الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
سورة الانفطار كاملة
تاريخ النشر: ١٣ / رمضان / ١٤٣٤
التحميل: 7280
مرات الإستماع: 9038

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ۝ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ۝ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [سورة التكوير:15-18]، أي: أُقسمُ بالخنس وهي -كما سبق- النجوم أو الكواكب، أو كل ما يصدق عليه ذلك، فيدخل فيه بقر الوحش والظباء، وإن كان السياق بالنجوم.

فهي الموصوفة بهذه الأوصاف، الجوار الكنس التي تجري، لا تتوقف، وهي أيضًا كنس بمعنى أنها تكنِس وتذهب، لا تُرى ولا تُشاهد، يذهب ضوءها لغلبة ضوء الشمس.

وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، يعني أقبل أو أدبر، أو أقسم به بإحدى حالتيه الإقبال أو الإدبار، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ظهر وبدأت أنواره.

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [سورة التكوير:19] هذا هو المقسم عليه، وهذا الرسول الكريم هو الرسول الملائكي، وهو جبريل -عليه الصلاة والسلام، وصفه الله بهذه الأوصاف، كريم في نفسه، كريم في خلقته، حسن المنظر، حسن الهيئة، جامع لأوصاف الكمالات الظاهرة والباطنة.

ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [سورة التكوير:20]، وهو قوي ممكّن عند الله -تبارك وتعالى، تطيعه الملائكة، مطاع ثم أمين.

وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ [سورة التكوير:22]، وهو النبي ﷺ، وهو نبي مرسل يوحى إليه، أبعد ما يكون عن أوصاف المجانين.

وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ [سورة التكوير:23] رأى الملك بالأفق المبين ناحية المشرق مطلع الشمس وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [سورة التكوير:24] يعني لا يبخل في البلاغ فهو يجد ويجتهد ويبذل العلم والوحي، وما علمه الله -تبارك وتعالى، وما هو على الغيبب بظنين يعني بمتهم، على القراءتين.

وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [سورة التكوير:25]، يعني هذا الذي جاء به هذا الملك الذي هو بهذه الصفة أبعد ما يكون عن الشياطين وعن مختلقاتهم، فأين تذهبون بعد هذا كله، وماذا عسى أن تقولوا فيه؟

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ [سورة التكوير:27] فهو تذكير لكل أحد، ولكن لما كان الذين ينتفعون به هم فئة من الناس وهم المتقون كما قال الله : هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة:2]، قال: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ [سورة التكوير:28]، فهو ذكر لمن شاء أن يستقيم من الناس، لمن أقبل عليه، وهذا ظاهر في أن الذي ينتفع بالقرآن ويعتبر ويتعظ هو من يقبل على هذا القرآن، وكلما كان إقبال العبد عليه أعظم وأكثر كان ذلك أدعى لفتح مغاليقه وكنوزه وخزائنه، وهذا أمر مشاهد.

وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة التكوير:29]، لما قال: لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ أخبر أن هذه المشيئة لا تخرج عن مشيئة الله -تبارك وتعالى- فهو ولي التوفيق، ومن حرم التوفيق والهداية لم تزده هذه الآيات إلا فسادًا ورجسًا وكفرًا، والله أعلم.

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ۝ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ ۝ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ۝ وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ۝ وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ۝ وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ۝ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ۝ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ۝ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ۝ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ۝ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ۝ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ۝ وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ۝ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ ۝ فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ۝ الْجَوَارِ الْكُنَّسِ ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ۝ وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ۝ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ ۝ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ۝ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ۝ وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ ۝ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيطَانٍ رَجِيمٍ ۝ فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ ۝ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ۝ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ ۝ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [سورة التكوير].

سورة الانفطار من السور النازلة في مكة، وهي أيضًا تتحدث عن يوم القيامة ومشاهده، وما يحصل فيه من الأهوال والأوجال، وتخاطب الكافرين، تخاطب هذا الإنسان المعرض الكافر المكذب الغافل، تخاطبه بخطاب يقول الله يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [سورة الإنفطار:6] هذا الرب الذي صرفك بهذا التصريف، وخلقك هذا الخلق هو القادر الذي لا يعجز عن إعادتك من جديد وعن مؤاخذتك ومحاسبتك، فكل ذلك يرجع إلى أصل هذا الموضوع الذي هو اليوم الآخر.

روى النسائي عن جابر قال: قام معاذ فصلى العشاء الآخرة فطول، فقال النبي ﷺ: أفتان أنت يا معاذ، أين كنت عن سبح اسم ربك الأعلى، والضحى، وإذا السماء انفطرت؟[1]، وأصل الحديث مخرج في الصحيحين، و لكن ذكر "إذا السماء انفطرت" في أفراد النسائي، وقد تقدم من رواية عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال: من سره أن ينظر إلى القيامة رأي عين فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت[2].

هنا إذا أردنا أن نقسم السورة إلى موضوعات ونقول: إن قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ هذا ابتداء موضوع جديد، وكذلك ما يتعلق بقوله: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ۝ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ الخ يكون محمل ذلك على الآيات الأولى التي فيها مشاهد القيامة كما يقوله بعضهم، لكن إذا قيل باعتبار ما سبق: إن ذلك يرتبط جميعًا بيوم القيامة فالسورة كلها تدور حول هذا الموضوع، لكن المشاهد الواضحة الصريحة هي في الآيات الخمس الأولى.

إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ۝ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ۝ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ۝ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ۝ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ۝ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۝ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۝ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ۝ كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ ۝ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ ۝ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [سورة الانفطار:1-12].

يقول تعالى: إذا السماء انفطرت أي انشقت كما قال تعالى: السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ [سورة المزمل:18].

كما في الآيات السابقة إذا السماء انشقت، فالانشقاق فسر بالانفطار، وهكذا الانفطار بالانشقاق، انفطرت أي انشقت، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ، أي: تساقطت.

هكذا أيضًا عبر ابن جرير -رحمه الله، بعضهم يقول: تساقطت متفرقة؛ لأن لفظة انتثرت تدل على هذا، تدل على التفرق.

وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: فجر الله بعضها في بعض، وقال الحسن: فجر الله بعضها في بعض فذهب ماؤها، وقال قتادة: اختلط عذبها بمالحها.

وهكذا كما سبق أيضًا بحيث إن هذه البحار يفجر بعضها على بعض فتصير بحرًا واحدًا، تمتلئ بهذا الاعتبار كما يقول ابن جرير: فَجّر الله بعضها في بعض فمَلأ جميعها، يعني صارت بحرًا واحدًا ممتلئًا

وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ قال ابن عباس: بحثت، وقال السدي: تُبعثَر تُحرك فيخرج من فيها.

بعثرت هنا يقول: قال ابن عباس: بحثت، والسدي: تُبعثَر تُحرك فيخرج من فيها، فكلمة البعثرة: بعثر المتاع، بعثر القبر يعني قلبه، بعثر ترابه، بعثر المتاع قلبه جعل أعلاه أسفله فهذا أصل معناها، يعني أثيرت هذه القبور كما يقول ابن جرير -رحمه الله، هذا الذي عليه الجمهور تبعثر هذه القبور: تحرك، تقلب، يستخرج ما فيها من الموتى.

وبعضهم يقول كالفراء: أخرج ما فيها من الذهب والفضة وما إلى ذلك، وأن هذا من أشراط الساعة، وهذا بعيد، وهو يقصد بذلك أن هذه القبور فيها دفائن من الذهب والفضة مما كان يوصي به الميت أو يضعه أهل الميت معه في قبره إما اعتقادًا أو لوصية أو لعادة جارية لدى بعض الطوائف أو الأمم، ولكن هذا بعيد أن يكون هو المراد ببعثرة القبور.

ولكن لو أنه قيل: إن هذا من جملة ما يستخرج، يعني يستخرج كل ما فيها من الموتى والدفائن لكان له وجه، أما أن يحمل المعنى على هذا فهذا فيه بعد، والله أعلم.

عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ، أي: إذا كان هذا حصل هذا.

يعني هذا جواب ما سبق، جواب إذا في المذكورات إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ۝ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ ۝ وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ ۝ وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ ما الذي يحصل عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ، هنا "علمت نفس" جاء بصيغة التنكير لإفادة العموم الذي يؤخذ من الإطلاق، لأن الإطلاق فيه نوع عموم من جهة شموله، فيه شمول بحيث يصدق على هذا أو هذا أو هذا أو هذا، فكل نفس ستعلم ذلك، تعلم ما قدمت وأخرت، وما الذي قدمته وأخرته، بعض أهل العلم يقول: ما قدمت وأخرت من خير وشر، ما قدمت من خير وشر، وما أخرت يعني بعد الموت ما الذي أخره من بعده؟ من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.

ومن سن بالإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، فهذا يكون مما أخره هذا الإنسان الذي ابتدع بدعة فصار الناس يعملون بها، فأسس ضلالة، أسس غواية، فصار ذلك ساريًا وجاريًا في الناس بعد موته، فهذا مما أخره، فلا يزال الإثم يتصل به حينًا بعد حين، فلهذا له رجحان بهذا الاعتبار، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله- وقال به قبله من التابعين محمد بن كعب القرظي، مع أن بعض السلف يقولون: علمت نفس ما قدمت وأخرت يعني مما فعله الإنسان في سالف أيامه من المعاصي، وما أخر لآخرته من الطاعات التي يبتغي بها وجه الله -تبارك وتعالى- هكذا قال قتادة، والواقع أن ذلك يمكن أن يصدق عليه جميعًا مما قدم، وإن نظر إلى الجزاء فكل ذلك مما أخر بهذا الاعتبار ولا يختص بالحسنة فيفرق بينهما.

وبعض السلف يقولون -كعكرمة وقتادة وابن زيد: ما قدم من فرض وأخر من فرض، وهذا يمكن أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، وهكذا قول قتادة يمكن أن يحمل على أنه من قبيل التفسير بالمثال، وبعضهم يقول: ما قدمت وأخرت: يعني يعلم أعماله جميعًا المتقدمة والمتأخرة، المتقدمة أي القديمة، والمتأخرة يعني الجديدة، كل ذلك يعلمه، لكن يمكن أن يصدق على هذا جميعا أنه مما قدم.

وقول ابن جرير أقرب هذه الأقوال -والله تعالى أعلم، ولا يبعد أن يكون المراد سواء ما قدم أو أخر يعني أوائل الأعمال وأواخر الأعمال، بمعنى أنه ذكر الطرفين لينتظم ذلك جميع الأعمال، كما هو معلوم أن العرب من عادتها أن تذكر طرفي الشيء وتريد الجميع، كما يقال: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ [سورة الشعراء:28] يعني: جميع الخلق والكون، وهكذا ما كان من نظائر ذلك فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى [سورة النجم:25] يعني الأمر كله لله، والخلق كله لله، وهذا كثير.

