الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[46] قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ..} إلى قوله تعالى: {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
تاريخ النشر: ١٨ / رمضان / ١٤٣٦
التحميل: 1424
مرات الإستماع: 1663

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فسنواصل الحديث فيما نستخرج من الهدايات من هذه الآيات التي قص الله -تبارك وتعالى- فيها خبر بني إسرائيل من هذه السورة الكريمة سورة البقرة.

يقول الله -تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:63] وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ واذكروا حين أخذنا منكم العهد المؤكد، هذا هو الميثاق، وذلك بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وعبادته وحده، ورفع فوقهم جبل الطور؛ من أجل أن يناقدوا وأن يذعنوا، وأمرهم الله -تبارك وتعالى- أن يأخذوا ما آتاهم بقوة، ما آتاهم عن طريق نبيه وهو موسى الكليم بِقُوَّةٍ يعني: بجد واجتهاد وإلا أطبق عليهم الجبل الذي صار فوق رؤوسهم.

وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ اذكروا ما في هذا الكتاب قولاً وعملاً، ذكرًا بالقلب، وذكرًا باللسان، وذكرًا بالجوارح، لعله يحصل لكم بسبب ذلك التقوى.

ومما يذكره بعض المفسرين وبعض أهل العلم ممن يتكلم على تاريخ اليهود وعلى أهل تلك الملة يقولون: إن اليهود إذا سجدوا يسجدون على حاجب واحد، يعني سجودًا مائلاً على أحد الحاجبين ويرفعون الآخر، يقال: إن أصل ذلك هو هذا الموقف أنه لما رفع فوقهم الطور وهددهم الله بإلقائه عليهم كانوا في غاية الخوف فسجدوا خضعانًا، كانوا قد رفعوا طرفًا إلى الأعلى ينظرون إلى الطور خشية أن يقع عليهم، فصار ذلك هو أصل سجودهم، هكذا قال بعض أهل العلم.

وهكذا ما ذكر من استقبال الصخرة صخرة بيت المقدس، يقال: إن سبب ذلك أنه لما كانوا يحملون التابوت معهم في أسفارهم ومغازيهم كانوا يستقبلون التابوت ويصلون إليه حيثما حلوا، فإذا رجعوا إلى بيت المقدس وضعوه على الصخرة، إذا كانوا في حال الإقامة جعلوه على الصخرة، فكانوا يستقبلون الصخرة يصلون إليها، ولذلك لما تسلط عليهم النصارى بعد دخول قسطنطين في النصرانية والواقع أنه جرها إلى وثنيته، صار اليهود في حال من الذل والاستضعاف، فكان ذلك الموضع الذي يقدسه اليهود موضعًا للنفايات، موضع الصخرة، فلما جاء الفتح الإسلامي على يد عمر وهذا الدين هو دين العدل والرحمة فأمر بإزالة تلك الأوساخ والأقذار التي وضعت في ذلك المكان.

فالإسلام ما جاء بمثل هذا، فكان النصارى يفعلونه عدوانًا وظلمًا ونكاية باليهود، فرفع الإسلام عنهم ذلك، وهم يعرفون هذا جيدًا، ويدركون أنهم حينما كانوا يعيشون في ظل حكم المسلمين أنهم كانوا في رغد وعافية لا يجدونها في ظل حكم النصارى، فهكذا قالوا، ولذلك فإن هذه الصخرة ليس لها قداسة عند المسلمين، وإنما بنيت عليها هذه القبة في عهد بني أمية، فليس لها مزية ومعنى، وما يذكر حولها من الأساطير وأنها معلقة بالهواء، كل هذا كذب، لا صحة له، ولا يصح أن توضع هذه القبة قبة الصخرة لتمثل بيت المقدس، أو لتمثل المسجد الأقصى، فإن المسجد الأقصى يختلف عنها، وإنما هي في فنائه، وللأسف لا يكاد يُذكر المسجد الأقصى إلا وتوضع صورة قبة الصخرة، وأكثر الجيل الذي جاء بعد احتلال اليهود للمسجد الأقصى لا يعرفون المسجد الأقصى الذي هو المسجد الأقصى، ولا يعرفون إلا قبة الصخرة، حتى المؤتمرات التي تقام في كثير من الأحيان عن القدس وتتحدث عن القدس يوضع خلفهم صورة قبة الصخرة وهو شيء محير لا تدري لماذا يُفعل ذلك؟!

