الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
المنهجية في طلب العلم (1)
تاريخ النشر: ٢١ / جمادى الآخرة / ١٤٢٩
التحميل: 44934
مرات الإستماع: 25505

لماذا نتعلم؟

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۝ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۝ إِيَّاكَ نَعْبُدُ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ۝ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۝ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وَلَا الضَّالِّينَ الفاتحة: [1 - 7] آمين، وصلى الله، وسلم على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، أما بعد:

فحديثنا عن وصف الطريق إلى العلم الشرعي الذي به يُعرف المعبود وبه تعرف الطريق الموصلة إليه، وبه تعرف الدار التي يصير إليها الإنسان.

وهذا الحديث سينتظم عشر قضايا:

الأولى: لماذا نتعلم؟

والثانية: في شروط التحصيل.

والثالثة: في الطريقة الصحيحة في التعلم، والتعليم.

والرابعة: بين التخصص، والموسوعية.

والخامسة: بين التعليم المباشر، والتعليم بالوسائط.

والسادسة: كيف تختار المعلم.

والسابعة: كيف نثبت العلم.

والثامنة: أيها المعلم لا تبتئس.

والتاسعة: أيها المتعلم لا تيأس.

والعاشرة: في ذكر طريقة مقترحة في سلم التعلم.

وقد حاولت أن أختصر ما اجتمع إليّ من مادة كنت أجمعها، وأكتبها منذ سنين طويلة، قد تصل إلى ثلاثة عقود، فحاولت أن أختصرها مراراً، من أجل أن أتمكن من عرضها في هذا المجلس.

أمّا أولاً: فلماذا نتعلم؟

ما هو المقصود من العلم؟

فالإنسان حينما يقدم على عمل من الأعمال لابد له من هدف محدد؛ لأنه لا يمكن أن يتعاطى الأشياء عبثًا من غير أمر يسعى لتحصيله.

فأقول: نحن نتعلم العلم؛ لأن الله يحبه، ويرضاه، فهو عبادة جليلة من أجلِّ العبادات، يرفع الله أصحابها في أعلى الدرجات، ويثيبهم الثواب الذي وصّفه النبي ﷺ

نحن نتعلم العلم؛ لأن الله  يحبه، ويرضاه، فهو عبادة جليلة من أجلِّ العبادات، يرفع الله أصحابها في أعلى الدرجات، ويثيبهم الثواب الذي وصّفه النبي ﷺ

ولا أرى حاجة للتطويل في ذكر الأحاديث الواردة في هذا الباب؛ لأنها معروفة، لكن ينبغي أن يكون لنا فيه نية، ولهذا كان بعض العلماء يقول: "من أراد أن يأكل الخبز بالعلم فلتبكِ عليه البواكي"[1].

فالعلم لا يطلب من أجل الوظائف، ولا من أجل تحصيل الأموال، والدراهم، وإنما هو أشرف، وأجلّ من ذلك كله، فيراعي الإنسان قصده، ونيته، وإرادته، فيريد وجه الله - تبارك، وتعالى - دون التفات إلى ما سواه، لا يطلب العلم من أجل الرياء، والسمعة، ولا من أجل عرض من الدنيا، يقول أبو الحسن القطان - رحمه الله - : "أصبت ببصري، وأظن أني عوقبت بكثرة كلامي أيام الرحلة" الذهبي - رحمه الله - يعلق على هذا: "صدق والله، فقد كانوا مع حسن القصد، وصحة النية غالبًا يخافون من الكلام، وإظهار المعرفة"[2].

يقول علي بن بكار البصري: "لأَنْ ألقى الشيطان أحبُّ إليّ من أن ألقى حذيفة المرعشي، أخاف أن أتصنع له فأسقط من عين الله - تعالى"[3].

كانوا يراقبون النيات، ويخافون، ولا يتزيدون.

ثم إن الإنسان أيضًا يطلب العلم من أجل أن يعمل به، فلا يصح بحال من الأحوال أن تستوي حال طالب العلم مع حال الجاهل الذي لم يعرف معرفته، ولم يدرس دراسته، النبي ﷺ حينما قال: من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين [4] فهذا العلم، أو هذا الفقه، أو هذا الخير الذي عناه النبي ﷺ هو الفقه المستلزم للعمل؛ كما يقول الحافظ ابن القيم[5] - رحمه الله -.

وأمّا إن أريد به مجرد العلم وحده فلا يدل على أن من فُقّه في الدين فقد أريد به خيرًا، مجرد معرفةٍ، وثقافة، واطلاع لا يعقبه العمل، فلا ينكف الإنسان عما حرم الله ولا تنهض عزيمته، وهمته من أجل العمل لمرضاة الله - تبارك، وتعالى - فما فائدة العلم؟ فهو وسيلة من الوسائل ليس مقصوداً لنفسه، وإنما هو، وسيلة يتوصل بها إلى العمل، فالشاطبي - رحمه الله - يقرر: "أن كل ما ورد في فضل العلم فإنما هو ثابت للعلم من جهة ما هو مكلف بالعمل به"[6] فهو ليس بمجرد صورته هو النافع، بل معناه، وإنما ينال معناه من تعلمه للعمل، فكلما دله على فضل اجتهد في نيله؛ كما يقول ابن الجوزي: "وكلما نهاه عن نقص بالغ في مباعدته، فحينئذ يكشف له العلم سره"[7] وإنما "المسكين كل المسكين من ضاع عمره في علم لم يعمل به، ففاتته لذات الدنيا، وخيرات الآخرة، فقدم مفلساً مع قوة الحجة عليه"[8] ينحبس فلا يخرج، ولا يتنزه، ولا يجتمع بالناس، ويبدأ من أول نهاره، ثم بعد ذلك يكابد الليل في التحصيل، والطلب، ولكن ليس له فيه نية، ولا يعقب ذلك العمل، فهذا شقاء في الدنيا يعقبه شقاء في الآخرة - نسأل الله العافية -.

