الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
[80] قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ..} إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
تاريخ النشر: ٢٠ / ذو الحجة / ١٤٣٦
التحميل: 1186
مرات الإستماع: 1775

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.

يقول الله -تبارك وتعالى- بعد أن بيّن حقيقة شرعية، وأصلاً من الأصول المرعية، وهو قضية النسخ: مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:106] فهذا في سياق الرد على اليهود، حيث أرجفوا بأهل الإيمان، بسبب ما وقع من نسخ القبلة، فقال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك مخاطبًا أهل الإيمان: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [سورة البقرة:108] فهذا نهي لأهل الإيمان عن مشابهة هؤلاء اليهود، أتريدون أيها الناس أن تطلبوا من رسولكم ﷺ من السؤالات التي مبناها على العنت، وطلب أمور لا يصح أن تطلب، ولا أن تُسأل، كقول اليهود لموسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وكما قال الله : فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً [سورة النساء:153] فهذا من سؤالات هؤلاء اليهود التي كانت من قبيل العنت، والتمرد على أنبيائهم -عليهم الصلاة والسلام- حيث طلبوا منهم أمورًا لا يصح أن تطلب بحال من الأحوال.

ثم قال الله : وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [سورة البقرة:108] فدلّ على أن توجيه مثل هذه السؤالات، وهذا التعنت من قبيل الكفر، وأن الواجب على أهل الإيمان هو الإذعان والاستسلام والانقياد لربهم وباريهم -جل جلاله وتقدست أسماؤه.

فيُؤخذ من هذه الآية الكريمة: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ النهي عن التعنت في المسائل، وهذه السؤالات أليست من قبيل سؤال الاسترشاد والاستعلام، فإن هذا من الأمور المطلوبة والمحمودة، وقد جاء في القرآن يَسْأَلُونَكَ في جملة من الآيات، كقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ [سورة البقرة:217] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ [سورة البقرة:219] يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ [سورة البقرة:215] إلى غير ذلك.

لكن مثل هذه السؤالات التي مبناها على العنت، فإن هذا لا يصح بحال من الأحوال، وهو خلاف الانقياد والإذعان والإيمان والاستسلام، وقد جاء ذم السؤال في مثل هذه المقامات، وما أشبهها، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا [سورة المائدة:101] فهذا أيضًا من جملة السؤالات المذمومة.

فيدخل في السؤال المذموم: السؤال وطلب أمور تكون كسؤالات بني إسرائيل لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة:55] وكسؤالات المشركين أن يحول الصفا إلى ذهب، أو أن ينزل عليهم الملائكة من السماء، ومعهم كتاب يُقرأ، أو أن يزيح عنهم جبال مكة، أو أن يكون له جنة من نخيل وأعناب، ويفجر الأنهار خلالها تفجيرًا، فكانوا يسألونه أسئلة خارجة عن مقصود الرسالة، وعن مقدوره، وما أنيط به -عليه الصلاة والسلام- كان الجواب: سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولاً [سورة الإسراء:93] فالرسول لا يملك مثل هذه الأمور.

وكذلك أيضًا من السؤالات المذمومة: لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة:101] وهذا السؤال في وقت التنزيل عن أمور لم تفرض، فيكون ذلك سببًا لفرضها على الناس، والنبي ﷺ قال: إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا فقام رجل فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت رسول الله ﷺ ثم قال: لو قلت: نعم لوجبت؛ ولما استطعتم[1] يعني: أن النبي ﷺ لم يقل: إن الله افترض عليكم الحج في كل عام، وإنما: إن الله قد افترض عليكم الحج فحجوا فيكفي أن يحج مرة واحدة في العمر، فهذا السؤال لا محل له، فالسؤالات في وقت التنزيل عن أمور لم تفرض فتفرض، أو عن أمور لم تحرم فتحرم، وقد صح عن النبي ﷺ: إن أعظم المسلمين جرمًا من سأل عن شيء لم يحرم، فحرم من أجل مسألته[2] فهذا جناية على الناس، ويكون سببًا للتضييق عليهم.