ومن الفوائد التي تؤخذ من هذه الآية: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ فهنا الله -تبارك وتعالى- يُذكِّرهم بأخذ الميثاق من أجل العمل بمقتضاه لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [سورة آل عمران:81] المواثيق التي أخذت على بني إسرائيل مواثيق متعددة، منها الإيمان بالرسل الذين يبعثهم الله ويدركهم هؤلاء، ومن ذلك أيضًا، هذا من المواثيق التي أخذت على النبيين.

ومن المواثيق التي أخذت على أهل الكتاب: لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [سورة آل عمران:187] هذا الكتاب الذي أنزله الله عليهم أن يبينوه، والواقع أنهم نبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً.

فهنا قال: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ فجاء الميثاق مفردًا، وهو في الحقيقة وإن كان بمعنى الجمع؛ لأن الميثاق هنا مفرد مضاف إلى المعرفة كاف الخطاب، وذلك يكسبه العموم، فهو بمعنى الجمع.

ومن أهل العلم من يعلل مجيئه بصيغة الإفراد أنه ما قال: وإذ أخذنا مواثيقكم، قالوا: للدلالة على أن كل واحد منهم قد أخذ عليه ذلك، يتنزل على كل واحد من هؤلاء اليهود وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ ميثاق كل واحد، لو قال: مواثيقكم، أيضًا لربما يفهم أنها مواثيق متعددة، وهو ميثاق هنا واحد فأفرده.

ويؤخذ من هذه الآية تلك الحال التي وصل إليها هؤلاء اليهود من العتو والتمرد، فما يحصل منهم الإذعان والإقرار والله هو الذي يأمرهم والكليم بين أظهرهم إلا برفع جبل الطور، جبل الطور جبل هائل ضخم يرفع فوق رؤوسهم ويقال لهم: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ فهم لا يأخذونه طواعية وانقيادًا لوعورة نفوسهم وسوء طواياهم ولشدة تمردهم وعتوهم على ربهم -تبارك وتعالى- وعلى رسله -عليهم الصلاة والسلام- فيُرفع فوقهم الطور، فهذه صورة بالغة الوضوح تُبيِن عن حال هؤلاء اليهود، أنهم أبعد ما يكونون عن القبول والانقياد والإذعان لربهم وخالقهم وإذا كان هذا حالهم حينما يأمرهم الله ونبيهم كبير أنبياء بني إسرائيل وهو موسى بين أظهرهم ومع ذلك يحتاجون إلى رفع الجبل فوق رؤوسهم من أجل أن يقبلوا فكيف بحالهم بعده، كيف بحالهم بعده؟!

وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ [سورة الأعراف:171] يعني: رُفع، فهذا صار بمثابة الظلة كما قال الله في سورة الأعراف.

ثم أيضًا تأمل قوله -تبارك وتعالى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ هذا أمر وهو للوجوب و "ما" تفيد العموم، كل ما آتيناكم خذوه بقوة يعني بجد واجتهاد من غير توانٍ ولا تأخير ولا تغافل أو تكاسل، وهكذا ينبغي أن يتعامل مع وحي الله -تبارك وتعالى- وشرعه وهداه، فإذا كان ذلك مما قيل لبني إسرائيل فإن هذه الأمة أيضًا مأمورة بأن تأخذ ما آتاها الله بقوة، والله يقول لداود وهو من كبار أنبياء بني إسرائيل وهو ملك من ملوكهم: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [سورة ص:26].

وهنا ينبغي لهذه الأمة أن ترجع إلى نفسها وأن تتعامل مع شرع الله وهداه بجد وبرغبة أكيدة وبعمل على الوجه المشروع، فإذا أمر الله بشيء فلا يصح بحال من الأحوال التواني والتباطؤ ابتداءً من هذه الصلاة إذا نادي المنادي فقال: الله أكبر، حي على الفلاح، فالبدار البدار، وهكذا التعامل مع أحكام هذه الشريعة الحلال والحرام وسائر ما أمر الله -تبارك وتعالى- به أو نهى عنه، في القضايا العلمية والقضايا العملية، أخذ ذلك بجد من غير تفريق بحسب ما تهواه الأنفس، فلا يكون حال أهل الإيمان ممن يؤمن ببعض ويكفر ببعض.