وقد ذكر ابن القيم - رحمه الله - من علامات الشقاوة في أمثال هؤلاء - أعاذنا الله - وإياكم جميعًا من هذه الأحوال -: أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره، وتيهه، وكلما زيد في علمه زيد في فخره، واحتقاره للناس، وحسن ظنه بنفسه[9] هو عارف كل شيء لا يحتاج أن ينصحه أحد، ولا أن يوجهه أحد، ولا أن يذكر له أحد ملاحظة، أو تصحيحًا، أو تقويماً، أو أن يستدرك عليه خطأ وقع فيه، فيغضب أشد الغضب، فهذا الإنسان الذي قد انتفش، وتعاظم بسبب هذا العلم إنما كان هذا العلم ضررًا له، كما أن بعض ما ينبته الربيع يقتل حَبطًا، أو يُلمّ، كما قال المعصوم - عليه الصلاة، والسلام -[10].

فهذا ليس بالأمر الهين، والإنسان لربما يستمرئ ذلك، ويتساهل، ويتهاون، ويفرط، كما نسمع، ونشاهد، فإذا أصر على ترك ما أمر به من السنة، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات، هو في البداية يفرط في السنن يقول: هذه سنة، ويتفلسف، قبل ذلك كان يتحرى، فلما تعلم عرف أنها سنة، وأن هذا لا يجب، فبدأ يتساهل، فقد يعاقب بسلب فعل الواجبات حتى يصير فاسقًا، أو داعيًا إلى بدعة، وقد يفعل ما نهاه الله عنه، يقول: "وإن أصر على الكبائر فقد يُخاف عليه أن يسلب الإيمان، فالسنة كسفينة نوح ﷺ من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق"[11].

وكان السلف يقولون: "احذروا من فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون"[12].

فشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - يقرر هذا المعنى، وأن طالب العلم إن لم يقترن بطلبه فعل ما يجب عليه - وترك ما يحرم عليه - من الاعتصام بالكتاب، والسنة فقد يقع في الضلال، يقول: "لو اعتصم رجلٌ بالعلم الشرعي من غير عمل بالواجب كان غاويًا، وإذا اعتصم بالعبادة الشرعية من غير علم بالواجب كان ضالا"[13] وقد تخرّج من هؤلاء الكثير في أوقات فُشوّ القلم، ولما وقعت الفتنة، وأبرز دعاة الفتنة، والنفاق قرونهم في هذه السُّنيّات وُجد من يملي عليهم من هؤلاء الزائغين، ويلقنهم بعض القضايا، والمسائل التي لا يعرفونها، ولم يسمعوا عنها؛ ليتوصلوا بذلك إلى الطعن بالدين، وتضييع شرائع الإسلام، وإبطال محكماته بنقولات نادرة، أو بتتبع بعض المشتبهات من الأحاديث، أو الآيات، فتلقنها، وتلقاها أولئك عنهم، وصاروا يكتبون في الصحف، وينشرون ذلك في وسائل إعلامية، ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله عن حقائقه التي أرادها الله - تبارك، وتعالى - وقد كان يقال: ما أحسن الإيمان، ويزينه العلم، وما أحسن العلم، ويزينه العمل، وما أحسن العلم، ويزينه الرفق، وما أضيف شيء إلى شيء مثل حلم إلى علم، وفي هذا يقول ابن مسعود : "ما استغنى أحد بالله إلا احتاج إليه الناس، وما عمل أحد بما علّمه الله إلا احتاج الناس إلى ما عنده"[14].

ويقول سفيان بن عيينة: "من عمل بما يَعْلم، كُفي ما لم يَعْلم"[15].

وابن مسعود يقول: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن، والعمل بهن"[16].

وكما يقول الحسن: "كان الرجل يطلب العلم فلا يلبث أن يُرى ذلك في تخشعه، وهديه، ولسانه، ويده"[17].

وجاء عن علي وسفيان الثوري: "العلم يهتف بالعمل فإن أجابه، وإلا ارتحل"[18].

ولما سئل الثوري - رحمه الله - : "طلب العلم أحب إليك، أو العمل؟ قال: "إنما يراد العلم للعمل، لا تدع طلب العلم للعمل، ولا تدع العمل لطلب العلم"[19].

وذكر الزهري من غوائل العلم: "أن يترك العمل به حتى يذهب"[20]

ومن غوائله: النسيان.

ومن غوائله: الكذب فيه.

