الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
وقفات مع قوله تعالى: (فويل للمصلين)
تاريخ النشر: ١٩ / جمادى الأولى / ١٤٣١
التحميل: 16571
مرات الإستماع: 10304

فويلٌ للمصلين

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده، ورسوله يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70 - 71] أما بعد:

فسورة الدِّين - سورة الماعون، وبعضهم سماها بسورة اليتيم - الله - تبارك، وتعالى - يقول في أولها معجِّباً من حال المكذب بالدين: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ ۝ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۝ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 3] ثم قال: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 4] فليكن هذا المجلس من المجالس التي ندارس فيها كلام الله وليكن ذلك من المجالس التي يحصل بها التدبر للقرآن، فنحصِّل بذلك فائدتين:

الأولى: التدبر: فيكون ذلك من قبيل التطبيق العملي لتدبر القرآن، كما أنه يتحقق بذلك ما أردنا الحديث عنه مما يتصل بالصلاة؛ لأنه لا يمكن الحديث عن كل هذه السورة في هذا المجلس، لو أردنا أن نتحدث عن الآثار المدمرة للتكذيب بالدين، وما ينتج عن ذلك من السلوك المنحرف لهذا المكذب لطال الحديث عن هذا، ويكفي أن تُقلب في أوراق المصحف، فتجد ربنا  يعلل كثيراً من السلوكيات، والانحرافات بأن أصحابها لا يؤمنون بالآخرة، لا يؤمنون بيوم الدين، فيحملهم ذلك على كل فعل مشين، فلا يتنزهون عن القبائح، والجرائم، والجرائر، والأعمال المُدنسة؛ لأنه لا يرجو الحساب، ولا يريد الثواب، ولا يخاف العقاب، ولهذا سيكون الحديث منحصراً عن قوله - تبارك، وتعالى - : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4 - 5].

فقول الله - تبارك، وتعالى - في صدر هذه السورة: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ [الماعون: 1] ثم ذكر صفتين من أوصافه: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] يعني: يدفعه دفعاً شديداً عن حقه، وهذا دليل على قسوة في القلب، وتحجر في الضمير؛ لأن اليتيم ضعيف، منكسر القلب، ترق له الأفئدة الحية، ولهذا أرشد النبي ﷺ من أراد أن يرقَّ قلبُه، وكان مما أرشده إليه: امسح رأس اليتيم[1].

فذلك سبيل لرقة القلب، أما هذا الذي يكذب بالدين فإنه يدُع اليتيم وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 3] لا يحض نفسه، ويحثها، ولا يحض غيره؛ لأنه لا يرجو عائدة ذلك، هو يعتقد أن هذا البذل أنه من قبيل المغرم، فقد غلبت عليه نزعته المادية فلا يعطي شيئاً إلا بشيء، ولا يدفع إلا ليأخذ من هذا العرض المادي القريب العاجل، لا يريد ما عند الله .

  1.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (9018)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف لانقطاعه" والحاكم في المستدرك، برقم (1379)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1410).
ما العلاقة بين المكذب بالدين، والساهي عن الصلاة؟

وهنا يرد سؤال، وهو أن الله - تبارك، وتعالى - لما ذكر أوصاف هذا أعني المكذب بالدين قال بعده: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 4] فما العلاقة بين تلك الأوصاف للمكذب بالدين؟.

ما العلاقة بين حال المكذب بالدين الذي يدُع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين مع السهو عن الصلاة، حيث توعد الله - تبارك، وتعالى - الساهين عنها بالويل فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 4]؟

هل هناك ترابط بين التلهي عن الصلاة، والغفلة عنها، وبين حال المكذبين بالدين؟

يمكن أن يجاب عن ذلك بأجوبة أذكر منها أربعة:

ولعلنا نتفطن لهذه المعاني؛ ليكون ذلك باعثاً لنا على التأمل في كتاب الله، والنظر في معانيه، فلربما نسمع هذه السورة كثيراً، ولم يخطر ببالنا هذا السؤال، أو لربما خطر ببالنا، ولكن لم نفكر بالجواب، ولربما فكرنا في الجواب قليلاً لكن لم نعطه حظه من النظر، فلم نخرج بشيء، فيمكن أن يقال: إن إيذاء اليتيم، والمنع من الإطعام دليل على النفاق، وإذا كان ذلك كذلك فإن الصلاة من غير خضوع، ولا خشوع، ولا مراعاة لأوقاتها، وحرمتها أولى بأن تكون دالة على النفاق، إذا كان دفع اليتيم عن حقه، وعدم الحض، والحث على طعام المسكين يدل على النفاق، فهناك ما هو أوضح في الدلالة على النفاق، وهو تضييع هذه الصلوات، هذا جواب.

