الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[4] من قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} الآية:41‏
تاريخ النشر: ٠٨ / ربيع الآخر / ١٤٣٣
التحميل: 5405
مرات الإستماع: 22614

بسم الله الرحمن الرحيم

وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ۝ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ ۝ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ [يس:41-44].

يقول تعالى: ودلالة لهم أيضا على قدرته –تبارك وتعالى- تسخيره البحر ليحمل السفن، فمن ذلك -بل أوله- سفينة نوح التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين، الذين لم يبق على وجه الأرض من ذرية آدم غيرهم؛ ولهذا قال: وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ أي: آباءهم، فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي: في السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات التي أمره الله أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.

قال ابن عباس: المشحون: الموقر، وكذا قال سعيد بن جبير، والشعبي، وقتادة، والضحاك والسدي.

وقال الضحاك، وقتادة، وابن زيد: وهي سفينة نوح .

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يس:41]، قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: ودلالة لهم أيضا على قدرته -تبارك وتعالى- تسخيره البحر ليحمل السفن، هنا فسر الآية بمعناها المشهور المعروف وهو العلامة والدلالة، فذلك دليل على قدرته -تبارك وتعالى- فإن الآية تأتي بمعنى الطاعة.

وبعضهم يقول: إنها تأتي بمعنى آخر وهو الجماعة، وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرد هذا المعنى الثاني ويرى أن جميع الاستعمال في مثل هذه المادة يرجع إلى معنى العلامة، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- فسر ذلك بأنه دلالة على قدرته -تبارك وتعالى.

وبعضهم يقول: يحمل ذلك على النعمة أو العبرة وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ۝ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ۝ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ [سورة يس:31-35]، قالوا: فإن الله -تبارك وتعالى- يعدد نعمه وآلاءه على عباده، ويمتن بذلك عليهم، فمن جملة ما امتن به ما ذكره هنا أنه حمل ذريتهم في الفلك المشحون، ومن نظر إلى ما ذكر قبله من إهلاك القرون قبلهم، وما إلى ذلك من دلائل القدرة أن ذلك عبرة فحمل هذا الموضع أيضاً على أن ذلك يراد به العبرة.

ومن نظر أن ذلك جميعاً يرجع إلى بيان عظمته -تبارك وتعالى- وقدرته الكاملة حمل هذا الموضع على ذلك، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، فإنه -تبارك وتعالى- لما ذكر استهزاء العباد وكفرهم ذكر بعد ذلك إهلاك القرون المكذبة، وكذلك أيضاً ذكر دلائل القدرة على البعث والنشور لأنه قال: وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [سورة يس:32]، فذكر دلائل القدرة على البعث، وذلك بإخراج النبات وإحياء الأرض الميتة، وفي ثنايا هذا ذكر ما يمتن به على عباده من إخراج الثمار، وتفجير العيون وما إلى ذلك، فهذا كله دليل على قدرته الباهرة -جل جلاله وتقدست أسماؤه- فهذا من جملتهوَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يس:41]

وهنا يرد سؤال وهو: هل تقال الذرية للآباء أو يقال ذلك للأبناء؟

هنا ابن كثير قال: ذُرِّيَّتَهُمْ أي: آباءهم، كيف قال عنهم ذرية وهم الآباء؟

هذا يتوقف أولاً على المراد بقوله: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ هل المراد به سفينة نوح؟ أو المراد به السفن؟ فمن فسره بالسفن فلا إشكال عنده، ويكون المعنى: أن الله يمتن عليهم بحمل ذريتهم وأولادهم في السفن، وهنا يقال المنة على الأبناء تلحق الآباء فيمتن عليهم في نفس الوقت.

وإذا قيل الفلك المشحون هو هنا سفينة نوح ﷺ فبعضهم يقول: يرجع الخطاب إلى القرون الماضية، فيكون المراد أنه يمكن أن يكون الناس الذين كانوا قبل نوح ﷺ حمل الله ذريتهم في الفلك المشحون.