كذلك أيضًا لا يصح بحال من الأحوال أن يتجارى مع هذه الشريعة بالنسبة للعالمين بها بحسب أهواء الناس، فذلك يكون بالنسبة لعامة الأمة وبالنسبة لخاصتها، أخذ الكتاب بقوة بجد، تتبع رخص الفقهاء أمر يخرج المكلَّف من رِبقة التكليف ومن ضبط الشرع له ولسلوكه وعمله وحاله وهواه إلى ما يقابل ذلك، حتى تصير الشريعة تبعًا لأهواء الناس.

هذا يقال بالنسبة للمكلف نفسه، بمعنى أنه يجب عليه أن يبحث عن الحق والحق عند الله واحد لا يتعدد، فلا يطلب ما يوافق مراده وما يهوى فيبحث عن فتوى مفتىٍ ليرخص له بهذا الفعل، أو أنه قد رأى أحد المفتين في قناة فضائية يفتي بالجواز والترخيص بهذا الأمر ثم يقول: وجدت من يبيح هذا الفعل، وهو حينما يتتبع ذلك فإنه سيجد في كل شيء له فيه هوى من يرخص له فيه، فتكون النتيجة كما قال جمع من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين: بأنك إن أخذت برخصة كل فقيه اجتمع فيك الشر كله، يجتمع الشر، ولهذا لما جمع بعضهم كتابًا في رخص الفقهاء ودفعه إلى أحد الخلفاء، فنظر فيه وعرضه على بعض من حضره من أهل العلم، فحكموا على أن هذا الكتاب كتاب زندقة؛ لأنه يُخرج من شرع الله فهذا فيما يتعلق برخص الفقهاء.

خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ بجد، فالكسل والتأخر والتباطؤ والتسويف لا يجدي، سواء كان ذلك في الدعوة إلى الله أو في العمل بشرعه وطاعته، وترك مساخطه أو كان ذلك بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الولاء والبراء، أو غير ذلك من أبواب هذه الشريعة، أن يؤخذ ذلك على مراد الله -تبارك وتعالى- من غير تبديل ولا تضييع ولا تفريط ولا تأجيل ولا تسويف، يكون دافعه الكسل والتثاقل، هناك أشياء قد تؤخر ونحو ذلك لاقتضاء المصلحة الشرعية المعتبرة التي يقررها العلماء الربانيون، لكن إذا كان الداعي لهذا التسويف والتأخير هو التثاقل والكسل فهنا يكون ذلك من قبيل التفريط والتضييع.

إذن الكسل في الطاعة، القعود عن الدعوة إلى الله وقد تكلمنا في مجلس خاص على قوله -تبارك وتعالى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ [سورة ص:45] وقلنا: إن الأيدي يعني القوة[1] القوة في العمل لطاعة الله، والقوة بالدعوة إليه، والقوة في البلاغ وجهاد أعدائه، كل هذا مما يُطلب فيه القوة أُوْلِي الأَيْدِي لكن هذه القوة تحتاج إلى الجانب الآخر وهو وَالأَبْصَارِ البصائر أن يكون هذه القوة على بصيرة على هدى من الله -تبارك وتعالى- وإلا فإنها قد تتحول إلى جفاء وغلظة وفساد وإفساد لا يكون فيه صلاح دين ولا صلاح دنيا، فهذا كله يُدخل فيه، تتبع الرخص، الكسل والتباطؤ، وكذلك الحيل، الحيل التي يخرج بها المكلف من الأبواب الخلفية، فالشريعة جاءت لضبط عمله وسلوكه ونحو ذلك، فهذه الحيل مخارج، كيف تتخرج من الزكاة؟ بأن يمكن أن تعقد عقدًا صوريًا مع أحد وتبيع هذه العقارات أو نحو ذلك أو تتصرف بهذا المال أو تغير الحلال كما يقال، وذلك من أجل الخروج من عهدتها؛ لئلا يُلزم بالزكاة، هو لا تبرأ ذمته.

