الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
سورة الشرح كاملة
تاريخ النشر: ٢١ / ذو القعدة / ١٤٣٤
التحميل: 7545
مرات الإستماع: 6689

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لي ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين.

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله: "إقسامه سبحانه على إنعامه على رسوله ﷺ وإكرامه وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد، وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته وحكمته ورحمته وهما الليل والنهار، فتأمل مطابقة هذا القسم -وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل- للمقسم عليه -وهو نور الوحي الذي وافاه بعد احتباسه عنه حتى قال أعداؤه: ودَّع محمداً ربُّه، فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه"[1].

الآن الربط من قِبل بعض المفسرين منهم ابن القيم بين المقسم به وبين موضوع الآيات أو الآية أو سبب النزول، يعني يربط بين الضحى ومجيء الوحي للنبي ﷺ بعد الانقطاع.

 وقال -رحمه الله: "وأيضا فإن فالق ظلمة الليل عن ضوء النهار هو الذي فلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوة، فهذان للحس وهذان للعقل، وأيضًا فإن الذي اقتضت رحمته أن لا يترك عباده في ظلمة الليل سرمدًا بل هداهم بضوء النهار إلى مصالحهم ومعايشهم لا يليق به أن يتركهم في ظلمة الجهل والغي، بل يهديهم بنور الوحي والنبوة إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط المقسم به والمقسم عليه، وتأمل هذه الجزالة، والرونق الذي على هذه الألفاظ، والجلالة التي على معانيها، ونفى سبحانه أن يكون ودَّع نبيه أو قلاه، فالتوديع الترك، والقِلَى البغض، فما تركه منذ اعتنى به وأكرمه، ولا أبغضه منذ أحبه، وأطلق سبحانه أن الآخرة خير له مما قبلها، ثم وعده بما تقر به عينه وتفرح به نفسه وينشرح به صدره، وهو أن يعطيه فيرضى، وهذا يعم ما يعطيه من القرآن والهدى والنصر وكثرة الأتباع، ورفع ذكره وإعلاء كلمته"[2].

لاحظ كيف عمم العطاء وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ [سورة الضحى:5] يعني ما قال: في الآخرة فقط، وإنما ما يعطيه من كثرة الأتباع، ما يعطيه من انشراح الصدر، ما يعطيه من النصر، ما يعطيه من الذكر الجميل، ما يعطيه من الفتوح في البلاد، إضافة إلى الآخرة.

وقال -رحمه الله: "وما يعطيه بعد مماته، وما يعطيه في موقف القيامة، وما يعطيه في الجنة، وأمّا ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى وواحد من أمته في النار أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار..."[3].

يعني بعض الناس يقول: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىالنبي ﷺ لا يرضى أن يدخل أحد من أمته في النار، فهو الآن يردّ عليهم.

وقال -رحمه الله: "وأمّا ما يغتر به الجهال من أنه لا يرضى وواحد من أمته في النار، أو لا يرضى أن يدخل أحد من أمته النار فهذا من غرور الشيطان لهم، ولعبه بهم، فإنه -صلوات الله وسلامه عليه- يرضى بما يرضى به ربه -تبارك وتعالى"[4].

يعني هذه خلاصة الرد، العلماء يردون بهذا سواء ابن القيم أو غيره، يرضى بما يرضى به الله، ليس له إرادة تخالف إرادة الله -تبارك وتعالى.

وقال -رحمه الله: "وهو سبحانه يدخل النار من يستحقها من الكفار والعصاة، ثم يحد لرسوله حدًا يشفع فيهم، ورسوله أعرف به وبحقه من أن يقول: لا أرضى أن يدخل أحد من أمتي النار على أن يدعه فيها، بل ربه -تبارك وتعالى- يأذن له فيشفع فيمن شاء الله أن يشفع فيه، ولا يشفع في غير من أُذن له فيه ورضيه.
ثم ذكر سبحانه نعمه عليه من إيوائه بعد يتمه، وهدايته بعد الضلالة، وإغنائه بعد الفقر، فكان محتاجًا إلى من يؤويه ويهديه ويغنيه، فآواه ربه وهداه وأغناه، فأمره سبحانه أن يقابل هذه النعم الثلاث بما يليق بها من الشكر، فنهاه أن يقهر اليتيم، وأن ينهر السائل، وأن يكتم النعمة، بل يحدث بها، فأوصاه سبحانه باليتامى والفقراء والمتعلمين"[5].

قوله: "والمتعلمين" يعني السؤال حمله أيضًا على السائل عن العلم.

وقال -رحمه الله: "قال مجاهد ومقاتل: لا تحقر اليتيم، فقد كنت يتيما، وقال الفراء: لا تقهره على ماله فتذهب بحقه لضعفه، وكذلك كانت العرب تفعل في أمر اليتامى تأخذ أموالهم وتظلمهم، فغلظ الخطاب في أمر اليتيم، وكذلك من لا ناصر له يغلظ في أمره، وهو نهي لجميع المكلفين"[6].

وقال -رحمه الله: "قوله تعالى: وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى وأجمع المفسرون أن العائل هو الفقير، يقال: عال الرجل يَعيل إذا افتقر، وأعال يُعيل إذا صار ذا عيال، مثل: لَبِنَ وأثمرَ وأثرى.."[7].

لاحظ الآن هو يبين معنى عائل؛ لأن بعضهم فسره مع أنه هنا نقل الإجماع لكن الواقع أن بعضهم فسره أن العائل ذو العيال، يعني من له عيال، ومن له عيال يكون بحاجة إلى ما يكون به قوام عيشهم، ولكن المقصود به هنا الفقير، فرق بين عال وأعال، أعال متعدٍّ، أي أعال غيره، أعال فهو ذو عيال، يعول، وعال يَعيل افتقر، وهذا فائدة التصريف في الترجيح بين الأقوال، ومعرفة أصل المعنى، وهذا كثير في التفسير.

وقال -رحمه الله: "وأعال يُعيل إذا صار ذا عيال مثل: لَبِنَ وأثمرَ وأثرى إذا صار ذا لبنٍ وثمرٍ وثروةٍ، وعال يعول إذا جار، وفي الآية ثلاثة أقوال:

أحدها: إنه أغناه بعد فقره، وهذا قول أكثر المفسرين؛ لأنه قابله بقوله: عَائِلاً، والعائل هو المحتاج ليس ذا العَيلة.

والثاني: إنه أرضاه بما أعطاه وأغناه به عن سواه، فهو غِنى قلب ونفس لا غِنى مال، وهو حقيقة الغنى.

والثالث: وهو الصحيح، إنه يعم النوعين، نوعي الغنى فأغنى قلبه به، وأغناه من المال"[8].

وهنا قال: فَأَغْنَى فحذف المتعلق، والأصل أن حذف المتعلق يفيد العموم النسبي "فأغنى"، ما قال: أغناك من الفقر، أو أغنى النفس، فيدخل فيه غنى النفس، وغنى القلب، والغنى من الفقر.