وكانوا يستعينون - كما يقول الشعبي - رحم الله الجميع - على حفظ الحديث بالعمل به، وكانوا يستعينون على طلبه بالصوم[21] من أجل أن لا يشتغلوا بإعداد الطعام، وأكله، والتشاغل به.

ويوصي أبو قلابة تلميذه أيوب السختياني - رحم الله الجميع - : "إذا أحدث الله لك علماً فأحدث له عبادة، ولا يكن همك أن تحدِّث به"[22].

وفي هذا يقول عمرو بن قيس الملائي: "إذا بلغك شيء من الخير فاعمل به، ولو مرة تكن من أهله"[23].

وكما جاء في خبر ذلك الرجل الذي بات عند الإمام أحمد - رحمه الله - ليلة، وهو ممن يطلب الحديث، فجاء الإمام أحمد - رحمه الله - ووضع الماء عنده، فلما أصبح نظر الإمام أحمد - رحمه الله - إلى الماء، فإذا هو كما كان، يعني أنه لم يقم من الليل فيتوضأ، ويصلي، فقال: سبحان الله! رجل يطلب العلم لا يكون له ورد من الليل"[24] لأن الإمام أحمد - رحمه الله - كان يعمل بما علم حتى في الأمور الدقيقة، وكان يقول: "ما كتبت حديثا عن النبي ﷺ إلا وقد عملت به حتى مر بي الحديث أن النبي ﷺ احتجم، وأعطى الحجام ديناراً، فاحتجمت، وأعطيت الحجام دينارا"[25].

وكانوا يوصون بالعمل، ويرون أنه من أسباب حفظ العلم - كما سيأتي - ولهذا يقول وكيع الجراح - رحمه الله - : "إذا أردت أن تحفظ الحديث فاعمل به"[26].

ويروى عن عليٍّ وعن الثوري: "العلماء إذا علموا عملوا، فإذا عملوا شُغلوا، فإذا شغلوا فقدوا، فإذا فقدوا طلبوا، فإذا طلبوا هربوا"[27] يعني أنهم لا يتفرغون، ينشغلون، أوقاتهم مشغولة معمورة، لا يكون طالب العلم بطّالا فارغًا لا يدري أين يذهب، وكيف يقضي هذا المساء.

وكان بشر بن الحارث - رحمه الله - يقول: "أدوا زكاة الحديث فاستعملوا من كل مائتي حديث خمسة أحاديث"[28] يعني اثنين، ونصف في المائة، فينبغي على طالب العلم، طالب الحديث، طالب السنة، كما يقول الخطيب البغدادي - رحمه الله - : "أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام، واستعمال آثار الرسول ﷺ ما أمكنه، وتوظيف السنة على نفسه، فإن الله - تعالى - يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الأحزاب: 21.

فمن أعظم الغبن: أن يكون عند الإنسان معرفة، واطلاع، وبصر فيما يحبه الله ويرضاه، ثم بعد ذلك يستوي مع من لا علم له، ولا بصر، فهذا غبن عظيم، فينبغي أن نتذكر هذا المعنى دائماً، وأن يظهر أثر العلم على سمتنا، وهدينا، ودَلّنا، وأخلاقنا، وأعمالنا، وتعاملنا مع الناس، يتميز طالب العلم، فمن رآه عرف بأنه طالب علم، أن هذا إنسان غير عادي، بمجرد ما يراه بين الناس أن هذا إنسان يختلف عن الآخرين، وكل من اشتغل بصنعة، أو بنوع من العلم فإنه تظهر على وجهه، وهديه، وسمته آثار صنعته، ولابد، أدركه من أدركه، وغاب عمن جهله، الناس يتفاوتون في هذا الإدراك كما يتفاوتون في ظهور ذلك عليهم أيضًا، لكنه يُعرف، فقد تقوى آثاره على الإنسان فيعرفه كل من رآه، وقد تضعف هذه الآثار فيعرفه أهل الفراسة، ولهذا كان بعض أهل العلم من أهل الفراسة يقول لمن دخل عليه: أنت تشتغل بكذا، وأنت تشتغل بكذا. 

وأخبارهم في هذا كثيرة، ولعله يكون لنا مجلس مستقل - بإذن الله في الكلام على هذا الموضوع -. 

  1.  ربيع الأبرار (4/37).
  2.  سير أعلام النبلاء (12/60 - 61).
  3.  المصدر السابق (8/234).
  4.  أخرجه البخاري، كتاب فضل العلم، باب من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، برقم (71)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة، برقم (1037).
  5.  مفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (1/ 60).
  6.  الموافقات (1/ 83).
  7.  صيد الخاطر، (ص:172).
  8.  المصدر السابق (ص:159).
  9.  انظر: الفوائد، ص: (155).
  10.  انظر الحديث في صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا، والتنافس فيها، رقم: (6427)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا، رقم: (1052).
  11.  ينظر: ذم الكلام، وأهله، ص: (5/81).
  12.  الحوادث، والبدع، ص: (81).
  13.  مجموع الفتاوى (22/307).
  14.  انظر: مجموع الفتاوى (22/307 - 308).
  15.  سير أعلام النبلاء (7/422).
  16.  جامع البيان في تأويل القرآن (1/80).
  17.  الآداب الشرعية (2/45).
  18.  جامع بيان العلم، وفضله، ص: (1/706).
  19.  حلية الأولياء (4/12).
  20.  جامع بيان العلم، وفضله (1/ 442)، برقم (684).
  21.  المصدر السابق (1/708).
  22.  المصدر السابق (1/653).
  23.  الجامع لأخلاق الراوي، وآداب السامع (1/144).
  24.  المصدر السابق (1/143).
  25.  سير أعلام النبلاء (11/296)، والجامع للخطيب (1/144).
  26.  مقدمة ابن الصلاح، (ص:247).
  27.  المجالسة، وجواهر العلم (2/231)، وجامع بيان العلم، وفضله (1/700).
  28.  حلية الأولياء (8/336).
الكلام على شروط التحصيل

