الثلاثاء 07 / شوّال / 1445 - 16 / أبريل 2024
(040) قوله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ...} الآية.
تاريخ النشر: ٣٠ / ذو القعدة / ١٤٣٧
التحميل: 748
مرات الإستماع: 1294

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فلما نهى الله -تبارك وتعالى- عن اتخاذ الكافرين أولياء وحذر من ذلك قال بعده: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:29]، فوجه الارتباط وهو ما يُعرف بالمناسبة بين هذه الآية الكريمة والتي قبلها ظاهر؛ وذلك أن المرء قد يصدر منه فِعالٌ في الظاهر لا يُقال: إنها من الموالاة بمجردها، ولكنه قد يقصد بها هذا المعنى، كالهدية والهبة العطية ونحو ذلك من الإحسان والمعاملة بالمعروف فهذا لا إشكال فيه، لكن قد يفعله على سبيل الموالاة فهذا يعلمه الله، وقد لا يصدر عنه شيء في الظاهر ولكن قلبه يميل إليهم ويُحبهم محبة لا تصلح للكافرين، ويفرح بظهورهم وانتصارهم وغلبتهم، ويتمنى لهم الظفر والفلاح والقوة والتمكين وما إلى ذلك، فهذه الأمور القلبية هي من الموالاة ولو لم يفعل شيئًا في الخارج.

فالموالاة قد تكون بفعل القلب بمجرده، وقد تكون بشيء من أعمال الجوارح بمجرده، وقد تكون بهما بفعل الجوارح مع مواطأة القلب على ذلك، فلما كانت هذه الأمور قد تخفى مآخذها ومقاصدها ودوافعها لدى الناس حذر الله -تبارك وتعالى- عباده بأنه يعلم ما تُكنه الصدور، وما تنطوي عليه الضمائر لا يخفى عليه خافية مع أن هذا المعنى أعني قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ لا يختص بموضوع الموالاة وإنما ذكرت ذلك؛ لأنه به أعلق لما ورد قبله من ذكر النهي والتحذير من اتخاذ أعداء الله أولياء، وإلا فهذا عام: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فهذا سواء كان مما يتصل باتخاذهم أولياء، أو كان مما يتعلق بأمور الكفر، أو الإيمان، أو النفاق، أو الخوف، أو الرجاء، أو المحبة، أو التقوى، أو غير ذلك مما يقع في قلب الإنسان ويُخفيه أو يُبديه.

والمعنى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أمر للنبي ﷺ بإعلام الأمة بأن الله -تبارك وتعالى- مُطلع على السرائر والضمائر: إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ يعني: تكتموا ما استقر في قلوبكم سواء كان من موالاة الكافرين، أو كان ذلك من غيره، أو تُظهروه فإن ذلك لا يخفى على الله منه شيء.

وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فعلمه محيط بخلقه لا يخفى عليه خافية، وله القدرة الكاملة من كل وجه.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من المعاني والهدايات أن قوله -تبارك وتعالى-: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ، هنا عبر بالصدور: تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ ولم يقل ما في قلوبكم، ولا شك أن القلب وهو موضع العقائد والإيرادات والأفكار والخواطر وما إلى ذلك، وهو مبعثها، ولكن جاء ذلك على طريقة العرب حيث يُعبرون بالصدر عن القلب، وذلك أن القلب في الصدر فهو مُستودع فيه فصار يُعبر بالصدر عنه ويُقام مقامه.

والمقصود "بما في الصدور": يعني البواطن وما يقع في نفس الإنسان ويُضمره فذلك يرجع إلى القلب، ويتحرك في الصدر، ولهذا قيل للقلب: الفؤاد؛ لكثرة تفؤده يتفأد يتحرك يتوقد بالخواطر والإيرادات والأفكار لا يتوقف، وقيل له: قلب؛ لكثرة تقلبه وهو يتقلب، ولاحظوا هنا أنه قدم الإخفاء على الإبداء قُلْ إِنْ تُخْفُوا.

وجاء بالأمر هنا: قُلْ إِنْ تُخْفُوا باعتبار أن النبي ﷺ مُبلغ عن الله، فهذا هو دوره عليه الصلاة والسلام البلاغ المُبين، فهو عبد لله -تبارك وتعالى- يأمره ويُبلغ عنه، فقدم هنا الإخفاء على الإبداء، وأن ذلك جميعًا يعلمه الله -تبارك وتعالى-، وفي سورة البقرة: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ [البقرة:284]، فقدم الإبداء هناك في البقرة وقد مضى الكلام عليه.

فهنا يحتمل أن يكون ذلك باعتبار أن مثل هذه الأمور مما يتعلق بتولي أعداء الله مما يحرص الإنسان على إخفاءه وكتمه، يحتمل هذا، يعني: بحسب السياق هنا، فقدم الإخفاء على الإبداء، ولا شك أن تقديم الإخفاء باعتبار أن ذلك أدل على قدرة الله ، فإذا كان يعلم الخفيات فمن باب أولى أنه يعلم الجليات، لا يخفى عليه خافية.

قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ هذا يدل على الاستواء، استواء العلم المتعلق بالرب -تبارك وتعالى- فيما يكون مما أخفاه العبد أو أظهره، فيما يُخفيه ويُبديه، الحال عند الله -تبارك وتعالى- سواء لا فرق فقدم الإخفاء؛ لأن ذلك أيضًا أدل على القدرة وإحاطة العلم، وإذا كان يعلمه -تبارك وتعالى- وقُدم فيه الذي يُخفيه الإنسان مما قد ينطلي على الناس لكن الله -تبارك وتعالى- يعلم الخفي كما يعلم المُظهر الجلي، فيعلم خفايا النفوس وخبايا الصدور كما يعلم المُظهرات المُخرجات مما تلوكه الألسُن أو ينبعث فيظهر على الجوارح، كل ذلك يعلمه، فهذا لا شك أنه يدعوا إلى تطهير القلوب، إذا كانت الحال سواء عند الله -تبارك وتعالى- فينبغي أن تكون حال العبد سواء في الخلوة والجلوة؛ لأنه لا فرق، الذي تتعامل معه يعلم حالك في الخفاء كما يعلمها في الجلاء، لا فرق، وقدم الخفاء لئلا يسبق إلى الأذهان أن الخفي قد يخفى، فهنا إذا استقر ذلك في قلب العبد وآمن أن ربه يعلم الخفيات كما يعلم الجليات، وأن ذلك سواء عنده فتستوي حاله في السر والعلانية، فلا يكون كأولئك الذين وصف النبي ﷺ وهم أصحاب أعمال صالحة وحسنات كجبال تهامة البيضاء لكن إذا خلو بمحارم الله انتهكوها[1].

فهذا إنما يكون حينما يضعف يقين العبد بأن الله مُطلع على سره، ولذلك انظروا في هذه الأوصاف الكاملة التي يذكرها الله لأهل التقوى والإيمان: لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ ۝ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [ق:32-33]، هذه الآية نص صريح في هذا الموضوع: مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [ق:33]، خشي الرحمن بالغيب يعني في حال الاستتار عن الناس، إذا غاب عن الناس، إذا أغلق عليه بابه، أو باب حجرته، إذا كان في خلاء من الناس لا يرونه ولا يطلعون عليه، ماذا يفعل! ولهذا ذكرنا في الكلام على الحياء في مناسبة مستقلة بأن هناك حياء مع الله، وهناك حياء مع النفس، فيستحي العبد من ربه حق الحياء حتى في أمور قد لا تصل إلى المحظور المحرم، يستحي من ربه، ومن اطلاعه عليه فهو يشهد ذلك بقلبه، وحقيقة الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، هذه أعلى المراتب أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم يكن العبد على هذه الحال فليتذكر أن الله -تبارك وتعالى- يراه ويطلع على خفايا النفس، وما يُخفيه عن الناس.

ونحن في هذا الوقت أحوج ما نكون إلى تربية المراقبة -مراقبة الله - في نفوسنا ونفوس من تحت أيدينا؛ بأن نكون في حال نتقي ربنا -تبارك وتعالى- فيها إذا خلونا، وكنا بعيدًا عن أنظار الناس ومُلاحظتهم، فالتقي النقي هو الذي يكون حاله مستوية في السر والعلانية: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ [الملك:12]، وهكذا هو أحد الأقوال بآية البقرة أعني التي في صدرها، وذلك في قوله تعالى: هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ۝ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:2-3]، قال بعض المفسرين: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني ليسوا كالمنافقين يؤمنون في العلانية وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون، يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فإذا كانوا يؤمنون في حال الغيب يعني إذا غابوا عن الناس فمن باب أولى أنهم على حال من الإيمان حينما يُخالطونهم، فهذا معنى، وإن كان الظاهر المُتبادر في آية البقرة هو أن المقصود بالغيب ما غاب عن الحس، الإيمان بالله والملائكة والكتب والرسل وما إلى ذلك، الجنة والنار وحقائق الآخرة يؤمن بالغيب.