وقال -رحمه الله: "وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ قال أكثر المفسرين: هو سائل المعروف والصدقة لا تنهره إذا سألك، فقد كنت فقيراً فإما أن تطعمه وإما أن ترده ردًّا ليناً، قال الحسن: أمَا إنه ليس بالسائل الذي يأتيك، ولكن طالب العلم، وهذا قول يحيى بن آدم، قال: إذا جاءك طالب العلم فلا تنهره، والتحقيق أن الآية تتناول النوعين.

وقوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [سورة الضحى:11] قال مجاهد: بالقرآن، وقال الكلبي: بمعنى أظْهِرها، والقرآن أعظم ما أنعم الله به عليه فأمره أن يُقرئه ويعلمه، وروى أبو بشر عن مجاهد: حدِّثْ بالنبوة التي أعطاك الله، وقال الزجاج: بلغْ ما أرسلت به وحدثْ بالنبوة التي آتاك وهي أجلّ النعم، وقال مقاتل: اشكر هذه النعمة التي ذكرت في هذه السورة"[9].

الجمع بين هذه الأقوال النبوة والقرآن وسائر ما أنعم الله به عليه.

وقال -رحمه الله: "والتحقيق أن النعم تعم هذا كله، فأمر أن لا ينهر سائل المعروف والعلم، وأن يحدث بنعم الله عليه في الدين والدنيا"[10].

وقال -رحمه الله: "وَفِي هَذَا التَّحْدِيثِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَوْلَانِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ ذِكْرُ النِّعْمَةِ، وَالْإِخْبَارُ بِهَا، وَقَوْلُهُ: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ بِكَذَا وَكَذَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي اشْكُرْ مَا ذَكَرَ مِنَ النِّعَمِ عَلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ جَبْرِ الْيُتْمِ، وَالْهُدَى بَعْدَ الضَّلَالِ، وَالْإِغْنَاءِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ.

وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ جَابِرٍ مَرْفُوعًا: مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَلْيَجْزِ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَا يَجْزِي بِهِ فَلْيُثْنِ، فَإِنَّهُ إِذَا أَثْنَى عَلَيْهِ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ، وَمنْ تَحَلَّى بِمَا لَمْ يُعْطَ كَانَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ[11].

فَذَكَرَ أَقْسَامَ الْخَلْقِ الثَّلَاثَةَ: شَاكِرُ النِّعْمَةِ الْمُثْنِي بِهَا، وَالْجَاحِدُ لَهَا وَالْكَاتِمُ لَهَا، وَالْمُظْهِرُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا، فَهُوَ مُتَحَلٍّ بِمَا لَمْ يُعْطَهُ.

وَفِي أَثَرٍ آخَرَ مَرْفُوعٍ: "مَنْ لَمْ يَشْكُرِ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرِ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ، وَالتَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ، وَتَرْكُهُ كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ، وَالْفُرْقَةٌ عَذَابٌ".

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ التَّحَدُّثَ بِالنِّعْمَةِ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الدَّعْوَةُ إِلَى اللَّهِ، وَتَبْلِيغُ رِسَالَتِهِ، وَتَعْلِيمُ الْأُمَّةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ النُّبُوَّةُ.

قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ بَلِّغْ مَا أُرْسِلْتَ بِهِ، وَحَدِّثْ بِالنُّبُوَّةِ الَّتِي آتَاكَ اللَّهُ.

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الْقُرْآنُ، أَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأَهُ.

وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ، إِذْ كَلٌّ مِنْهُمَا نِعْمَةٌ مَأْمُورٌ بِشُكْرِهَا وَالتَّحَدُّثِ بِهَا، وَإِظْهَارُهَا مِنْ شُكْرِهَا"[12].

قال ابن كثير -رحمه الله: تفسير سورة ألم نشرح وهي مكية

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۝ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ۝ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ۝ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ۝ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ [سورة الشرح:1-8].

يقول تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ يعني: أمَا شرحنا لك صدرك، أي: نورناه وجعلناه فسيحًا رحيبًا واسعًا.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذه السورة من السور المكية، والموضوع الذي تتحدث عنه وتدور حوله الآيات هو ما أعطاه الله، وأولاه، وأنعم به على نبيه ﷺ، وأن ذلك متحقق له في الماضي والمستقبل، فالذي شرح صدره ووضع وزره، ورفع ذكره فإنه ييسر له كل عسير، وييسر عليه تحمل أعباء الدعوة، وييسر عليه الأثقال التي يلقاها بسبب البلاغ وبسبب ما يلاقيه من عنت وأذى المشركين، إلى غير ذلك من ألوان التيسير كحفظ الوحي، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَى [سورة الأعلى:6]، لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ۝ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة:16، 17].

وهكذا في كل أمر يشتد عليه فإن الله -تبارك وتعالى- ييسره ويهونه، وإنما عليه أن يشتغل بمقابلة ذلك كله بالشكر حيث يكون في طاعة وعبادة على حالة مستمرة، إذا فرغ من عمل شرع في العمل الآخر، وهكذا، وتكون رغبته ورهبته كل ذلك متوجهًا إلى الله وحده دونما سواه، فالذي أعطاه وحباه وأولاه هو الذي ينبغي أن يكون محل الرغبة والرهبة، هذا موضوع السورة، وحاصله وخلاصته في أول الكلام الذي ذكرته: ما أعطى الله نبيه وما سيعطيه ويوليه، هذا موضوع السورة.

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ سورة ألم نشرح، ويقال لها: سورة الشرح، ويسميها بعضهم  بسورة الانشراح، وقوله -تبارك وتعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ هنا يقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: يعني: أمَا شرحنا لك صدرك، لاحظ هنا استفهام، وهذا الاستفهام دخل على النفي، الهمزة للاستفهام و"لم" للنفي أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، فالاستفهام إذا دخل على النفي قرره يعني صار بمعنى الإثبات، ولهذا يفسرونه يقولون: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ شرحنا لك صدرك، فهذا استفهام تقريري.

أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ يقول هنا: نورناه وجعلناه فسيحًا رحيبًا واسعًا، شرْح الصدر يعني أن الله يوسعه ويفتحه بإذهاب ما يحصل به الضيق، ويصد عن كمال الإدراك؛ لأن الإنسان إذا حصل له الضيق في الصدر لم يعد في حال يتهيأ فيها للتلقي بصورة كاملة، فيبقى ذهنه منقبضًا، إذا كان الإنسان في حال من الضيق فإنه قد يزداد ذلك عليه حتى إنه لا يكاد يعقل شيئًا، إذا اغتم الإنسان، إذا صار في شدة الغم.

ولهذا فإن بعض الفقهاء يذكرون أن ذلك من المشوشات للفكر، يعني كما أن النبي ﷺ نهى أن يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان قالوا: فكذلك في حال الغم الشديد وفي حال الفرح الشديد، فهذه تشوش فكره، فإذا كان الإنسان في حال غم كبير فإنه يقرأ ولا يكاد يعقل، سواء كان ذلك في قراءته للعلم والكتب أو في سماعه له أو غير ذلك.