فالضمير في قوله سبحانه: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ في الموضعين يرجع إلى القرون القديمة، فيكون المقصود بالذرية التي حُملت أن الذين ركبوا مع نوح ﷺ من ذريتهم أي من ذرية تلك القرون قبل نوح -عليه الصلاة والسلام، وإذا قيل: إن الخطاب متوجه لكفار مكة مثلاً ونحوهم كما يقوله بعض أهل العلم وهو اختيار الأخفش وجماعة فهنا يرد السؤال، كيف سماهم ذرية وهم الأجداد؟

إذا قلنا: إن المراد بالفلك المشحون سفينة نوح، هنا قال الذرية وهي من الأضداد في اللغة فهي تطلق على الآباء وتطلق أيضاً على الأبناء، الذرية في اللغة من الأضداد، فتطلق على الآباء وتطلق على الأبناء، وبناءً عليه يكون حمل ذريات هؤلاء يعني من أولادهم فهو يكون ممتناً عليهم بذلك، هذا باعتبار أن الفلك هي سفينة نوح -عليه الصلاة والسلام، فهذا لابد من أن يفسر بما ذكر -والله تعالى أعلم، وهذا ذكره جماعة من أهل اللغة.

وإذا قيل عن الآباء إنهم ذرية فباعتبار أنهم مَن ذَرَأ الأبناء، وانظروا إلى الآيات من أولها: يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ۝ أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ ۝ وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ۝ وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ۝ وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ ۝ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ۝ سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ ۝ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ [سورة يس:30-37].

إلى أن قال: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ [سورة يس:41] والأصل أن توحيد الضمائر أولى من تفريقها، فلا يختص هذا في كفار مكة مثلاً، ولا يقال: إن ذلك يختص بالقرون التي كانت قبل نوح -عليه الصلاة والسلام- وإنما هو خطاب للعباد يذكر فيه -تبارك وتعالى- دلائل قدرته وفي مضامين ذلك يذكر آلاءه على عباده مما يتطلب ويستوجب الشكر على هذه النعم بتوحيده وعبادته وطاعته -تبارك وتعالى- دونما سواه، وعلى هذا يكون المعنى -والله تعالى أعلم- إذا فسر بالعباد وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ؟

الذين حملوه على سفينة نوح قالوا: وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ هذه السفن، قالوا: هذه السفن مثل سفينة نوح، ومن حمله على أن ذلك يراد به سفينة نوح وسائر السفن فيكون وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ يعني: أنواع المراكب التي تنقلهم من مكان لآخر فيدخل في ذلك الإبل والخيل والبغال والحمير ويدخل في هذا المراكب التي وجدت بعد ذلك كالطائرات والسيارات والقطارات والغواصات لأنها لا تطفو على الماء، طيب قال: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي في السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات التي أمر الله -تبارك وتعالى- أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين، المشحون يعني الموقر.

قال: وقال الضحاك وقتادة وابن زيد هي سفينة نوح -عليه الصلاة والسلام- وهذا ظاهر كلام ابن كثير وهو اختيار كبير المفسرين أبي جعفر بن جرير -رحمه الله، المراد سفينة نوح وما ذكرته أن الذرية تطلق على الآباء والأبناء أن ذلك من الأضداد من قال به من المفسرين الواحدي، وهو المعنى المعروف عند أهل اللغة، وهؤلاء كابن جرير وابن كثير وقبلهم الضحاك وقتادة وابن زيد إذا حملوه على سفينة نوح فإنهم سيجيبون غالباً هذا الجواب الذي ذكرته إلا أن يقول قائل: إن المقصود أن الضمير يرجع إلى الأولين الذين كانوا قبل نوح -عليه الصلاة والسلام، وهذا بعيد.

وظاهر القرآن والضمائر التي أشرت إليها آنفاً كلها تدل على أن المقصود بذلك العباد عموم العباد، بهذه يمتن الله عليهم، ويذكر دلائل قدرته -تبارك وتعالى: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ والفلك يطلق على الواحد والجمع، الفلك سفينة نوح لا إشكال، والسفن أيضاً لا إشكال، فلفظة الفلك تطلق على هذا وهذا، تقول هذا فلك، أو هذه فلك أي سفينة واحدة، وتقول للسفن هذه فلك أي سفن فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فالذين فسروه بالسفن قالوا: الفلك بمعنى الجمع، والذين فسروه بسفينة نوح ﷺ قالوا: الفلك هنا أطلق على الواحد.

قوله: وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [سورة يس:42] قال العوفي عن ابن عباس: يعني بذلك الإبل، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها.