ويمكن أن يقال: كأنه حينما ذكر ما سبق من أوصاف المكذب بالدين سأل سائل: أليست الصلاة تنهى عن الفحشاء، والمنكر؟! فلماذا لم تكن صلاته تنهاه عن هذه القبائح من دفع اليتيم عن حقه المشروع، وعدم الالتفات إلى المساكين الذين هم بحاجة إلى من يسد جوعتهم؟ أليست الصلاة تنهى عن الفحشاء، والمنكر؟ كيف لم تنهَ هؤلاء غلاظَ الأكباد صلاتُهم عن ارتكاب هذه القبائح؟.

فأجيب عن ذلك: بأنها صلاة مصنوعة من عين الرياء، والسهو، فهي صلاة مُضيَّعة، صلاة لا تؤثر، صلاة لربما أداها صاحبها على أي وجه، ولكنه ما أقامها، والله - تبارك، وتعالى - في القرآن حينما يأمرنا بالصلاة، يأمرنا بإقامتها أَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة: 43] في جميع المواضع، ما قال: أدوا الصلاة، ولكنه يقول: وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43] فالصلاة لابد لها من إقامة، وهي التي قال الله - تبارك، وتعالى - فيها حيث تكون مؤثرة:

وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] فـ"إنّ" هنا تفيد التعليل، "أقم الصلاة" كأنه يقول: لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء، والمنكر، والفحشاء كل الذنوب العظام، ما فُحش من الذنوب، والكبائر فهو فحشاء، ويدخل في ذلك الزنا، وما في معناه. إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت: 45] فهذا حكم للصلاة، حكم لها بأنها تنهى عن الفحشاء، والمنكر، لكن هذا الحكم رتبه الله تعالى على وصف قبله، وهو الإقامة وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ [العنكبوت: 45] فإذا أقمتها نهتك عن الفحشاء، والمنكر، وإقامتها تكون بتحقيق شروطها، وواجباتها، ومستحباتها مع مراعاة وقتها، فكلما كان العبد مراعياً لهذه الأمور محققاً لها كلما كان تأثير الصلاة في حقه أبلغ، فكانت ناهية له عن الفحشاء، والمنكر.

أما الذي يؤديها بقلب لاهٍ، ساهٍ، لا يبالي كيف صلى، ولربما أخرها عن وقتها، أو صلاها في آخر الوقت، فهذا كيف تنهاه صلاته عن الفحشاء، والمنكر؟ ولذلك تجد الرجل لربما يخرج من المسجد، ويصدر منه ما لا يليق في بيعه، في شرائه، في تعاملاته، فليس بعف اللسان، وليس بعف البطن، ولا بعف اليد، ولا بعف البصر، ولهذا قالوا: إن الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته، وينقص بنقصانه، على قدر إقامتنا لها على قدر ما تؤثر، إن زاد تحقيق الإقامة زاد نهيها عن الفحشاء، والمنكر، وهذا هو الجواب، لهذا السؤال الذي يتكرر كثيراً، نحن نرى الناس يصلون، ولكننا نرى الكثيرين لا تؤثر فيهم صلاتهم، ولا تغير من واقعهم شيئاً؟.

الجواب: أنهم ما أقاموها، وإنما أدوها، هذا هو الجواب الثاني.

أما الجواب الثالث: فيمكن أن يقال بأن ما ذُكر أولاً فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۝ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 2 - 3] إنما هو تقصير بما يجب من الإحسان إلى المخلوقين، وأما الثاني فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4 - 5] فهو تقصير يرجع إلى تعظيم المعبود تقصير في حقه لم يعظم الله التعظيم اللائق به، ولم يتأدب معه، ومن جمع بينهما - أي تضييع حق المخلوقين، وتضييع حق الخالق - استحكمت هلكته.

لماذا قرن الله - عز وجل - بين الصلاة، والزكاة؟

لأننا بالمقابل ماذا نجد؟ نجد أن الله - تبارك، وتعالى - في عامة المواضع إذا أمر بالصلاة قرن معها الزكاة، إذا ذكر الزكاة ذكر معها الصلاة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [البقرة: 3]وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43] يتكرر كثيراً في القرآن الاقتران بين الصلاة، والزكاة، والسبب في ذلك ما يقوله بعض أهل العلم من أن الصلاة هي رأس العبادات البدنية، والزكاة هي رأس العبادات المالية، والعبادات إما بدنية، وإما مالية، فذكر هذا، وهذا، وبعضهم يقول - وهو لا ينافي ما قبله - : إن سعادة العبد دائرة بين أمرين:

الأول: الإحسان إلى المخلوقين.

