الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(207) تتمة قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...} الآية 185
تاريخ النشر: ١٦ / شعبان / ١٤٣٨
التحميل: 441
مرات الإستماع: 897

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لم يزل الحديث متصلاً في الكلام على قوله -تبارك وتعالى-: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور [آل عمران: 185]، تحدثنا في الليلة الماضية عن صدر هذه الآية أعني قوله -تبارك وتعالى-: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ، وما فيه من التزهيد في الدنيا، والحث على العمل، والاستعداد للآخرة، وما في ذلك من التسلية لنفوس المُصابين، وقبل ذلك تسلية للنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى غير ذلك من المعاني والهدايات التي تُستخرج من هذه الجُملة.

كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ فهذا نعي للأنفس جميعًا، وإيذان بموتها وانتقالها من هذه الحياة، ولا بد.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى- بهذه الصيغة التي هي أقوى صيغ العموم كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ فأقوى صيغ العموم "كل"، و"جميع"، فهنا عُبر بـ "كل" كُلُّ نَفْسٍ، والأصل حمل العام على عمومه، كل نفس، فيشمل ذلك سائر النفوس، لا يمنع منه قوة، ولا عافية، ولا فتوة وشباب، إذا جاء الأجل برك الإنسان في مكانه، وخرجت نفسه أقوى الناس، وأشجع الناس، وأعظم الناس بناء في الأجسام، لا فرق بينه وبين أضعف المخلوقين، إذا جاء الأجل خرجت نفسه من غير مواربة.

ثم إن هذا العموم أيضًا كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ يدل على أن القتيل يُقال له: ميت، يعني: يدخل فيه من خرجت روحه ونفسه حتف أنفه، الذي هو الميت، كما يُعبر، وما خرجت نفسه بتسبب، وهو القتيل، فهنا كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ يدخل فيه القتلى، وغير القتلى، جميع النفوس؛ لأن من يموت بقتل أو غيره كل هؤلاء قد ذاقوا الموت، فهذا أمر الجميع، سيذوقه المُحسن والمُسيء، والغني والفقير، والكبير والصغير، فطوبى لمن قضى الأنفاس فيما يُقربه إلى الله -تبارك وتعالى- وينفعه ويرفعه، حتى إذا جاء الأجل المحتوم يكون قد استعد، ولكون الإنسان لا يدري متى يكون هذا الأجل، ومتى يوافي، فينبغي أن يُشمر، ويجتهد قبل أن يندم، ولا ينفعه الندم، فالسعيد من سعى في أن يكون موته على حال يرضاها الله -تبارك وتعالى-.

ثم لاحظ كيف عبر بالذوق كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ كما سبق في ذوق العذاب، ما قالوا: هو أشد الحواس إرهافًا وإحساسًا، يتذوق النص، يتذوق الكلام، يتذوق الطعام، له حاسة ذوق، فلان ذواق، فهذا يدل على حس مُرهف؛ لأن هذه الحاسة أخص من غيرها، فهذا يدل على أن هذا الموت يُذاق ذوقًا يصل إلى أعماقه، كيف لا، والروح تُنتزع من سائر الجسد من أوله إلى آخره، من أصابع القدمين إلى أم رأسه، هذه الروح التي قد عمرت، تخرج من الجسد إما كَسَلِّ الشعرة من العجينة، وهي روح المؤمن تسيل كما تسيل القطرة من فيّ السِقاء، أو تُنتزع كما يُنتزع السفود، وهو الشوك من الصوف المبلول، هذا لا يخرج إلا ومعه شيء من هذا الصوف.

ثم قال الله -تبارك وتعالى-: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ "وإنما" جاء بصيغة الحصر والقصر، توفية الأجور هناك يوم القيامة، إذًا: هذه الدار ليست مجالاً لتوفية الأجور، هذا معنى كبير، وتدل عليه الآية دلالة واضحة وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إذًا: قبل يوم القيامة ليس موضعًا لتوفية الأجور، إذا تقرر هذا فمعنى ذلك: أن الإنسان لا ينتظر في هذه الدنيا أن يوفى الأجر، فيقول: أنا أعمل، أنا مستقيم على طاعة الله ، ومع ذلك أُكابد، يقول: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، هذه ليست دار توفية الأجور.

تقول: فلان مُحسن، ومات وهو فقير، فلان تقي، ومات وهو في حياته يُكابد من الأمراض والأعراض والمشكلات والهموم، ومن كبد إلى كبد، ثم ماذا، ليست هذه دار توفية الأجور.

أيوب كم بقي وهو يُعاني من المرض؟

يوسف يدخل السجن في تُهمة قذرة، ويبقى فيه سنينًا.

وموسى يخرج من بيته خائفًا مترقبًا، وهو خير أهل زمانه، ويذهب يرعى الغنم عشر سنين على بضع امرأة، يريد أن يأمن على نفسه فقط، يعقد على امرأة على أن يعمل ثمان سنين، فإن أتم عشرًا فمن عنده، وهو أهل الوفاء، فذلك يقتضي أنه بقي عشر سنين، عشر سنين يرعى غنم في ناحية هو غريب فيها، في أرض مدين.

