الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(218) تتمة قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ...} الآية 191
تاريخ النشر: ٠٩ / شوّال / ١٤٣٨
التحميل: 493
مرات الإستماع: 1067

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلا زال الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار [آل عمران:190-191]، فهذه أوصاف ذكرها الله -تبارك وتعالى- لأولي الألباب الذين ينتفعون بهذه الآيات الكونية المشهودة، فذكر بعد تفكرهم دعاءهم وتنزيههم: سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار، هؤلاء أصحاب العقول الراجحة الصحيحة الكاملة يتفكرون في خلق السماوات والأرض مع كثرة الذكر لله -تبارك وتعالى- ثم يقولون منزهين الله عن أن يكون قد خلق هذا الخلق باطلا، يعني: من غير حكمة، أنه خلق ذلك عبثًا -تعالى الله وتقدس-: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِين ۝ لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِين [الأنبياء:16-17]، وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّار [ص:27]، فهؤلاء يقولون ما خلقت هذا باطلا، يعلمون أن ذلك قد خُلق لغاية وحكمة عظيمة، وهذا من باب أولى أيضًا أن هذا لم يوجد من غير خالق، فهذا الخلق العظيم المُدبر بهذه الدقة المُتناهية لابد أن يكون له موجِد، ولا بد أن يكون هذا الخلق لغاية عظيمة كبيرة يتعرف عليها أصحاب العقول هؤلاء.

فالله -تبارك وتعالى- خلق هذا الكون وما فيه ودبره هذا التدبير من أجل أن يُعبد وحده، وأن يوحد ويُطاع، وتُمتثل أوامره وتُجتنب نواهيه، فكل ما في هذا الكون مُسخر لله -تبارك وتعالى-، ويجري وفق إرادته لا يحيد عن ذلك وإنما تقع المخالفة من قِبل الإنسان الذي يعصي ربه ويخرج عن طاعته ويتعدى حدوده، أما باقي هذا الكون فهو مُطيع مُنقاد: وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44]، الجبال والأشجار وحبات الرمل وقطرات الماء، البحار والوهاد، والفيافي، والكائنات بجميع أنواعها، كل ذلك مُطيع مُنقاد لربه -تبارك وتعالى- يعرف ربه ويُنزهه ويُقدسه ويُسبحه.

فهؤلاء يقولون: سُبْحَانَكَ يُنزهون الله -تبارك وتعالى-، فهذا التنزيه إنما يكون ممن عرف هذه المعرفة، وفتح الله بصيرته ليتوصل بما يُشاهد إلى أمور غائبة يستدل بهذا المشهود على ما غاب فيعلم بذلك عظمة الرب، ويتوصل إلى وحدانيته، وأنه رب كل شيء ومليكه.

ثم أيضًا يتوسلون بهذا التنزيه: سُبْحَانَكَ إلى سؤال الله -تبارك وتعالى-، يسألون ماذا؟

فَقِنَا عَذَابَ النَّار، وهذه الفاء كما سبق في مناسبات متعددة أنه تدل على ترتيب ما بعدها على ما قبلها، سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار فكأن هذا من قبيل التوسل بالتنزيه، بتنزيه الله عمّا لا يليق بجلاله وعظمته في إلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، وهو من التوسل المشروع كما هو معلوم، التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته، التوسل بتنزيهه عن كل ما لا يليق به.