هنا قال: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ أي: إذا كان هذا حصل هذا، يقصد هذا هو الجواب، لكن في الأصل ما ذكر معنى قدمت وأخرت، وهذا العلم يحصل عند العلم التفصيلي، يحصل عند نشر الصحف، يعلم ما قدم وأخر وعندها يقولون: يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا [سورة الكهف:49]، ويكون بهذا الاعتبار كل الأعمال، ما قدمت وأخرت، أوائل الأعمال وأواخر الأعمال، الصغائر والكبائر، كما قال الله -تبارك وتعالى: أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ [سورة المجادلة:6]، مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً الصغار والكبار كل ذلك أحصاه الله على عباده.

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [سورة الإنفطار:6] هذا تهديد لا كما يتوهمه بعض الناس من أنه إرشاد إلى الجواب، حيث قال الكريم حتى يقول قائلهم: غره كرمه، بل المعنى في هذه الآية ما غرك يا ابن آدم بربك الكريم أي العظيم حتى أقدمت على معصيته وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث: يقول الله تعالى يوم القيامة: يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟[3]، وقد حكى البغوي عن الكلبي ومقاتل أنهما قالا: نزلت هذه الآية في الأسود بن شريق ضرب النبي ﷺ ولم يعاقب في الحالة الراهنة فأنزل الله تعالى: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ.

قوله -تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ قلنا: ظاهره العموم، وكذلك في هذا الحديث: يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ فهذا ظاهره العموم.

وبعض أهل العلم كابن جرير -رحمه الله- يقول: المقصود به الإنسان الكافر، حمله ابن جرير على هذا، ويمكن أن يقال باعتبار أن هذه الآيات المكية إذا ذكر فيها الإنسان فإن ذلك يتوجه إلى الكافر مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، وقول من قال: إن هذا تلقين من الله لعبده الحجة غير صحيح، يعني يقولون: لقنه حجته بحيث يكون الجواب غرني كرمك وحلمك، وهذا ليس بمراد كما فهمه هؤلاء.

هنا ما غرك بي يا ابن آدم؟ ماذا أجبت المرسلين؟ هذا يقوله على سبيل الحساب، ما الذي غرك بربك -تبارك وتعالى- وقد أرسل إليك الرسل، وأنزل عليك الكتب، وبين لك بيانًا لا يبقى معه في الحق لبس، وهذه مشاهد القيامة كل ذلك والحساب وصحائف الأعمال كل هذا قد قصه الله -تبارك وتعالى- في سورة مفصلة، فما الذي غرك؟

أما هذه الرواية التي ذكرها البغوي عن الكلبي ومقاتل بسبب النزول أنه في الأسود بن شُريق بالضم، وبعضهم يضبطه بالفتح، ويبدو لي أن هذا الضبط أنه مما ينقله بعضهم عن بعض، يعني الذين ينقلون الكتب لا تعتمد على ضبطهم كثيرًا، ما تُضبط الأسماء والمواضع وحتى الأفعال وما إلى ذلك، تضبط بطريقة غير صحيحة، هذا كثير، ولذلك المخرج في هذا أنك تنظر في الكتب التي تُعنى بالضبط، بحيث يضبط ذلك بالحروف، فإن لم تجد فانظر قارن وانظر إلى الكتب التي حققها علماء ضابطون متقنون وانظر في ضبطهم لها، تتبّع الواحد بعد الواحد، وانظر ما الذي يتواطئون عليه.

أما الكتب التي بإشراف الناشر والطبعات التجارية وما إلى ذلك هذا الكثير أن الضبط يكون فيها غير صحيح، وهذا يحتاج إلى المقارنة والتتبع والتريث فيها، لا تعجل بمجرد ما تراه في كتاب أو تراه في كتابين أو نحو ذلك تقول: هذا هو الضبط لهذه الكلمة، وإنما يُرجع إلى الأصول في البداية التي تُعنى بضبط أسماء الأعلام، وبالنسبة لأسماء المواضع إذا أشكلت عليك ممكن أن ترجع لكتب معجم البلدان تضبطها.

وبالنسبة للأفعال ترجع إلى أصولها في اللغة ومواد الاشتقاق والتصريف وما إلى ذلك، فتجد ضبطها لأنك في كثير من الأحيان للأسف ستجد الكتاب قد وُضعت علامات الشكل من أوله إلى آخره، على كل حرف فيه، والأخطاء تكاد توجد في كل سطر في بعض الكتب.

وقوله تعالى: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [سورة الإنفطار:7] أي: ما غرك بالرب الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك أي جعلك سويًا مستقيمًا معتدل القامة منتصبها في أحسن الهيئات والأشكال؟ روى الإمام أحمد عن بُسر بن جحاش القرشي.

بعضهم يضبطها جِحاش بالكسر، لكن الصحيح بسر بن جَحّاش بفتح الجيم وتشديد الحاء.

روى الإمام أحمد عن بُسر بن جحاش القرشي أن رسول الله ﷺ بصق يومًا في كفه فوضع عليها أصبعه ثم قال: قال الله : يا ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بُردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنّى أوان الصدقة؟[4]، وكذا رواه ابن ماجه.