نحن نقول أولاً: ينبغي أن نحدد الهدف، حدد الهدف ماذا تريد؟ هل تريد أن تتخصص في العلوم الشرعية، فيكون لك سلم، وطريقة في التعلم تسير عليه، ولابد، ولا تتعداه، ولا تتخطاه، فتنتقل من طور إلى طور، من مرحلة إلى مرحلة حتى تصل؟ أو تريد أن تعرف جملا من العلم، وتقف عند الحد الواجب، أن تعرف ما فرضه الله عليك في قضايا التوحيد، والاعتقاد، وفي قضايا العمل؟ أو أن الإنسان يريد أن يطلع، ويتعرف على جمل من العلم تزيد على ذلك، لكنه يقصر عن درجة طلاب العلم من أهل الاختصاص فيه؟ فهذه لها كتب، ومؤلفات وضعت لهذا الغرض في شتى العلوم، فمن غير الصحيح - كما سيأتي إن شاء الله - أن نشغل الناس دائمًا نقول لهم جميعًا: ابدءوا بكتاب الآجرومية مثلاً في النحو، ثم قطر الندى، أو ملحة الإعراب، ثم شذور الذهب، ثم الألفية، ماذا يريد هذا الإنسان؟ وقد يُستغنى عن بعض العلوم بالنسبة إليه، قد نقول له: لا شأن لك في قواعد الفقه، ولا في أصول الفقه أصلاً، فإن أبى أعطيناه كتابًا يصلح لمثله، أمّا أن نرسم طريقًا واحدًا، ونطالب الجميع بسلوكه، ونفس الكتب، هذا غير صحيح، فلابد من تحديد الهدف، فإذا أراد الإنسان أن يتميز في العلم، وأن يكون نابغاً فيه فهذا لابد له من شروط، وهناك قُدَر قد لا يكون للإنسان يد فيها، إنما هي مواهب من الله - تبارك، وتعالى _ وهناك أشياء يمكن للإنسان أن يطورها، وهناك أيضًا ما إذا تفطن إليه الإنسان اللبيب فإنه قد يحصِّل ما لا يحصله من أعطاهم الله من القدرات ما لم يعطه، فالعلم إذا أراد الإنسان أن يكون نابغاً فيه فهذا لابد أن يكون له المحل القابل، والمحل القابل أن يكون عند هذا عقل، وفطنة، وذكاء، هذه الأمور مواهب من الله - تبارك، وتعالى - والناس يتفاوتون فيها إلا أن العقل يمكن أن يطور، وأن ينمي ببعض الممارسات، وهذا أمر معلوم؛ لأن العقل منه ما هو فطري، ومنه ما هو مكتسب، فإن الذي يمارس العلم يرتقي عقله، وينمو، بخلاف من بقي على حاله، وقل مثل ذلك في الأمور الحياتية، فالإنسان الذي يسمع تجارب الآخرين، أو يقرأ في التاريخ، أو يستفيد من الآراء، أو يجرب في الحياة كثيراً ينمو له من العقل ما لا يكون عند غيره.

والذكاء أيضاً هو أمر يهبه الله للإنسان، لكنّ الكثيرين من الأذكياء قد لا يستفيدون من ذكائهم، بل إن الملاحظ أن الكثيرين من الأذكياء يبتلون بالكسل، فيكون ذلك مثبطاً، ومعوقًا لهم على التميز، والتمهر، سواء في الأمور الشرعية، أو في غيرها، ولذلك انظر كم يتميز في العلوم في الرياضيات، في الطب، في الكيمياء، في العلوم العربية، فضلاً عن العلوم الشرعية من الفقه، والحديث، والتفسير، وما إلى ذلك، الذين يدرسون في هذه التخصصات كثير من الأذكياء، لكن كم يتميز منهم؟ القلة، فالذكاء وحده لا يكفي، لذلك قد يكون هذا الإنسان متوسط الذكاء لكن عنده من الصبر، والجلد، والهمة، ويسير على طريقة صحيحة في التعلم، فتختصر عليه السنوات الطوال، فيحصِّل ما لا يحصله أولئك، فالذكاء وحده لا يكفي، والعقل وحده لا يكفي.