كذلك من هذه السؤالات المذمومة: السؤال عن الأمور المتكلفة، والقضايا التي يندر وقوعها، ويبعد وقوعها، فهي قضايا نادرة، وكذلك السؤال عن صعاب المسائل التي يسميها الفقهاء: بالأغاليط، يعني: يُورد مسائل صعبة من أجل أن يمتحن بها الناس، فهذا ولو وجه إلى فقيه، فإنه يكون من قبيل السؤال المذموم.

وكذلك المسائل التي يندر وقوعها، والتي لا يبنى عليها عمل، فيقول مثلاً: كم كان عدد الراكبين في سفينة نوح؟ وما الذي يترتب على هذا؟! وكم عدد أصحاب الكهف؟ وما أسماؤهم؟ ومن أي قبيلة؟ وفي أي عصر من العصور؟

وكذلك أيضًا: ما نوع المائدة التي أنزلت على أصحاب عيسى (الحوارين)؟ وكيف يحصل الذرية والتناسل من إبليس باعتبار أنه هو أبو الجن؟ وهل له زوجة؟ فهذه مسائل لا يترتب عليها عمل، بالنسبة إلينا.

وكقضايا تتعلق بالنسخ قبل بلوغ المخاطبين الحكم أصلاً، فهذه مسائل لا يترتب عليها عمل، فما الذي يكون بالنسبة إلينا من العمل الواقعي؟ فهذه الشريعة شريعة واقعية، وعملية، إنما يشتغل أهل الإيمان بما يحصل به النفع لهم في جانب العلم والاعتقاد، أو في جانب العمل والسلوك، أما الأسئلة التي يراد بها مجرد السؤال أو التعجيز، أو التفكه بالسؤال والتسلي، ونحو ذلك، فمثل هذا أمر لا يحسن ولا يجمل.

حتى الألغاز فإنها في الأصل من عمل البطالين، اللهم إلا ما يحصل به كد الأذهان في ما يتعلق بالعلوم المختلفة، والنافعة، كالألغاز الفقهية، ونحو ذلك، أما الألغاز التي لا معنى لها، ولا يترتب على معرفة ذلك فائدة، فإن هذا لا يحمد الاشتغال به؛ لأنه يفوت مصالح أنفع وأعظم وأجدى على أصحابها، فإذا سأل أهل الإيمان إنما يسألون سؤال استرشاد واستعلام فيما يحتاجون إليه، أما ما لا يعنيهم فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه[3] فيكون ذلك من قبيل الفضول في السؤال، وهو اشتغال بما لا يعني، وهو نقص في مرتبة العبد، سواء كان ذلك فيما يتعلق بالمسائل الشرعية حينما يسأل عن قضايا لا تعنيه، أو حينما يسأل في قضايا عامة عن أمور لا تعنيه، أو يسأل في قضايا خاصة عن أمور لا تعنيه، يعني يسأل الناس عن قضايا تتعلق بخاصة شؤونهم، وما يتعلق بمكاسبهم، أو فيما يتعلق بعللهم، أو فيما يتعلق بمشكلاتهم، أو فيما يتعلق بأهلهم وأولادهم، أو نحو ذلك مما لا يحبون الاطلاع عليه، وما اشتغل أحد بما لا يجدي عليه نفعًا إلا كان ذلك على حساب الأمور النافعة والمفيدة.

ثم تأمّل قوله -تبارك وتعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ [سورة البقرة:108] فأضاف الرسول إليهم، فهذه الإضافة تقتضي تشريف هذا الرسول وتعظيمه وإجلاله، لا مقابلة هذا الرسول بالتعنت وتوجيه مثل هذه السؤالات التي لا تصح بحال من الأحوال، وهي خلاف التعظيم والتوقير والاستجابة والانقياد والقبول.

ثم قال الله : وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة:109] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يعني: تمنى كثير من أهل الكتاب لو يرجعونكم من بعد إيمانكم كفارًا، كما كنتم من قبل تعبدون الأصنام والأوثان حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ بسبب الحسد الذي قد امتلأت به نفوسهم، من بعد ما تبيّن لهم صدق ما جاء به الرسول ﷺ وصحة ما أنتم عليه من الدين.