الإبل هي سفن البر يحملون عليها ويركبونها، هذا أيضاً جاء عن بعض السلف ومجاهد وقتادة، إذا حملنا الفلك على السفن باعتبار أنه لا يختص بسفينة نوح -عليه الصلاة والسلام- مِّن مِّثْلِهِ لكن الذين فسروا بسفينة نوح قالوا: مِّن مِّثْلِهِ السفن الأخرى، وهذا الذي روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: يعني بذلك الإبل فإنها سفن البر يحملون عليها، الإبل هل مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ يختص بالإبل؟

الله يقول: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:8] يشبه أن يكون هذا من قبيل التفسير بالمثال لكن ذكره بالإبل، ذكر هذه الصفة بالإبل وهي أنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها كأنه يُشعر أنه يقصد ذلك تحديداً.

ولكن ذلك -والله تعالى أعلم- قد لا يكون المراد؛ لأنه لا يخفى أن الله -تبارك وتعالى- لم يحدد نوعاً من المراكب، إذا قلنا: إن الفلك السفن وإن "من مثله" غير السفن، يعني مما يركبونه، الله لم يحدد شيئاً محدداً منها مِّن مِّثْلِهِ ولا يلزم في هذا -ذكر المثل- أن ذلك يقال له: سفن، وإنما المقصود المراكب التي تحمل الناس، فهو أشبه ما يكون في التفسير بالمثال، ولكن يوجد في اللفظ ما قد يفهم منه هذا المحدد المعين أنه مقصود بعينه لا أنه من التفسير بالمثال، يعني: لو جاء أحد وقال: أفهم هذا الفهم أن هذا ليس من قبيل التفسير بمثال، هذا له وجه في هذا المثال، في هذا النوع، والله أعلم.

روى ابن جرير عن ابن عباس قال: تدرون ما قوله تعالى: وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ؟ قلنا: لا، قال: هي السفن، جعلت من بعد سفينة نوح على مثلها.

وكذا قال غير واحد، وأبو مالك، والضحاك، وقتادة، وأبو صالح، والسدي أيضا: المراد بقوله: وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ: أي السفن.

كما أن هذا اختيار ابن جرير باعتبار أن الفلك هي سفينة نوح -عليه الصلاة والسلام، والقرينة التي تدل على هذا في الآية: وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ أقصد أن المراد وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَإذا قلنا: إن المقصود مِّن مِّثْلِهِ السفن وليست الإبل والدواب والمراكب، وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ هذه قرينة، لكن هل هذه القرينة يمكن أن تكون دليلاً واضحاً على هذا المعنى بحيث لا يصح العدول عنه؛ لأن قوله -تبارك وتعالى: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ [سورة يس:41، 42] يرجع إلى حمل الذرية في الفلك المشحون، وأن ذلك هو المقصود وما ذكر بعده إنما ذكر تبعاً وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ قال: وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ لو أراد السفن ليس له أن يقول: من مثله، لا الضمير مذكر؛ لأنه رجع إلى ضمير مذكر وهو الفلك باعتبار اللفظ، روعي اللفظ وليس المعنى -والله أعلم.

إذاً عندنا أن الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ هو سفينة نوح مِّن مِّثْلِهِ أي السفن، أو الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ هي السفن مِّن مِّثْلِهِ المراكب الأخرى، وقد يقول قائل: إن الفلك المشحون يصدق على هذا وهذا، ويدخل فيه سفينة نوح دخولاً أولياً، والعلم عند الله .

قوله: وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ يعني: الذين في السفن، وَلَا هُمْ يُنقَذُونَ أي: مما أصابهم.

قال هنا: وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ يعني: الذين في السفن فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ أي: فلا مغيث لهم، لا مغيث لهم الآن وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ بعضهم يقول: يرجع إلى أصحاب الذرية، يعني: وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ، وبعضهم يقول: يرجع إلى الذرية الذين حملوا أو إلى الجميع أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ۝ وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ۝ وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ نغرقهم يعني: هؤلاء المخاطبين الذين هم العباد يغرقهم في هذه السفن والمراكب التي هي على غرار سفينة نوح -عليه الصلاة والسلام.

إِلَّا رَحْمَةً مِّنَّا أي: ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر، ونسلمكم إلى أجل مسمى؛ ولهذا قال: وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ أي: إلى وقت معلوم عند الله.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ۝ وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ ۝ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ [سورة يس: 45-47].

