الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(224) قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ ..} الآية:265
تاريخ النشر: ٠٩ / شعبان / ١٤٣٧
التحميل: 977
مرات الإستماع: 1150

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

لماذا ضرب الله -تبارك وتعالى- المثل لنفقات المرائين، بقوله: كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [سورة البقرة:264] فكما هي عادة القرآن أن يجمع الترغيب والترهيب، فإذا ذكر صفات الكفار ذكر أوصاف المؤمنين، وإذا ذكر الجنة ذكر النار، وهكذا في غالب المواضع في كتاب الله -تبارك وتعالى.

فهنا لما ذكر ذلك المثل المضروب لهؤلاء المنافقين، قال: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة:265].

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ طلبًا لرضا الله -تبارك وتعالى، كَمَثَلِ جَنَّةٍ بُستان في أرض مرتفعة جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ فهذا يدل على طيب موقعها، حيث يزكو النبات فيها، أَصَابَهَا وَابِلٌ هطل عليها مطر كثير فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ تضاعفت الثمرة لطيب المنبت، ولكثرة المطر النازل عليها، فزكت وأمرعت، وتضاعف عطاؤها، وثمرها، وإن لم يُصبها مطر كثير، فطل يكفيها، والطل هو المطر الخفيف، مثل الرذاذ، فيكفيها شيء يسير لطيب موقعها ومنبتها، فتُخرج ألوان الثمار، كذلك نفقات المخلصين تُقبل عند الله -تبارك وتعالى، وتُضاعف، قلتّ أم كثُرت، فالله -تبارك وتعالى- مُطلع على السرائر، بصير بالظواهر والبواطن، يُعطي ويجزي كل عامل بحسب ما يقوم في قلبه من الإخلاص، وبحسب تلك النفقات، ومواقعها، وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

فيُؤخذ من هذه الآية: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فائدة ضرب الأمثال، فهي تقرب المعنى المعقول في صورة المحسوس، من أجل كمال الإدراك والتصور، فيبقى المعنى جليًا، لا خفاء فيه، فهذه طريقة قرآنية ينبغي أن تُحتذى في التعليم والتربية.

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ عبّر بالفعل المضارع (ينفقون) ليدل على أن هذا الإنفاق لم يكن مرة واحدة في العمر وانتهى، فالفعل المضارع يدل على الاستمرار، فهم من شأنهم الإنفاق، وليس من شأن هؤلاء أن يُنفقوا في موسم معين، وإنما ينفقون أموالهم بالليل والنهار، سرًا وعلانية، وفي كل الأوقات، والحالات.

وأضاف الأموال إليهم يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ليدل على أنهم مالكون لهذه الأموال، فيؤخذ منه: أن الإنسان لا ينتفع بالنفقة إلا إذا كان مالكًا للمال، فإذا تصدق من مال غيره، فليس له بذلك أجر، فالإنسان يتبرع بما يملك، إلا فيما أذن به الشارع، كالنفقة اليسيرة مثلاً تخرجها المرأة من مال زوجها بغير إذنه، من الشيء اليسير الذي لا يؤثر من طعام ومال، ونحو ذلك، فهذا لا إشكال فيه.

وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ دلّ ذاك على الإخلاص والمتابعة، وهنا دلّ على الغاية، وهو أنهم يطلبون بذلك مرضاة الله -تبارك وتعالى، وهذا يدل على الإخلاص، فهذه الصورة هي أعلى صور الإخلاص أن يريد الإنسان ما عند الله دون التفات إلى أمر يصح الالتفات إليه، كأن يُعطي من أجل أن يكون ذلك شفاءً لمرضه، أو يكون ذلك زكاء لماله، أو سببًا لبركة هذا المال، أو نحو ذلك من المقاصد العاجلة، هذا يجوز، لكن الأكمل أن يُفرد القصد، بأن يكون ذلك ابتغاء مرضاة الله، لكن لو التفت إلى أمر لا يصح الالتفات إليه، كأن يلتفت إلى الرياء والسمعة والمحمدة والثناء، فهذا الذي يُبطل العمل.