وأمر الله بمقابلة ذلك بالتجاوز والعفو والصفح عن إساءات هؤلاء، وما يبدر منهم مما يكون دافعه الحسد الذي يأكل قلوبهم، حتى يأتي الله بحكمه فيهم بقتالهم، وقد جاء ذلك، وقُرِّر -كما هو معلوم- فالله سيتولاهم ويعاقبهم على سوء فعالهم، فالله على كل شيء قدير، لا يعجزه شيء.

وفي قوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ دليل واضح على أن هؤلاء قد حرموا التوفيق، وأن هذا الحرمان قد أقعدهم عن الإيمان؛ وذلك أنهم حسدوا أهل الإيمان على ما هم عليه، والحسد لا يمكن أن يكون إلا على نعمة، فهؤلاء إذن علموا تمام العلم أن ما عليه أهل الإيمان أنه حق، ودين صحيح، تحصل به سعادة الدارين، فحسدوهم لأجل ذلك، يعني هل يمكن أن يحسدوهم على دين باطل مفترى مكذوب؟ وهل يمكن أن يحسدوهم على مصيبة؟ وهل يمكن أن يحسدوهم على جهل؟ وهل يمكن أن يحسدوهم على نقيصة؟

الجواب: لا، إنما الحسد يكون على الكمالات، فوجود هذا الحسد عند هؤلاء اليهود يدل على أنهم قد علموا تمام العلم أن أهل الإيمان في نعمة، وعلى دين كامل صحيح، واعتقاد سديد، فحسدوهم على هذه النعمة العظيمة.

فالحسد إذن لا يكون على الردى، ولا يكون الحسد على النقصان، ولا يكون الحسد على الجهل، ولا يكون الحسد على الرزية، وإنما يُحسد صاحب النعمة، فهذا الحسد الذي أكل قلوب هؤلاء اليهود، أو أهل الكتاب يدل على أنهم قد عرفوا أحقية ما جاء به الرسول ﷺ وما عليه أهل الإيمان من الكمال، وأن دينهم حق، وليس بباطل.

ولاحظوا أيضًا قوله -تبارك وتعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ كما جاء عن عثمان : أن المرأة الزانية تود لو أن جميع النساء زواني[4] لماذا؟ لأن هذه التي تتميز بالطهر والعفاف والشرف، كأنها تشير إليها في واقع الحال بأن تلك قد فقدت عفافها وشرفها وطهارتها، فهي تضيق ذرعًا بأهل الطهر والعفاف، فالمرأة البغي (الزانية) يكون عندها نقمة على العفيفات؛ وقد قرأت في بعض التقارير في انتشار مرض الإيدز يقولون: إن أكثر من ينشر مرض الإيدز هي المرأة المصابة بهذه المرض، يكون عندها ردود أفعال عنيفة، ونزعة انتقام تجاه الرجال، فهي تستعرض لهم بكل مستطاع: في المطاعم والفنادق، وفي كل موضع يمكن أن تقتنص وتصطاد فيه الرجال بأبهى حلة وزينة، من أجل أن تُدخل في هذا المنتدى -نسأل الله العافية للجميع- منتدى هذا المرض (مرض الإيدز) جموعًا جديدة يشاركونها في هذا البلاء والاعتلال والمصيبة.

فكذا أيضًا هؤلاء الكفار من أهل الكتاب يودون ويتمنون لو أعادوا أهل الإيمان إلى الكفر ثانية؛ لئلا يتميز هؤلاء عليهم بالاستقامة، وصحة الاعتقاد والهداية التي حرمها هؤلاء، فبدلاً من أن يدخلوا في الإيمان معهم، وأن يغتبطوا بهذه النعمة، وينعموا بهذا الدين الصحيح، حرموا التوفيق، وأقعدهم هذا الحرمان، فصارت نفوسهم تتآكل حسدًا، ويودون إعادتهم إلى ما كانوا عليه من الكفر.