والثاني: الإحسان مع الخالق، والصلة به، حسن الصلة بالله فالإحسان إلى المخلوقين رأسه الزكاة وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضتُ عليه[1] فالزكاة أفضل من الصدقة، وفيما يتصل بالصلة بالله فإن رأس ذلك الصلاة، صلة بين العبد، وربه، وسعادة العبد دائرة بينهما، بين حسن الصلة بالله، والإحسان إلى المخلوقين، بينما في هذه الصورة التي بين أيدينا هنا صورة هذا الذي يدع اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين إذا كان هكذا يتعامل مع الضعفاء، مع المنكسرة قلوبهم، فكيف سيتعامل مع غيرهم؟ هل سيرحمهم؟.

هل سيضع نفسه في موضعهم، في مكانهم، فيتعامل معهم بما يحب أن يُتعامل معه؟ هل سيكون ذلك؟

أبداً، إذا كان لا يراعي حرمة لهؤلاء الذين لا يجدون ناصراً إلا الله - تبارك، وتعالى - فكيف سيصنع مع الآخرين؟

  1.  أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، برقم (6502).
من كان مضيعاً لعمود الإسلام فما الظن بما دونه؟

ثم إنه ذكر حاله مع ربه - تبارك، وتعالى - فهو مضيع لرأس العبادات البدنية، وهي الصلاة، الصلة بينه، وبين الله منخرمة، هشة، ضعيفة، فإذا كان مضيعاً لعمود الإسلام فما الظن بما دونه؟!.

إنه سيكون لما سواها أضيع، ولهذا كان العبد أول ما يحاسب عليه الصلاة، فإن قُبلت نُظر في سائر عمله، وإن رُدت رُد سائر عمله، فالأمر ليس بالشيء السهل.

والجواب الرابع: كأنه قيل: إذا كان ما ذُكر من عدم المبالاة باليتيم، والمسكين فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4 - 5] إذا كان ذلك الحال يدعو إلى التعجيب، والتعجب فكيف بالذي يضيع الصلة بينه، وبين الله ؟ لا شك أن حاله أعجب.

هذه أربعة أجوبة في وجه الارتباط بين هذه الآية فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 5] مع ما ذُكر من الأوصاف قبلها للمكذب بالدين، فتأمل القرآن، وستجد فيه من المعاني البديعة ما لا يقادر قدره، وعندئذ تشعر بحجم التفريط، وما يحصل للإنسان من الغبن، والخسارة فيما مضى من عمره، ولم يولِ القرآن العناية اللائقة. 

ما معنى كلمة ويلٌ؟

قول الله - تبارك، وتعالى - : فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 5] "ويل" من أهل العلم من يقول: إنه وادٍ في جنهم توعدهم الله - تبارك، وتعالى - به، وورد في هذا التفسير أحاديث مرفوعة لا تخلو من ضعف، لكنه جاء عن جماعة كثيرة من السلف - رضي الله تعالى عنهم، وأرضاهم - واختار هذا المعنى كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله - أن "ويل" هذا فَوَيْلٌ [الماعون: 5] وادٍ في جهنم ينتظر المصلين الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 5] لاحظ ما قال: فويل للذين لا يصلون، أولئك لهم شأن آخر مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ۝ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ [المدثر: 42 - 43] لاحظ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 44] هنا: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ ۝ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الماعون: 2 - 3] انظر صفات أهل النار قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ۝ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ [المدثر: 43 - 44] إن أهل الإيمان، وأهل الصلاة لا تتناقض أوصافهم، وأخلاقهم، وأعمالهم بل هي متكاملة، فهو مقيم للصلاة، يؤدي حق الله ويؤدي حقوق الأهل، والجيران، والقرابات، والمحتاجين.

ومن أهل العلم من يقول: إن "ويل" كلمة للوعيد، أو أنها بمعنى الهلاك، والعذاب للذين ذُكر وصفهم في هذه الآية، وهذا المعنى أوسع من الذي قبله، إذا قيل: كلمة عذاب، هلاك، فيدخل في هذا الهلاك تلك الصورة المذكورة: الوادي الذي في جهنم، كما يقول السلف : يسيل فيه صديد أهل النار - أعاذنا الله، وإياكم، ووالدينا، وإخواننا المسلمين منها - يسيل الصديد في هذا الوادي، فهذا الوادي لمن؟

للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، لاحظ ما قال: للذين لا يصلون، فهذه الآية يخاف منها المؤمن، ذكر الله لنا أوصاف الكافرين، وما ينتظرهم من العذاب، لكن في هذه الآية الوعيد للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، فبعض العلماء يقول: إنهم يصلون، هذه الآية في المصلين، يعني لا يترك الصلاة، يصلي الصلوات الخمس لا يتركها، ولكن منهم من يقول كابن عباس - رضي الله عنهما - : "هو المصلي الذي إن صلى لم يرجُ لها ثواباً، وإن تركها لم يخشَ عليها عقاباً"[1] يصلي، ولكن كأنها عادة، لا يستشعر نظر الله إليه، ولا وقوفه بين يديه، ولا ينتظر ثوابه، وعائدته عليه، إنما ينقرها، يصلي كأنها عادة، كأنه أُكره على ذلك إكراهاً.

وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنهم الذين يؤخرونها عن أوقاتها[2] لاحظ: لازلنا في هذه الدائرة يصلون، ما يتركون الصلاة، لكن يؤخرها عن الوقت، وهذا قال به جماعة كثيرة من السلف كإبراهيم النخعي، وأبي العالية، وابن أَبزى، ومسروق بن الأجدع، وأبي الضُّحى، وغير هؤلاء من السلف - رضي الله تعالى عنهم، وأرضاهم - يصلي لكنه يؤخرها "عن صلاتهم" عنها مشغول، مشغول بماذا؟  

مشغول بعمله، مشغول بزوجته، مشغول بأولاده، مشغول بغنمه، بإبله، مشغول بالنوم نائم عن الصلاة، إذا كانت صلاة الفجر فهو يسهر كل ليلة، عنده شقة مع أصحابه، أو عنده استراحة مع أصحابه، وكل يوم سهر إلى أوقات التنزل الإلهي، ثم يأتي، وهو لا يرى طريقه، فإذا جاء وقت صلاة الفجر، وأذن المؤذن حي على الصلاة، حي على الفلاح فإذا هو أشبه بالأموات منه بالأحياء، فلا يصليها إلا بعد طلوع الشمس، الصلاة بالنسبة إليه ليست شيئاً له كبير أهمية، لو كان عنده سفر رحلة في الطائرة لأقلقه ذلك، وصار يرقب الساعة بعين، وينام بعين أخرى، ولو كان عنده اختبار فنحن لا نرى الطلاب، لا نرى الأبناء الذين لا يصلون الفجر، لا نراهم ينامون عن الاختبارات، يستيقظون بكل حزم، وجد، ويذهبون إلى اختباراتهم، لا نرى هؤلاء لا يذهبون إلى مدارسهم إلا في الساعة التاسعة، أو العاشرة، لماذا يستيقظ للدارسة، وللعمل، وللاختبار، ولا يستيقظ للصلاة؟ وإذا سُئل قال: لا أستطيع، وكيف تستطيع أن تستيقظ للعمل؟ إذا كنت تنام الساعة الثانية من الليل، أو الواحدة، وتستيقظ للعمل مع أن هذا في غاية المشقة، وكيف حصل ذلك، ولم تستيقظ للصلاة؟ كيف يحصل هذا؟ هو هذا القلب إلى أين يتوجه، فإذا كانت الصلاة لا تعني بالنسبة إليه شيئاً كثيراً فإن ذلك لا يحركه، فلا ينهض لها، وهذا المعنى أنه يؤخرها عن وقتها يشهد له قوله - تبارك، وتعالى - : فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] لاحظ: "غيًّا" وادٍ في جهنم كما قال بعض السلف.

وبعضهم يفسره بنحو ما ذُكر من العذاب، لاحظ الترابط في المعاني القرآنية، أضاعوا الصلاة، كيف تكون إضاعتها؟ إذا صلاها خارج الوقت فقد ضيعها إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء: 103] ولهذا قال جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - "بأن الذي يؤخر الصلاة عن وقتها من غير عذر أنه لا يقضي"[3] لأن ذلك لا ينفعه، ولا يُجدي عنه شيئا؛ لأن الصلاة وُقِّت لها وقت، فإذا صلاها خارج الوقت لا تقبل منه، ولا تصح، وإذا قضاها لا ينفع هذا القضاء، فهذا الذي يصلي الساعة السادسة يصلي الفجر بعد طلوع الشمس، أو الساعة السابعة مثل هذا عند كثير من أهل العلم ليس مطالباً بهذا القضاء، إنما هو مطالب بالتوبة العظيمة، وكثرة النوافل، لعل ذلك يكون سبباً لمحو هذا الإثم العظيم عنه.

ومما يشهد لهذا المعنى أيضاً - تأخير الصلاة عن وقتها - ما جاء في قراءة غير متواترة عن ابن مسعود قال: "الذين هم عن صلاتهم لاهون"[4] كيف يلهو الإنسان عنها؟ ينشغل عنها حتى يخرج الوقت، بمعنى أنه ليس المراد على هذا القول السهو في داخل الصلاة بحديث النفس، والخواطر، وشرود الذهن، ولهذا جاء عن مصعب بن سعد بن أبي، وقاص - رضي الله عن الصحابة أجمعين - أنه قال لأبيه     - أعني سعد بن أبي وقاص - : "أرأيت قول الله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ [الماعون: 4 - 5] أهي تركها؟ قال: لا، ولكن تأخيرها عن وقتها"[5] وفي رواية: "أنه سُئل هل هو الذي يحدث نفسه؟ فقال: لا، وذكر نحوه"[6] الذي يتركها بالكلية لا يقال: فويل للمصلين؛ لأنه لا يصلي، وأما الذي يسهو في داخلها - في صلاته - فإن بعض السلف فهموا أنه غير مراد، كما جاء عن عطاء - رحمه الله - وهو من أئمة التفسير في عهد التابعين أنه قال: "الحمد لله الذي قال: عن صلاتهم، ولم يقل: في صلاتهم"[7] ولاحظ الدقة في التعبير، والدقة في الفهم، إذا قال: "الذين هم عن صلاتهم" فهو لاهٍ عنها، مشغول بغيرها، فضيعها حتى خرج وقتها، وإذا قال: الذين هم في صلاتهم، يعني في أثناء الصلاة، وهو يزاولها، يسهو فيها فذلك أشد؛ لأن الإنسان لا يستطيع الفكاك، والخلاص من مثل هذا.