وهنا خص الصدر أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؛ لأنه محل القلب، فالقلب هو الذي يحصل به الانشراح، ويحصل به الضيق والانقباض، وهو محل الإدراك، وبه يعقل الإنسان، وأحوال النفس ترتبط به ارتباطًا وثيقًا، فإذا انفسح القلب انفسح الصدر، انشرح، ومن ثَمّ فإن هذا الانشراح الذي ذكره الله هنا ممتنًّا به على النبي ﷺ فسره بعضهم بالإسلام كما جاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ.

وبعضهم يفسره بما يقرب من هذا أو بغيره مما يدخل في معناه، فابن جرير -رحمه الله- يقول: للهدى والإيمان، أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ شرحه للهدى والإيمان بالله ومعرفة الحق، فهذا كله مما يدخل في معناه، فشرح الصدر يكون بالإيمان في أجلى صوره وأكمل حالاته، أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ [سورة الزمر:22].

فإذا حصل له الإيمان التام -والإٍسلام هنا في الآية يدخل فيه الإيمان كما هو معلوم، فإن الإسلام إذا أفرد دخل فيه الإيمان- فهذا الانشراح الذي يكون للإيمان يحصل معه ما يستتبعه ذلك من أنواع الانشراح، ما نسميه باتساع الصدر، والراحة القلبية، والأنس الذي تحصل به سعادة العبد، يعني أن قلبه يكون منفسحًا، وهذه قضية مُدركَة يعرفها كل أحد، وذلك يكون بالإيمان والعمل الصالح والتقوى بطاعة الله، وطاعة رسوله ﷺ، وترك المعاصي؛ لأن المخالفات والمعاصي يحصل بها الانقباض، فكل معصية يحصل بها انقباض كانقباض هذه الأصابع في الكف حتى ينقبض القلب، فيجد من الحرج والضيق، فإذا كان في حال من الكفر والتكذيب فهذا لا تسأل عن حاله، ولو كان البدن منعمًا.

فالمقصود أن شرح الصدر للإيمان وما يستتبعه ذلك من ألوان الانشراح نعمة عظيمة لا تقادَر، فهي أجلّ النعم فمن حرم الإيمان حرم كل شيء، ومن ذلك ما يتصل بآثاره مما يتعلق بالصدر والقلب من الراحة والطمأنينة، والسعادة، وانفساح الصدر الذي يكون فيه الإنسان، يكون قلبه حرًّا طليقًا لا تأسره شهوة ولا معصية، فلا يبقى في حبس، وضيق، فإن الحبس الحقيقي والسجن الحقيقي كما قال شيخ الإسلام: هو سجن القلب، وليس سجن البدن، والبدن تبع لهذا القلب، فإن كان القلب منعمًا فإن ذلك يسري إلى البدن فيظهر أثر ذلك على الوجه، ولو كان الإنسان يعيش في فقر أو يعيش في شدائد وأذى من الخلق.

وبهذا ذكر ابن القيم -رحمه الله- حال شيخ الإسلام مع ما هو فيه من البلاء والشدة والأذى، فكانت نضرة النعيم تلوح على وجهه، يقول: إذا اشتدت بنا الخطوب وأرجف بنا الخصوم وساءت بنا الظنون فما أن نأتيه ونرى وجهه حتى ينجلي ذلك جميعًا، فكان يذكر ما كانوا يرون على وجهه من نضرة النعيم، والطمأنينة، والثبات مع ما هو فيه من الشدة.

لكن حينما تنظر إلى أهل الفجور تنظر إلى وجوههم ولو كانوا من المنعمين أو الممكنين أو نحو ذلكترى البؤس في تلك الوجوه، ومن فتح الله بصيرته فقد لا يطيق النظر إلى وجه الكافر؛ لأن البؤس بأكمل أحواله وأوصافه وصوره وأشكاله يلوح على وجهه، لاسيما من كان إيمانه حيًّا ولم يعتد رؤية الكفار، فإذا رأى وجه الواحد منهم ولو كان هؤلاء الكفار في غاية القوة، وهم لربما عندهم من أسباب التمكين ما يظنون أنهم يديرون به الدنيا بأكملها، إذا نظر إلى وجه الواحد منهم في شاشة أو في لقطة من الأخبار أو نحو هذا رأى أنواع البؤس على هذا الوجه -والله المستعان.

فهذا الانشراح -هذا الشرح- يشمل هذه الأمور جميعًا، يقول: وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحًا واسعًا سمحًا سهلاً، لا حرج فيه، ولا إصر، ولا ضيق، لكن لاحظ هذه أول منة يمتن بها عليه، وهذا لا شك أنه يدعو المكلف إلى الالتفات إلى هذا المعنى والعناية به، والنظر في أسبابه، والتمسك بأهدابه التي لا شك أن الإيمان هو مدارها وقطب رحاها فيزداد من الإيمان والعمل الصالح، وتقوى الله -تبارك وتعالى- فيحصل له من ألوان الانشراح ما لا يخطر على بال، بخلاف الآخر ضعيف الإيمان، وفي قلقٍ، حتى لو أنه استخار في ظاهر الأمر إلا أنه في غاية القلق مع استخارته، وإذا حصل له خلاف مطلوبه فهو في غاية الضجر والضيق، بينما الآخر هو دائمًا كما قال شيخ الإسلام: المؤمن مثل الغنمة حيثما انقلب فعلى صوف، وكان يقول: ما يصنع بي أعدائي؟! إنّ جنتي وبستاني في صدري، قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة، فمن كان بهذه المثابة لا يصل إليه عدوه بمكروه، وإذا كان الإيمان منعدمًا فهذا هو القلق الكامل، والريب الذي يزعجه ويقلقه.

يقول تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ يعني: أمَا شرحنا لك صدرك، أي: نورناه وجعلناه فَسيحًا رحيبًا واسعًا، كقوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شَرْعه فسيحًا واسعًا سمحًا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.

وقوله: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ بمعنى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [سورة الفتح:2]، الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ الإنقاض: الصوت، وقال غير واحد من السلف في قوله: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي: أثقلك حمله.

هنا قوله -تبارك وتعالى: وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ فسره بهذه الآية: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وهذا الوزر ما هو؟ هنا قال: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ، وكثير من السلف فمن بعدهم يقولون: وذلك ما كان عليه حال الجاهلية، وليس مقصودهم بالضرورة أن النبي ﷺ كان على دين أهل الجاهلية، جاء عن الحسن والضحاك وقتادة ومقاتل وغير هؤلاء، وابن جرير -رحمه الله- يقول: غفرنا لك ما سلف من ذنوبك، وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية.

وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ما معنى قول الله -تبارك وتعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ فالوزر هو الذنب، لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ [سورة النحل:25] يعني الذنوب وما تستتبعه من الآثام، هذه المسألة مبناها على المعاصي هل تقع من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام؟

فالذين يقولون: إن المعاصي لا تقع من الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، وإنهم عصموا من الصغائر والكبائر، هنا يقولون: إن ذلك ما كان في الجاهلية، أمر الجاهلية، وبعضهم يفسره بمعانٍ بعيدة متكلفة أو مبنية على قراءات شاذة، فيذهب به إلى غير الذنب وهو المعنى للوزر، فهذا لا حاجة إليه إذا تقرر أن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- تقع منهم الذنوب، والله -تبارك وتعالى- يقول عن آدم ﷺ وهو نبي: وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [سورة طـه:121]، وموسى ﷺ لما قتل القبطي وهو لم يقصد قتله لكنه قصد ضربه، فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [سورة القصص:15] ضربه بقبضة يده فقتله، فموسى ﷺ استغفر من ذلك ربه، وتاب من هذا، وكان ذلك قبل نبوته لكنه كان على شريعة يعقوب ﷺ كما كان بنو إسرائيل، فالأنبياء تقع منهم الذنوب والمعاصي ولكن بقيد، تقع منهم الصغائر، ولكن يستثنى من ذلك ما يسمى بالمدنسات، أو صغائر الخسة، وهي التي تسقط المروءات، يقولون: كسرقة بيضة وحبل، وتطفيف مكيال أو نحو ذلك مما يسقط المروءة، فهذا لا يكون.

الأمر الثاني: أنهم لا يصرون عليها، وإنما يبادرون إلى التوبة، وحال العبد بعد الذنب قد تكون أكمل من حاله قبله، وهذا حال آدم ﷺ بعدما تاب اجتباه ربه وهداه، فإذا عرفنا هذا المعنى فيقال: إن الله -تبارك وتعالى- قد حط الأوزار عن نبيه ﷺ، فغفر الله ما سلف، كما غفر له ما يكون في المستقبل لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [سورة الفتح:2]، ولو لم يكن الأمر على ما سبق فما معنى هذه المغفرة؟

ولا حاجة لأن يقال: إن ذلك باعتبار أن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ويفسر الذنب بهذا الاعتبار، يعني يقول لك: إذا كان الأبرار مثلاً يصلون الفرض فإن المقربين يقومون الليل، ويصلون الفرض، والنوافل والرواتب وما إلى ذلك، فلو فاته قيامه وورده من الليل فيكون ذلك سيئة في حقه، بينما الواحد من الأبرار إذا صلى ركعات من الليل أو أوتر فهذه حسنة، يعني لكن هي بالنسبة للمقربين كونه يقتصر على هذا تكون سيئة في حقه، هكذا يقولون، لكن ما ذكر أولى، والله أعلم.

قال: الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أي: أثقلك حمله، أصل ذلك النقيض -أنقض- قال: الإنقاض هو الصوت، هذا أصل ذلك، فلما أضيف إلى الظهر، وذكر قبله الوزر كان معنى ذلك أنه أثقل ظهرك، أو حتى كأنه سُمع له نقيض، أيْ صوت أثقله، والبعير إذا وضع عليه أحمال فوق طاقته سمع لظهره صوت، هذا الصوت يقال له: نقيض، فكأن هذا الوزر لشدة ثقله يُسمع لظهر حامله نقيض، فأضيف ذلك إلى الظهر الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ، فالأوزار كأن الإنسان يحملها على ظهره فتثقله، هذا معنى أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أثقله حتى سُمع له صوت، هذا الصوت يقال له: نقيض.

وقوله: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ قال مجاهد: لا أُذْكرُ إلا ذُكِرتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله.

هكذا قال كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير -رحمه الله، رفْع الذكر: لا أُذكر إلا ذكرتَ معي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله في الأذان، في النطق في الشهادتين، وهكذا في الصلاة، وفي غير ذلك، فهذا من رفع الذكر.

وقال قتادة: رفعَ اللهُ ذكرَه في الدنيا والآخرة، فليس خطيب ولا مُتشهد ولا صاحبُ صلاة إلا ينادي بها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.

لاحظ هذا المعنى أعم من الذي قبله، الذي قبله ذكر الشهادتين، هنا: رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، يعني هذه الأشياء التي ذكرها بعده هي من قبيل التمثيل، الخطيب لابدّ أن يصلي على النبي ﷺ، تعرفون كلام الفقهاء في هذا، واشتراط ذلك في الخطبة، كثير من الفقهاء يقولون: من شروط الخطبة أن تشتمل على الصلاة على النبي ﷺ، وكذلك المتشهد أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولا صاحب صلاة كذلك، هو بصلاته يقول هذا في تشهده، وصلاته على النبي ﷺ بعد التشهد، قال: إلا ينادي بها أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، هذا بهذه الأعمال والأقوال.

وفي الآخرة رفع له ذكره بأمور وأحوال من أعظمها الشفاعة العظمى فهو مقام يحمده عليه الأولون والآخرون، فرفع له ذكره بهذا، كل الأنبياء يعتذرون من هذا، ويحيلون إلى غيرهم حتى يحال الناس إلى رسول الله ﷺ، فهذا من رفع الذكر في الدنيا والآخرة.

كذلك ما جعل الله لنبيه ﷺ في الدنيا من الذكر الجميل، والصلاة عليه ﷺ، فإذا ذُكر يُصلَّى عليه، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [سورة الأحزاب:56] فرفع ذكره في الملأ الأعلى، إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ فرفْعُ الذكر في السماوات وفي الأرض يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا، والنبي ﷺ يقول: البخيل من ذُكرت عنده فلم يصلِّ عليّ[13]، فهذا من رفع الذكر، فرفْع ذكره يشمل ذلك جميعًا في السماوات وفي الأرض، في الدنيا وفي الآخرة.

وما يذكر في تفسير هذه الآية هو أشبه ما يكون بالتفسير بالمثال، فإنّ رفع ذكره ﷺ يكون بذلك وبغيره، ولهذا بعضهم يقول: المراد أنه ذُكر في الكتب السابقة والأنبياء بشروا به، فهذا من جملة رفع ذكره ﷺ لكنه لا ينحصر بذلك، فالله أمرهم بهذا، ولكن المعنى أوسع.

وهكذا قول من قال: عند الملائكة في السماء والمؤمنين في الأرض، كما أمر بطاعته، فإن طاعته من طاعة الله : وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ [سورة المائدة:92]، قال: وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [سورة النور:54]، وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [سورة الحشر:7] ويشمل نوعي الإيتاء، الإيتاء بمعني الهدايات والعلم والأمر والنهي، والإيتاء المادي يعني ما أعطاكم من مال من الفيء والغنيمة أو نحو ذلك فخذوه ولا تستشرف نفوسكم إلى غيره، يعني ما لم تُعطَوْه، وكل هذه المعاني تدخل في "ورفعنا لك ذكرك" فهذه القضايا متلازمة.

يعني الآن الانشراح ورفع الذكر، الانشراح يكون بالإيمان وطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ فيحصل بذلك اتساع الصدر وانشراحه بهذه الأمور، ويحصل به السعادة والراحة وانفساح الصدر، ولا يكون ضيقًا حرجًا، فهنا هذا مرتبط بوضع الأوزار، فإن الأوزار تُدسِّيه كما سبق في قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ۝ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [سورة الشمس:9، 10] فالذنوب تهبط بالإنسان فينسفل، لا يرتفع، فيكون له الذكر السيئ.