الحديث صحيح، وبعض أهل العلم يحسنه، والشيخ ناصر الدين الألباني صححه، يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۝ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ هنا قال: خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ أي: جعلك سويًا مستقيمًا معتدل القائمة يعني منتصب القامة في أحسن الهيئات والأشكال، خلقك: أوجدك، فسواك: يعني جعلك مخلوقًا سويًا -بعد أن كنت نطفة- تسمع وتبصر وتعقل، فعدلك: جعلك معتدلًا، يقول عطاء: جعلك قائمًا معتدلًا حسن الصورة، ومقاتل يقول: عدل خلقك في العينين والأذنين واليدين والرجلين، يعني جعل لك كل عضو في موضعه بصفته التي تصلح لمثلك، والتي تناسب، ويحصل بها المقصود.

يعني انظر مثلا هذه اليد، انظر إلى أطرافها البنان، انظر إلى الأصابع ومواضعها لو كان هذا الإبهام في غير هذا الموضع كيف يستطيع الإنسان أن يأخذ ويعطي ويربط الحبل وما إلى ذلك؟ فجعل كل شيء في موضعه، كل أصبع في موضعه المناسب، وهذه شد أطرافها بالأظفار لو كانت من غير أظفار تكون عرضة، وتكون ضعيفة، وانظر إلى ما يحصل للإنسان إذا قص أظفاره قصًا يستأصلها به إلى حد المنابت أو اللحم يبقى يعاني، وربما يستعين بغيره بالأشياء الدقيقة. 

وانظر إلى العينين أين وضعهما، وكيف عدلها، وكيف جعلها غائرة في هذا التجويف العظمي لحمايتها، وانظر إلى الأنف كيف جعل الموضع الذي ينفذ منه النفس إلى أسفل بحيث لا يتلقى الأتربة والغبار مباشرة، وكيف جعله قائمًا بهذه الصفة، وجعل له منخرين.

وانظر إلى الآذان جعلها في الناحيتين؛ ليسمع الأصوات من جميع النواحي، لم يجعلها في الأمام، وجعل هذه الحواس الأساسية المهمة كلها في الرأس الذي هو مثل الرادار الذي هو أعلى شيء؛ من أجل أن يرى، لو كانت هذه في ركبته مثلا أو نحو ذلك تكون عرضة للتلف، وكذلك هو لا يبصر بها كما يبصر الآن، كيف جعل رأسه إلى أعلى وجعله منتصب القامة، كيف جعل القدمين أطول من اليدين، وجعل القدمين بصفة بحيث تصلح للمشي، وكيف صوّر القدم من نواحيها بطريقة يمكن معها الجري والمشي بسهولة ومزاولة الأعمال والحركة.

وهكذا الركب في انثنائها إلى ناحية واحدة، لو جعلها تنثني من جميع الجهات تجد الإنسان إذا مشى ينطرح ويسقط، لا يستطيع أن يمشي مشي وئيدًا فضلًا عن مشيه بسرعة، وكل هذا، خلقك فسواك: سوى خلقك، فعدلك: جعلك معتدلًا في الهيئة، في الخلقة، بهذه الصورة، فاوت بينه و بين سائر الحيوانات، وجعل لكلٍّ ما يصلح لمثله.

يعني هذه السباع جعل لها في أيديها مخالب وفي أرجلها، وجعلها بطريقة الماعز بحيث تستطيع صعود الجبال والمشي عليها كأنما تمشي على الأرض المستوية، فلا تسقط، وهكذا في تركيب الإنسان وأسنانه وفمه وما إلى ذلك، واللسان هذه القطعة اللحمية العضلية، سهلة الحركة بحيث يستطيع الإنسان أن يمضغ الطعام، لو كانت قطعة عظم كيف يستطيع أن يتكلم وأن يفصح عما في نفسه؟ الغدد اللعابية في نواحي الفم وجميع اللسان بحيث تفرز هذا اللعاب فيستطيع مضغ الطعام وتليينه، ولا تفرز دائمًا، فتجمد إذا لم يكن ثمة حاجة إليها، ولكن تفرز بقدر يسير، فيبقى الفم مبتلًا ولا يجف اللسان فلا يستطيع الإنسان الكلام، فإذا جاء الطعام بدأت تلقائيًا بالإفراز.

خلقك فسواك فعدلك فهذا كله عدل خلقك بهذه الطريقة، وهذا الموضع به قراءتان "عدَلك"، و"عدّلك" قراءة الجمهور بالتشديد، وقراءة عاصم وحمزة والكسائي كما نقرأ بالتخفيف، "فعدّلك" -على قراءة التشديد- معناه جعل أعضاءك متعادلة، اليد في الموضع المناسب بالقدر المناسب في طيها وحركتها وبسطها وقبضها ومفاصلها، والرأس في الموضع المناسب، والحجم المناسب، وهكذا الرجل وما إلى ذلك.

انظر هذه المخلوقات مثلًا عندما تنظر إلى رأس الفيل هو يناسب حجمه، رأس الظبي يناسب حجمه، رأس الإنسان، فهنا جعل أعضاءه متعادلة لا تفاوت فيها فيتناسب في الخلقة.