ثم أيضًا فإن هذه الجملة فَقِنَا عَذَابَ النَّار تدل على أن أولي الألباب أصحاب العقول الراجحة هم مُفتقرون كل الافتقار إلى السؤال والتضرع إلى ربهم -تبارك وتعالى- أن يقيهم عذاب النار، انظروا إلى هذا الحر الذي يُقاسيه الناس في مثل هذه الأيام في داخل المسجد، إذا قلّت البرودة حصل خلل في التكييف ضاق الناس، وهي دقائق يصلون فيها لا يحتملون، فكيف بمن كان في الشمس؟! كيف بمن كان في الموقف والشمس تدنوا بقدر ميل؟!، الشمس تدنوا من رؤوس العباد بقدر ميل لا يسترهم شيء، الأرض تكون قاعًا صفصفا لا ترى فيها عوجًا ولا أمتى، لا يوجد فيها ميل، ولا يوجد فيها نتوءات ولا مرتفعات يمكن أن يُستظل بسنتيمتر واحد لا يمكن في غاية الاستقامة والاستواء حيث لا يبدوا ذلك بالعين المُجردة ولا بالمقاييس الدقيقة لدى أهل الهندسة لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا [طه:107] نكرة في سياق النفي، يعني: ولو أدنى عِوج، وَلَا أَمْتًا [طه:107] لا تجد فيها مرتفع، ليس في الأرض مرتفعات ولا منخفضات في ذلك اليوم ليس هناك شيء يستر، الجبال؟! وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه:105]، يستظل بها الناس الآن هي أكنان ولكن في يوم القيامة ينسفها نسفًا حتى لا يُقال: إنه من قبيل المجاز أكده بالمصدر نسفًا، وإذا نسفها ستكون: فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا [طه:106]، أرض مستوية ملساء، قَاعًا صَفْصَفًا فتذهب هذه المُرتفعات وليس هناك أشجار، وليس هناك بيوت يتظلل بها الناس، أو نحو ذلك، فكيف تكون الحال؟ فكيف بحرِّ جهنم؟

وقد قال النبي ﷺ: أشد ما تجدون من الحر، لما ذكر أن النار اشتكت إلى ربها، فقالت: أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين نفس في الصيف فهو أشد ما نجد من الحر، ونفس في الشتاء وهو أشد ما نجد من البرد[1]، من زمهرير جهنم.

فمثل هذا بالنسبة لأولي الألباب: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [آل عمران:190]، قلنا: يدخل في ذلك اختلاف الأحوال الحر والبرد ونحو هذا، فإذا رأى الإنسان مثل هذا الحر تذكر حر جهنم، وأعد العدة من أجل أن يُقدم ما يحصل فيه التبرد الحقيقي من الحر الحقيقي المُحرق، السموم، اللفح، فهذا كله يعتبر به ويتذكر أولوا الألباب، أما الذي يأتيه الحر وليس له منه إلا التأفف اليوم حر، اليوم درجة الحرارة بلغت كذا، اليوم برد، يقولون: منذ أربعين سنة ما جاء هذا الحر، ما جاء هذا البرد، وهذا حظه فقط، هذا لا قيمة له، فلذلك بعض السلف لما سمع قائلاً يقول: ما أشد البرد هذا اليوم، فقال: هل استدفئت؟ يعني حينما قلتها ماذا استفدت، هل تغير شيء.

فالمقصود أقول أن هؤلاء أصحاب العقول الذين أثنى الله عليهم يدعون الله ويتوسلون إليه: فَقِنَا عَذَابَ النَّار، وكما قال : فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فالوقاية من عذاب النار لا يمكن أن يحصل بمجرد أعمال الإنسان ولا قدراته، ولا يحصل بدورات تدريبية، ولا يحصل بقوة بدنية، ولا يحصل بجاه الإنسان ومرتبته، إنما يحصل بوقاية الله له بعد بذل الأسباب وهي الأعمال الصالحة، لا يقيه من ذلك الأموال التي يملكها، ولا المراتب، ولا المراكب، ولا الأولاد أو الأصحاب والأتباع وما إلى ذلك، إنما هو وقاية الله وهذه تحتاج إلى عمل وسبب من أجل تحصيلها.

فَقِنَا عَذَابَ النَّار ومن هنا فإن المؤمن ينبغي أن يُكثر من هذا، يسأل ربه أن يقيه عذاب النار، ولذلك ندعو في التشهد دائمًا نستعيذ من الأربع ومنها عذاب النار[2]، في كل تشهد، فهذا أعظم ما يُستعاذ منه، يستعيذ الإنسان بالله من عذابها.

كذلك أيضًا فإن سؤال هؤلاء: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار [آل عمران:191]، سألوا الله بهذا الاسم الكريم "الرب" وأضافوه إلى أنفسهم "ربنا" متوسلين به أيضًا، وهذا من التوسل إلى الله بأسمائه، وهذا الاسم كما ذكرت في بعض المناسبات "الرب" هو الذي يرد في عامة الدعاء في القرآن دعاء الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، "ربي، ربنا" وذلك، -والله تعالى أعلم-؛ لأن هذا الاسم في غاية المناسبة في الدعاء؛ لأن من معاني الربوبية العطاء والمنع والتدبير والتصريف، والرزق.