طالب العلم إذا كانت له مزاولات في الخلوات أو في غير الخلوات من المدنسات والذنوب والمعاصي فإن ذلك يُدسِّي نفسه، فيهبط، فلا يكون له من القبول أو النفع، ولا يرتفع عند الله -تبارك وتعالى- وعند أهل الإيمان، فلا يكون له الذكر الجميل، وإنما تستوحش منه النفوس وتنقبض، الذنوب تهبط بالإنسان، وعرفنا معنى الدسِّ والتدسيس والتدسية وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا.

فهنا لاحظ أنه وضع وزره فهذا أمر مرتبط برفع الذكر قال: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، وهذا كله مرتبط بالانشراح واتساع الصدر، والإنسان إذا كان مشتغلاً بالذنوب والمعاصي ضاق صدره فلم يعد مهيأً للارتفاع والانشراح والعطاء والبذل والتحمل وما إلى ذلك، فسرعان ما ينقطع، يعني لا يستمر في دعوته، لا يستمر في نفعه، ولا يكون له ذلك القبول والنفع كما هو معلوم، فهذه قضايا مرتبطة، وهذا يجلب له ما بعده أيضًا فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا "فإن" هذه الفاء للتفريع أو كأنها للتفريع، تفريع ما بعدها على ما قبلها، فعلنا بك ذلك كله ومن ثَمّ فإن ما تستقبل فإنه إلى انفراج وسعة ويسر.

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وهذا اليسر إنما يكون بقدر ما يكون عند العبد من الإيمان وطاعة الله وطاعة رسوله ﷺ، كما قال الله تعالى: وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا [سورة الطلاق:2]، وفي الأمور المشتبهة: إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً [سورة الأنفال:29] تفرقون فيه بين الحق والباطل فإن الإنسان حينما يلتبس الحق بالباطل عنده فإن ذلك يقلق نفسه ويزعجه فيضيق الصدر بسبب ذلك، فهنا فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فبقدر ما يكون عند العبد من التقوى والإيمان يكون له من اليسر والفرج، وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ.

 وقوله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا أخبر تعالى أن مع العسر يوجَدُ اليسر، ثم أكد هذا الخبر.

قوله: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا مع الضيقة سعة، ومع الشدة رخاء، ومع الكرب الفرج، والذي عليه عامة المفسرين وهو ظاهر الحديث الذي يفسر هذه الآية وهو قوله ﷺ: لن يغلب عسر يسرين[14]، فما توجيه ذلك؟ لاحظ وتأمل لفظ الآية: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا العسر كُرر مرتين معرفًا بأل، واليسر كرر مرتين منكَّرًا، والقاعدة التي يذكرها العلماء في هذا وهي التي يؤيدها الحديث المفسر لهذه الآية أنه إذا أعيد المعرَّف -العسر العسر- يكون الثاني عين الأول، فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ هو عسر واحد، إذا أعيد المعرف يكون الثاني عين الأول، بخلاف المنكر إذا أعيد فإنه يراد بالثاني فرد مغاير للأول.

لو أمامنا سبورة الآن وكتبنا الجملتين بجانب بعضهما فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا وحذفنا العسر الثانية كم يبقى عندنا؟ يبقى عسر واحد ويسران؛ لأن العسر الثاني هو نفس الأول، واليسر المذكور مرتين كل واحد يختلف عن الآخر، فهذا معنى هذه القاعدة التي يذكرها عامة أهل العلم، والحديث يؤيدها "لن يغلب عسر يسرين".

كيف اعتبره عسرًا واحدًا واعتبر اليسر اثنين؟

بهذا الاعتبار -والله تعالى أعلم: إذا أعيد المعرف يكون الثاني عين الأول، وإذا أعيد المنكر يكون الثاني مغايرًا للأول، فعندنا اليسر هنا منكر أعيد مرتين، والعسر معرف أعيد مرتين، فالعسر واحد واليسر اثنان، ولهذا فلن يغلب عسر يسرين، هذا الذي مشى عليه أهل العلم، وهو الذي اختاره ابن القيم -رحمه الله.

وابن عاشور صاحب "التحرير والتنوير" رفض هذه القاعدة وقال: إنها غير صحيحة، ونقل عن بعضهم كصاحب "الكشاف" وغيره ما يؤيد قوله من عدم صحة هذه القاعدة، وأنه لا فرق، لكنه عند قول النبي ﷺ: لن يغلب عسر يسرين حاول أن يحمل ذلك على معنى ولكن يبدو -والله أعلم- أنه لا يتضح كل الوضوح إذ إن المعاني إذا كانت لا تخلو من تكلف فإنه يعسر فهمها وتصورها، فحاولَ أن يبين كيف كان ذلك بمثابة اليسرين فقال: إن التثنية هنا يعبر بها عن الكثرة فلما كرر اليسر فالمقصود به الكثرة، فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ۝ ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [سورة الملك:3، 4] قال: ليس المقصود أن يرجع البصر مرتين، وإنما المقصود أن يكرر النظر مرة بعد مرة، قال: العرب تعبر بالثنية وتقصد بها التكثير.

ولكن يأتي سؤال هنا: هذا التكثير من أين جاء في اليسر ولم يأت في العسر إن لم نقل بأن العسر الثاني هو العسر الأول، بخلاف اليسر فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا؟ قال: فالنبي ﷺ عبر عن ذلك بهذه العبارة: لن يغلب عسر يسرين باعتبار أن اليسر يراد به الكثرة فجاء ذلك بصيغة التثنية "يسرين"، هكذا قال، ويراجع كلامه ويتأمل، لكن المشهور الذي عليه عامة أهل العلم هو ما سبق بناء على هذا القاعدة، ويكفينا قول النبي ﷺ: لن يغلب عسر يسرين، بمعنى أن الآية الثانية ليست لمجرد التوكيد، يعني الجملة الثانية ليست لمجرد التوكيد، والقاعدة أنه لا يوجد في القرآن تكرار محض، الجملة الثانية غير الأولى، ليست مؤكدة لها بل فيها زيادة في المعنى.

وقوله: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ أي: إذا فَرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب في العبادة، وقم إليها نشيطا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة، ومن هذا القبيل قوله ﷺ في الحديث المتفق على صحته: لا صلاة بحضرة طعام، ولا وهو يدافعه الأخبثان[15]، وقوله ﷺ: إذا أقيمت الصلاة وحضر العَشَاء فابدءوا بالعَشَاء[16].

قال مجاهد في هذه الآية: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربك.

آخر تفسير سورة ألم نشرح، ولله الحمد.

هذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو معنى قريب، ولعله مما يدخل في معنى الآية، يعني إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة وقم إليها نشيطًا فارغ البال، يعني أن الفراغ لا يكون مدعاة للبطالة والقعود عن طاعة الله ، وعما يحصل به رفع العبد ونفعه، وإنما يكون سببًا للإقبال على الله -تبارك وتعالى، والاشتغال بطاعته وعبادته، هذا المعنى الذي نقله عن مجاهد -رحمه الله: إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربك.

كلام مجاهد يقول: إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب في صلاتك هذا موافق لكلام ابن كثير -رحم الله الجميع.