يقول تعالى مخبرا عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم، وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها، وما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ قال مجاهد: من الذنوب. وقال غيره بالعكس.

هنا وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [سورة هود:83] بهذا الاعتبار فيكون ذلك كأنه من قبيل تفسير اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ يعني من الذنوب فهنا يكون ما ينتج عنها ويترتب عن الذنوب وهي العقوبات التي حلت في الماضي والتي تقع في المستقبل، وجاء ذلك من كلام قتادة صريحاً، أن المقصود بالنوازل يعني الوقائع التي حصلت للأمم المكذبة وما في المستقبل مما يقع في ذلك -والله تعالى أعلم.

وبعضهم يقول: إن ما بين أيديكم يعني الدنيا، وما خلفكم يعني الآخرة اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ هذا مروي عن سفيان -رحمه الله، وبعضهم يقول عكس هذا ما بين أيديكم يعني الآخرة، وما خلفكم يعني الدنيا، وبعضهم يقول: ما بين أيديكم ما ظهر لكم، وما خلفكم يعني ما خفي عنكم، وهذا لا يخلو من بعد، -والله تعالى أعلم.

وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا: يقول تعالى مخبراً عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها، وما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ يعني من الجزاء، من الجزاء عليها اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [سورة يس:45] مثل هذا يعني اتقوا الذنوب، وقول من قال: النوازل والعقوبات والمثلات فإن هذا تفسير لللفظ بمعنيين بينهما ملازمة، فإذا قيل له: اتقِ العقوبة، أو قيل له: اتقِ الذنب فإن ذلك يرجع إلى معنى متقارب باعتبار الملازمة بينهما، ومثل هذا لو قال قائل بأنه لا يحتاج إلى ترجيح لكان له وجه، والله تعالى أعلم.

قوله: بالعكس هو الذي ذكرته آنفاً، يقول هنا: قال مجاهد: من الذنوب، وقال غيره بالعكس، عكس ما سبق يعني مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ في الدنيا وَمَا خَلْفَكُمْ في الآخرة، عكس لِمَا ذكر في أول الكلام، وقال بعضهم: بالعكس يعني يفسر بَيْنَ أَيْدِيكُمْ ما تستقبلون ما يستقبلونه في الآخرة، وما خلفكم ما أسلفتموه في الدنيا أو ما كان من الذنوب السابقة، وبعضهم يقول: بالعكس مثل وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79] يعني أمامهم، فكلمة وراءهم من الأضداد أيضاً فتأتي بمعنى أمام وتأتي بمعنى خلف، تقول: وراءكم أيام فإن من ورائكم أيام الصبر[1] يعني أمامكم.

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي: لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه، وتقدير كلامه: أنهم لا يجيبون إلى ذلك ويعرضون عنه، واكتفى عن ذلك بقوله: وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ أي: على التوحيد وصدق الرسل إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ أي: لا يتأملونها ولا ينتفعون بها.

وقوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ أي: وإذا أُمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: عن الذين آمنوا من الفقراء، أي: قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق محاجين لهم فيما أمروهم به: أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ أي: وهؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم، إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ أي: في أمركم لنا بذلك.

هذا الذي ذهب إليه ابن جرير -رحمه الله، وبعضهم يقول: إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ هذا من قول الله يصف حال هؤلاء المكذبين القائلين: أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ [سورة يس:47] فيكون من قبيل الموصول لفظاً المفصول معنى، وقد سبقت الإشارة إلى هذا في مناسبات متعددة.

لكن الأقرب -والله أعلم- أن الكلام متصل، وأنه من قولهم، متصل لفظاً ومعنى، فيقولون: أنتم في ذهاب عن الحق في هذا الذي أمرتمونا فيه، وهذا مثل قول بعض الجهال -والله المستعان- حين حصل زلزال في بعض البلاد وجاء مَن يحث الناس على الصدقة والوقوف مع إخوانهم: هذا الزلزال من الذي أوقعه؟ قيل له: الله! فقال بلهجته: الله أبخص -بمعنى الله أعلم- حينما ساقه إليهم، يعني ذلك عن علم وحكمة، فلماذا أنتم تأتون وتجمعون لهم التبرعات؟ يعني: ما ساقه لهم إلا ليعاقبهم بذلك، يعني: أنتم لستم أعلم من الله ، تأتون وتقولون: ساعدوهم وقفوا معهم، الله أبخص يعني حينما ساق لهم هذا.