إذن كل ذلك يرجع إلى معنى أنه يصلي، ولكنه يلهو عنها، يؤخرها عن وقتها، يتشاغل عن صلاته، وبعضهم يقول: إنها في الذين لا يصلون، ولا يقصد هؤلاء من السلف أنه لا يصلي بالكلية، فهذا لا يقال له: "فويل للمصلين" لأن هذا ليس من المصلين، إنما قصدوا بذلك معنى ينبغي التفطن له، وهو أنهم عن صلاتهم ساهون بمعنى أنه يترك بعض الصلوات كما يقول الناس اليوم: يصلي، ويخلي، إذا كان مع الناس في مناسبة من المناسبات ذهبوا إلى المسجد كان في المكتب، أردوا أن يصلوا الظهر قام، وصلى معهم، وجد نفسه نشيطًا صلى في المسجد، وجد نفسه غير نشيط صلى في بيته، ولربما تركها، ترك بعض الفروض بالكلية، لا يصليها، يضيعها تماماً، يقوم من نومه - نسأل الله العافية - ويخرج إلى عمله عفيف الجبهة كما يقال، ما سجد، ما صلى الفجر - نسأل الله العافية - وأنا أتعجب كيف يستطيع الإنسان أن يهنأ، ويعيش، ويوفق، ويزاول أعماله، ويحقق نجاحاً، وهو لم يصلِّ الفجر، ضيع صلاة الفجر؟ كيف يحصل هذا؟ كيف يمكن؟ هذا الأمر في غاية الغرابة، كيف يعيش هؤلاء الناس؟.

فالمقصود أن أصحاب هذا القول، وهو جماعة من السلف كابن عباس قال: "هم المنافقون كان يراؤون الناس بصلاتهم إذا حضروا، ويتركونها إذا غابوا، ويمنعونهم العارية"[8] بمعنى الماعون؛ لأن الماعون وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون: 7] يُطلَق على كل شيء لا تتضرر ببذله مثل: الكأس، القدر، الفأس، الكبريت، السكين، الملعقة، إعارة الفحل للضِّراب، ظل الجدار، كل هذه الأمور التي لا يتضرر بها الإنسان، فإذا شح فيها، ومنعها فذلك من منع الماعون وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون: 7] أشياء لا يتضرر بها، وهذا القول توجد في الآية قرينة تدل على قوته أيضاً، ما هي؟

قوله: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ [الماعون: 6] إذن هم يفعلون ذلك من أجل نظر الناس، يصلي مجاملة.