وقل مثل ذلك فيمن يريد الفطر في رمضان، فإنه لربما يضرب طريقًا يسلكها يخادع ربه كأنه مسافر، وهو يريد الفطر، ليس عنده سفر، فيمشي تلك المسافة التي يذكرها، يحددها بعض الفقهاء أو فيما يكون في العرف من قبيل السفر ثم يفطر ويرجع، هو لو أفطر في وسط بيته لخفف على نفسه عناء الانتقال والبعد، فالحكم واحد، فليس له من ذهابه ذاك ومسيره هذا إلا العناء والتعب، ما تغير الحكم حيلة، كما سيأتي في حيلة بني إسرائيل في الصيد يوم السبت.

فهذه الحيل التي يخرج بها الإنسان من رِبقة التكليف هي لا تغني عنه شيئًا، ولا تبرأ ذمته بذلك، وسيجد أشياء عجيبة في كلام بعض الفقهاء من هذه الحيل، ولو نظرت في مثل كتاب: "إعلام الموقعين" للحافظ ابن القيم -رحمه الله- حينما تحدث عن الحيل بفصول طويلة جدًا، وذكر أمثلة كثيرة للحيل المحرمة وذكر أيضًا حيلاً صحيحة مباحة، فهذا يذكرون فيه أشياء عجيبة تصل إلى قتل الزوجة من غير تبعة، وتصل إلى فعل كل ما يحلو له من غير تبعة، والتنصل من الحقوق المالية لذوي الحقوق، والتنصل من الكفارات، والحدود، وما إلى ذلك.

فالجد والعمل بطاعة الله -تبارك وتعالى- هذا هو الطريق، لكن على وفق ما شرَّع الله -تبارك وتعالى- ليس بغلو يبلغ به العبد إلى تحريم ما أحله الله -تبارك وتعالى- أو إيجاب ما لم يوجبه، أو حمل النفس على لون من المشقة كما يقول الشاطبي -رحمه الله[2] غير معهودة تفضي بالمكلف إلى التثاقل والانقباض، وعدم الإقبال على العبادة برغبة، فإن من مقاصد الشارع التكليف بهذه الشريعة الدوام والاستمرار، فيُقبل على المكلف على الطاعة والعبادة بطواعية ورغبة، فإذا كان يحمل نفسه على ألوان من الأعمال الشاقة جدًا التي لم يوجبها الله عليه فتهدم عافيته وبدنه، كأن لا ينام الليل، يقوم، ويصوم الدهر ونحو ذلك، وينفق كل ما بيده، فإن ذلك يفضي به إلى مشقات غير محتملة، فيضر بنفسه ببدنه ونحو ذلك، ويستثقل الطاعة والعبادة، فلربما يكرهها ويتبرم بها، ولربما يكره ذلك الموسم الذي يقبل عليه وهو موسم الطاعة؛ لأنه يحمل نفسه فيه على أمور لا تكاد تحتمل، فهذا خطأ وإن كان هذا العمل من قبيل الطاعة.

يعني مثلاً لو قلنا: إن أحدًا من الناس يريد أن يختم في كل يوم في رمضان ختمتين، أو أن يختم في كل ليلة من ليالي هذا الصيف الطويل في صلاة إلى قبيل الفجر يختم ختمة كل يوم، فهذا قد يشق عليه جدًا، ويثقل عليه، ثم بعد ذلك ما يلبث أن يثقل عليه الشهر، فإذا أقبل رمضان لربما صار ذلك بالنسبة إليه شيئًا غير مرغوب فيه، وهذا غير مراد، التعامل مع الله لا يكون بهذه الطريقة.

ثم أيضًا يؤخذ من قوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة البقرة:63] أن الأخذ بالكتاب المنزل يوجب التقوى، التقوى تتحقق بالعمل بأمر الله واجتناب مساخطه، لكن ما الذي كان من هؤلاء اليهود مع رفع الجبل عليهم وأخذ الميثاق؟ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة البقرة:64] خالفتم وعصيتم مرة أخرى رجعتم إلى ما كنتم عليه بعد أخذ الميثاق ورفع الطور كشأنكم دائمًا فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ بالتوبة والتجاوز عن هذه المعاصي والمساخط التي ترتكبونها لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ في الدنيا والآخرة، فيؤخذ من هذا لؤم بني إسرائيل، بعدما رجع الجبل إلى مكانه واطمأنوا -رفع وزال من فوق رؤوسهم- رجعوا إلى عادتهم وما كانوا عليه من النكث والتولي والإعراض والتمرد: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.