وبعضهم يقول: إذا فرغت من عمل، يعني من صلاة أو من غزو وجهاد، فرغت من غزوة، فرغت من صلاة أو نحو ذلك فاجتهد في الدعاء، واطلب من الله حاجتك، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ، أو فانصب في العبادة يعني اشتغل بعبادة أخرى، فأنت حينما تخرج من عبادة فإنك تقبل على عبادة أخرى، فبعض هؤلاء فسره بالدعاء إذا فرغت من العبادة، جاء هذا أيضًا عن جماعة كقتادة والضحاك ومقاتل والكلبي، فإذا فرغت من الصلاة المكتوبة فانصب إلى ربك في الدعاء، وهذا أيضًا جاء نحوه عن مجاهد في رواية أخرى غير ما ذكره ابن كثير.

وأخص منه في المعنى -يعني إذا فرغت من صلاتك- ما جاء عن الشعبي يقول: إذا فرغت من التشهد، يعني أن هذا موضع للدعاء، فرغت من صلاتك بقي عليك التسليم، فهنا كما قال النبي ﷺ: ثم يتخير من الدعاء أعجبه إليه[17]، فيكون ذلك من محال الدعاء في الصلاة بعدما ينتهي من التشهد والصلاة على النبي ﷺ والتعوذ من الأربع التعوذ من المأثم والمغرم عند ذلك يدعو فهذا معنى.

وجاء عن ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، هذه الأقوال في ظاهرها أنها أقوال مختلفة ولكن لو قيل: إن ذلك جميعًا يدخل في معنى الآية، وإن هذه أشبه ما تكون بالأمثلة التي تصدق عليها هذه الآية، فيحمل ذلك على العموم، فهنا لم يحدد أمرًا يفرغ منه، وإنما حذف المتعلق، قال: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ فرغت من ماذا؟ ما قال: من الصلاة، ما قال: من الغزو، ما قال: من العبادة.

فَإِذَا فَرَغْتَ والفراغ "فإذا فرغت" يقتضي أنه كان في شغل، هذا الشغل يحتمل أن يكون صلاة، ويحتمل أن يكون عبادة أخرى كالغزو مثلاً أو نحو هذا "فانصب"، ولهذا فإن الآية تحمل على العموم؛ لأن حذف المقتضى يدل على العموم، فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ما قال: فانصب في الدعاء أيضًا، ولا قال: انصب في قيام الليل، فيحمل أيضًا على أعم معانيه مما يصلح لهذا.

وهكذا رجح ابن جرير -رحمه الله- أن المقصود العموم، إذا فرغت من عمل من الأعمال فانصب بالشروع في غيره، وعلى هذا مشى ابن عاشور، يعني إذا فرغ من عمل شرع في آخر، يكون المؤمن دائمًا ليس عنده وقت فراغ، هو دائمًا مشغول إما في صلاة أو جهاد أو غزو أو في علم أو في ذكر ودعاء أو غير ذلك، ليس عنده فراغ لا يحط رحله إلا في الجنة، ولا يتوقف ولا يفتر، فهو دائم العبادة والاشتغال، وهو على فراشه مأمور أن يذكر الله -تبارك وتعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ [سورة النساء:103] ما ينتهي من شيء وإلا ويدخل في غيره.

فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ دائمًا هكذا أعمال متتابعة فلا يوجد وقت فراغ وعطلة من الأعمال الصالحة من الدعوة إلى الله، من أعمال البر القاصرة أو المتعدية، المؤمن في شغل دائم حتى يلقى الله : يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [سورة الإنشقاق:6] فالكل يغدو، ولكن هذا الغدوّ يختلف ويتفاوت غاية التفاوت، فهذا يوبق نفسه، وهذا يعتقها بحسب عمله، وهؤلاء الناس يكدحون ويعملون في سيرهم إلى الله -تبارك وتعالى- هذا بالمعاصي وهذا بالطاعات، هذا بالتفريط وهذا بالجد والاجتهاد، ثم يلاقونه فيوافيهم بأعمالهم.

فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ هذه حال المؤمن دائمًا، وهذا شعاره، وهذا ديدنه، وهذه صفته التي يكون عليها في ليله ونهاره، في حال الصحة وحال المرض، والنشاط والفتور، لا ينقطع، قد يضعف العمل ويكون له فترة ولكنها لا تفضي به إلى التضييع والانقطاع والترك والإهمال.

لاحظ أنه قال: إذا فرغت ولم يقل: فاعمل، قال: فانصب، وهنا قال: وأخلص لربك النية والرغبة وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ أخلص لربك النية، يعني لا ترغب إلا إليه، فلا تكون رغبتك لأحد سوى الله -تبارك وتعالى، ولا تطلب حاجتك إلا منه، ولا تعلق قلبك ولا تعول في جميع الأمور إلا عليه، لا تعلق قلبك بالمخلوقين أن يعطوك، أن يمنحوك، أن ينفعوك، أن يدفعوا عنك، اجعل الرغبة إلى الله.

فإذا كان المؤمن بهذه المثابة يعمل دائمًا وينتقل من عمل لآخر كلما فرغ من عمل اشتغل بآخر فهو دائم العمل، وراغب في الوقت نفسه إلى الله لا يلتفت إلى المخلوقين فهذا عنوان السعادة، إذا كان العبد بهذه المثابة ووصل إلى هذه المنزلة فهو أسعد الناس، وأكثر الناس طمأنينة وراحة، ويكون يملك كنزًا لا يقادر بثمن من الرضا، والقناعة، والإقبال على الله، وعدم تعلق القلب بالمخلوقين، فلا يتشتت قلبه ولا يتشوش، فإنّ تعلق القلب بالمخلوق يشوش فكره، ولا يعود منه إلا بالخيبة -والله المستعان.

والقرآن مليء بالهدايات في هذا المعنى الكبير في هذه الجملة اليسيرة القصيرة، وهي تحمل منهجًا في الحياة يكون عليه أهل الإيمان وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ، فأمّا من كان في تفريط وضعف وقلبه معلق بهذا وذاك، يرجوهم وينتظر عائدة هؤلاء الناس هذا يعطيه وهذا يدفع عنه، ويحاول أن يصل إلى مطلوبه عن طريق هؤلاء الناس بكل طريق مستطاع، فلا يترك سبيلاً ولا أحدًا ولا صغيرًا ولا كبيرًا إلا كلمه فيكون فقره إلى الخلق وليس إلى الخالق، فهذا ذل، والله المستعان.

وأحيانًا يكون مع هذا وهو الغالب اتكال على هؤلاء المخلوقين، وكأن النفع والدفع والضر كله بأيديهم، وأكثر من هذا أن بعض الناس يخطط لهذا من وقت مبكر، وما علم أنه يخطط للذل الأكبر، يعني بعض الناس قد يدخل أولاده وهم صغار في أولى ابتدائي في مدارس فيها أولاد الكبراء ويدفع الأموال، ولربما يقترض ويتحمل شططًا، لماذا تفعل ذلك؟

هو بزعمه من أجل أن هؤلاء الأولاد في المستقبل سيكون لهم شأن، وإذا كانوا زملاء دراسة لولده فسيذكرونه في يوم من الدهر، بعض الناس هكذا يخطط، هذا أمر حقيقي واقع، فيدخل ولده مدرسة تكاليفها بالغة، ويضعه فيها من أجل أن يكون هؤلاء في المستقبل زملاء دراسة، فيُذكر اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ [سورة يوسف:42].