كما أن الإنسان يحتاج إلى رغبة، تكون عنده شهوة، ورغبة في التحصيل، ويذكرون أيضًا الاكتفاء بحيث ما يكون هذا الإنسان مشغولا بطلب العيش، ليس عنده وقت، يعمل من أول النهار إلى وسط النهار، ثم يعمل بعد ذلك إلى الليل، أو يعمل من أول النهار من طلوع الشمس إلى غروبها، ويرجع منهكًا، هذا متى يحصِّل العلم؟ ولذلك تجد بعض الناس أحياناً يرغب أن يكون متخصصاً في العلم الشرعي، وهو بهذه الحال، فهذا أمر لا يمكن، فالعلم أعطه كلك يعطك بعضه، وكما أنه يحتاج إلى وقت، وفراغ أيضاً يحتاج إلى الخلو من القواطع المذهلة كما يقولون، الإنسان الذي عنده مشاكل، وهموم هذا يبقى قلبه مشوشاً، لا يحصِّل كثيراً من العلم؛ لأن قلبه يتفرق عليه فلا يجتمع، ولا يلتئم، فإذا حصل مع ذلك طول العمر فإن هذا الإنسان سيحصل ما لا يحصله غيره، يعني انظر إلى الشيخ الحافظ الحكمي - رحمه الله - توفي، وهو صغير، وهو عالم، ومن شيوخه الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله _ لكن انظر كم عمر هذا، وكم عمر هذا، فهذه القضية لها تأثير في التحصيل كما لا يخفى.

كما أن العلماء يذكرون أيضاً - وهو أمر لابد منه - : الظفر بالمعلم الذي يحسن التعليم، وسيأتي الكلام على هذه المأساة.

وقد جمع الشافعي - رحمه الله - جملة من هذه الشروط بالأبيات المعروفة:

أَخِي لَنْ تَنَالَ الْعِلْمَ إلَّا بِسِتَّةٍ سَأُنْبِيكَ عَنْ مَكْنُونِهَا بِبَيَانِ
ذَكَاءٍ وَحِرْصٍ وَاجْتِهَادٍ وَبُلْغَةٍ وَإِرْشَادِ أُسْتَاذٍ وَطُولِ زَمَانِ[1].

وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - من القدرة التي تطلب من أجل التحصيل العلمي: استعداد العقل، وسابقة الطلب، ومعرفة الطرق الموصلة إليه من الكتب المصنفة، والعلماء المتقدمين، وسائر الأدلة المتعددة، والتفرغ له عما يُشغل به غيره، فهذه كلها من جملة القدرة.

فهذه الأمور حينما تذكر فالمقصود بذلك أنها شروط للنبوغ، ولكن قد يحصِّل الإنسان مع تخلف بعض هذه الشروط، لكن الأمر كما قال الإمام الشافعي - رحمه الله - : "الطبع أرض، والعلم بذرة"[2] ولا يكون العلم إلا بالطلب، فإذا كان الطبع قابلا زكا ريع العلم، وتفرعت معانيه، فكلامهم إنما هو في التميز، والتمهر، والنبوغ، والرسوخ، ولهذا يقول الشعبي - رحمه الله - : "إن هذا العلم لا يصلح إلا لمن فيه عقل، ونسك"[3].

وكان الفراء يقول: "لا أرحم أحدًا كرحمتي لرجلين: رجل يطلب العلم، ولا فهم له، ورجل يفهم، ولا يطلبه، وإني لأعجب ممن في وسعه أن يطلب العلم، ولا يتعلم"[4].

ولم أرَ في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمامِ[5].

فإذا وجدت الأهلية عند الإنسان يحتاج مع ذلك إلى الرغبة.

وهذه الرغبة قد تكون غير موجودة، لكن ممكن أن توجد، وذلك بإلزام النفس بحضور مجالس العلم، وهذا شيء مشاهد، ومجرب، توجد بإلزام الناس بالقراءة، والاطلاع، والنظر، والبحث، حتى يكون ذلك سجية، وعادة راسخة له، فإذا خرج من مكتبته فكالسمكة حينما تخرج من الماء، لا يجد لذته، ولا أنسه، ولا راحته، ولا نعيمه إلا بين الكتب، وفي مجالس العلم، هذه الرغبة يمكن أن توجد، يمكن أن توجد بالنظر في سير العلماء، في مخالطتهم، يمكن أن توجد بالقراءة في فضائل العلم، وما أعد الله لأهله، فعشاق العلم كما يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله - : "أعظم شغفًا به، وعشقًا له من كل عاشق بمعشوقه، وكثير منهم لا يشغله عنه أجمل صورة من البشر"[6] وكان يقول: "لو صور العلم صورة لكانت أجمل من صورة الشمس، والقمر"[7] وصدق - رحمه الله -.

وانظروا، وقارنوا بحالنا، فهذا رجل من أهل العلم كان يقول: "إذا غشيني النعاس في غير وقت نوم - وبئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة - يقول: فإذا اعتراني ذلك تناولت كتابًا من كتب الحِكم، فأجد اهتزازي للفوائد، والأريحيّة التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة، والذي يغشى قلبي من سرور الاستبانة، وعزّ التبيّن أشدّ إيقاظًا من نهيق الحمير، وهدّة الهدم"[8].

نحن إذا أردنا أن ننام، وأصابنا الأرق لربما نعمد إلى كتاب من أجل أن ننام، إذا بدأ الإنسان أخذ الكتاب بدأ يتثاءب، وإذا حضر في مجلس العلم غلبه النوم، وألقى عليه سرباله، فهذا يجد هذا الاهتزاز، والنشاط إذا نظر في كتاب من كتب الأدب.

