الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(220) تتمة قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ..} الآية:262
تاريخ النشر: ٠٥ / شعبان / ١٤٣٧
التحميل: 1153
مرات الإستماع: 1213

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

كان الحديث عن قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة:262].

فتحدثنا عن صدر هذه الآية الكريمة في ليلة مضت، وبقي اليوم الحديث عن آخرها، فهؤلاء الذين وصفهم الله -تبارك وتعالى- بهذه الصفة الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: على حال من الإخلاص والمتابعة لشرع الله -تبارك وتعالى، بحيث لا يحصل ما يُبطل هذا العمل من المنّ والأذى، فهؤلاء لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فجاء بيان الجزاء بما يدل على الثبوت، حيث عبّر بالجملة الاسمية لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وأيضًا قدّم الضمير المتعلق بهم على ذكر الأجر، فقال: لَهُمْ ولم يقل: أجرهم لهم؛ ليدل على الاهتمام، يعني قدم الأهم، فهؤلاء في عملهم ونفقتهم وبذلهم إنما يبتغون ما عند الله -تبارك وتعالى، فذكر الضمير المتعلق بهم أولاً لَهُمْ تطمينًا للنفوس، من أجل أن يكون ذلك تقريرًا لما يحصل لهؤلاء من الثواب، وأنه تحقق مطالبهم وغاياتهم ومرادهم.

وسمى الله -تبارك وتعالى- ذلك أجرًا، فقال: لَهُمْ أَجْرُهُمْ مع أنه هو الذي أعطى، ورزق، ووفق للعمل، ومع ذلك سماه أجرًا، فهو المتفضل أولاً وآخرًا، وقد تكلمنا في الأسماء الحسنى على أسمائه: الأول والآخر، وقلنا: إن من المعاني الداخلة تحته: أنه المُبتدئ بالنِعم والعطاء والإحسان، وهو الأول، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [سورة النحل:53] وهو الآخر فإليه يُرجع الناس، وإليه المرجع والمآب والمصير، وهو الآخر الذي يرث الأرض ومن عليها، فهذه الأموال التي بأيدي الناس استخلفهم فيها سترجع إليه.

وذكر العندية هنا لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ يدل على رفعة هذا الثواب والأجر، وعِظمه وتحققه، فإذا أضاف الأجر إليه، فقال: عنده، فهذا يعني أن هذا الأجر عنده محفوظ وثابت، ولا يضيع، وأنه شيء عظيم؛ لأن الله عظيم، وعطاءه واسع، فيكفي هذا في بيان عِظم هذا الجزاء، فحينما يقول الكبير من الناس: جزاءك عندي، وحقك عندي، وأجرك عندي، فهذا يبعث النفوس على الطمأنينة بأن ذلك لا يضيع، وأيضًا أنه شيء عظيم.

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ فهذا كأنه شيء ثابت مستقر؛ ولذلك لم يُعلق هنا بالفاء، فلم يقل: فلهم أجرهم عند ربهم، فقوله: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ليس مترتبًا على ما قبله ترتب الجزاء على الشرط، بخلاف لو قال مثلاً: "الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًا ولا أذى فلهم أجرهم" فمعناه: أن هؤلاء الموصوفين بهذه الصفة يستحقون الأجر والثواب بناء على الاتصاف بهذا الوصف، واستيفاء هذه الاشتراطات: الإخلاص، والمتابعة، وترك المنّ والأذى، وهذا لا شك أنه مطلوب، وأنه شرط في قبول العمل أو في صحته، لكن هنا المراد بيان استحقاق الأجر والثواب، دون النظر إلى ما قبله، فهو يريد أن يُقرر أن أجر هؤلاء ثابت لهم لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ بينما في الآية الأخرى -سيأتي الكلام عليها إن شاء الله- الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:274] فجاء بالفاء في الجزاء، أما هذه الآية التي نحن فيها الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ فهذا ابتداء عطاء من الله -تبارك وتعالى، وليس مرتبًا على ما قبله، وليس هذا مقام بيان هذا الترتب، أن هذا الجزاء بناء على ذلك الوصف، فليس ذلك في هذا المقام مُسببًا عن إنفاقهم وبذلهم بهذه الصفة.