فهذا يدل على تأثير النية في قبول الأعمال، فهؤلاء يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ لوجود الإخلاص، كجنة بربوة أفضل الأماكن والمواقع التي يزكو وينمو فيها الزرع، مع كثرة المطر النازل، أو حال قلته، لكن أولئك الذين كانوا يعملون لغير الله، وينفقون رياءً -نسأل الله العافية- كصفوان، ولم يقل: حجر، بل قال: صفوان، فالصفوان يدل على شدة الصلابة والملاسة، والحجر قد يكون أخف من الصفوان، فالحجارة تختلف وتتنوع، فهناك حجارة جيرية، وهناك أنواع من الأحجار منها ما هو ضعيف هش، ومنها ما هو في غاية الصلابة، فهنا صفوان وأملس، بينما الحجر قد يكون فيه شيء من التجاعيد والتضاريس، ونحو ذلك، فيبقى التراب عالقًا به بشدة وقوة، ولا يذهب بسهولة، لكن صفوان حجر أملس وشديد الصلابة، لا مجال للإنبات، فشتان بين الصورتين.

فانظر كيف فعلت النية بهذا، وفعلت بذاك، وهي قضية قلبية، فنحن بحاجة إلى العناية بأمر المقاصد والنيات، هؤلاء الذين يجلسون على مقاعد الدراسة سنة كاملة، هذا قد يرتقي إلى أعلى المراتب، وهذا قد يهبط، لماذا؟ بالنية، فالإنسان لا يحتاج إلى أكثر من أن ينوي نية صالحة بتعلمه هذا، أن يريد به ما عند الله، فهي نية لا تُكلفه شيئًا، لكن يكون عمله عباده ويَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [سورة المجادلة:11]، فيرتقي بهذا العلم، وتكون أنفاسه في طاعة، والثاني من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة[1].

فالنية شأنها كبير، يحتاج الإنسان إلى مراجعة قصده ونيته، سواء كان هذا في دراسة يدرسها في جامعة، أو في مدرسة، أو نحو ذلك، أو كان ذلك في مجالس العلم، في المساجد، فأول من تُسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة منهم: ... ورجل تعلم العلم، وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم، وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار[2]، فهؤلاء جميعًا اشتركوا في فساد القصد مع أن بذلهم هو أعظم البذل.

ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ما الذي يرضى الله -تبارك وتعالى- عنه؟ الله لا يرضى من العمل إلا ما كان خالصًا صوابًا، فيُؤخذ منه أيضًا المتابعة للشرع بهذا الاعتبار، فلا يمكن أن تُطلب مرضاته بالبدع والضلالات والأهواء والمختلقات من الأعمال من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد[3].

وفي قوله: ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ هذا فيه إثبات صفة الرضا لله على الوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، والأمر الثاني: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ هذا التثبيت بمعنى أن نفوسهم تكون طيبة بهذا الإنفاق، يتقنون الثواب، ويصدقون بوعد الله -تبارك وتعالى، ويعلمون أن ما أخرجوا أفضل مما تركوا، وأبقوا، هذا معنى ذكره بعض أهل العلم، وبعضهم قال: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني: أنهم على يقين بإخلاف الله عليهم، وعبارات العلماء مختلفة في هذا الموضع، وليس هذا موضع توسع في الكلام في الخلاف.

وقد تكلمت على هذا في الأمثال بصورة مفصلة، فيمكن أن يُراجع، وكذلك ذكرت طرفًا منه في الكلام على المصباح المنير، وأيضًا في الكلام على التسهيل لابن جزي، ولعل من أقرب الأقوال -والله تعالى أعلم- في معنى: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أنهم يخرجون هذه النفقة بثبات ويقين بوعد الله -تبارك وتعالى، فلا تضطرب نفوسهم عند إخراجها، فنفوسهم ثابتة، وهم يثبتونها، وهذا الثبات متجذر فيها؛ ولهذا قال: وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أن هذا قد صدر من قرارة نفوسهم؛ لإيمانهم ويقينهم بوعد الله -تبارك وتعالى، وليس هذا التثبيت بسبب خارجٍ عنهم، كأن يقال له: لا تتراجع عن هذه الصدقة، أو اثبت عليها، وأخرجها وامضِ صدقتك؛ لأن الإنسان إذا أراد أن يُنفق اضطربت نفسه، فيبدأ يُفكر ويتردد، ويشاور نفسه، وربما يشاور الآخرين، هل يُخرج هذه الصدقة أو لا؟ دعني أنظر وأُفكر، وأدرس الموضوع، فيتردد كثيرًا في إخراج هذه النفقة؛ لأن النفوس مجبولة على الشُح، فتضطرب نفسه عند التصدق.

ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: بأن التثبت هو القوة المُكنة، وضده الزلزلة والرجفة، يقول: فالصدقة من جنس القتال، فالجبان يرجف عند القتال، والشجاع يثبت؛ ولهذا قال النبي ﷺ في الخيلاء التي يحبها الله: الخيلاء التي يحب الله اختيال الرجل في القتال، واختياله في الصدقة[4]، يقول شيخ الإسلام: لأنه مقام ثبات وقوة، فالخيلاء تناسبه، وإنما الذي لا يحبه الله المختال الفخور البخيل، الآمر بالبخل، فأما مع العطاء يعني المختال مع العطاء، أو القتال فيحبه[5]، هذا حاصل كلام شيخ الإسلام -رحمه الله.

فالنفس تضطرب، وهو يُثبتها، ويثبت على هذه الصدقة، ويجد في نفسه من دواعي الثبات ما يكون نتيجة لليقين والإيمان الراسخ بأن الله يجزيه الجزاء الأوفى، وأنها ليست بمغرم، وأنها مخلوفة، وأنها لا تضيع عند الله -تبارك وتعالى، فهذا التثبيت صادر من أعماقهم لإيمانهم، وليس المقوي له -كما يقول شيخ الإسلام- من خارج، كالذي يثبت وقت الحرب لإمساك أصحابه له، بل تثبته ومغفرته من جهة نفسه، ومغفرته: يقصد المثال الآخر الذي ضربه: وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [سورة الشورى:37] فهذه أمور ترسخت في نفوسهم، وتروضت نفوسهم عليها؛ ولهذا يقولون: هذا الذي بهذه الصفة يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ أنهم أصحاب نفوس قد ارتاضت على الطاعة، النفس إن كانت شرود.

فإذا أراد الإنسان أن يُقدم على الطاعة لا سيما الطاعات التي لها تكاليف، شاقة يتردد، إذا أراد أن يصوم يومًا بدأ يحسب حسابات، ويتردد، إذا أراد أن يقوم الليل ووضع المنبه وجاء وقت هذا القيام بدأ يقول لنفسه: أنام قليلاً، أنام أكثر، حتى يسمع المؤذن، والناس طبقات ومراتب، فمنهم من يشق عليه الاستيقاظ لصلاة الفجر، وإذا وضع المنبه وسمع النداء يقول: باقي وقت، باقي وقت، حتى تُقام الصلاة، ثم يخرج الناس من الصلاة، والذي يصلي في الوقت، ولا يُدرك الجماعة، وكثير التضييع والتفويت إذا بقي على الوقت يسير يضع المُنبه قبل خروج الوقت بعشر دقائق، أو ربع ساعة، أو ثلث ساعة، ثم يقول: باقي باقي، حتى تطلع الشمس.

فهذه نفوس ضعيفة وهي تتفاوت في الضعف على دركات، وكل بحسبه، وكل ما ارتاضت النفس على طاعة كانت متهيئة للارتقاء إلى ما بعدها، وإذا بدأ الإنسان بالتراجع، فذلك يقوده إلى مزيد من الانحدار، حتى يصل إلى هوة -نسأل الله العافية، وهو لا يشعر بهذا الهبوط التدريجي، لكن من رآه بعد مدة رأى الفرق في الارتقاء، أو في النزول والانحدار؛ لذلك يحتاج الإنسان دائمًا أن يُجاهد نفسه، والأعمال تحتاج إلى مجاهدات وصبر، والطاعات تحتاج إلى بذل واحتساب، فمثل هذه النفوس فيها طمأنينة ويقين، لكن الإنسان الذي لا يعمل إلا كارهًا، فهذا فيه خصلة من خصال المنافقين، كما قال الله : وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [سورة التوبة:54].

يعني: هو حينما يُخرج الصدقة يُخرجها وهو كاره، وإذا جاءت الزكاة قال: هذا يمكن ما فيه زكاة، هذه كذا، أنا خسران، لم أحصل أرباح هذا الشهر، الأرض نزل سعرها، ونحو ذلك، يتذمر ويريد أن يقول: كيف أُخرج الزكاة؟ لماذا أُخرج الزكاة؟ وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [سورة التوبة:54] وهكذا في باقي الأعمال تجد مثل هذا الإنسان يستثقل الصيام، يتمنى أن لا يُرى هلال أول ليلة من رمضان، يدعو بهذا علانية أمام الناس، لماذا؟ يقول: الصوم صعب، ومُتعب، والنهار طويل، وصيف -نسأل الله العافية- هذه نفوس شاردة ضعيفة، ويفرح إذا رؤي هلال شوال، بينما أصحاب النفوس التي ارتاضت على الطاعة يتطلعون إلى الشهر بكل شوق، وإذا أُعلن شهر شوال يجدون عسرة في قلوبهم على فراق رمضان.