ويؤخذ من قوله -تبارك وتعالى: فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة البقرة:64] أن الإنسان لا يستقل بالتوفيق والهداية والتوبة، وإنما يحتاج إلى ألطاف الله، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء، ويوفق من شاء، بعض الناس يقول: أحاول أن أتوب ولا أستطيع -أسأل الله العافية- يبتلى بذنب، بنظر محرم أو بعمل من الأعمال المحرمة، ويقول: أحاول أن أتوب ولا أستطيع، فالموفق هو الله، والهادي هو الله، فعلى العبد أن يقبل عليه، وأن يتضرع إليه، ولا ينظر إلى نفسه أنه يملك التقوى والإيمان والوازع الديني ما يستطيع مع أن يحجز نفسه عن كل ما لا يليق، لا، وإنما كما قال الإمام أحمد -رحمه الله: "لولا ستر الله لافتضحنا"[3]

هكذا يكون المؤمن، لا ينظر إلى أنه عنده قدرات وإمكانيات وعنده قوة إرادة وقوة عزيمة قوية وثبات، وأنه لا تزعزعه العواصف والفتن والشرور، لاسيما في مثل هذه الأوقات التي كثرت فيها وقربت فتن الشبهات والشهوات على حد سواء، فأصبح الحال يشبه إلى حد كبير ما قال الله -تبارك وتعالى: لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة:94] فهذه الأجهزة التي بيد الآن الطفل الصغير قبل الكبير هذه تنالها أيديهم، تنالها أناملهم متى شاءوا نظروا إلى أقبح المشاهد التي لا تنفعهم وإنما تضرهم في أبدانهم وفي قلوبهم وفي أديانهم وفي أخلاقهم، مشهد واحد من شأنه أن يدمر الفضائل التي تعلمها الإنسان وتربى عليها -نسأل الله العافية.

وكم سمعت من شكاية في هذا وما يشبهه، فأقول: الموفق هو الله، الشبهات الخطافة، ترى الرجل أحيانًا وتعجب، لا ينقصه علم، لا ينقصه عقل، كيف يَضل، كيف يقبل مثل هذه الضلالات، كيف يقتنع، كيف يحسن الظن بهؤلاء المنحرفين الضالين؟

لا تملك إلا أن تقول: يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، يعني أحيانًا تجد من لا يُتهم، يعني لا يُتهم أنه يقصد اتباع الهوى، من له اشتغال بالعلم وعبادة ومع ذلك قد تعلق في قلبه شبهة -نسأل الله العافية- فيضل ويزيغ، وانظروا عبر التاريخ الضلالات والأهواء، وقد ذكرت في الكلام على الاختلاف[4] أمثلة ونماذج من هذا.

عمران بن حطان من زعماء الخوارج كان من أهل السنة، يقال: إنه كانت له بنت عم أراد أن يردها إلى الحق كانت على رأي الخوارج فتزوجها ففتن[5] وتحول إلى زعيم من زعماء الخوارج، وكبير من كبار قادتهم، ويقال: إنه قدم غلام أو فتى من عمان فقلبه في قعدة[6] -نسأل الله العافية- كلمه وناظره، والشبه خطافة.

وكان السلف الواحد يضع أصبعيه في أذنيه قتادة وغير قتادة، يقول: أكلمك بكلمة. يقول: ولا نصف كلمة[7] اجلس في هذا الدكان أكلمك قال: لا، قال: لم؟ القلب ضعيف[8].

وعمر بن عبد العزيز -رحمه الله- يقول: "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التحول"[9] كل يوم على مذهب، فهذا لاسيما شاب صغير قليل العلم قليل الخبرة قليل المعرفة بتاريخ أشياء يجب أن تعرف، ويتابع حسابات -الله أعلم- لمن تكون هذه الحسابات، فيها أنواع الشبهات والضلالات التي هي أكبر منه بكثير، أمور لا يحيط بها علمًا، ولا يعرف ما وراءها، ثم بعد ذلك يكون حطبًا في فتنة يتسارع إليها فيخسر دنياه، وقد يخسر آخرته، هذا دين، حينما يثق الإنسان بنفسه ويقول: أنا أعرف، أنا أميز، أنا عندي عقل أنا أفهم، "من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التحول".