صلَّى وصامَ لأمرٍ كان يطلبُهُ  

لا يصلي لإرادة وجه الله فإذا غاب عن أعين الخلق فهي آخر ما يفكر به، ولهذا قال: الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ [الماعون: 6] فيتجمل أمام الآخرين إذا كان بحضرتهم طلع مع الأقارب في الاستراحة، في مكان، في برية، اشترك معهم في سفر، ما شاء الله فلان يصلي، لا تصل الأمور إلى أنهم يصلون، وهو جالس خلفهم، ما وصل إلى حد من الجراءة أنه يقف في مثل هذه المواقف المكشوفة، لا، لا بأس عنده من أدائها بنظر هؤلاء الناس إليه، وهذا المعنى أيضاً، وهو القول بأنهم يتركون بعض الصلوات، يتركون الصلاة، وليس المقصود الترك الكامل لكل الصلوات، هذا قال به من السلف مجاهد، وقال به أيضاً أبو جعفر بن جرير الطبري - رحمه الله - وليس ذلك بتناقض مع كلامه الأول كما سيتضح بعد قليل - إن شاء الله - فهؤلاء يُدخلون فيه القول الأول، يقول: هو عن صلاته ساهٍ لاهٍ، فقد يؤخر ذلك فيصلي خارج الوقت، أو في آخر الوقت، وقد لا يصليها أصلاً، فلا منافاة بين القولين، فهذا قول صحيح يجمع بين القولين في الآية، ولهذا قال قتادة - رحمه الله - : "لا يبالي صلى أم لم يُصلِّ"[9] وهكذا ما جاء عن ابن زيد - رحمه الله - : "يصلون، وليست الصلاة من شأنهم"[10] يعني: ليست موضوعًا له أهمية بالنسبة إليه، وتجد في تعبير بعضهم كمجاهد: "يتهاونون"[11] ما معنى يتهاون بالصلاة؟ تارة في الوقت، وتارة في أدائها، يترك بعض الصلوات، فبعض المحققين كابن جرير - رحمه الله - وابن كثير يجمعون بين هذا، وهذا، بين إضاعة الوقت، وإضاعة بعض الصلوات - الترك - وهذا قال به ابن عاشور أيضاً في التحرير، والتنوير[12] واختاره من المعاصرين الشيخ محمد الصالح العثيمين - رحمه الله تعالى -[13] جمع أيضاً بين القولين، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - فسرها بتفسير يجمع القولين، وزيادة، فهو يرى أن ذلك فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 4] هذا الوعيد، وهذا الاتصاف "الذين هم عن صلاتهم ساهون" يصدق على من تركها، كما أنه يصدق على من لم يفعلها في الوقت المقدر لها شرعاً، صلاها لكن خارج الوقت، كما أنه يصدق - هذا الذي قلتُ: وزيادة - على أولئك الذين يؤدونها، لكن قد يضيعون بعض أركانها، أو شروطها، أو واجباتها، فلا يؤدونها على الوجه المأمور به[14] قد يصلي بدون وضوء، وقد يصلي بوضوء ناقص، وإذا صلى رأيت العجب في تلك الصلاة، نقر، يعني لربما تلتفت، وإذا به قد سلم، أنت صليت؟! كيف صليت أربع ركعات؟! وإذا نظرت إلى هذه الصلاة إما الجبهة مرفوعة لأجل المرزام ما يتأثر، وإما الأنف مرفوع؛ لشدة العجلة، أو لا يكاد يلامس الأرض بوجهه، وإذا نظرت إلى القدمين لربما كانت مرفوعة، والسجود ينبغي أن يكون على سبعة أعضاء، فبعض الناس تنظر إلى حاله تقول: صلى، أو لم يصلِّ، ما هذه الصلاة؟.

أهكذا تصلي سائر أيامك؟.

هذه مشكلة يقع فيها كثير من الناس، وهكذا ذكر أيضاً - أعني ابن كثير - رحمه الله - أولئك الذين يضيعون خشوعها، والتدبر لمعانيها، فابن كثير يرى أن اللفظ يشمل ذلك جميعاً، وهذا هو الأقرب، والأرجح - والله تعالى أعلم - فلكل من اتصف بشيء من ذلك قسط من هذه الآية، ومن اتصف بجميع ذلك فقد تم له نصيبه منها كما يقول ابن كثير، وكمُل له النفاق العملي[15] كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق ما هي صلاة المنافق - نسأل الله العافية؟ قال: يرقب قرص الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان - يعني: تتهيأ للمغيب - قام فنقر أربعاً، يعني: العصر، لا يذكر الله فيها إلا قليلا[16] هذا الحديث مخرج في الصحيحين.

هذا الذي يصلي بهذه الطريقة يأتي من العمل، وينام، وقد بقي على أذان العصر لربما نصف ساعة، وينام إلى المغرب، قد يصلي قبيل المغرب، وقد لا يصليها إلا بعد المغرب، الفجر مُضيَّعة، والعصر مُضيَّعة، وباقي الصلوات ربما لا يأتي إلا في أطراف الصفوف، وإذا أدرك ركعة واحدة اعتبر أن هذا من أعظم المكاسب أنه أدرك الجماعة، تُدرَك الجماعة بالركعة، أما الفجر فلو حصل في يوم من الأيام أنه صلاها في الوقت بعد انصراف الناس من الصلاة هو يعتبر أنه ما شاء الله يتحدث في المجالس أنه استيقظ ذلك اليوم بالتاريخ، فصلاها في الوقت، وقد سمعت أحد الصبيان يقول لأبيه في مناسبة من المناسبات قام أبوه مع آخرين حينما كان معهم يصلي الفجر فقام فأوقظ الولد، وما اعتاد الولد أن يوقظه أحد، فرأيته يسأل أباه ببراءة يقول: هذه أيش الصلاة؟ أول مرة يُوقَظ في هذا الوقت يقال له: صلِّ، يقول: أيش الصلاة هذه؟ ما تعرّف عليها، فهذه مشكلة يقع فيها كثير من المسلمين، والمسألة ليست سهلة فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 4]. 