وكذلك أيضًا الرحمة، فإن الرب هو الذي يرُب المربوب ويتعاهده ويُحسن إليه، هذا من معانيه، فهم يقولون: يا ربنا، "ربنا" وحُذف ياء النداء كأن هذا يُشعر بمزيد من القُرب مع الإضافة إلى ضمير المُتكلم "ربنا" ففيه مزيد اختصاص، "يا ربنا" سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار فالعبد يتوسل إلى الله -تبارك وتعالى- بهذه التوسلات، والدعاء له آداب كما هو معلوم ومقدمات ينبغي أن يتحراها الداعي من أجل أن يكون ذلك من أسباب قبول دعاءه، يعني: لا يبدأ بالمطلوب مُباشرة كأن يقول: اغفر لي، ارحمني، ارزقني، اهدني، اجبُرني، وإنما يُقدم بالثناء على الله والتوسل إليه بأسمائه وصفاته، وكذلك الصلاة على النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، فهذا من شأنه أن يكون سببًا للاستجابة.

رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار، هذا الكون بأكمله، وكأن هذا يُشعر بتعظيم لهذه المخلوقات.

كذلك أيضًا فإن قولهم: سُبْحَانَكَ هو توسل؛ ولكنه أيضًا في مضمونه يدل على توكيد لما سبق، من قولهم: مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ، وهو أيضًا كما قال أهل العلم تمهيد لما بعده من سؤال الله -تبارك وتعالى-.

أيضًا هؤلاء حينما قالوا: فَقِنَا عَذَابَ النَّار مرتبين ذلك بالفاء، كأنهم يقولون: قد علمنا يا رب حكمتك من خلق هذه السماوات والأرض ونُنزهك عن كل ما لا يليق بك عن أن تكون قد خلقت ذلك لغير غاية، فَقِنَا عَذَابَ النَّار، يعني: لسنا كأولئك الغافلين كما قال الله في الآية الأخرى: ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا [ص:27]، يعني: يظنون أن الله خلق السماوات والأرض باطلا لغير غاية وإنما هي كما يقول بعضهم: "أرحام تدفع، وأرض تبلع".

والآخر الشاعر الذي يقول:

جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت  
لست أدري[3]  

وهكذا يُعبر بأسئلة حائرة في شعره المعروف، لا يدري لماذا جاء، ولا يدري إلى أين يصير، هؤلاء يعلمون ذلك جميعًا، ويعملون بناء على هذا العلم لما ينتظرهم، والله -تبارك وتعالى- في هذا القرآن قد بين لنا البيان الشافي وذكر لنا كل ما نحتاج إليه حتى العبارات والكلمات والمحاجة، والخصومات، والملامات، والحسرات التي تصدر عن الغافلين المُضيعين لعبادة الله  في يوم القيامة، ذكر كل شيء، ذكر تبرأ هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء، وذكر ندمهم وحسرتهم مُفصلاً.

فالمقصود: أن أولي الألباب يُدركون ذلك إدراكًا صحيحًا فحياتهم عامرة بطاعته وعبادته، والتقرب إليه، ولا يضيع شيء من أعمالهم ولا زمانهم، ولا يلتفتون إلى غير الله  مرآئين أو مُسمعين، هم يعلمون أن الله يعلم خطرات النفوس، ويتعاملون معه على هذا الأساس فأعمالهم في غاية الاستقامة، وأقوالهم في غاية الاستقامة، ومقاصدهم في غاية الاستقامة، وبهذا تحصل النجاة، هذا والله تعالى أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، برقم (537)، وبرقم (3260)، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار، وأنها مخلوقة، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة، ويناله الحر في طريقه، برقم (617).
  2. أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب الدعاء قبل السلام، برقم (832)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، برقم (588).
  3. من قصيدة الطلاسم لإيليا أبو ماضي.

مواد ذات صلة