هذا مثل قوله أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَاء اللَّهُ أَطْعَمَهُ فالله يبتلي الناس يسوق إليهم من الأمور التي يحتاجون معها إلى إعانة وشيء من التسديد ووقوف إخوانهم معهم وما إلى ذلك من البلايا، فما يصح أن يحتج الإنسان بالقدر ويقول: الله -تبارك وتعالى- لو شاء أطعمهم، الله لو شاء أفقرهم، الله لو شاء ما أوقع بهم هذه الحروب، وإنما ساقها عن علم وحكمة، لماذا أنتم تقومون بهذا العمل؟

لو عمل بمقتضى هذا الجاهل لبطلت أشياء كثيرة، بل لبطلت الحياة بالكلية، فإن مثل هذا بحاجة إلى أمور كثيرة يتوقف تحققها على غيره، وهكذا حياة الناس جعلهم الله بهذه المثابة، والله يبتلي الغني بالفقير، والفقير بالغني، والصحيح بالعليل، والعليل بالصحيح وهكذا، وعلى هذا لا يُعالَج أحد من مرض ولا يداوى من جراح، فيقال: هذا القائل إذا جاء إلى الطبيب تقول له: ماذا تريد؟ تريد العلاج؟!، الله أبخص منك حينما ساق هذا المرض، على منطقه هو، مع أن هذا الاحتجاج لا يصح، والله المستعان.

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ۝ مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ۝ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [سورة يس:48-50].

يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ؟ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [سورة الشورى:18]، قال الله تعالى: مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة، وهذه -والله أعلم- نفخة الفزع، ينفخ في الصور نفخة الفزع، والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذ أمر الله تعالى إسرافيل فنفخ في الصور نفخة يُطوِّلها ويمدها، فلا يبقى أحد على وجه الأرض إلا أصغى ليتاً، ورفع ليتاً -وهي صفحة العنق- يتسمع الصوت من قبل السماء، ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار، تحيط بهم من جوانبهم؛ ولهذا قال: فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً أي: على ما يملكونه، الأمر أهم من ذلك، وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ.

وقد وردت هاهنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر، ثم يكون بعد هذا نفخة الصعق، التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم، ثم بعد ذلك نفخة البعث.

يعني: تموت الأحياء جميعاً إلا من شاء الله، على كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن هذه نفخة الفزع، ونفخة الفزع هي ما جاء في قوله -تبارك وتعالى:لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان الثوب بينهما فلا يتبايعانه، ولا يطويانه[2]، فإذا قلنا: نفخة الفزع غير نفخة الصعق فهذا الحديث الآن هؤلاء يتبايعون قبل نفخة الفزع واضح؟

قال: ولا تقومُ الساعة وهو يعني الرجل الذي يليط حوضه يعني يصلحه فلا يسقي منه، لتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها، الآن فلا يطعمها هل هؤلاء لا يطعمون من الفزع ثم تحصل نفخة طويلة وهي نفخة الصعق؟ أو أن هذه النفخة يحصل لهم بها فزع عظيم يموتون من جرائه؟

لاحظ هذا الذي رفع اللقمة ما يأكلها، نشرا الثوب بينهما فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ إذا كان لا يستطيع أن يأكل هذه اللقمة فهو من باب أولى لا يستطيع أن يذهب إلى أهله أو يكتب وصية، فكثير من أهل العلم يقولون: هما نفختان، الصعق الذي يحصل بسبب الفزع العظيم، وهي المراد بقوله: فَفَزِعَ، والثانية: التي هي البعث والنشور.

فالآن الله -تبارك وتعالى- بعد هذه: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ [سورة يس:51] فما ذكر نفخة الصعق على القول بأنها ثلاث نفخات، فهذه الثانية هي نفخة البعث، إذاً التي قبلها هي نفخة الصعق، ولهذا ذهب أكثر المفسرين إلى أن المراد هنا نفخة الصعق، حتى لو قيل: إن النفخات ثلاث، في هذا الموضع يكون المراد -والله تعالى أعلم- نفخة الصعق؛ لأنه ذكر بعدها البعث، لكن حتى التي ذكر الله فيها الفزع قال:ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ [سورة الزمر:68] البعث، ولذلك أكثر العلماء يقولون: هما نفختان فقط.