والقراءة الثانية "فعدَلك" يعني صرفك، أو أمالك إلى أي هيئة أراد أن يجعلك عليها، هذا طويل، هذا قصير، هذا جميل، هذا ذميم، هذا ينزع إلى أخواله، هذا ينزع إلى أعمامه، هذا ينزع إلى أمه، هذا ينزع إلى أبيه في الشبه، فالله -تبارك وتعالى- عدَله إلى الصورة التي يريدها، ويختارها، فالإنسان لا يختار صورته، ولذلك لا يُمدح الإنسان بما لا يد له فيه بما يتصل بالشكر، الذي يشكر هو الخالق لا يقال: نشكرك على جمالك وحسن صورتك، الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُشكر، ولا يذم الإنسان بهذا؛ لأن ذم الصنعة هو ذم للصانع، ولكن إنما يثنى على الإنسان ويشكر وما إلى ذلك على الأمور الاختيارية، الكمالات الاختيارية، وهي التي ينبغي أن تتوجه العناية إليها.

إذًا الله -تبارك وتعالى- صرفه بهذه الطريقة، هاتان قراءتان كل قراءة لها معنى، وهذا الذي عليه عامة أهل العلم، يعني ما جعلوهما بمعنى واحد، يعني ما قالوا مثلًا: التشديد هنا لمجرد التكثير "عدّلك" لا، قالوا: هذه لها معنى، وهذه لها معنى، وهذا الذي مشى عليه ابن جرير -رحمه الله- فرّق بين المعنيين، والقراءتان بمنزلة الآيتين إذا كان لكل قراءة معنى يخصها.

وقوله: والأرض لها وئيدُ، يعني تصوير حال الإنسان حينما يمشي بقوة بثقة بنفسه ويضرب الأرض، وربما يتعاظم ويتبختر أو يغتر بقوته وعافيته وبناء جسده، وللأرض منك وئيد، والإنسان إذا مشى قد لا نسمع إذا مشى على أرض دون أرض، لكن يُسمع في ممشاه على أرض تصدر صوتًا، ولكن لو أردنا أن نسمع بمكبرات دقيقة حتى على المشي على الأرض اللينة سيكون له صوت بلا شك، لكن المقصود هنا تصوير حال الإنسان حينما يتعاظم، ويثق بنفسه، ويمشي وينسى أن الله هو الذي صرفه هذا التصريف، وإلا كان بلا أرجل، كان مُقعدًا، خُلق وهو ذو عاهة، كان قطعة من اللحم بلا عظام لا يستطيع الحركة، ولا الانتقال من جانب إلى جانب، وهذا شيء يصادفك أحيانًا، تشاهده وأنت تمشي في الطريق، تمر بممشى سترى بعض الهيئات، تتذكر هذه الهيئات، تتذكر وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [سورة الإسراء:37] أحيانًا ترى إنسانًا قد امتلأ جسده عافية، وفُتلت عضلاته، ولبس لباسًا يكشف عن هذه العضلات، وتجده يمشي يقابل الآخرين في الممشى، يقولون: هناك طريقة معينة تَجعل ناحية الجدار أو نحو ذلك على يسارك وتمشي، وأن هذا هو المناسب للقانون والحركة وما إلى ذلك.

تجد البعض يخالف، يمشي معاكسًا للناس، ويمشي بطريقة معينة، إذا رأيته تتذكر قول الله تعالى: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [سورة الإسراء:37].

يعني أنا لما أرى مثل هذا الإنسان أتذكر حينما كان نطفة، وأتذكر حينما يشيب ويضعف، كما أرى في بعض الصور في مقابلات أحيانًا يذكر تاريخ الإنسان وصورًا له في أيام الشباب تقول: ما هذه القوة؟!، وتنظره أيام الشيخوخة، وهو في غاية الذبول، والضعف والمسكنة.

ولهذا نقل عن علي بن الحسين زين العابدين -رحمه الله- أنه كان إذا مشى لا يَخطِر بيديه، يعني كان إذا مشى لا يحرك يديه، وإنما يكاد يلصقهما بجنبيه من تواضعه في المشية.

والعجيب أن بعض المتعاظمين تراه في حال من القوة ولو أصابه أدنى الأشياء لكان في غاية الهلع والجزع والضعف والانكسار، فالقوة ليست قوة البدن، القوة قوة القلب، فإذا وجد معها قوة البدن وجُعل ذلك في محابّ الله فهذا هو المحمود، أما إذا جُعل للتكبر والتعاظم يمشي الإنسان يستعرض ويقصد بهذا معاني فاسدة أحيانًا كجذب أنظار النساء، أو التغرير بهن، بعض هؤلاء قد يذهب إلى بعض الأسواق وقد سمعت من بعض من يعرف بعض هؤلاء الناس -كان معهم وتاب- يقول: بعضهم يتدرب في صالات من أجل أن يكون مفتول العضلات، ويتعاطى بعض الأشياء من الأدوية وكذا تجعل عضلاته تتفتق، ثم يلبس ملابس تبدي هذا كله ويذهب إلى الأسواق، ويمشي ليس له حاجة، لا يشتري ولا يبيع، فقط من أجل التغرير بالنساء، يغرر بهن أنه مفتول العضلات، والله خلقه من نطفة ثم من علقة!.

وقوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ [سورة الإنفطار:8] قال مجاهد: في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة "أن رجلا قال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود، قال: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: فهل فيها من أورق؟ قال: نعم، قال: فأنّى أتاها ذلك، قال: عسى أن يكون نزعه عرق، قال: وهذا عسى أن يكون نزعه عرق[5].

جمل أورق: الوُرْقة لون معروف يقال: مثل حمام الحرم، جمل أورق ضرب إلى السواد، فهنا فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ قال مجاهد: في أي شبه أب أو أم أو خال أو عم، هذا متعلق بقوله: رَكَّبَكَ يعني ركبك في أي صورة شاء من الصور المختلفة، فتكون هذه الجملة كالبيان لقوله: "عدَلك" أو "عذّلك" في أي صورة ما شاء ركبك، صرفك هذا التصريف، عدلك بهذه الطريقة، وركبك في أي صورة شاءها.

يحتمل أن يتعلق قوله: "في أي صورة" بمحذوف على أنه حال، أي ركبك حاصلًا في أي صورة، في أي هيئة، والصورة هي الهيئة الظاهرة، وجاء عن مكحول: ذكر أو أنثى في صورة رجل أو امرأة، لكن هذا قد يقال فيما يدخل في المعنى لكنه يكون كالتفسير بالمثال، على أي هيئة ظاهرة شاء أن يخلقك عليها.

ولذلك الإنسان يحمد الله على أن جعله في هذه الهيئة التي كرمه بها، وقوله -تبارك وتعالى: الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [سورة السجدة:7] كل خلق الله حسن كما قال النبي ﷺ حتى هذا الإنسان هذا الرجل الذي يقول: إني أحمش الساقين، فقال: كل خلق الله حسن.

فإذا نظرت إلى الإنسان الذميم نحن نقول: كل خلق الله حسن، لو قيل لهذا الإنسان الذميم: هل لك أن تبدل صورتك بأجمل صورة من الظباء أو المها التي يضرب بها المثل كما سبق عند قوله تعالى: إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ [سورة ص:23]، قول من قال: النعجة هي المرأة، قلنا هناك: ليس المقصود العرب عند من قال هذا.

بعضهم يقول: نعاج حقيقية، لكن الذين قالوا: النعجة هي المرأة ما قصدوا بهذا النعاج التي من الضأن إطلاقًا، وإنما المعروف في كلام العرب في شعرهم ونثرهم ومدحهم للنساء الجميلات أنهم يقصدون بها المها، يسمونها نعجة، واقرءوا أدب العرب وأشعار العرب وكلام العرب في مدح النساء، وعيون النساء، عيون المها، فالمها عند العرب يسمونها نعجة، وجاء هذا في أشعارهم شعر عنترة وغيره، فلا يقصدون أنها من الضأن.

لذلك بعض الناس يستنكر أو يستنكف إذا رأى أقوال بعض السلف في تفسير الآية: النعجة هي المرأة الزوجة، يقول: ما هذا التفسير؟ هم يقصدون مدحًا ولم يقصدوا بذلك الذم، فهنا لو قيل لهذا الإنسان الذميم في خلقته: هل لك في أن تكون في أجمل صورة مها؟ نضع لك رأس المها ويكون رأسًا لك؟ لا أحد يقبل.

فصورة الإنسان لا يمكن أن تقاس بغيره، لو قيل: أضع لك رأس أسد، ما يمكن أن يقبل وسيكون في غاية القبح، لكن الأسد رأسه بالنسبة إليه في غاية الجمال، الطاووس رأسه بالنسبة إليه في غاية الجمال.

أحسنَ كلَّ شيء خلَقَه، القرد وهو القرد هذا القبيح في هيئته مناسب له كقرد؛ ولذلك تجد الناس يتجمهرون يقفون بسياراتهم إذا رأوا شيئًا من ذلك، ويعطونه طعامهم وطعام الأطفال، ولا يملون من النظر إليه والتعجب منه، هو جميل في نظرهم كقرد، ولهذا قال الشاعر:

قد يُكرَم القردُ إعجابًا بخسّتهِ وقد يُهان لفرْطِ النخوةِ الأسدُ

الأسد إذا تسامع الناس فيه أخذتهم الحمية والنخوة كل واحد يبحث عن حصى، والثاني عصا، والثالث بندقية، ويجرون كل واحد يريد أن يفتك به، وأن يقتله شر قتلة، لكن القرد يعطونه الطعام، ويشترون طعامًا ويعطونه، حتى يستنفذوا ما بأيديهم وما بجيوبهم، والأسد هذا ما يفعل به!.

وقوله تعالى: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ [سورة الإنفطار:9]، أي: إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي تكذيب في قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب.

يعني "كلا" هذه عرفنا أنها للردع والزجر "كلا"، قال ذلك ردعًا لهم وزجرًا للاغترار بكرم الله تعالى، وجعلِِ ذلك ذريعة للكفر والجراءة عليه والمعصية، وابن جرير -رحمه الله- يقول: ليس الأمر أيها الكافرون كما تقولون من أنكم على الحق في عبادتكم لغير الله ، ولكنكم تكذبون، مثل هذه الأشياء هي مقدرة يعني يقدرها العلماء، كلا ليس الأمر كما زعمتم، اغتررتم بكرم الله ، أو ليس الأمر كما تقولون من أنكم على حق، فهي أمورٌ محتملة، يعني مقدرة، يعني هي ردعٌ وزجرٌ.

