا رسول الله -صلى الله وآله وسلم- موعظة، وجلت منها القلوب"[1]، فهو أكمل الأمة، وأعلم الأمة بالله وبشرعه وكتابه، ويعظ أصحابه، فالوعظ ليس بقصور، ولا نقص، فلا يصح لطالب العلم أن يتباعد عن هذا، من أجل أن لا يوصف بأنه واعظ، أو أنه يعظ، أو أن في كلامه مواعظة، هذا غير صحيح، وهو من الأفهام القاصرة.

وأيضًا فقوله: وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِين هذا أيضًا يدل بمفهوم المخالفة على أنه إذا كان هدى وموعظة للمتقين أن من لم يتعظ بالقرآن، ولم يتأثر به، ولم ينـزجر، فعليه أن يرجع إلى نفسه، فمعنى ذلك أن تقواه ناقصة، وأن لديه خلل في التقوى، فلو كانت تقواه على الوجه الصحيح، لكان منتفعًا بالقرآن، فهذا الذي يقرأ القرآن، أو يسمع القرآن من أوله إلى آخره، ثم بعد ذلك لا يتحرك قلبه، ولا يستجيب، فمثل هذا إنما كان لاختلال تقواه.

وقد يقول قائل: ورد أن المشركين كانوا يتأثرون حينما يسمعون القرآن من النبي ﷺ، أو من أبي بكر، أو من أصحابه بمكة، حينما كانوا يقرأون، أو بعض من أُسر منهم في المدينة، كجُبير بن مُطعم لما قدِم على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون [الطور:35] فقال: "كاد قلبي أن يطير"[2]، فمثل هذا يحصل لمن لم يصل إلى مرحلة الطبع؛ ولهذا يقول الله : إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد [ق:37] يعني: له قلب فيه حياة، وكذلك يحتاج إلى أن يُحضر هذا القلب أثناء الاستماع، وَهُوَ شَهِيد يعني: يُحضر قلبه، ويُلقي بسمعه، فيُنصت للكلام، فمثل هذا قد يهتدي ويتأثر، فهذا أمر معلوم، فهذا الذي يستجيب ويمتثل لشرع الله وأوامره ونواهيه، ونحو ذلك، هو المؤمن التقي، فهؤلاء قد يتأثرون، ولكن بعد ذلك قد يرجعون وينكصون، كما قال الله -تبارك وتعالى-: فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ۝ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:24-25] فهذا بعد ما تأثر وعرف أن هذا ليس بسحر ولا كهانة ولا كلام بشر، وليس بشعر ولا غير ذلك، ومع ذلك أدبر واستكبر، فحمله ذلك على الإعراض والتكذيب.

وأيضًا قد يستمع الإنسان، ثم بعد ذلك يتأثر، لكن سرعان ما يتلاشى هذا التأثر، إلا من أراد الله هدايته، فإنه يهتدي، لكن أهل الطبع والختم الذين جعل الله على قلوبهم الأكنة والأغلفة والران، وما أشبه ذلك، فهؤلاء لا ينتفعون ولا يتأثرون، وهؤلاء يخرجون ويقولون: ماذا قال آنفًا؟ وأَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [التوبة:124] فهذه الفئة الأولى، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُون ۝ خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ [البقرة:6-7] فهؤلاء لا تحصل لهم استجابة، لكن الفئة الثانية، وهي الكفار الذين لم يُطبع على قلوبهم، قد يتأثرون ويهتدون، وقد لا يهتدون، والفئة الثالثة: هم أهل الإيمان، فيكون لهم من الاستجابة والامتثال والعمل والتطبيق والتأثر بقدر ما عندهم من التقوى، كما هو مشاهد، فالإنسان الذي عنده تقوى إذا سمع الآية تأثر وطبق وعمل وخاف، وضعيف التقوى لا تحركه كثيرًا، فيخرج كما دخل، والله المستعان، فهذه أحوال مختلفة للناس عند سماع القرآن.

هذا ما يتعلق بهذه الآية الكريمة.

وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وذهاب أحزاننا، وجلاء همومنا، اللهم ذكرنا منه ما نُسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل، وأطراف النهار على الوجه الذي يُرضيك عنا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه الترمذي في أبواب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع برقم (2676) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب اتباع سنة الخلفاء الراشدين المهديين (43) وصححه الألباني.
  2. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق:39] برقم (4854).

مواد ذات صلة