والحافظ ابن القيم -رحمه الله- تكلم على الآيتين، وذكر أن الفاء إذا دخلت على خبر المُبتدأ الموصول، أو الموصوف، مثل: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:274] فهذا شرط وجزاء، وبيان أن هذا الجزاء يكون مترتبًا على ذلك الشرط[1]، يعني: الذين يُحققون هذه الأوصاف هم الذين يجزيهم الله ، ويُثيبهم ويأجرهم هذا إذا دخلت الفاء، لكن هنا المقام يختلف، فهو مقام بيان استحقاق الأجر المذكور، وبيان أن هذا متحقق لهم وثابت، يريد أن يُطمئن نفوسهم: أن أجرهم متحقق، بخلاف من يُنفق لغير الله ، أو يمُن، ويؤذي بنفقته، فهذا المقام ليس مقام شرط وجزاء، بل هو مقام بيان للمستحِق للأجر من غيره.

أما الآية الأخرى، وهي: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة البقرة:274] هذا لبيان المستحقين للأجر دون التعرض لغيرهم، ففي الآية الأخرى ذكر الإنفاق في الأحوال كلها، في الليل والنهار، والسر والعلانية، فذكر عموم الأوقات، وعموم الأحوال، فجاءت الفاء فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ في الخبر، وهذا ليدل على أن الإنفاق في أي وقت وُجد من ليل أو نهار، وعلى آية حالة وُجد، من سر وعلانية، فإنه سبب للجزاء على كل حال، يعني: على العبد أن يُبادر متى ما قامت الحاجة، فإذا كان في الليل لا يقول: إذا أصبحنا، والصباح رباح، وإذا كان في النهار لا يؤخر إلى الليل، فيقول: من أجل أن تكون سرًا، ولا يشعر بها أحد، وإنما مباشرة بمجرد ما توجد الحاجة يكون البذل والعطاء.

فالذي يؤخر إلى الليل مثلاً يريد صدقة السر، وبخاصة إذا كان يقتضي المقام البذل علانية، فقد يقول: أنا لا أُخرج في هذا المقام أو في هذا الموقف؛ لأني أريد أن تكون سرًا، فبيّن الله تعالى أن جزاء هذه الصدقة مترتب عليها، على كل حال، سواء كانت سرًا أم جهرًا، بالليل أو بالنهار، فالجزاء مترتب عليها، فلن يضيع من أجره شيء فلا يتردد، وعليه أن يُبادر، ومن ثَم فإنه لا يؤخر نفقة الليل إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، رجاء الأجر أو الثواب، أو المزيد منه، فالله يقول: هؤلاء الذين ينفقون بالليل والنهار، سرًا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم، فالجزاء مترتب على هذه النفقات، على أي وجهٍ كانت، بينما هناك يُبين المستحقين للجزاء من هم؟ وهم أهل الإخلاص الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وأهل المتابعة؛ لأن سبيل الله هو الذي شرعه، ثم لا يحصل منهم مُبطل لهذه النفقات، ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ من الذي يستحق الأجر؟ هم هؤلاء، لكن غير المُخلص وغير المتبع لشرع النبي ﷺ، أو المؤذي بنفقته والمنان، فهذا ليس له أجره عند الله -تبارك وتعالى.

وفي قوله: وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الخوف هنا نكرة في سياق النفي، فتعم جميع أنواع الخوف، فيمكن حمله على الخوف في الدور الثلاث، لا خوف عليهم في الدنيا، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة.

وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فالخوف قلق على أمر مستقبل، والحزن على أمر فائت، وإنما تدور هموم الناس على هذين، فالذي يشوش القلب الحزن على أمر فائت، أو الخوف من مكروه يتوقعه في المستقبل، فلا خوف عليهم، وأيضًا نفى عنهم الحزن، فمن انتفى عنه الخوف والحزن طاب عيشه، وكان في راحة وطمأنينة وسعادة.

وهذا يدل -والله أعلم- على أن الإنفاق في سبيل الله والبذل في سبيله من أسباب السعادة، وهذا أمر مشاهد، فالإنسان الذي يشعر بضيق في صدره، له علاجات طويلة، وهناك علاجات قصيرة، فالعلاجات الطويلة كثرة ذكر الله ، وحُسن الصلة بالله، والتوكل عليه، والثقة به، وقراءة القرآن بالتدبر، وترك المعاصي والذنوب، فإنها تورث في القلب وحشة، وترك أنواع الغفلة، وكثرة النوم، والأكل، والشرب، والضحك، والمخالطة، فكل هذا يورث غفلة، يتبعها وحشة.