لكن هنا قال: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ هذا يشعر أن المقصود بالإنسان يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۝ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ أنه الكافر، فأعقبه بهذا كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ فهذا من القرآن المكي الذي يخاطب هؤلاء المكذبين.

يعني هذه قرينة على أن المراد الإنسان الكافر.

قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ ۝ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [سورة الإنفطار:10-12] يعني وإن عليكم لملائكة حفظة كرامًا فلا تقابلوهم بالقبائح فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم.

ابن القيم -رحمه الله- علق على احترام هؤلاء الملائكة، كِرَامًا كَاتِبِينَ على الأقل إذا كان الإنسان يتحاشى أن يفعل هذا أمام من يعظمه ويقدره ويحترمه فلقدر هؤلاء الكرام الكاتبين يفعل القبائح إذا خلا.

قال ابن القيم -رحمه الله- في قوله تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ ۝ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ: "أَيِ اسْتَحْيُوا مِنْ هَؤُلَاءِ الْحَافِظِينَ الْكِرَامِ وَأَكْرِمُوهُمْ، وَأَجِلُّوهُمْ أَن يَرَوْا مِنكمْ مَا تَسْتَحْيُونَ أَنْ يَرَاكُمْ عَلَيْهِ مَنْ هُوَ مِثْلُكُمْ، وَالْمَلَائِكَةُ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ، وَإِذَا كَانَ ابْنُ آدمَ يَتَأَذَّى مِمَّنْ يَفْجُرُ وَيَعْصِي بَيْنَ يَدَيْهِ -وَإِنْ كَانَ يَعْمَلُ مِثْلَ عَمَلِهِ- فَمَا الظَّنُّ بِأَذَى الْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ؟ وَاللَّه الْمُسْتَعَانُ"[6].

بعض أهل العلم يأخذ من هذا مسائل، هل يجوز للإنسان النوم عاريًا؟ ما الحكم؟ ينام وحده عاريًا هذا موجود عند بعض الكفار في العصر الحديث، موجود أيضًا قديمًا، وبعضهم يفعل ذلك لتوفير اللباس بحيث لا يبلى، هذا موجود في أفريقيا، وأيضا هو عادة قديمة عند الروس سرت عند بعض المسلمين في الجمهوريات التي احتلتها روسيا، عادات سيئة، فبعض أهل العلم يقول: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ۝ كِرَامًا كَاتِبِينَ يستحي من هؤلاء الملائكة.

إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ۝ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ ۝ وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ۝ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ۝ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [سورة الانفطار:13-19]، يخبر الله تعالى عما يصير إليه الأبرار من النعيم، وهم الذي أطاعوا الله ولم يقابلوه بالمعاصي، ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم لهذا قال: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ أي: يوم الحساب والجزاء والقيامة.

إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ، جيء بـ في الدالة على الظرفية يعني هم في نعيم أو في جحيم موغلون به، وهذا يكون في الدنيا، وفي البرزخ، وفي الآخرة في عرصات القيامة، وفي المآل النهائي في الجنة أو في النار، إما نعيم وإما عذاب، وابن القيم له تعليق جيد في هذا حول هذا المعنى الذي ذكرته آنفًا.

قال ابن القيم -رحمه الله: "وَلَا تَحْسَب أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ مَقْصُورٌ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ"[7].

باعتبار إطلاق ما قال: إن الأبرار لفي نعيم في الدنيا أو في الجنة، وإن الفجار لفي جحيم في النار، وإنما أطلق والأصل بقاء ذلك على أعم معانيه.

قال ابن القيم -رحمه الله: "وَلَا تَحْسَب أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ ۝ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ مَقْصُورٌ عَلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَجَحِيمِهَا فَقَطْ بَلْ فِي دُورِهِمُ الثَّلَاثَةِ كَذَلِكَ -أَعْنِي دَارَ الدُّنْيَا، وَدَارَ الْبَرْزَخِ، وَدَارَ الْقَرَارِ- فَهَؤُلَاءِ فِي نَعِيمٍ، وَهَؤُلَاءِ فِي جَحِيمٍ، وَهَلِ النَّعِيمُ إِلَّا نَعِيمُ الْقَلْبِ؟ وَهَلِ الْعَذَابُ إِلَّا عَذَابُ الْقَلْبِ؟"[8].

ليس بالضرورة أن يكون في أماكن جميلة، وأماكن ترف ورغد من العيش، النعيم نعيم القلب، قد يكون في حال من بحبوحة العيش لكنه في قلق دائم وشقاء ونكد وضيق.

وقال أيضًا -رحمه الله: "وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْخَوْفِ وَالْهَمِّ وَالْحُزْنِ، وَضِيقِ الصَّدْرِ، وَإِعْرَاضِهِ عَنِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَتَعَلُّقِهِ بِغَيْرِ اللَّهِ، وَانْقِطَاعِهِ عَنِ اللَّهِ؟ بِكُلِّ وَادٍ مِنْهُ شُعْبَةٌ وَكُلُّ شَيْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ وَأَحَبَّهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ"[9].