  1.  انظر: تفسير القرطبي (20/ 211).
  2.  المصدر السابق.
  3.  انظر: مجموع الفتاوى (19/ 226).
  4.  انظر: تفسير القرطبي (20/ 211).
  5. تفسير الطبري (24/ 660).
  6.  المصدر السابق.
  7. انظر: تفسير ابن كثير (8/493)، وتفسير القرطبي (20/212).
  8.  تفسير الطبري (24/ 661).
  9. تفسير الطبري (24/662).
  10. المصدر السابق (24/ 663).
  11.  انظر: تفسير الطبري (24/ 662)، وتفسير البغوي (8/ 552).
  12.  انظر: التحرير، والتنوير (30/ 568).
  13.  انظر: تفسير جزء عم، ابن عثيمين (ص: 327).
  14.  انظر: تفسير ابن كثير (8/ 493).
  15.  المصدر السابق.
  16.  أخرجه مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب استحباب التبكير بالعصر، برقم (622).
هل صلاة الجماعة واجبة؟

وقد جاء في حديث ابن مسعود قال: "من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات.." أين؟ "حيث يُنادَى بهن"[1] فأين يُنادَى بهن؟ في غرفة النوم؟! أين يُنادى بهن؟.واليوم يظهر جاهل على قناة فضائية، ويقول: صلاة الجماعة في رأيي غير واجبة، الذي ترجح لي أنها غير واجبة، ترجح لك! ترجح عندي أنها غير واجبة! وهل لك عند؟!.

وهل عندك رأي في هذا؟

وهل لك اعتبار في مثل هذه القضايا؟!.

فيُفتن كثير من الجهال حينما يغترون بصورته، أو لحية يظنون أن تحتها علماً، صلاة الجماعة غير واجبة، وحتى لو ترجح لك هذا، وهل الناس بحاجة إلى مثل هذا الكلام في هذا الوقت الذي تُضيَّع فيه الصلوات؟ هل يقول هذا إنسان صدق مع نفسه، وصدق في نصح المجتمع؟ حينما نجد من الناس الآن إقبالا شديدًا على الصلاة، والإنسان يخرج، وهو في حال من الإعياء، والمرض، ولا يفرط فيها فيأتي إنسان، ويقول: ترجح عندي أنها غير واجبة - أعني صلاة الجماعة - أو أن الواقع هو غلبة التفريط، فانظروا إلى كلام ابن مسعود وهو في صحيح مسلم، يقول: "حيث يُنادَى بهن، وإنما يُنادَى بهن في المسجد" قال: "فإن الله تعالى شرع لنبييكم سنن الهدى، وإنهن لمن سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته، لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، وما من رجل يتطهر فيُحسن الطهور، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة، ويرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، وقد رأيتُنا، وما يتخلف عنها إلا منافق".

ربما هذا المنافق لو سُئل قال: أنا عندي غير واجبة، ترجح لدي أنها غير واجبة، اسمع ابن مسعود، وهو من علماء الصحابة: "ولقد رأيتُنا ما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق"[2] تخلف عنها أين؟

في المسجد "ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى به بين الرجلين - مريض - حتى يقام في الصف" وفي رواية: "أن رسول الله ﷺ علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذَّن فيه"[3].

هذه من سنن الهدى، فلا حاجة إلى أن يأتي أحد، ويتفلسف، ويشاهده الملايين، فيجني على نفسه، ويجني على هؤلاء، وتأمل ما قاله أُبي بن كعب حينما ذكر: "أن النبي ﷺ صلى بهم يوماً الصبح فقال: أشاهدٌ فلان؟ قالوا: لا أشاهدٌ فلان؟ قالوا: لا - فماذا قال النبي ﷺ؟ - قال: إن هاتين الصلاتين أثقل الصلوات على المنافقين[4] هل صلاة الفجر ثقيلة علينا؟ هل هي أثقل الصلوات علينا؟ قال: ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما، ولو حبواً على الركب، وإن الصف الأول على مثل صف الملائكة، ولو علمتم ما في فضيلته لابتدرتموه، وإن صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وكلما كثُر فهو أحب إلى الله.

يتصور الإنسان نفسه لو كان في حضرة النبي ﷺ وتخلف، أو كان من هؤلاء الذين يتخلفون، وقال النبي ﷺ أشاهد فلان؟ فقالوا: لا، فقال النبي ﷺ هذه الكلمة "أثقل الصلوات" معناها أن هؤلاء الذين يتخلفون كانوا من المنافقين، فعقب النبي ﷺ بهذا التعقيب، وبعد ذلك كيف تسع الإنسان الأرض؟ أين يذهب، وتأمل في هذا الحديث العظيم الذي يرويه ابن مسعود عن النبي ﷺ قال: تحترقون تحترقون فإذا صليتم الصبح غسلتْها ما الذي يحرقنا؟ الذنوب ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم الظهر غسلتْها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم المغرب غسلتها، ثم تحترقون تحترقون فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يكتب عليكم حتى تستيقظون[5] فالذي لا يصلي يحترق إلى متى؟ ما الذي يغسله؟