هكذا الدنيا، توفية الأجور عند الله -تبارك وتعالى-.  

الإمام أحمد من العلماء، بل ومن الأئمة الكبار حُبس وضُرب وأوذي، الإمام مالك ضُرب وأوذي، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- انتقل من حبس إلى حبس، ومات في الحبس، ومن إرجاف إلى إرجاف، ومن أذى إلى أذى، ومن وشاية وإغراء به إلى سلسلة طويلة، ومن أراد المزيد؛ فلينظر في ترجمته.

فتوفية الأجور في الآخرة، إذًا: لا يصح بحال من الأحوال أن يرد هذا الوهم أو السؤال، لماذا نجد أهل الإيمان وأهل الخير وأهل الصلاح يُعانون ما يُعانون، ويُكابدون، يُقال: إن هذه الدار ليست دار توفية جزاء.

تقول: لماذا هذا المجرم الظالم الآثم يعيش مُنعمًا ومُرفهًا وصحيح البدن، وقد أخذ مال هذا، وضرب هذا، واعتدى على هذا؟

يُقال: هذه الدار ليست بدار توفي للجزاء، الجزاء يوفى في الآخرة، نعم قد ينال الإنسان من عمله الصالح بعض الجزاء المُعجل في الدنيا، وكذلك أيضًا الإنسان الظالم قد يُعجل له بعض الجزاء على ظلمه وجناياته في الظلم، قد يُعجل، لكن لا يكون ذلك العذاب كل العذاب.

هذا الكافر لا يُعذب في الدنيا العذاب الذي يستحقه إطلاقًا، ولكن يكون ذلك يوم القيامة، وإذا كان كذلك فينبغي أن نعرف حقيقة هذه الدار، هي دار مُكدرة، حتى اللذات مُنغصة، ولهذا قال الشاطبي -رحمه الله-: "لا يوجد في الدنيا لذة كاملة من كل وجه"، اللذة الكاملة من كل وجه هناك في الجنة، هنا اللذات مُكدرة.

هات أي لذة، مُكدرة قبلها وأثناءها وبعدها، وتأمل أنواع اللذات، العرب يقولون: الأطيبان، الأطيبان -كما فسره بعضهم- هو الأكل والشرب، والنكاح، ولو تأملت لرأيت ما يُكدر من وجوه متعددة متنوعة لا تخفى على العاقل البصير، هذه حقيقة الدنيا، إذا كان هذان الأطيبان عند العرب يكون بهذه المثابة، فكيف بما دونهما؟

جمع المال كم يُعاني فيه الإنسان، وكم يعتوره، إن كثُر ماله، أو قل هو في هم وشُغل شاغل في جمعه، ثم في تثميره، ثم ما يذهب ويفوت عليه، هذا أخذ مالاً وما أعاده، وهذه مُساهمة متعثرة، وهذا مشروع كسد وخسر، وهذا موظف أخذ المال ومشى، وهذا القرض ما رجع، وهذه مؤسسة حُجزت، ويبقى الإنسان في هذه الدنيا يتقلب في هم، هذا إذا كان عنده مال، ويعد ما ذهب عليه من الملايين التي ضاعت، وذهبت هنا وهناك، وإذا لم يكن عنده مال فهو يُكابد، ويرى الآخرين يُحصلون، ويجنون الأموال والأرباح، وهو في حال من الفقر يتقلب فيها ظهرًا لبطن، فهذا يُكابد، وهذا يُكابد.

الذي ليس عنده عمل يبحث عن عمل، ويتمنى العمل، ولربما ضاقت به الأرض بما رحُبت إن لم يجد، والذي يعمل يتململ ويتذمر وينتظر متى يتقاعد، ويتهدد صباح مساء أنه سيتقاعد، وسيطلب الخلاص والفكاك ليستريح، وما على الدنيا مُستريح.

{وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، ومن ثَم أيضًا أيها الأحبة! فإن الإنسان لا يصح بحال من الأحوال أن ينتظر من الآخرين أن يُكافئوه في الدنيا، ويقول: حتى أنال جزاء هذه الأعمال أن يعرف الناس قدري، أن يعرف الناس مكانتي، أن يعرف الناس منزلتي، أنا بذلت وعملت وفعلت والناس يتجاهلون ذلك جميعًا، ويُديرون ظهروهم، نعم يديرون ظهورهم، ثم ماذا؟!

أنت لا تعمل من أجلهم، ولا تطلب الأجر منهم، أنت تطلب ذلك من الله، إذًا لا تنتظر من الناس قليلاً، ولا كثيرًا، إنما الشعار إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا [الإنسان:9]، ولكن الجزاء الحقيقي، والراحة الكاملة هناك حينما يُقال: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة [الحاقة:24]، هناك كُلُوا وَاشْرَبُوا أكلاً مُطلقًا، وشُربًا مُطلقًا، أنواع اللذات.