وأما الحديث عن الصبر فقد تحدثت طويلاً عن الصبر في "الأعمال القلبية"، فالصبر عُدة، وهو السبيل، والطريق إلى تحصيل المطلوبات الدنيوية، والأخروية، وهو السبيل إلى تجاوز المصاعب، والشدائد، والآلام، والأنكاد في هذه الحياة الدنيا، الصبر مطية من ركبها أفلح، وظفر، هذا ابن طاهر المقدسي يقول: "بُلتُ الدم في طلب الحديث مرتين: مرة في بغداد، ومرة في مكة، كنت أمشي حافياً في الحر فلحقني ذلك، وما ركبت دابة قط في طلب الحديث، وكنت أحمل كتبي على ظهري، وما سألت في حال الطلب أحداً أبداً، كنت أعيش على ما يأتي"[9]

وهذا التبريزي ابن الخطيب حصلت له نسخة من كتاب: تهذيب اللغة للأزهري، وهو كتاب كبير في مجلدات، فأراد أن يأخذها عن عالم باللغة فدُل على أبي العلاء المعري، فجعلها في مخلاة، وحملها على كتفه من تبريز إلى المعرة، ولم يكن له ما يستأجر به مركوباً، فنفذ العرق من ظهره إليها، وقد قيل: إنها ببعض الأوقاف ببغداد - خزائن الكتب - وإن الجاهل بخبرها إذا رآها يظن أنها غريقة، وليس الذي بها إلا عرق يحيى بن علي التبريزي - رحمه الله -[10].

وهذا سقراط الفيلسوف الضال حصّل من العلوم الفلسفية ما حصل، واشتهر بهذا، لما سأله بعض المعجبين به: أنّى لك هذا العلم؟ قال: "لأني أنفقت من الزيت أكثر مما شربت من الماء" يعني الزيت الذي يوقد به السراج ليقرأ في الليل.

كما أن الإنسان أيضاً بحاجة إلى ملازمة لأهل العلم، العلماء إلى القرن الماضي كانوا يلازمون حلقة العالم، وهذا العالم هو الذي يوجههم، ويتشاور معهم، أو يختار لهم الكتاب الذي يدرس، ويبقون على هذه الحال المدة الطويلة تصل إلى ثلاثين سنة، وأكثر، حتى يتخرجون على يده علماء، اقرءوا في ترجمة الشيخ محمد بن إبراهيم - رحمه الله - مثلاً، كم تخرج من حلقته من العلماء، والقضاة، أعداد كبيرة جدًّا، حلقة عالم واحد، واقرءوا في تراجم قبله، ثم بعد ذلك تغيرت الحال، واشتغل الناس بالأعمال، والوظائف، والتجارات، وظهرت بوادر ذلك فيما كتبه الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي - رحمه الله - في رسائله التي كتبها للشيخ عبد الله بن عقيل - رحم الله الجميع الأحياء، والأموات - كان يذكر له أن الطلاب بدءوا يتفلتون، ويتناقصون، بحثاً عن الوظائف، والأعمال، وهذا الأمر الذي كان الشيخ يذكره صار بعد ذلك شيئاً ظاهراً، ونشأ عليه الصغير، وشاب عليه الكبير، فأصبحنا - للأسف - في واقع لربما لا يعيننا على التحصيل العلمي المتميز، وصار طالب العلم يتذوق، وهو أمير نفسه، هو الذي يضع الخطة، ثم بعد ذلك يبدأ يحضر، وهو الذي يقرر أن هذا الشيخ أهل أن يتلقى على يده، وأن يثني الركب عنده، وأن هذا الدرس مؤصل، أو غير مؤصل، شاب ليس في وجهه شعرة، ويتحدث عن درس عالم من العلماء، ويقول: هذا الدرس ما فيه تأصيل، هو سامع كلمة: تأصيل، وأراد أن يطبق عمليًّا، فبدأ يحضر الدروس، ويقول: هذا ما فيه تأصيل، يظن أنه إذا قيل: تأصيل، ودرس فيه تأصيل فمعناه أنه يقول: الأصل الأول في التأصيل كذا، الأصل الثاني، يظن أن الدروس بهذه الطريقة، ما فيه تأصيل، ما هو التأصيل؟

أن يذكر مأخذ المسألة، الدليل من الكتاب، أو من السنة، هذا التأصيل.  

