الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
الآية 118 من سورة المائدة والآية 3 من سورة الأنعام
تاريخ النشر: ١٤ / رمضان / ١٤٢٧
التحميل: 1662
مرات الإستماع: 2206

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي هذه الليلة سأتحدث عن آيتين من كتاب الله -تبارك وتعالى، الأولى في سورة المائدة، وهي مما قد يقف فيه القارئ فلا يتبين وجهه، والثانية في سورة الأنعام، وقد تُفهم على غير مراد الله -تبارك وتعالى.

أما الأولى فهي أن الله -تبارك وتعالى- قال لعيسى : أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ۝ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۝ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:116-118]، قال: "العزيز الحكيم" وما قال: الغفور الرحيم، مع أن المتبادر أن يقال: وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، فلماذا قال الله عن عيسى ﷺ: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ؟ [المائدة:118]، فهذه قد يستشكلها القارئ.

والجواب عن هذا -والله تعالى أعلم- أن يقال: إن ذلك اليوم يوم عظيم، وموقف هائل يغضب فيه الرب -تبارك وتعالى- غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله كما جاء في الحديث.

فعيسى حينما يوجه إليه هذا السؤال، ويقول هذا المقال لا يجعل من نفسه مدافعاً عنهم، ما يقول: اللهم اغفر لهم، أو ما يُشعر بذلك، وإن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرحيم، لا، وإنما فوض الأمر إلى الله تمام التفويض، هؤلاء عبادك بين يديك إن تعذبهم فهم عبادك، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، يعني: لا تغفر لهم من ضعف أو عجز عن المؤاخذة والمعاقبة؛ لأن الإنسان قد يعفو لكن عن ضعف عن الأخذ والعقوبة، فالله إن عذب فهم عباده نواصيهم بيده، وإن غفر لهم فهو يغفر مع كمال عزته وحكمته حيث يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها، فهو عفو ليس بسبب عجز ولا ضعف، هذه الآية الأولى.

وأما الآية الثانية: وهي في أول سورة الأنعام وهي قوله -تبارك وتعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، هذه الآية ما المراد بها؟، وأين موضع الوقف فيها؟

من أهل العلم من يقول: الوقف هكذا وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]، وتقف، وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، لاحظتم كيف يتغير المعنى.

مواضع الوقف في أغلبها في القرآن اجتهادية بناء على ما يلوح من المعنى للعلماء، ولهذا اختلفوا في موضع الوقف بهذه الآية، فبعضهم قال هكذا: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ [الأنعام:3]، أي: أنه فوق السموات، "في" هنا بمعنى "على"، كقوله: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، أي: على السماء، وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، هو فوق عرشه فوق سمواته ويعلم ما يجري في الأرض من إسراركم وإعلانكم وجهركم وسائر أعمالكم، وهذا معنى تحتمله الآية.

ومَن وصل: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3]، بعضهم قال: "وهو الله" أي: المألوه المعبود، يُدعى الله ويُعبد ويوحد في الملكوت الأعلى وفي الأرض، "وهو الله"، أي: المألوه الذي يُدعى الله في العالم العلوي وفي العالم السُفلي، أي: أنه مألوه أي معبود في السموات يعبده أهل السموات ويعبده أهل الأرض، "وهو الله" أي: المألوه في السماوات والأرض، مألوه في السموات ومألوه في الأرض، هذا معنى، وهو من أجودها وأحسنها، وعليه كثير من المحققين، فتكون الآية على الوصل: وهو الله في السموات وفي الأرض هو المألوه في العالم العلوي والسُفلي يُدعى الله في الملكوت الأعلى، وفي الأرض.

ويحتمل وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3]، فيكون يعلم سركم وجهركم متعلقًا بالأرض، هذا كله من أجل ماذا؟ من أجل أن لا يتوهم أحد معنى باطلاً من هذه الآية كما يقول غلاة الصوفية والجهمية وطوائف من المنحرفين بأن الله موجود في كل مكان، -تعالى الله عن ذلك، فالله معنا بعلمه وإلا فهو فوق سماواته فوق عرشه بائن من خلقه، هذه عقيدة أهل السنة لا يجوز لأحد أن يعتقد سواها يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50]، الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى طه:5، فهذه الآية في سورة الأنعام هذا معناها، وليس معناها أن الله موجود في السموات وموجود في الأرض مخالط لخلقه، -تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا، والنبي ﷺ لما قال للجارية: أين الله؟، قالت: في السماء، قال: من أنا؟ قالت: رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة[1].

هذا هو الاعتقاد الصحيح الذي عليه أئمة المسلمين سلفاً وخلفاً من الصحابة إلى يومنا هذا.

هذا، وأسأل الله أن يُبصرنا وإياكم بالقرآن العظيم، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.

  1. أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، برقم (537).

مواد ذات صلة