حتى قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس:57] "لا يدعي شيئًا إلا كان له"، ما يدعي فيها شيئًا، يقول هذا لي إلا حصله، وبعضهم يقول: ما يدعون، يعني: ما يطلبون، والمعنى متلازم، كل ما يخطر في باله، وكل ما يتمنى، ما يحتاج إلى طحن وعجن، وذهاب ومجيء، وشمس، ويدور في السوق حتى يشتري ما يريد بطعام لربما كان سببًا لكثير من الأمراض، فلذلك أقول: إنما يحصل الجزاء والعافية التامة، والسرور الكامل، والأمن التام، واللذات غير المُنغصة، والسعادة غير المُكدرة كل ذلك يكون في الجنة.

وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كذلك العذاب -نسأل الله العافية-، هنا كما قال الشاطبي: "لا يوجد مفسدة كاملة خالصة من كل وجه في الدنيا أبدًا"[1]، المفسدة الكاملة من كل وجه هي النار، أعاذنا الله ووالدينا وإخواننا المسلمين منها، هي الخسارة من كل وجه، والبؤس من كل وجه، والمفسدة من كل وجه، نسأل الله العافية.

أما هذه الدنيا أبدًا يُصاب بالمرض، وتكفير سيئات، ورفعة درجات، على الأرجح، رفعة درجات كما صح في بعض الروايات، ويكون ذلك لربما سببًا لأمور كثيرة، يُفيق من غفلته، يعرف نِعم الله عليه، يلتفت لأمور كان غافلاً عنها، ويكون هذا المرض سببًا للقُرب والمناجاة، ولربما صار إلى مرتبة الإحسان، أن يعبد الله كأنه يراه بسبب هذا المرض، ويُذكره بالآخرة وبتقصيره، والله المستعان.

فهذه الدنيا لذاتها مُكدره، وآلامها أيضًا ليست خالصة، كاملة، وإنما يشوبها شيء من الراحة، فتوفية الأجور هذا كله يوم القيامة، وهذا فيه إشارة إلى أن البرزخ وعذاب القبر إنما يُجزى فيه الناس ببعض الجزاء، ليس بكل الجزاء، ولذلك المؤمن الُمنعم في قبره يُفتح له نافذة إلى منزله في الجنة، فيأتيه من روحها، لكنه لا يكون في نعيم كامل من كل وجه إنما هذا يكون إذا دخل الجنة.

وكذلك ذاك الذي في القبر من أهل النار، يُفتح له كوة أو نافذة إلى منزله في النار، فيأتيه من فوحها وحميمها ولهيبها وحرها، فتجد الأول يقول: ربي أقم الساعة، لماذا؟

لأنه يعلم النعيم الأعظم هناك، يريد أن ينتقل إليه، والآخر يقول: ربي لا تُقم الساعة؛ لأن هذا العذاب الذي هو في القبر أرحم مما يُشاهده، ويروعه، الناس لا يحتملون أحيانًا بعض المشاهد، والمقاطع التي فيها أمور مؤلمة، من قتل، أو عمليات انتحار مُباشرة.

فتجد الناس، أو من شهد ذلك المكان يُغمض عينيه، أو ينصرف، وتجد صراخ النساء والعويل، والفرار من المكان الذي سقط فيه هذا الإنسان، طيب مشهد النار، وهذه مفتوحة له في قبره، يُشاهدها، ويأتيه من حرها، كيف يكون حال هذا الإنسان؟

الروعات والخوف والهلع والشدة والعذاب، الألم النفسي والحسي، شيء لا يوصف، شيء يحتاج إلى تأمل ووقفة وتفكير، وطرد للغفلة التي نحن فيها، الأمر جد وعظيم، ويستحق أن يُفكر الإنسان فيه مليًا؛ ليعرف إلى أين يصير، وينظر في حاله، وحال أولاده على أي شيء هم، ويُطعمهم ويسقيهم، ويشربون وينامون ويمرحون، ويذهب بهم، ويُسافر بالإجازة، ويُذاكرون في الاختبارات، ويوقظهم، ونحو ذلك، لكن أين هم في الصلوات، وعمارة المساجد، وطاعة الله، وذكره؟

أين هم في حفظ حدود الله؟ أين هؤلاء البنات في الحجاب واللباس والستر والحشمة؟

يلبسون ما شاءوا، وينامون عن الصلوات، الجُمع والجماعات، ولا يتحرك فيه شيء، لكن لو أن هذا الولد تأخر عن الامتحان؛ أُعلنت حالة الطوارئ في البيت، الولد تأخر عن الامتحان، وإذا كان بعيدًا عنهم يتصلون بعد الفجر، وقبل الاختبار بمدة كافية، بساعة ثم بنصف ساعة يتأكدون أن الولد على حال من التأهب والاستيقاظ، وأنه مُستعد، وقد هيأ نفسه، والصلاة؟! لماذا هذا التضييع والإهمال؟ لماذا لا يُصلي إلا رُبع صف في الفجر؟ وفي الظهر يُصلي نحو ثلاثة صفوف، لماذا؟!

هذا غير الإجازة، وإنما في أيام العمل، فهذا أقول: يدل على إعراض عن هذا المعنى، وهذا الأصل العظيم.

على كل حال أتوقف هنا.

وأسأل الله أن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا المسلمين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. انظر: الموافقات، (2/44).

مواد ذات صلة