وهؤلاء ما علموا أنهم بذلك حينما يفعلون بأولادهم هذا فهم يتسببون لهم بأنواع العلل، والأوصاب والأمراض النفسية والاجتماعية فهم مهما حاولوا لن يستطيعوا أن يجاروا هؤلاء، ولو أعطاهم ما عنده كل ما عنده وما عند قراباته، وأهله لن يستطيعوا أن يجاروا هؤلاء أصلاً في نفقاتهم وفي تصرفهم في الأموال، فهو لن يستطيع وهو يحاول أن يحاكيهم وأن يجاريهم لن يستطيع أن يأتي بمثل ما يأتون به من المظاهر والمراكب، ولن يستطيع أن يسكن مثل ما يسكنون فيه من الدور والقصور وما إلى ذلك، لن يستطيع.

فهو يبقى في حرج دائم، فيشعر بأنه صغير ضئيل فيبدأ يتحسر مع ضعف الإيمان وقلة الثقة بالله ، وقلة معرفة الرب -تبارك وتعالى، ويظن أن كل شيء هو هذا الأمر الدنيوي، فيتحسر على حاله.

قد يكون أبوه بالنسبة للآخرين في حال من الغنى إلى آخره لكن بالنسبة لهؤلاء قد يكون فقيرًا، فتجد هذا الولد دائم التحسر دائم الشعور بالدون والنقص، فهذا قد يحمله على أمور إما كسب المال بطرق غير مشروعة، فهو يتلهف على هذا المال، ويحرص عليه، أو اللجوء إلى أمور أخرى من الكذب والتشبع بما لم يُعطَ، فيتحدث عن أمور لا حقيقة لها، أنه يسكن في قصر وصفه كذا وكذا، وفيه كذا وكذا، وعندهم من الخدم كذا وكذا، وأنهم يملكون من السيارات والمراكب كذا وكذا، وعندهم من الأموال كذا، وأن أباه يعمل في كذا وكذا، وعنده من الشركات والمؤسسات والعقارات وما إلى ذلك، ويوقعه في حرج.

وهذه من الأخطاء التربوية القاتلة التي يظن صاحبها أنه يحسن التدبير وهو في غاية السوء في تدبيره، فيقتل هؤلاء الأولاد ويجني عليهم -والله المستعان. 

وذكرت في بعض المناسبات مثالاً تشكو منه امرأة بعد سنين من التشبع بما لم تعطه، زميلاتها صديقاتها ممن لهم شأن وأهل جدة وغنى، وهي امرأة تعيش على الكفاف فهي تدرس مع هؤلاء في الجامعة، وتصاحب وتخالط وتصادق هؤلاء، ولا تجد ما يجدون فكانت تتشبع دائمًا بما لم تعط، وتكذب، وامتهنت ذلك حتى كادت أن تصدق نفسها، المشكلة التي وقعت تقول: إن هؤلاء صارت إحداهن تصر على طلب تحديد موعد من أجل خطبتها لأخيها، ويريدون أن يأتوا بالبيت، تقول: وبيتنا في حي شعبي، وأبي بائع خضار، ونحن نحرج كثيرًا أنا وإخوتي من هذه المهنة لأبي، ولكننا لا نجد سبيلاً إلى ما نحتاج إليه من دنيانا إلا بهذا الطريق -هذه المهنة، وإلا لمنعناه من ذلك، فتقول: الآن إذا جاءوا كيف سيأتون بهذا الحي الشعبي، وهذا البيت الصغير، وإذا عرفوا مهنة أبي وأني في هذا العمر -في هذه السنين- أقول لهم شيئًا آخر تمامًا؟

هذه نهاية الكذب، والتشبع بما لم يعط، وكون الإنسان يبحث عن مثل هذا اللون من المعاشرة، وهو لا يستطيع المحاكاة، والله المستعان.

قال ابن القيم -رحمه الله: قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۝ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ۝ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ۝ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ، فقال: "شرح الله صدر رسوله أتم الشرح، ووضع عنه وزره كل الوضع، ورفع ذكره كل الرفع، وجعل لأتباعه حظًّا من ذلك".

لاحظ الكلام هنا الآن "وجعل لأتباعه حظًّا من ذلك" هذا بناء على أصل، الشاطبي -رحمه الله- ذكر قاعدة في الموافقات بأن كل ما أعطاه الله لنبيه ﷺ فالأصل أن لأتباعه حظًّا ونصيبًا من ذلك بقدر اتباعهم، يعني حينما يقول النبي ﷺ: نصرت بالرعب مسيرة شهر[18]، يقول: هذا ليس له فقط بل أيضًا لأتباعه بقدر متابعتهم له.

وقال -رحمه الله: "وجعل لأتباعه حظًّا من ذلك، إذ كل متبوع فلأتباعه حظ ونصيب من حظ متبوعهم في الخير والشر على حسب اتباعهم له، فأتبعُ الناس لرسوله ﷺ أشرحهم صدرًا وأوضعهم وزرًا وأرفعهم ذكرًا، وكلما قويت متابعته علمًا وعملاً وحالاً وجهادًا قويت هذه الثلاثة حتى يصير صاحبها أشرح الناس صدرًا، وأرفعهم في العالمين ذكرًا، وأمّا وضع وزره فكيف لا يوضع عنه ومن في السماوات والأرض ودواب البر والبحر يستغفرون له؟

وهذه الأمور الثلاثة متلازمة، كما أن أضدادها متلازمة، فالأوزار والخطايا تقبض الصدر وتضيقه، وتخمل الذكر وتضعه، وكذلك ضيق الصدر يضع الذكر ويجلب الوزر، فما وقع أحد في الذنوب والأوزار إلا من ضيق صدره وعدم انشراحه، وكلما ازداد الصدر ضيقًا كان أدعى إلى الذنوب والأوزار؛ لأن مرتكبها إنما يقصد بها شرح صدره، ودفع ما هو فيه من الضيق والحرج، وإلا فلو اتسع بالتوحيد والإيمان ومحبة الله ومعرفته وانشرح بذلك لاستغنى عن شرحه بالأوزار، ولهذا أكثر من يواقع المحظور إنما يدفع به عن نفسه ما فيها من الهم والغم والضيق".

يعني أنه مثلاً يشرب الخمر أو يتعاطى المخدرات أو يفجر أو نحو ذلك يبحث عن الراحة والانشراح والسعادة.

وقال -رحمه الله: "ولهذا أكثر من يواقع المحظور إنما يدفع به عن نفسه ما فيها من الهم والغم والضيق، وكثيرًا ما تبرد شهوته وإرادته ومع هذا يحرص على المعاودة تداويًا منه بزعمه كما أفصح عن هذا شيخ الفسوق أبو نواس بقوله:

وكأسًا شربتُ على لذةٍ وأخرى تداويتُ منها بها".