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ ۝ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ ۝ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ ۝ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة يس:51-54].

هذه هي النفخة الثالثة، وهي نفخة البعث والنشور للقيام من الأجداث والقبور؛ ولهذا قال: فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ والنَّسَلان هو: المشي السريع، كما قال تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج:43].

قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا يعنون: من قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها، فلما عاينوا ما كذبوه في محشرهم قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا، وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم؛ لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد، وقال أبي بن كعب، ومجاهد، والحسن، وقتادة: ينامون نومة قبل البعث، قال قتادة: وذلك بين النفختين.

هذان جوابان عن سؤال مقدر قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا كيف سماه رقاداً أو قال عنه بأنه مرقد وهم يعذبون في قبورهم ما كانوا راقدين في القبور مَرْقَدِنَا؟ فذكر جوابين عن هذا السؤال:

الأول: أن ما يلقونه في القبور بالنسبة لما يلقونه في النار يكون كالرقاد مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا.

والثاني: أنهم ينامون نومة خفيفة وهي التي قال عنها قتادة: ما بين النفختين، يعني: نفخة الصعق ونفخة البعث، أنهم ينامون نومة، هذه النومة كما يقال: الراحة التي يلقونها هذه القصيرة -نسأل الله العافية- في القبور تكون مثل صحوة الموت بالنسبة للمحتضر، يصحو صحوة وينشط ولربما يتحدث ويضحك ويطلب طعاماً فيسر أهله، ثم بعد ذلك يموت فتكون هذه قبل البعث نومة خفيفة، فهذان جوابان.

ويمكن أن يُذكر جواب ثالث وهو أن يقال -والله تعالى أعلم: إن القبور يقال لها: مراقد، القبر يقال له: مرقد، أليس كذلك؟ فهم عبروا عنه باسمه يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا يعني في القبر، وهكذا في قوله: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ [سورة السجدة:21] على أحد التفسيرات.

فلذلك يقولون: مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا، فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون -قاله غير واحد من السلف: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [سورة يس:52].

قوله: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ القائل لذلك المجيب هم أهل الإيمان الذين كانوا يؤمنون بالبعث إذا رأوا ذلك أجابوا بهذا الجواب، وهذا قال به من السلف مجاهد واختاره ابن جرير -رحمه الله.

وقال الحسن: إنما يجيبهم بذلك الملائكة. ولا منافاة إذ الجمع ممكن، والله أعلم.

وهذا أيضاً اختاره الفراء في معاني القرآن، ويحتمل هذا وهذا، ويحتمل غير ذلك، والحافظ ابن كثير هنا قال: ولا منافاة إذ الجمع ممكن، والله أعلم.

الجمع ممكن باعتبار أن هذا الجواب يصدر ممن يؤمنون بهذا البعث هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ فيجيبهم بذلك أهل الإيمان والملائكة، ولكن الكفار هم الذين يتعجبون ويتساءلون عن هذا البعث. 

وبعضهم يقول: إن الذي يجيبهم منهم، يعني يجيب بعضهم بعضاً لمّا يتساءلون مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا  فيجيب آخرون فيقولون: هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ، لمّا يعاينون الحقائق هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:53] فعندئذ يعرفون أحقية ما جاء به الرسل -عليهم الصلاة والسلام. 

وبعضهم يقول كقتادة -رحمه الله: إن ذلك من قول الله -تبارك وتعالى- لهم: مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ المقصود أنهم يجابون على هذا السؤال بهذه الإجابة.

وقوله: إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ [سورة يس:53]، كقوله: فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ ۝ فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ [سورة النازعات:13، 14]، وقال تعالى: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [سورة النحل:77]، وقال: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [سورة الإسراء:52].

أي: إنما نأمرهم أمرا واحدا، فإذا الجميع محضرون، فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا أي: من عملها، وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.

فهنا نفى -تبارك وتعالى- أن يُظلم بأن يزاد عليه في سيئاته أو ينقص من حسناته أو يجازى بعمل غيره اللهم إلا ما جاء في النصوص من قوله -تبارك وتعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ [سورة العنكبوت:13]، لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ [سورة النحل:25]. 