، وهذا يدل على أن هؤلاء أهل الكتاب لا يريدون بأهل الإيمان خيرًا بوجه من الوجوه مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة:105] فالخير من الله هم لا يريدونه لكم، وإذا وقع بكم شيء من ذلك، وحل بكم فضل من الله تمنوا زواله؛ لشدة عدواتهم وكراهيتهم، فإذا كانوا لا يتمنون لنا خيرًا فهل نؤمل منهم أن يجري الخير على أيديهم، وأن يسعفونا به وينصروننا؟

انظر إلى تكالبهم على أهل الإيمان في مثل هذه الأوقات، وعبر القرون والعصور المنصرمة، لا جديد في تكالب هؤلاء على أهل الشام مثلاً، أو على غير أهل الشام، فهذه عادتهم، وهذا ديدنهم، وهذا هو المنتظر منهم، فلو صدر منهم غير ذلك لكان هو المستغرب، وأجمل تعليق سمعته على السجية: أن هؤلاء قد اشتاقوا إلى الهزيمة، وأنهم منذ نحو ثلاثين سنة قد هزموا هزيمة نكراء عرفها القريب والبعيد، وكانت سببًا لتفكيك تلك الدولة العظمى الكبرى، التي كانت تحتل مساحة شاسعة على الأرض، ثم بعد ذلك صارت إلى دول كثيرة بسبب بغيهم وظلمهم وعدوانهم، فمثل هؤلاء ما ظنكم بهم؟!

إن اعتقادهم وحسدهم لأهل الإيمان وبغضهم يحملهم حملاً على مثل هذه التصرفات، فلا غريب ولا جديد، لكن الشيء الذي ينبغي أن توجه الأنظار إليه هو ما نحن عليه من التفرق والاختلاف، والله يقول: وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال:46] هذا هو المؤلم، وهنا المصيبة الحقيقية، وليس في تكالب الأعداء فهم يتكالبون منذ دهر طويل، فقد اجتمعوا على النبي ﷺ اجتمع الأخلاط من المشركين، ومن المنافقين، ومن اليهود، واجتمع الفرس والروم في معركة واحدة تاريخية في فتوحات فارس وبلاد الروم، وبلاد الشام، اجتمعوا في معركة واحدة، وهزموا.

والآيات والنصوص الدالة على هذا المعنى كثيرة، والأموال التي ينفقوها فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [سورة الأنفال:36] لا في الدنيا ولا في الآخرة، وليس لهم إلا الخيبة والندامة والعاقبة السيئة، والمكر السيئ لا يحيق إلا بأهله، والله يقول: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [سورة آل عمران:111] هذا متى؟

هذا إذا كانت الأمة على أمر الله مستقيمة، وكانت الأمة معتصمة بحبل الله تنبذ التفرق والاختلاف، أما ما نحن عليه فهذا هو المصيبة الحقيقية، هذا التفرق والاختلاف والتشرذم على كافة الصعد، يعني بين المنتسبين للعلم وللدعوة والجهاد وما إلى ذلك، وإذا انبرى طائفة من الأمة بنصيحة، أو نحو ذلك ربما يحمل كلامهم، ما لا يحتمل، ويشتغل الناس بهذه عما ابتلوا به، وعما نزل بهم من هذا المصاب، ونزول العدو بساحتهم، فيشتغل بعضهم ببعض، وهذا لا يكون إلا لقلوب قد تناكرت، ونفوس قد تباعدت، ومن نفوس لا تحمل مشاعر طيبة للمسلمين وللهداة والناصحين والمصلحين، فإن من يريد النصح حقيقة فإنه يكمل ويسدد وينصح، وإذا وجد شيئًا مما يحتاج إلى تكميل كمله ونصح.

فأهل الإيمان نصحة، وأما تحميل كلام الناس ما لا يحتمل، والوقيعة بأعراضهم والتصرفات التي لا تصدر عن نفوس سوية، فإن مثل هذا لا يليق بحال من الأحوال، وهذا التشرذم الذي نحن فيه، وهذا التفرق هو سبب الهزيمة، وسبب التراجع وتأخر النصر، وتخلف الأمة، فصارت بهذه المثابة، والله المستعان.

