الثلاثاء 14 / شوّال / 1445 - 23 / أبريل 2024
(129) قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا...} الآية 116
تاريخ النشر: ٢٢ / ربيع الآخر / ١٤٣٨
التحميل: 421
مرات الإستماع: 1085

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لما ذكر الله -تبارك وتعالى- صفة هذه الطائفة المؤمنة من أهل الكتاب، لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُون ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين ۝ وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِين [آل عمران:113-115].

وجه بعد ذلك السياق، والكلام إلى تهديد الكفار كما هي عادة القرآن، حينما يذكر صفات الأبرار، أو حينما يذكر ما لهم من الجزاء، يذكر ما يُقابل ذلك، فهنا قال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون [آل عمران:116]، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ، كفروا بالله، كفروا برسله، كفروا بكتبه، كفروا بالقرآن، كفروا بما يجب الإيمان به، لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ، لن تدفع عنهم، ولن تجزي عنهم من الله شيئا، لن تجزي عنهم تلك الأموال، ولو كثُرت، ولن تجزي عنهم الأولاد وإن كثروا، وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون، وأولئك الكفار هم أصحاب النار أي الذين يُلازمونها ملازمة دائمة أهل الخلود فيها؛ لأنه إذا ذُكر مثل هذا التعبير أصحاب النار أصحاب الجنة، فذلك يعني المُلازمة، والبقاء الأبدي، السرمدي، فهم مُلازمون لها مُلازمة الصاحب لصاحبه.

يؤخذ من هذه الآية من الهدايات، والفوائد: أن هذه الآية -كما ترون- قد صُدرت بالتأكيد إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ، وهذه الأداة "إن" بمنزلة إعادة الجملة مرتين، فهذا تأكيد لهذا الخبر، والحكم الذي حكم به عليهم.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا، هذا يدل على كمال قدرة الله وأن نواصي الخلق تحت قبضته، وتصرفه، فلا يمتنع عليه أحد مهما كان عنده من القُدر، والإمكانات، والأملاك، والأموال، فالله -تبارك وتعالى- لا يُعجزه شيء، ولا يمتنع عنه أحد، أراد أخذه ومعاقبته.

وجاء هنا بأقوى صيغة من صيغ النفي لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا، "لن" قدم الضمير المتعلق بهم، ما قال لن تغني أموالهم، ولا أولادهم عنهم شيئا، وإنما قال: لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم، "عنهم" وذلك أن هذا هو المعتنى به، هم يريدون التعزز بهؤلاء الأولاد، والأموال، والاستغناء بها، والدفع عن أنفسهم، فإن ما يرجع إليهم هو المقصود الأعظم، فقدم ما يتصل بهم: لن تغني عنهم، كل هذا من أجل حياطة هذه النفوس، من أجل حفظها، من أجل تعزيزها، من أجل سلامتها، فهي مأخوذة، ولن يدفع عنها شيء من ذلك، لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا، هنا ذكر الأموال والأولاد، وغير الأموال، والأولاد من الأتباع والأولياء، ونحو ذلك، والخدم والحشم والعتاد، كل ذلك داخل فيه، لكنه ذكر أقرب ما يكون للإنسان مما يكون رهن إشارته، وهو ماله الذي يتصرف فيه، ويفتدي به، فإن ماله تحت يده، وطوع إشارته.

وكذلك الأولاد يتعزز بهم الآباء، يتقوون بهم لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا [مريم:77]، فكانوا يرون أن ذلك مصدر للامتناع والقوة والتعزز، ولكن الله -تبارك وتعالى- نفى نفيًا قاطعًا، جازمًا بهذه الأداة "لن" وجاء هنا بلفظ "شيئًا" نكرة في سياق هذا النفي لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا، فشيئًا نكرة في سياق النفي، تفيد العموم، لن تغني عنهم كثيرًا ولا قليلاً، لن تغني عنهم في أدنى الأشياء، لا في المحاجة عنهم، ولا في تخفيف العذاب، ولا في تقليله، أو تقليل مدته، فوجودها كعدمها تمامًا، يعني: الذي ليس عنده أولاد ولا أموال، والذي يملك أملاك قارون وعنده أولاد كثير، هؤلاء سواء، لن يحصل لهم انتفاع بهذه الأموال ولا الأولاد؛ لأن مدار النجاة عند الله -تبارك وتعالى- بعد رحمته على الإيمان والعمل الصالح، وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى [سبأ:37]، ليست هذه الأموال هي التي تُقرب إلى الله، وليست أيضًا هي التي تدفع عن أصحابها؛ كما في هذه الآية.

وقد قص الله -تبارك وتعالى- خبر صاحب الجنة مع صاحبه الذي جادله، فلما دخل جنته وهو بهذه الحال، وهو ظالم لنفسه قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا [الكهف:35]، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]، فكان يتعزز، ويقول لهذا الرجل المؤمن: أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا [الكهف:34]، فاحتج بكثرة المال، وكذلك أيضًا أنه أعز نفرًا، ولكن كانت نهايتهما قد علمتم.

وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا [الكهف:42]، وفي القراءة الأخرى (بثُمره) فُسر بالمال، وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ [الكهف:43]، لا أولاد ولا غير الأولاد، فذكر الأولاد هنا ليس للتخصيص، لكن إذا كان الأولاد وهم أقرب ما يكونون إليه وبهم يتعزز فغير الأولاد سرعان ما يديرون ظهورهم، ويولون مدبرين عنهم، كل يطلب الخلاص لنفسه.