وشتان بين هذا وهذا، والله غني عن العبد، وعن عمله، لكنه يُقدم لنفسه، فكيف يُظهر هذا أمام الناس ولا يستحي من الله -تبارك وتعالى؟ يُظهر التذمر بدخول الشهر، والتذمر من الزكاة، ومن النفقة غير الزكاة، مُستثقل كاره تصدر عنه ألوان التعبيرات، ويظهر ذلك على تقاسيم وجهه، والمؤمن يُخرج ذلك وهو مُنشرح الصدر، مغتبط، يستشعر أنه ينغمر بألطاف الله -تبارك وتعالى- أن بلغه وهداه ووفقه وأعانه، فهو يتطلع إلى المزيد، ويُحلق عاليًا، لكن هذا الآخر -نسأل الله العافية- هو في غاية الاستثقال، لكن لو دُعي إلى شيء من أكلة يأكلها، أو نُزهة هنا أو هناك، أو نحو ذلك؛ لبادر إليها من غير تردد، وذهب وهو مستشرف في غاية التطلع لمثل هذا المطلب الدنيء، والله المستعان، فيُنتبه لهذا.

ولهذا قال: وَلا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ [سورة التوبة:54] فهل نحن إذا أنفقنا أو أخرجنا الزكاة نستشعر بالكراهة والتثاقل، فنقول: كثيرة هذه الزكاة؛ لأن الله أعطاك كثيرًا، فالذي لا يملك إلا ألف ريال، غير الذي يملك مائة ألف، غير الذي يملك مليون، غير الذي يملك مليار، أعطاك كثيرًا، والزكاة قليلة، فيستكثرها الإنسان أحيانًا، ويتبرم منها.

كذلك تأمل في الصلاة، وقيام الإنسان إليها، المنافقون إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى، فهل نحن نقوم إلى الصلاة بنشاط، فيقوم الإنسان من فراشه نشيطًا، أو أنه يقوم في غاية الكسل، وكذلك في حال اليقظة، فالذي يُفرط في حال النوم هو ذاك الذي يُفرط في حال اليقظة، تراه أحيانًا قد يسهر إلى الفجر، إذا لم يكن له عهد بقيام الليل، فإنه لا يقوم الليل، وهو سهران إلى الفجر، كان أول يتعذر أنه ينام متأخرًا، ولا يستطيع، طيب والآن؟! فهذا الذي يتعذر بالنوم أنه يتأخر عن صلاة الفجر هو يتأخر عن باقي الصلوات، وهو يقظان، فنفسه هي التي أقعدته عن هذا كله؛ ولذلك انظروا الآن في أيام الاختبارات، هل ترون أحد يأتي إلى الاختبار بعد نهاية الاختبار، أو في آخر عشر دقائق، ولا في نصف الاختبار، لا، الناس في غاية الحرص، يأتون قبل موعد الاختبار، ويتربصون حتى يحين وقته، وأهلهم من ورائهم، والكل مُشمر، لا يلوي على شيء، فلماذا الصلاة لا نرى هذا الحضور في صلاة الفجر مثلاً؟ هل الاختبار أهم من الصلاة؟!

لكن اليقين حينما يضعف في نفوسنا يحصل عندنا مثل هذا التراجع والتأخر، فنفوسنا بحاجة إلى مراجعة في الأولويات والاهتمامات، ما الذي ينبغي أن نُشمر له؟! وما الذي ينبغي أن نُسارع إليه؟! تجد الناس يذهبون إلى أعمالهم، ويحددون البصمة، وحينما يدخل في مكان العمل يحسب حسابًا للدقيقة، أنه تأخر أو ما تأخر، فلماذا الصلاة نتأخر ونأتيها في أواخرها وربما وقد فاتت، وربما كان ذلك هو ديدن الإنسان، لا يكاد يُرى إلا في أواخر الصفوف، أو لا يكاد يُرى إلا بعد ما يُسلم الإمام، أو في التشهد الأخير؛ فلماذا هذا؟

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه أبو داود في كتاب العلم، باب في طلب العلم لغير الله تعالى برقم: (3664) وابن ماجه في افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب الانتفاع بالعلم والعمل به برقم: (252).
  2. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، برقم: (1905).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، برقم: (1718).
  4. أخرجه أحمد، ط الرسالة، برقم: (23748) وقال محققو المسند: "حسن لغيره".
  5. مجموع الفتاوى (14/ 95).

مواد ذات صلة