فهنا: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيستحضر العبد علم الله -تبارك وتعالى- في كل وقت وحين، ويستحي من ربه -تبارك وتعالى- أن يراه على حال لربما يتوارى من الناس إذا أراد فعلها، فلا يليق بحال أن يكون الله -تبارك وتعالى- هو أهون الناظرين إليه، لربما يستخفي من الصغير والكبير ومن لا شأن له ممن لا يُبالي به، أو قد لا يُبالي به من الخدم ونحوهم، يستخفي عن الناس جميعًا إذا أراد أن يعصي معصية لربما يستحيي من الناس إذا أراد أن يُقارفها، فهذا هو السبيل إلى حفظ القلوب فلا يقع فيها شيء يكرهه الله ، وهو السبيل إلى حفظ الألسُن بنوعيها اللسان الناطق، واللسان الآخر الكاتب حينما يكتب، وقد يكتب بأسماء مستعارة وقد يكتب من غير اسم، وقد ينشر بمعرفات وهمية فينشر ما لا يرضاه الله -تبارك وتعالى- من الشبهات، أو الشهوات أو قالة السوء بين المسلمين والوقيعة في أعراضهم، وهو يعتقد أنه إن فعل ذلك من غير رقم اسمه أنه قد سلم والواقع أنه لم يسلم، وإنما الله -تبارك وتعالى- مُطلع عليه، ونظر الله أسبق من نظر العبد إلى هذا المحرم الذي ينظر إليه، فإذا دعته نفسه إلى مشاهدة ما لا يحل من هذه المشاهد التي يُبتلى بها المرء لربما وهو يتتبع مقاطع من القرآن والتراتيل أو المواعظ أو الحكم فيصل إليه ما لا يطلبه، فهنا يكون الابتلاء والاختبار الحقيقي حينما يكون العبد مراقبًا لربه جل جلاله وتقدست أسمائه، وهذا يُذكر بقول الله -تبارك وتعالى- في سورة المائدة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [المائدة:94]، تناله اليد والرماح، قريب الصيد قريب المنال اختبارًا وابتلاء.

فهذه الشهوات القريبة ليس بينه وبين النظر إليها إلا ضغطة واحدة لا يراه الناس ولا يطلعون عليه، ولكن الله مُطلع يراه ويعلم ما يتحرك في نفسه من الرغبات والأهواء وما يتمناه كل ذلك يعلمه، وما يقع في قلبه من الخوف من ربه -تبارك وتعالى- في مثل هذه المقامات: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، فهنا يأتي مقام الخوف والمراقبة، لكن ذلك يتأتى هنا: يَعْلَمْهُ اللَّهُ بالإيمان بأن الله عليم، ولذلك دراسة معاني الأسماء الحسنى في غاية الأهمية في تربية المراقبة في النفوس لاسيما الأسماء التي تتعلق بهذا المعنى تعلقًا مُباشرًا -أعني المراقبة- مثل: العليم، الرقيب، المُحيط عند من عده من الأسماء، السميع البصير الخبير يعني الذي يعلم الخفايا والبواطن، اللطيف من معانيه الذي يعلم الدقائق دقائق الأشياء الشيء الدقيق يعلمه لا يخفى عليه سبحانه، الشهيد فهذا فيه علم وزيادة، فهذا كما قال الله : وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61].

فهذا المقام إذا استحضره العبد وأنه لا يُفضي إلى أمر إلا والله مُطلع عليه، فهذا يزجره ويردعه عن الفتك والوقوع فيما لا يليق، ولا يكون له حالان: حال في الجلوة، وحال في الخلوة، هو في الجلوة تقي، وفي الخلوة فاجر، كيف تكون حاله مع الله وهو كذلك؟! يتعامل مع الله بهذه الحال.

وما يكون للعبد من أحوال في العبادة فإذا استشعر أن الله يعلمه الله يعلم خشوعه، ويعلم محبته للطاعة، ويعلم محبته لله ولرسوله ﷺ ويعلم ما يقع في قلبه من خوف ورجاء وما إلى ذلك لا حاجة لإظهار هذا للآخرين الله يعلمه وهو شهيد -تبارك وتعالى- على عباده في أعمالهم لا يخفى عليه خافية.

يَعْلَمْهُ اللَّهُ ومن هنا فيكون العبد مُنقيًا مُنظفًا لقلبه فلا يقع فيه من الخواطر الردية والأفكار العمية والأحوال المشينة، ويكون القلب محلاً لكل أذى وقذر فهو مجمع السوء هذا لا يكون، فإن هذا القلب لا يكون محلاً قابلاً للموعظة والتذكير والانتفاع بالقرآن، وإنما يحتاج إلى تنقية: يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيكون في قلبه إرادة الخير ومحبة الخير وأهله والإيمان بالله ورسله -عليهم الصلاة والسلام-، والتقوى التي تعمر القلب، أما أن يكون القلب تعج فيه الآفات بأنواعها من الكبر والصلف وحب الشهوات، أمراض من حب الشهرة والرئاسة والرياء والسمعة فهذا يضره كثيرًا، ولكن لجهله تجد العبد لربما لا يلوي على شيء في طلب هذه المطالب الدنية، والموفق من وفقه .

فنسأل الله -تبارك وتعالى- أن يهدي قلوبنا، وأن يُصلح أعمالنا، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحسن عبادته، -والله أعلم-.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. أخرجه ابن ماجه، أبواب الزهد، باب ذكر الذنوب، برقم (4245)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5028).

مواد ذات صلة