فالشاهد: أن الكثيرين أصبحوا يتذوقون، فيحضر عند هذا قليلا، ثم بعد ذلك يبدو له أن هذا الدرس لا يصلح له، إما لأنه أقل من مستواه، أو أنه أعلى من مستواه إن تواضع، أو لأن هذا الشيخ لا يعتني بالدرس، ولا يحضر، كما يقول، أو لأن هذا الشيخ يتخلف، ويغيب، أو غير ذلك من الأمور، فيحضر هنا قليلاً، ويحضر هنا قليلاً، ويحضر هنا قليلاً، ثم تشاهد هذا بعد عشر سنين، ثم بعد عشرين سنة، وإذا هو كما رأيته أول مرة، وإذا سمعت أسئلته فهي أسئلة العوام، يسأل عن مسألة أيام الحج، أو عن قضية تتعلق بمعاملة من المعاملات، أو نحو هذا، أسئلة عوام، أين هذا التحصيل على مدار سنوات؟ يتذوق، فقرأ من هذا الكتاب ربعه، ومن هذا الكتاب ربعه، ومن هذا الباب الأول، ومن هذا حفظ ثلث الكتاب، ولو عرضت عليه بعض أسماء الأبواب بعد المنتصف لربما لم يسمع بها، فأقول: من أراد العلم ينبغي أن يصبر على ثني الركب في مجالس العلم، نعم فيها مشقة، لكن ثقوا ثقة تامة أن من اعتاد ذلك فإنه يجد من اللذة ما لا يجده أقرانه، وأصحابه الذين قضوا أوقاتهم في النزه، والمتع، والملاهي، والذهاب هنا، وهناك جنة، روضة من رياض الجنة، وهذا الكلام من لم يجربه، ولم يعرفه يستغرب، يقول: تتحدث عن ماذا؟ أين الجنة؟ الله يعطي من شاء ما شاء، والمحروم محروم، فهذا نُعيم المُجْمِر - رحمه الله - جالس أبا هريرة عشرين سنة متوالية[11].

وهذا عبد الله بن نافع جالس الإمام مالكًا - رحمه الله - خمسًا، وثلاثين سنة.

واليوم طالب العلم يحضر درسًا، أو درسين، أو ثلاثة، أو صيفية عند عالم، قال شيخنا، وقال شيخنا، وأحياناً لم يحضر له درساً واحدًا إنما أسئلة، ومجالس فيها أسئلة، وكذا، وقال شيخنا، وقال شيخنا، يملأ المجالس بهذه العبارات، ولربما في الكتب، وماذا حضر؟ هذا حضر خمسًا، وثلاثين سنة، فينبغي على الإنسان أن لا تتقاصر همته في هذا الباب، ويكتفي بحضور بعض الدروس القليلة، ثم بعد ذلك ينقطع، وكثير من الناس لا يعرف العلم فإذا درس دراسة أولية يظن أن هذه الأبواب التي يسمع بها فيما بعد ذلك يظن أنها الأبواب التي درسها، وأن هذا يعاد عليه ثانية، العلم على مراحل، ولهذا تجد بعض من لا يعرف العلم حينما يأتي، ويحضر درسًا في كتاب، أو نحو هذا، ويسمع كتاب الطهارة، أو نحو ذلك، يقول: هذا درسناه في الابتدائية! 

  1.  الآداب الشرعية (1/216). 
  2.  الفقيه، والمتفقه للخطيب البغدادي (2/ 189).
  3.  الآداب الشرعية، والمنح المرعية (2/ 40).
  4.  انظر: جامع بيان العلم، وفضله (1/ 429).
  5.  شرح ديوان المتنبي (1/336).
  6.  روضة المحبين، ونزهة المشتاقين (ص: 69). 
  7.  روضة المحبين، ونزهة المشتاقين (ص: 201)، ومفتاح دار السعادة، ومنشور، ولاية العلم، والإرادة (1/ 116).
  8.  الحيوان (1/40).
  9.  سير أعلام النبلاء (14/289).
  10.  انظر: معجم الأدباء (6/2824).
  11.  سير أعلام النبلاء (5/524).
ما هي الطريقة الصحيحة في التعلم، والتعليم؟

وهذا أمر في غاية الأهمية، وكان ابن خلدون - رحمه الله - في "مقدمته" يعيب على أولئك الذين لا يحسنون التعليم، فيبدءون مع المتعلم بالمسائل الصعبة، أو الدقيقة، ويطرحون عليه من غاية الفنون ما لم يتهيأ لفهمه، فيستصعب ذلك، ويظن أن العلم بعيد المنال، بل ذكر ابن بدران - رحمه الله - في كتاب: "المدخل" أن السبب في بقاء الكثيرين السنوات الطويلة من غير تحصيل أن ذلك يرجع إما لضعف قدراتهم، وإمكاناتهم، أو لسوء التعليم[1] سوء التعليم: يبدأ في كتاب الآن في مصطلح الحديث، أو في النحو، أو في الفقه، بدأ الكتاب بالبسملة، بدأ المؤلف بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز، ولما روي عن النبي ﷺ : كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع [2] ويبدأ يتكلم عن الحديث هل هو صحيح، أو غير صحيح، ثم يبدأ يشرح البسملة "الباء" هذه هل هي للاستعانة، أبدأ مستعيناً بالله "بسم الله" والمقدر هل هو اسم، أو فعل؟ "بسم الله" أبدأ، أو "بسم الله" ابتدائي؟ وأيهما أبلغ تقدير الاسم، أو الفعل؟ وهل المقدر مقدم، أو مؤخر أبدأ "بسم الله"، أو ابتدائي "بسم الله"، أو "بسم الله" ابتدائي، حتى لا يتقدم شيء على اسم الله، وهل المقدر هنا خاص، أو عام؟ "بسم الله" آكل "بسم الله" أقرأ، أو "بسم الله" أبدأ مطلقًا ليصلح لكل شيء، الآن كل الكلام في الباء، ما جئنا للاسم، وهل هو مشتق من السمو، أو من السمة - العلامة - وشواهد ذلك من العربية، ثم بعد ذلك "بسم الله" لماذا حذفت الألف في البسملة في الكتابة؟ و"الله" لفظ الجلالة هذا مشتق، أو جامد، وإن كان مشتقًّا من أين مادة الاشتقاق؟ وكلام طويل إلى الآن في شرح البسملة، ما جئنا بعدُ لكلام المؤلف في المقدمة "الحمد لله، والصلاة، والسلام على رسول الله" فهذا مختصر وضعته في الفقه" "هذا" الإشارة هنا إلى موجود، أو مقدر في الذهن؛ لأنه لو كان كتب المقدمة في البداية فكيف يشير بـ"هذا" وهو غير موجود إلى الآن - أي المختصر -؟ يقول لك: لا، هذا يحتمل أن يكون كتب المقدمة بعدما كتب الكتاب، فتكون الإشارة إلى موجود، ويحتمل أن تكون الإشارة إلى مقدر في الذهن، وأن هذا صحيح؛ كقوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ البقرة:2، فهذا كتاب، والكتاب على وزن فِعال، وهو من الكتب، وأصل هذه المادة ترجع إلى الضم، والجمع، ويأتي بكلام طويل، إلى الآن في المقدمة.