لكن هناك علاج لحظي إذا وجدت الضيق اذهب بنفسك وأعطي هذا الفقير ولو شربة ماء، ستجد أثر هذا مُباشرة، في نفس اللحظة، فلو أعطيت فقيرًا آخر لوجدت ضعف ذلك، ولو أعطيت ثالثًا ورابعًا وخامسًا لرجعت إلى بيتك والدنيا لا تسعك من الانشراح، تُحلق عاليًا، ويجد الإنسان من الراحة والأُنس والسعادة وتتغير الدنيا، والمنظار هذا الأسود الذي كان في عينيه، يتحول شيئًا فشيئًا، مع كثرة الإحسان إلى بياض، وجرب هذا، ستجد الأثر مُباشرة، ولو كان بشيء يسير. 

يعني: أحيانًا قد لا يكون إنفاق مال، تحمل هذا وتوصله، وتقف لهذا حتى يجتاز، وتفسح لهذا في المجلس، أي نوع من أنواع الإحسان، فكل نوع من الإحسان هو يشرح الصدر؛ ولهذا قال في المجالس -مجالس الجمعة مثلاً وغيرها من المجالس على الراجح: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا لاحظ الجزاء يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [سورة المجادلة:11] فرتبه على هذا، والجزاء من جنس العمل، فالذي يفسح للناس يُجازيه الله بجنس عمله، فيفسح له، وهذا الفسح لم يقيده الله بقيد، فيشمل المعاني التي ذكرها المفسرون من السلف فمن بعدهم، يفسح الله لكم في الصدر.

وهذا مُشاهد، فالإنسان حينما ينوء بجانبه، ولا يريد أن يجلس أحد بهذه الفجوة في الصف، يجد ضيقًا، وحينما لا يفسح للآخرين في وقوف مركباتهم، أو نحو ذلك يجد ضيقًا، لكن حينما يفسح في المجلس، وفي غير المجلس، يحصل له انشراح، وفسح في الصدر والرزق والقبر والآخرة، وفي منزله في الجنة، لماذا؟ لأنه أطلقه قال: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ ولم يقل: يفسح لكم في الصدر، أو يفسح لكم في القبر، أو يفسح لكم في الجنة، أو يفسح لكم في الرزق، والأصل أن حذف المتعلق يُحمل على العموم المناسب له، فكل ذلك يحصل.

فالمقصود: أن الإحسان إلى الناس -أيها الأحبة- بكل وجوهه، وصوره، هو من أعظم أسباب الانشراح، وما يُعانيه كثير من الناس اليوم من الضيق سببه هذا؛ ولذلك يحاولون تبديد هذا الضيق بممارسات لا توصلهم إلى الراحة، كمتابعة التافهين عبر وسائل التواصل الجديدة، أُناس يُظهرون الجنون بحركاتهم وتصرفاتهم، ويُظهرون السفه بكل معانيه، ويُتابعهم خلق لا يُحصيهم إلا الله، لماذا يتابعون هذه الأعمال التافهة والتصرفات التي تدل على ترحل العقل بالكلية؟ سفه بكل ما تحمل هذه الكلمة.

يعني: إنسان يتصرف تصرفات المجانين فيتابعه الكثيرون؛ لأنهم يريدون طرد الهم، ويبحثون عن السعادة، فيتابعون التافهين والمجانين أو من يتشبهون بالمجانين، وهكذا كثرة الخروج والتنزه والاستراحات بشكل يومي أحيانًا، فلماذا ضاقت بالناس البيوت؟ والذهاب إلى الأسواق من غير حاجة، يبحثون عن شيء يُشبع نفوسهم، ويبعث على الراحة، ويجلب السعادة، هذا لا يتحقق لهم.

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فأثبت الأجر ينضاف إلى ذلك نفي الخوف والحزن، ولاحظ إعادة (لا) النافية هنا، فلم يقل: ولا خوف عليهم، ولا حزن يلحقهم، وإنما قال: وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ليدل ذلك على تأكيد النفي، وأن هذا النفي يتصل بكل واحد منهما على سبيل الاستقلال وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وقدّم الضمير المتعلِّق بهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ لأن هؤلاء هم المعتنى بهم، فانظر إلى ألطاف الله -تبارك وتعالى- بهؤلاء المنفقين.

فمن أراد الراحة والسعادة، فعليه أن يسير على هذا المنهاج القويم، ويتدبر كلام الله -تبارك وتعالى، ويُطبق ما فيه، فإنه يوصله إلى كل خير، فهذه النفس تشقى وتُظلم حينما تبتعد عن مصدر النور، وبقدر بُعدها عن هذا المصدر يكون ما فيها من الظلمة، وإذا أظلمت النفس يشقى صاحبها فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ۝ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا هذا في الدنيا، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طه:123، 124].

أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

  1. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:366).

مواد ذات صلة