الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
[180] قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ..} الآية:223
تاريخ النشر: ٢٠ / جمادى الأولى / ١٤٣٧
التحميل: 27733
مرات الإستماع: 2642

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول الله -تبارك وتعالى- بهذه السورة الكريمة سورة البقرة: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:223].

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ أي: أن نساءكم مُزدرع لكم، يعني: أنهن موضع زرع لكم، تُلقى النُطفة في الرحم فيخرج منها الولد بمشيئة الله -تبارك وتعالى- وإرادته، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، وذلك بموضع الولد، وهو القُبل بأي كيفية شاء.

وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ، من الأعمال الصالحة التي تتقربون بها إلى الله -تبارك وتعالى، وَاتَّقُوا اللَّهَ، بأن تجعلوا بينكم وبين عذابه وقاية بفعل ما أمر واجتناب ما نهى، وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ، للحساب والجزاء يوم القيامة، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، بما يسرهم ويُفرحهم من حُسن الجزاء عند الله -تبارك وتعالى- في الآخرة.

يؤخذ من هذه الآية الكريمة من الهدايات الأدب في الألفاظ والكنايات كما الآية قبلها: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ، فعبر بالاعتزال، وَلا تَقْرَبُوهُنَّ، عبر بذلك عن الجماع، حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ، عبر به عن الجماع، مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة:222]، هنا قال: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، هذه العبارة في غاية الإيجاز والبلاغة، وتحتها من المعاني الشيء الكثير مما لا يُحتاج معه إلى شرح وتطويل وذلك بأن الله -تبارك وتعالى- جعل هذه الآيات والتعريضات التي تُغني عن الإفصاح عن أمور قد لا يحسُن الإفصاح عنها، فهذا كله في كتاب الله -تبارك وتعالى- في مواضع كثيرة كما أشرنا في الليلة الماضية.

نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، كان اليهود يتحرجون ويتنزهون من معاشرة المرأة إلا في حال أو وضع أو صفة معينة، فلما جاء المهاجرون إلى المدينة وكانت قريش تصنع ما لا عهد للأنصار الذين جاوروا اليهود به، فتزوجوا من الأنصار فلما أراد بعضهم ذلك تمنعن حتى يسألن رسول الله ﷺ، فجاء هذا الجواب: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223][1]، ومثل هذا يكفي عن ذكر تفاصيل لا حاجة إليها في معنى هذه الجملة.

هذه الآية فيها تشبيه النساء بالحرث، وذلك لما يُلقى من النُطف التي يُخلق منها الأولاد، كذلك الحرث يُلقى فيه البذر فتخرج الأشجار والنباتات.

كذلك أيضًا يؤخذ من هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، توسعة الشارع على عباده، فلم يُضيق عليهم في ذلك في وجوه الاستمتاع إلا فيما كان ضررًا وأذى سواء كان ذلك في حال الحيض أو كان ذلك في غير موضع الولد.

كذلك يؤخذ من هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، تشبيه النساء بالحرث هنا فهي مُزدرع، فصاحب الحرث يسعى إلى تثميره وتكثيره واستنبات ألوان النباتات والأشجار فيه، فإذا كان هؤلاء النساء مُزدرع للرجال فينبغي أن يحرصوا على هذا المعنى بتكثير النسل، والنبي ﷺ يقول: تزوجوا الودود الولود فإني مُكاثر بكم الأمم يوم القيامة[2]، والله يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ، يعني: خوف الفقر إذا كثُر النسل، نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ [سورة الإسراء:31]، فرزقهم على الله -تبارك وتعالى، أما إذا كان قتل هؤلاء الأولاد بسبب فقر واقع على الأبوين فقال الله: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ، يعني: من فقر واقع متحقق، نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [سورة الأنعام:151]، فقدم رزق الآباء، فالرزق عند الله -تبارك وتعالى- والإنسان لا يرزق نفسه فضلاً على أن يرزق غيره من هؤلاء الأولاد، فكثرة النسل وكثرة الأولاد لا تكون سببًا للفقر؛ لأن هؤلاء قد تكفل الله برزقهم: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ، هذا بأقوى صيغة من صيغ الحصر، فيدخل في هذا الإنسان وغير الإنسان، كل من يدب على الأرض، أيضًا هذا الوأد الخفي كما يُسميه بعض السلف بالإجهاض، وإسقاط الحمل، ونحو ذلك كل هذا وما يُلحق به من تعاطي موانع الحمل من أجل أن لا يكثر الأولاد كل هذا من بقايا الجاهلية، الذين كانوا يقتلون الأولاد خشية الفقر، فكانوا يسمون ذلك بالمؤودة الصُغرى، والوأد الخفي، فالرزق عند الله -تبارك وتعالى- ينزل على الخلق سواء كانوا كثيرين أو قليلين ويد الله وخزائنه ملأى لا تغيضها نفقة[3].

وكذلك يؤخذ من هذه الآية: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، لم يقل: فأتوه أو فأتوهن وإنما قال: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، تأكيدًا لهذا المعنى أنهن حرث، كذلك أيضًا هذا الحرث الإنسان يُحافظ عليه ويصونه من كل آفة، فهكذا المرأة ينبغي أن تُصان وتُحفظ ولا تُترك عُرضة لكل آسر وكاسر، فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ [سورة البقرة:223]، يعني: كيف شئتم.

وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:223]، فهنا نوع في الخطاب خاطب المؤمنين وخاطب النبي ﷺ: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ، ثم حول الخطاب إلى النبي ﷺ لتبشير المؤمنين لأن ذلك يكون عن طريقه -عليه الصلاة والسلام.

وكذلك هنا أيضًا: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:223]، جمع بين أمرين: نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ، هذا موضع الاستمتاع وهذا من أعظم المُتع في هذه الدنيا، لكن ذلك لا يُنسي العمل والطاعة التي يُتقرب بها إلى الله ، كما قال في آية الصيام: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187]، ما الذي كتبه الله لنا؟

بعضهم يقول: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، من قيام ليالي رمضان، فلا يشغلكم ذلك عن العبادة.

وبعضهم يقول: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، التماس ليلة القدر، وهو يرجع إلى القول قبله.

وبعضهم يقول: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يعني: الولد، يعني: أن يكون لك نية في هذا الوِقاع.

وبعضهم يقول كابن جرير -رحمه الله[4]: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يشمل هذا جميعًا إضافة إلى أقوال أخرى كقول من قال: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يعني: في اللوح المحفوظ، أو ما كتب الله لكم مما شرعه، فكل هذا داخل فيه، فالمقصود أنه جمع بين هذا وهذا، يعني: حينما أباح لهم ليلة الصيام الوقاع قال: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [سورة البقرة:187]، لا يشغلكم هذا الوقاع عن العبادة والطاعة وقيام ليالي الشهر والتماس ليلة القدر، وهنا أيضًا: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:223]، فهذا هو المراد أن يُقدم الإنسان لنفسه ما ينفعه ويرفعه ولا تشغله هذه الشهوات ولو كانت مباحة عن طاعة الله ، وليس المراد كما قال بعضهم أن قوله: وَقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُمْ [سورة البقرة:223]، يعني قبل الوقاع من المقدمات التي تكون أدعى إلى قبول المرأة لذلك، هكذا قال بعضهم، ألَّا يبدأ مُباشرة بالوقاع وإنما يكون له مُقدمات يجعل ذلك أدعى للقبول، ولكن هذا بعيد وإن كان ظاهر اللفظ يحتمله، لكن عادة القرآن وطريقة القرآن من الجمع بين هذا وهذا أعني المُتع الدنيوية إذا ذكرها مع أمور الآخرة وما يُقرب إلى الله -تبارك وتعالى.

كذلك أيضًا هنا يؤخذ من هذه الآية أن من أراد أن يذكر أمرًا له أهمية أن يُبرزه كما قال الله : وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [سورة البقرة:223]، فهذا يحتاج إلى هز للنفوس وتحريك لها بحيث يكون الإنسان متهيئًا مستعدًا للقاء الله وهذا يبعث على المُحاسبة والمُراقبة، فإذا علم الإنسان أنه سيُلاقي ربه -تبارك وتعالى- فإنه يجد ويجتهد في التقديم لنفسه ما يجد ثوابه عند الله -تبارك وتعالى.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ [سورة البقرة:223]، هذا فيه تحذير مُبطن وتهديد مُغلف لمن فرط وضيع.

وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة:223]، فالبُشرى تكون لأهل الإيمان والعمل الصالح، وهذا أمر للنبي ﷺ يؤخذ منه أن البُشرى مطلوبة، من كان على خير وعلى عمل صالح يُقال له: أبشر، كذلك تبشير الناس بالأمور السارة بالأمور الطيبة بالأمور التي تبعث الطمأنينة في نفوسهم هذا مطلوب، أما ذكر ما يسوء الناس دائمًا وسياق الأخبار التي تُدمي فمثل هذا غير مُستحسن ولا جيد، الناس يحتاجون إلى تبشير وتطمين وذكر ما يسر.

وكذلك: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يدل على أن غير المؤمنين لا بُشرى لهم، وفي هذا أيضًا يؤخذ فضيلة الإيمان فقد علق البشارة عليه، وكما أنه لم يذكر المُبشر به، وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، بشرهم بالنصر في الدنيا بالرفعة والتمكين والعلو، أو بشرهم بالثواب في الآخرة والجنة وما إلى ذلك، هنا حُذف المتعلق، وحذف المُتعلق يفيد العموم النسبي، المتعلق المقدر المحذوف: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ، فيُحمل على العموم، بشرهم في الدنيا بالنصر، والظفر، والتمكين، والحياة الطيبة، وحُسن العاقبة، وبشرهم في الآخرة بالثواب الجزيل، والجنات، ورضا الله -تبارك وتعالى، وما يجدونه مذخورًا لهم من أنواع النعيم.

فنسأل الله لنا ولكم البُشرى في الدنيا والآخرة، وأن يُعيننا وإياكم على ذكره وشكره وحُسن عبادته -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ [سورة البقرة:223] الآية، برقم (4528)، ومسلم، كتاب النكاح، باب جواز جماعه امرأته في قبلها، من قدامها، ومن ورائها من غير تعرض للدبر، برقم (1435).
  2. أخرجه أبو داود، كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء، برقم (2050)، والنسائي، كتاب النكاح، كراهية تزويج العقيم، برقم (3227)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (2941).
  3. أخرجه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ [سورة هود:7]، برقم (4684)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، برقم (993).
  4. تفسير الطبري (3/ 248).

مواد ذات صلة