وهكذا في قوله ﷺ: ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء[3]، فأولائك يحملون أوزارهم، وهؤلاء يحملون أوزارهم وأوزار مَنْ أضلوهم أيضاً مع تحمل الضالين لأوزارهم، لكن هؤلاء يضاعف لهم.

المقصود أن الإنسان لا يُظلم بوجه من الوجوه والوزن بمثاقيل الذر فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة:7، 8]، هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ [سورة يونس:30] فيعرف الإنسان حقيقة أعماله وما هو عليه من إخلاص وصدق وما هو عليه من عمل صالح أو سيء وتنكشف أمامه الحجب، ويعرف ما قدم وما أخر، ثم يتندم ولا ينفعه الندم وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [سورة الكهف:49] فعندئذ يندم المضيع والمفرط ومن كان أمره فرطا، من ذهبت حياته وزجت أوقاته باللهو والغفلة، وعند ذلك أيضاً يبصر أولائك الذين قضوا أيامهم وضيعوا أعمالهم وأعمارهم بالاستهزاء بأولياء الله -تبارك وتعالى- وغرتهم الحياة الدنيا، وأعرضوا عن طاعة الله وعبادته.

ومثل هذه الآيات ينبغي أن تكون عظةً وعبرةً المؤمن يقف عندها وينظر في أعماله ومزاولاته وإنجازاته في يومه وليله وما يتقرب به إلى الله ، وما يعتري ذلك من نيات فاسدة ومن حظوظ النفوس وما أشبه هذا، فالله -تبارك وتعالى- مطلع على ما في الصدور، والحساب دقيق ويخفى على الناس كثيرًا ولكنه لا يخفى على الله -تبارك وتعالى- شيء، وأولائك الذين يسألون كيف يتخلصون من بعض الذنوب التي يعملونها في السر؟

نقول: هذا أكبر واعظ وزاجر لهم ولغيرهم، وأولائك الذين يبيتون مالا يرضى من القول ينبغي أن يكون ذلك عظة وعبرة لهم، وهكذا الذين كان لهم ملهاة يتلهون بها فتنقضي ساعات اليوم وهم في ذلك الاشتغال إن كان ما يصرف عن العمل الصالح والتقرب إلى الله فينبغي أن يعيدوا النظر فيما هم فيه، والحافظ ابن القيم -رحمه الله- ذكر أن هذا الموضع وهو قوله -تبارك وتعالى: وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة يس:54] لا ينفي أن ينتفع الإنسان بعمل غيره لا على وجه الجزاء، هنا قال: وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ تجزون، الجزاء يكون مقابل العمل، هذا الذي ينتفع بعمل غيره طاف فأهدى ذلك لغيره، قرأ قرآناً فأهدى ذلك لغيره، الذين يمنعون من هذا ويقولون: لا يصل الثواب يحتجون بمثل هذه الآية وأدلة أخرى ذكرنا طرفاً منها في مناسبات سابقة.

فالحافظ ابن القيم -رحمه الله- هنا يقول: ليس على وجه الجزاء فإن هذه الأعمال ما عملوها وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ لكن ما يهدى إليه ليس من قبيل الجزاء على عمله، وإنما هو صدقة وإحسان من غيره إليه تفضل به على هذا الإنسان وهو من غير سعي له، بل وهبه الله له وساقه إليه على يد بعض عباده على وجه الجزاء.

هذا الكلام من الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في كتابه الروح صريح في أن الإنسان ينتفع بعمل غيره من الأعمال التي يقدمها أو يهديها له، لكن يبقى النظر والتفصيل بنوع هذه الأعمال فلا شك أن العبادات المالية ينتفع بها كالصدقة، وكذلك أيضاً ينتفع بالدعاء، تبقى الأعمال البدنية ينتفع بها أو لا؟

وللحافظ ابن القيم -رحمه الله- كلام يحتج فيه من وجوه متعددة على أن ذلك لا يصل إليه.

وشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يرى أن ذلك يصل ويحتج لهذا أيضاً بأدلة، فالمسألة فيها كلام وتفصيل معروف.