الإمام مالك إمام دار الهجرة، جبل في العلم، يأتيه رجل ويقول: "أناظرك يا إمام، قال: ثم ماذا إذا، فإذا غلبتك؟ قال: أتبعك، قال: فإذا غلبتني؟ قال: تتبعني، قال: فإذا جاء رجل ثالث فغلبنا؟ قال: نتبعه، قال: أهكذا الدين"[10] كل يوم على دين وكل يوم على مذهب.

ولذلك انظروا إلى أصحاب الأهواء كيف يتحولون وكيف يتقلبون، وخذوها إذا رأيت الرجل كل يوم على طريقة وعلى مذهب، ونظرت إلى تاريخه كان هكذا ثم صار هكذا ثم صار هكذا ثم، فهذا لا يوثق به من جهة الاقتداء، لا يصلح أن يكون قدوة، أما دينه فبينه وبين الله لكن للاقتداء لا يصلح للاقتداء، لا يصلح أبدًا للاقتداء.

والمشكلة أن هؤلاء الشباب أحيانًا لا يعلمون عن هذا كله الخلفيات لهذه الضلالات، وهؤلاء الذين يتحولون ويتقلبون في الفتن ظهرًا لبطن لربما كان بعض هؤلاء في يوم من الأيام على الطرف الآخر، أقصى اليسار، ثم صار أقصى اليمين، هذا لا يوثق فيه.

هناك أشياء تدل على ضعف في العقل، وضعف في القدرات التي عند الإنسان ابتداءً، فمثل هذا هل يصلح أن يُوجِه وأن يُرشِد وأن يُعلِّم وأن يُرجَع إليه في الملمات والمهمات والأمور الخطيرة الكبار؟

أبدًا، ولذلك أقول: انظروا إلى العلماء الراسخين تجدهم على جادة واحدة، خذ أمثلة الإمام أحمد، شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الحافظ ابن القيم، ابن رجب، وإلى عصرنا هذا، يصح أن أقول إن شاء الله ولست مبالغًا: شيخ الإسلام الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- في هذا العصر، من مثله في العلم والورع نحسبه والله حسيبه، على جادة واحدة من أيام شبابه إلى أن توفي، نفس واحد لا تجد تحول ولا تقلب ولا يمين ولا شمال في العلم والعمل والتعليم والدعوة وإنكار المنكر، وما أشبه ذلك.

فنقول للشباب كما قال ابن مسعود : "من كان مقتديًا فليقتدِ بمن قد مات فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة"[11].

فهؤلاء الذين ماتوا على جادة، هؤلاء هم القدوات هم الأعلام، لكن المشكلة حينما يُسقَط هؤلاء من نفوس الناس، ويفتح باب المذمة والوقيعة فيهم، فعندئذ تبقى الشياطين هي التي توجه، ويبقى الأصاغر هم الذين يقودون ويعلمون، ويذهب الكبار ولو كانوا من الأحياء، إذا أُسقط في أعين الناس فإنه نسأل الله العافية والهداية للجميع، وأن يحفظنا وإياكم من مضلات الفتن.

اللهم ارحم موتانا، واشف مرضانا، وعاف مبتلانا، واجعل آخرتنا خيرًا من دنيانا -والله أعلم.

وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. 

  1.  على الرابط التالي: https: / / khaledalsabt.com/ cnt/ lecture/ 3021. 
  2.  انظر: الموافقات (2/ 148). 
  3.  لم أقف عليه. 
  4. سلسلة بعنوان: (الاختلاف وموقفنا منه)، على الرابط التالي: https: / / khaledalsabt.com/ cnt/ slasel/ tid/ 370. 
  5.  انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 214). 
  6.  أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 471)، برقم (477). 
  7.  أخرجه الدارمي في سننه (1/ 390)، برقم (412)، وقال محققه سليم أسد: "إسناده صحيح"، وابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 447)، برقم (402).
  8.  أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 152)، برقم (249)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 446)، برقم (400)، وبرقم (1778)، الإبانة (4/ 215). 
  9.  انظر: الإبانة الكبرى لابن بطة (2/ 503)، برقم (566)، بلفظ: "من أكثر الخصومات أكثر التنقل".
  10.  أخرجه ابن بطة في الإبانة الكبرى (2/ 507)، برقم (583). 
  11.  أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (1/ 104)، برقم (130). 

مواد ذات صلة