  1. أخرجه مسلم، كتاب المساجد، ومواضع الصلاة، باب صلاة الجماعة من سنن الهدى، برقم (654)
  2. المصدر السابق.
  3. المصدر السابق.
  4.  أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في فضل صلاة الجماعة، برقم (554)، والبيهقي في السنن الكبرى، برقم (4964)، وهو في صحيح أبي داود، برقم (563).
  5.  أخرجه الطبراني في المعجم الصغير، برقم (121)، والأوسط، برقم (2224).
إن لله ملَكاً ينادي عند كل صلاة

المسألة ليست سهلة، وكذلك ما جاء في حديث أنس أن النبي ﷺ قال: إن لله ملَكاً ينادي عند كل صلاة: يا بني آدم قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها فأطفئوها[1] هذا بمعنى الذي قبله، وقد قال عنه الشيخ الألباني: حسن لغيره.

وهكذا أيضاً جاء عن النبي ﷺ من حديث ابن مسعود : يُبعث منادٍ عند حضرة كل صلاة فيقول: يا بني آدام قوموا فأطفئوا عنكم ما أوقدتم على أنفسكم، فيقومون فتسقط خطاياهم من أعينهم، ويصلون فيُغفر لهم ما بينهما - ما بين الصلاة، والصلاة - ثم تُوقِدون فيما بين ذلك فإذا كان عند الصلاة الأولى نادى: يا بني آدم والصلاة الأولى ما هي؟ صلاة الظهر نادى يا بني آدم قوموا فأطفئوا ما أوقدتم على أنفسكم، فيقومون، فيتطهرون، ويصلون الظهر، فيُغفر لهم ما بينهما، فإذا حضرت العصر، فمثل ذلك، فإذا حضرت المغرب، فمثل ذلك، فإذا حضرت العتمة، فمثل ذلك، فينامون وقد غُفر لهم فمُدلج في خير، ومُدلج في شر[2] وهذا حسنه الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله -.

وهكذا ما جاء في حديث سلمان مرفوعاً إلى النبي ﷺ : إن المسلم يصلي، وخطاياه مرفوعة على رأسه كلما سجد تحاتت عنه، فيفرغ من صلاته، وقد تحاتت عنه خطاياه[3].

وجاء عن أبي عثمان - رحمه الله - أنه قال: كنت مع سلمان تحت شجرة فأخذ غصناً منها يابساً، فهزه حتى تحاتّ ورقه، ثم قال: يا أبا عثمان ألا تسألني لمَ أفعل هذا؟ قلت: ولمَ تفعله؟ قال: هكذا فعل بي رسول الله ﷺ وأنا معه تحت الشجرة، فأخذ منها غصناً يابساً، فهزه حتى تحات ورقه، فقال: يا سلمان ألا تسألني لمَ أفعل هذا؟ قلت: ولمَ تفعله؟ قال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس، تحاتت خطاياه كما تحات هذا الورق، وقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود: 114][4] وهذا حسنه الشيخ شعيب الأرنؤوط، حسنه لغيره، وكذلك حسنه الشيخ ناصر الدين الألباني لغيره في صحيح الترغيب، والترهيب، وضعفه في بعض كتبه الأخرى.

فالمقصود أن الإنسان يتذكر هذا دائماً فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: 4] الوعيد ليس للذين لا يصلون بالكلية، إنما لأولئك الذين يفرطون، ويضيعون، فينبغي للإنسان أن يحفظ هذه الصلاة في وقتها بأركانها، وبشروطها، يحاول أن يخشع فيها، لا ينشغل عنها بشيء.

هذا وأسأل الله - تبارك، وتعالى - أن يحفظ علينا صلاتنا، وأن يلهمنا رُشدنا، وأن يقينا شر أنفسنا، اللهم ارحم موتانا، واشفِ مرضانا، وعافِ مبتلانا، واجعل آخرتنا خيراً من دنيانا.

ربنا اغفر لنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا، وأسأل الله أن يتقبل منا، ومنكم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه.

  1.  أخرجه الطبراني في المعجم الصغير، برقم (1135)، وأبو نعيم في الحلية (3/42)، وضعفه الألباني في صحيح الجامع، برقم (1958).
  2. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (10252)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (2520).
  3.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، برقم (6125)، والبيهقي في شعب الإيمان، برقم (2875)، وذكره الألباني في السلسلة الصحيحة، برقم (3402).
  4.  أخرجه أحمد في المسند، برقم (23707)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد، وهو ابن جدعان" والطبراني في المعجم الكبير، برقم (6151)، والمروزي في تعظيم قدر الصلاة، برقم (83)، والدارمي في سننه، برقم (746).

مواد ذات صلة