فهنا جاءت هذه الألفاظ دالة على هذه المعاني، وهذا يؤخذ منه الحذر من الاغترار بكثرة العرض الدنيوي، أو كثرة الأولاد فإن ذلك لا يُغني عن الإنسان، ولا يدفع عنه، هذا الاغترار قد يحمله على ترك الحق -كما في صاحب الجنة- ويصده عنه؛ لأنه يشعر بالاستغناء بهذه الكثرة الكاثرة من الأموال والأولاد، ومن ثَم قد ينصرف عن الحق، ولا يطلبه بحال من الأحوال، فجاءت هذه الآية تُبين هذا المعنى بجلاء إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا.

ولاحظوا دخول "لا" بعد ذكر الأموال لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ، ما قال: لن تغني عنهم أموالهم وأولادهم، والمعنى يستقيم، لكن لما جاء بـ"لا" مع حرف العطف وَلاَ أَوْلاَدُهُم، قد يُفهم لو قيل: لن تغني عنهم أموالهم وأولادهم بأن مجموع هذين يُغني أو لا يُغني، لكن حينما يقول الله : وَلاَ أَوْلاَدُهُم، نفى كل واحد على حِدة، نفيًا صريحًا، لا خفاء فيه ولا التباس، كل ذلك سواء في عدم الغناء، إذ وجوده كعدمه.

كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى-: لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا، فإذا كان الأموال والأولاد لا تُغني عنهم من الله شيئًا، فمن باب أولى أولاد وأموال غيره لا تُغني عنه، وكذلك أيضًا أولاد عمومته، وغير هؤلاء من الأجناد، ومن رجاله، ونحو ذلك، كل هؤلاء لن يغنوا عنه، كذلك أولئك الذين كان يتعزز بهم في الدنيا أيًّا كانوا، لن يغنوا عنه من الله -تبارك وتعالى- شيئًا، قد يتعزز الإنسان بغيره، ويظن أنه يحوطه، ويدفع عنه، ويُسارع في معصية الله -تبارك وتعالى- طلبًا لمرضاته، ولكنه في النهاية لن يدفع عنه، ولن يُغني عنه من عذاب الله من شيء، كل إنسان مرتهن بعمله كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَة [المدثر:38].

وكذلك أيضًا وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا [البقرة:123]، نفس هنا نكرة في سياق النفي، أي نفس صغير، أو كبير، عَن نَّفْسٍ عن أي نفس، وكذلك شَيْئًا فإنها نكرة في هذا سياق النفي، فيشمل كل شيء.

وهكذا قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم، قد يُقال: قدم الأموال هنا على الأولاد، -الله تعالى أعلم- لكن لو قال قائل: باعتبار أن الأموال أطوع للإنسان من الأولاد، فالأولاد قد يتمنعون، قد يحصل منهم عقوق، قد يحصل منهم تباطؤ، قد يحصل منهم اشتغال بأنفسهم عنه، وهذا كثير، لكن المال كما يُعبر بعضهم عنه بقوله: المال ولد صالح، يعني: أنه يخدمك بلا توقف، حيث ما شئت ابذل الأموال تُخدم، وتُكفى، هذا في الدنيا، فمالك يخدمك، مالك يُسعفك في الدنيا، إذا أردت شيئًا، أو نحو ذلك.

فبالمال تتوصل إليه، لكن في الآخرة الأمر يختلف تمامًا، الإيمان والعمل الصالح، إلا إذا بُذل هذا المال في مرضاة الله وطاعته والتقرب إليه، فعندها ينفع، أما ما يُكتنز فلو ملك الإنسان أموال قارون، فالأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، إلا من قال: هاء، وهاء، وهاء، الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة، هذا التكاثر أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر [التكاثر:1]، كم رصيدي؟ وكم رصيد فلان؟ وكم عند فلان؟ ومتى أحقق الرقم الفلاني؟ ونحو ذلك، هذا كله التكاثر هو لا يزيد الإنسان من الله إلا تأخرًا وبُعدًا إلا إذا كان يؤدي حقه، ويأخذه من حِله، ويصرفه في حِله، ويؤدي حق الله فيه، وقليل من يكون كذلك.

ثم إن قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا، لاحظ المؤكدات هنا إِنَّ التي ذكرنا، وكذلك "لا" لن تغني عنهم أموالهم كررها، أداة النفي، وَلاَ أَوْلاَدُهُم وكذلك ضمير الفصل لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللّهِ شَيْئًا وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون.

كذلك أيضًا اسم الإشارة "أولئك"، كذلك التعبير بالجملة الاسمية وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون، تدل على الدوام، والثبوت، وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ، يعني: الكفار، أصحاب النار، المُلازمون لها، وكأن قوله -تبارك وتعالى-: وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ، أن ذلك يُفيد الملازمة، ملازمة الصاحب لصاحبه، يعني: الخلود، لكنه قال: وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ أكد ذلك بقوله: هُمْ فِيهَا خَالِدُون، يعني: أنهم باقون، لا يخرجون منها أبدًا.

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا، والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

مواد ذات صلة