يعني بعدما يشرب يلتذ، ويشرب ويلتذ، ثم بعد ذلك يعقبه ألم وضيق وصداع وتأذٍّ، فيشرب أخرى فيقول: فداوني بالتي كانت هي الداء.

وقال -رحمه الله: "فإذا حمل العبد الأوزار أوجب له ذلك ضيق الصدر وخمول الذكر، ثم خمول الذكر يوجب له ضيق الصدر فلا يزال المعرض عن طاعة الله ورسوله مترددًا بين هذه المنازل الثلاث، كما لا يزال المطيع لله ورسوله الذي باشر قلبه روح التوحيد وتجريده ومحبة الله ورسوله وامتثال أمره دائرًا بين تلك المنازل الثلاث، وإذا ثقل الظهر بالأوزار مُنع القلب من السير إلى الله والجوارحُ من النهوض في طاعته، وكيف يقطع مسافة السفر مثقلٌ بالحمل على ظهره، وكيف ينهض إلى الله قلب قد أثقلته الأوزار، فلو وضعت عنه أوزاره لنهض وطار شوقًا إلى ربه، ولانقلب عسره يسرًا، فإن ضيق الصدور وحمل الوزر وخمول الذكر من أعظم العسر.

وقال -رحمه الله: "قوله تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ قال ابن عباس -رضي الله عنهما: إذا ذُكرتُ ذُكرتَ معي، فيقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله في كلمة الإسلام وفي الأذان وفي الخطب وفي التشهدات، وغير ذلك.

وفي هذا الدليل نظر؛ لأن ذكره ﷺ مع ذكر ربه هو الشهادة له بالرسالة إذا شهد لمرسِله بالوحدانية، وهذا هو الواجب في الخطبة قطعًا بل هو ركنها الأعظم"[19].

وقال -رحمه الله: "وقال عبد بن حميد: أخبرني عمرو بن عون: قوله تعالى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ۝ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا فالعسر وإن تكرر مرتين فتكرر بلفظة المعرفة فهو واحد، واليسر تكرر بلفظ النكرة فهو يسران، فالعسر محفوف بيسرين، يسر قبله ويسر بعده، فلن يغلب عسر يسرين".

هذا موافق لما سبق، والقاعدة هنا أشار إليها.

وقال -رحمه الله: "وقوله تعالى: فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ فالنَّصَب التفرغ للعبادة والطاعة والرغبة إلى الله وحده وتجريد توحيده، فمتى قام بهذين الأصلين حصل له من شرح الصدر ووضع الوزر ورفع الذكر بحسب ما قام به، وبدل عسره يسرًا".

سورة الضحى وسورة الانشراح يقول الشيخ: كأنهما سورة واحدة في الارتباط، طبعًا مسألة المناسبات بين السور هذه إنما يعتد بها إذا قيل: إن ترتيب السور توقيفي، بمعنى أن النبي ﷺ هو الذي دلهم على هذا وأرشدهم إليه، فإذا قلنا: إن الراجح أن ترتيب السور ليس بتوقيف، وإن كانوا استأنسوا بما كانوا يرون من قراءة النبي ﷺ في غالب حالاته -عليه الصلاة والسلام، لكن بناء أحكام على هذا مثل أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ۝ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ۝ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ۝ تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ [سورة الفيل:1-4]، لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ۝ إِيلَافِهِمْ [سورة قريش:1، 2] يعني فعلنا ذلك لكذا، هذا بناء على المناسبات بين السور فهذا فيه نظر -والله أعلم.

حتى قول من قال: وإن لم يكن ترتيب السور توقيفيًّا لكن الصحابة حينما راعوا هذا الترتيب لابد لمناسبات وارتباط معين، نقول: لكن لا يبنى عليه حكم، لا يقال: الله مثلاً فعل بأصحاب الفيل لإيلاف قريش، لا نبني عليه مثل هذه الأشياء، هنا لاحظ الآن الآيات في السورتين وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى [سورة الضحى:1، 2]

قلنا: الموضوع لما ذكرنا موضوع سورة الضحى: ما أعطاه الله وأولاه لنبيه ﷺ وما سيعطيه ويوليه، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [سورة الضحى:5]، فسورة الشرح في موضوعها مشابهة لسورة الضحى، فهنا يمتن الله على نبيه ﷺ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى ۝ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [سورة الضحى:6، 7]، ثم قال: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ۝ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ ۝ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ فالموضوع الذي تدور عليه كل واحدة من السورتين متشابه.

جاء عن بعض السلف كعمر بن عبد العزيز أنه عدهما -إن صح ذلك عنه- سورة واحدة، يعني كان يقرأ السورتين على أنهما سورة واحدة سورة الضحى وسورة الشرح، وهذا خلاف ما عليه العمل وما جاء عن النبي ﷺ، وما جاء عن الصحابة وسلف الأمة، وهكذا ما عليه الأمة عبر القرون والعصور، والصحابة حينما أجمعوا على هذا المكتوب الذي كتبوه في المصاحف جعلوا سورة الضحى مستقلة، وسورة الشرح مستقلة، فهذا يشبه الإطباق، فمثل هذا المنقول إن صح فإن ذلك بعد اتفاقهم ولا عبرة به، لكن لا شك أن هناك تشابهًا في الموضوع، ومناسبة بين السورتين من جهة المضمون.

  1. التبيان في أقسام القرآن (ص:72).
  2. المصدر نفسه (ص:73).
  3. المصدر نفسه.
  4. المصدر نفسه.
  5. المصدر نفسه (ص:73، 74).
  6. المصدر نفسه (ص:74).
  7. عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين (ص:155).
  8. مدارج السالكين (2/ 449).
  9. التبيان في أقسام القرآن (ص:75، 76).
  10. المصدر نفسه (ص:95).
  11. رواه أبو داود، كتاب الأدب، باب في شكر المعروف، برقم (4813)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6056).
  12. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/ 238، 239).
  13. رواه الترمذي، أبواب الدعوات عن رسول الله ﷺ، برقم (3546)، وأحمد في المسند، برقم (1736)، وقال محققوه: "إسناده قوي، رجاله ثقات رجال الصحيح غيرَ عبد الله بن علي بن حسين، فمن رجال الترمذي والنسائي، روى عنه جمع، ووثقه ابنُ حبان وابن خلفون والذهبي، وقول الحافظ عنه في "التقريب": مقبول: غيرُ مقبول، أبو سعيد: هو عبد الرحمن بن عبد الله مولى بني هاشم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2878).
  14. رواه الحاكم في المستدرك، برقم (3176)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (9538)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (4342).
  15. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان، برقم (560).
  16. رواه البخاري، كتاب الأطعمة، باب إذا حضر العَشاء فلا يعجل عن عَشائه، برقم (5465).
  17. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، برقم (835)، ومسلم، كتاب الصلاة، باب التشهد في الصلاة، برقم (402).
  18. رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي ﷺ: جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، برقم (438)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، برقم (521).
  19. جلاء الأفهام، لابن القيم (ص:368)، تحقيق: شعيب الأرناؤوط - عبد القادر الأرناؤوط، دار العروبة - الكويت، ط2، سنة النشر: 1407هـ - 1987م.

مواد ذات صلة