ومثل هذا لو أنه ما حذفه لكان أولى، كلام ابن جرير كان الأحرى أن يذكر هنا، يعني في موضعٍ حذفت كان الأولى ألا تحذف كما مر في مناسبات شتى، لكن هذا لا يؤثر في قيمة هذا الكتاب، وبعض من كتب عن هذا الكتاب ما أنصفه وذكر فيه أشياء ليست على الوجه الذي ذكر، ومثل هذه الأمور تحتاج إلى مقارنة ودقة وتحتاج أيضاً إلى وزن هذه الأشياء التي يقال: إنها من قبيل العيوب أو المؤاخذات أو النقص وما أشبه هذا.

وتبقى أيضاً هناك وجهة نظر إلى قيمة هذا المحذوف من عدمها، وبعض المختصرات الأخرى المقدمة جيدة والضوابط التي وضعت جيدة لكن من يقول: إن هذا أفضل من هذا أو من ذاك عليه أولاً أن يقارن بين الكتاب المختصر وبين الأصل، ولا يمكن لأحد أن يحكم إلا بعد أن يقارن مقارنة دقيقة في مواضع كافية مجزئة من الكتاب ثم بعد ذلك يحكم، ونحن كما ترون الآن في سورة "يس" يعني أكثر من عشرين جزءاً، الآن بدأنا في الثالث والعشرين ونقارن من سورة الفاتحة أليس كذلك؟

إخوان معهم النسخ، وكان أحد الإخوان يكتب الفروقات فيما يذكر هنا من هذه الأشياء، لكن هي يسيرة ولا تؤثر في قيمة كتاب بهذا الحجم، وما من كتاب يسلم، والله أمر بالعدل وكل أحد يختصر يبقى هناك من يخالفه في بعض المواضع، هو كان ينبغي أن لا يحذف، أو ينبغي أو إلى آخره لابد أن يقع نقص، ويكون هناك مجال للإدراك، ولكن التسديد أن يعطى هؤلاء الذين قاموا على هذا العمل هذه الأشياء من أجل أن يستدركوها بطبعات سابقة، أما أن يُهضم الكتاب ثم تُذكر أشياء ليست بالصفة التي ذكرت فهذا غير صحيح.

أنا أذكر هذا لأنه يوجد في بعض المواقع في الإنترنت كتابات رأيت فيها شيئاً من هذا، وسألني أحد الإخوان وقال: أي المختصرات كذا وكذا؟ وكأنه قرأ بعض ما كتب فيتأثر بعض الناس في مثل هذه الكتابات -والله المستعان.

وبعض من يكتب ملاحظات في كتبه التي طبعت طبعات كثيرة جداً من الملاحظات أضعاف، أضعاف، أضعاف، أضعاف، أضعاف ما يذكر مما قد لا يتبين له أصلاً في مسائل وقضايا دقيقة قد تحتاج إلى تحرير ومن ثم يتبين المعنى، وهذه أمور أحياناً تحتاج إلى ملكة يعني ما ترجع لمجرد القراءة والنظر والمقارنة أبداً، وإنما ترجع إلى الملكة فيكون عند الإنسان بصر في بعض هذه الأمور وإلا يقع في أخطاء كثيرة دون أن يشعر، لو قرأه مائة مرة لا يستدرك هذه الأشياء.

ولذلك بعض الناس أحياناًَ يقول: أين الملحوظات، نقول: الملحوظات تحتاج أن تجلس ثم تُوقف على واحدة وما وجه ذلك؟ يعني يحتاج أن يشرح لك لماذا هذا؟ لا يمكن أن تكتب هذه الملحوظة بكلمتين على الهامش كملحوظة، غاية ما هناك أحياناً يحتاج أن يضع الخط الأحمر بجانبها فقط: ماذا تكتب؟ فإذا كثرت هذه أحياناً تَثُول، ما تستطيع أنك تأتي بهذا، وتشرح له كل موضع لماذا هذا الكلام الذي قاله غير صحيح؟ يحتاج إلى شرح، والله أعلم.

  1. رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، برقم (4341)، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ [سورة المائدة:105]، برقم (4014)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (494)، وقال: "وإسناده صحيح رجاله كلهم ثقات لولا أن إبراهيم بن أبي عبلة عن عتبة بن غزوان مرسل كما في التهذيب" انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها (1/ 892).
  2. رواه البخاري، كتاب الرقائق، باب طلوع الشمس من مغربها، برقم (6506).
  3. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار، برقم (1017).

مواد ذات صلة