وهذا جزاء وفاقا، هذا القلب متى ما انصرف عن الله عذب بقدر هذا الانصراف، متى ما اشتغل بغير الله من درهم أو دينار أو صورة أو غير ذلك كامرأة عذب بهذا الاشتغال بقدره ولابد، وإذا أبحر في الدنيا وغفل وانشغل بها فإنه يصيبه من الوحشة والضيق بقدر ذلك، فإذا أراد أن يجلي ذلك عنه فعليه أن يرجع إلى موطنه الذي لا يصلح إلا به ولا يسكن إلا فيه.

والمقصود بيوم الدين يعني يوم الجزاء، تقول: كما تدين تدان: تُجازَى، يعني دناهم كما دانوا: جازيناهم، فهذا يقال له: يوم الدين، يوم الجزاء هكذا أطبق المفسرون مع أن بعض المعاصرين قال: لا يمنع أن يكون المراد الدين، يعني مع يوم القيامة أن يُقصد به المعنيان الدين الذي يُكذَّب هنا، قال: كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ هناك بعض المعاصرين قال: تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ الذي بعث الله به رسوله، وتكذبون بالدين الذي هو يوم القيامة، قال تحتمل المعنيين، لكن المقصود به حتى في تلك الآية هو الجزاء كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ.

وقوله في الآية الأخرى: يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ يعني يوم الجزاء بلا إشكال، لكن الآية التي معنا هنا في سورة الانفطار كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ الشيخ العثيمين -رحمه الله- يقول: ما يمنع أن يكون المراد الدين الذي شرعه الله مع إثباته للمعنى الأصل الذي هو الجزاء، لكن ما رأيت هذا لغيره، وهو بناه باعتبار أن اللفظ يحتمل، ولا مانع من حمله على هذا، وهذا.

الشيخ العثيمين -رحمه الله- يقول: ما يمنع أن يكون المراد الدين الذي شرعه الله مع إثباته للمعنى الأصل الذي هو الجزاء، لكن ما رأيت هذا لغيره، وهو بناه باعتبار أن اللفظ يحتمل، ولا مانع من حمله على هذا، وهذا.

وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [سورة الإنفطار:16]، أي: لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة، ولا يخفف عنهم من عذابها، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة ولو يومًا واحدا.

يعني أن عذابهم دائم مستمر، لا يخرجون من النار، لا يغيبون عنها بحال من الأحوال، ليس هناك تنفيس.

وقوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [سورة الإنفطار:17]، تعظيم لشأن يوم القيامة، ثم أكده بقوله تعالى: ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ [سورة الإنفطار:18] ثم فسره بقوله: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا [سورة الإنفطار:19] أي: لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصه مما هو فيه إلا أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى.

ونذكر هاهنا حديث: يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار لا أملك لكم من الله شيئا[10]، وقد تقدم في آخر تفسير سورة الشعراء، ولهذا قال: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ كقوله: لِمَن الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر:16]، وكقوله: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ [سورة الفرقان:26]، وكقوله: مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4].

قال قتادة: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ والأمر –والله- لله ولكنه لا ينازعه فيه يومئذ أحد.

آخر تفسير سورة الانفطار.

ذاك اليوم لا يدعي فيه أحد شيئًا من الأمر من الملك ونحو ذلك، وقوله -تبارك وتعالى: يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا يعني لا يستطيع أن ينفعه بنافعة ولا أن يدفع عنه ضرًا قل أو كثر، الناس في الدنيا إذا أصاب أحدًا منهم مكروه تداعى الناس من قراباته وأحبته، إما مسليًا وإما باذلًا لجاهه أو ماله أو نحو ذلك، يريدون التخفيف عنه ومواساته، أصابته جائحة، أصابه مرض، أمّا في الآخرة فلا تملك نفس لنفس شيئًا، لا أحد يستطيع أن يقدم لأحد شيئًا لا قليلًا ولا كثيرًا، الأمر كله لله -تبارك وتعالى، فإذا كان الناس بعضهم ينهض وتسمو همته للوقوف مع غيره وما أشبه ذلك ولربما يتحرى الإنسان هذا إذا كان له عشيرة وقوم، أو علائق، بعض الناس يقوّي روابط وعلائق وصلات يدخرها لحاجته، ويتصل بهذا ويتصل بذاك، أما في الآخرة فلا يوجد شيء من هذا، لا تملك نفس -أيُّ نفس- لنفس شيئًا، أيُّ نفس لا ولد ولا والد ولا قريب ولا حبيب، والأمر كله بيد الله -تبارك وتعالى، فينبغي أن تكون الوجهة إليه، وتكون الصلة قوية به، والعمل في سبيله، والله المستعان .

  1. رواه النسائي، كتاب صفة الصلاة، باب القراءة في العشاء الآخرة بسبح اسم ربك الأعلى، برقم (997).
  2. رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن عن رسول الله ﷺ، باب ومن سورة إذا الشمس كورت، برقم (3333)، وأحمد في المسند، برقم (4934)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (6293).
  3. رواه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (8899)، وفي المعجم الأوسط، برقم (449).
  4. رواه أحمد في المسند، برقم (17842)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (8144).
  5. رواه مسلم، في أوائل كتاب اللعان، برقم (1500).
  6. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (ص:108، 109).
  7. الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، لابن القيم (ص:76).
  8. المرجع نفسه.
  9. المرجع نفسه.
  10. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين، برقم (204)، وبرقم (205).

مواد ذات صلة