ويُؤخذ من هذه الآية الكريمة حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة:109] أن الحسد قد يقع في نفس الإنسان من غير إرادة، ولا يكون في وسعه دفع هذا الحسد، لكنه يُؤاخذ على رضاه به، وإظهار القدح في المحسود، والقصد إلى إزالة النعمة عنه، فما يبدر من تصرفات باللسان، أو تصرفات بالجوارح، فهذا كله يُؤاخذ عليه الإنسان.

وقد ذكر هذا المعنى الشيخ محمد الخضر حسين -رحمه الله- وكذلك قال شيخ الإسلام -رحمه الله: ما خلا جسد من حسد، ولكن الكريم يخفيه، واللئيم يبديه[5] يعني: الكريم يكظم ذلك ويطويه، ولا يبدر منه شيء من القول أو العمل الذي يكون منشأه الحسد، ودافعه الحسد، فيستعيذ الإنسان بالله من شر نفسه وهواه، ومن نزغات الشيطان، ويجاهد هذه النفس، ويذكر إخوانه من أهل الإيمان بما يليق بهم، وإذا رأى فيهم نقصًا أو عيبًا أو نحو ذلك سددهم ونصحهم، ودعا لهم، ويحب لهم ما يحبه لنفسه هذا هو اللائق، وهذا هو الصادق.

وأما إذا كان الحسد ملأ قلبه، وكانت النفس ضعيفة، فاللئيم يبديه، فيظهر هذا بالقدح، والوقيعة في الأعراض، وتصيد الأخطاء، وتحويل المناقب إلى مثالب ومعايب، ونحو ذلك، فهذا فعل أصحاب النفوس المريضة، فهذا من عند أنفسهم، فهي أنفس خبيثة، تود الكفر للمسلمين حسدًا، وأيضًا هذا يدل على خبث طوايا هؤلاء من أهل الكتاب الذين يودون وقوع المسلمين في الكفر، فهو مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ فهذا ليس بناتج عن ردود أفعال، أو عن إساءة صدرت من المسلمين تجاههم، فسبّبت هذه العداوات، وإنما هو شيء نابع من داخل نفوسهم المريضة، هذه النفوس التي نأت وابتعد عن الإيمان، والاهتداء فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة:109].

فهنا فرق لطيف الصبر مأمور به مطلقًا، كما قال شيخ الإسلام فلا ينسخ، فلا بد من الصبر على أذى هؤلاء الأعداء، وأما العفو والصفح يقول شيخ الإسلام: فإنه جعل إلى غاية، وهو إلى أن يأتي الله بأمره[6] فلما أتى بأمره بتمكين النبي ﷺ ونصره صار قادرًا على الجهاد لأولئك وإلزامهم بالمعروف، ومنعهم عن المنكر، صار يجب عليه العمل باليد في ذلك ما كان عاجزًا عنه، وهو مأمور بالصبر في ذلك كما كان مأمورًا بالصبر أولاً، فهذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فأمروا بالجهاد بعد ذل.

وفي قوله تعالى: فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ هذا فيه بشارة للمؤمنين بأن الله سيغير الحال المقتضية للعفو والصفح؛ لأنهم لا يستطيعون مصاولة هؤلاء الأعداء، فيصيرون إلى حال من القوة يستطيعون بها دفعهم.

وذكرنا في بعض المناسبات: أن العفو من عفت الريح الأثر، ألا يبقى في النفس أثر، والصفح أن يعطي صفحة العنق، بمعنى لا يقف مع الإساءة بالمعاتبة، ونحو ذلك، وهذا هو الصفح الجميل.

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  أخرجه مسلم في كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر برقم: (1337). 
  2.  أخرجه البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه برقم: (7289) ومسلم في الفضائل، باب توقيره ﷺ وترك إكثار سؤاله برقم: (2358). 
  3.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الزهد برقم: (2317) وصححه الألباني. 
  4.  المبدع في شرح المقنع (8/ 320) بلفظ: روي عن عثمان أنه قال: ودت الزانية أن النساء كلهن يزنين. 
  5.  أمراض القلوب وشفاؤها (ص:21). 
  6.  أمراض القلوب وشفاؤها (ص:19). 

مواد ذات صلة