فلما يسمع طالب العلم هذا الكلام، يقول: هذا العلم صعب إلى الآن في مقدمة المؤلف فمتى نصل إلى الأبواب الأخيرة في الكتاب؟ فهذا بعيد المنال لا يصل إليه إلا الواحد بعد الواحد، فينقطع، ويترك العلم، بسبب سوء الطريقة في التعليم.

اجتمعنا على كتاب في الفقه فلماذا نشرح المقدمة؟ لماذا نشرح البسملة؟ الدرس ليس في التفسير حتى نشرح البسملة.

وللأسف اعتدنا طريقة معينة أحياناً يصعب علينا مفارقتها، نحن في الدورات المنهجية نذكر لمن يأتي نقول: لا تشرح المقدمة، ولا تشرح البسملة، ولا تشرح الحمد لله، أبدأ بالمقصود مباشرة، وبعض المشايخ أقول له هذا الكلام عند الباب، ويقول: إن شاء الله، ثم إذا جلس: "بسم الله الرحمن الرحيم" ابتدأ بالبسملة، ويبدأ يعيد الطريقة نفسها، العادة الغلابة، الإنسان إذا اعتاد على شيء يصعب عليه مفارقته، بل إن ابن خلدون - رحمه الله - عد كثرة التأليف، واختلاف الاصطلاحات، وكثرة الحواشي، والمختصرات، والمطولات، أن ذلك من جملة الأسباب المعوقة عن العلم، وهذا صحيح، لو أراد الإنسان أن يقضي العمر في فن واحد، في أصول الفقه، أو مصطلح الحديث، أو النحو، أو نحو هذا، كم يوجد عنده من المختصرات، والكتب المتوسطة، والحواشي، والمطولات؟ إذا عرفت هذا، أقول: اسمحوا لي أن نجري مقارنة مع واقعنا، وحالنا، تحدثنا عن العلم أنه بهذه الطريقة من التطويل، وذِكر الخلاف، فإذا جاء التلميذ عند الشيخ لأول وهلة أعطاه كل ما يستطيع، حضّر في الفقه مثلاً من شروح الحديث، ومن كتب الفقه، والمطولات، ومن غيرها، ثم بعد ذلك كتاب منهج السالكين مثلاً، أو شرح عمدة الفقه، هذا وضع للمبتدئين، فيحشد للتلميذ كل شيء من الأقوال الخلاف، والأدلة، والترجيح، إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا يبدأ في كتاب المجموع، أو المغني، من البداية؟ ولو قيل لهذا الشيخ نظريًّا نبدأ بكتاب المغني؟ قال: لا، هذا للمتقدمين، لا يبدأ في هذا، يبدأ في كتاب مختصر على قول واحد، فإذا شرحه حوله إلى موسوعة، ولهذا صرنا نسمع أن المختصر الفلاني يشرح في عشرين سنة.

وبعضهم يقول: إنه شرح تسعين حديثاً في ثلاث سنوات على درس يوم في الأسبوع، وفي الدرس يشرح حديثًا، أو جملة، أو سطرًا من الفقه، تُشق فيها الشعرة، والشعيرة، هذا المبتدئ يحتاج إلى جمل مختصرة من العلم، ما يحتاج إلى هذا التطويل، والتفصيل.

طبعاً هذا أثّر آثارًا سيئة، صار هؤلاء التلاميذ إذا لم يؤتَ له بأشياء أول مرة يسمعها يقول: الدرس ما فيه شيء، لو اكتفى الشيخ مع هؤلاء الذين يطلبون العلم في أول أمرهم في مبدأ الطلب ببيان جمل من العلم مختصرة، قالوا: هذا الدرس ما فيه شيء.

العام الأسابيع التي فيه تصل إلى ما يقرب من خمسين أسبوعاً.

احسبوا معي الاختبارات في الفصلين أربعة أسابيع، فإذا نقّصنا أربعة أسابيع، وهذه الأجازة خمسة عشر أسبوعاً، اطرح الأجازة - الدروس تتوقف في الأجازة، وأيام الاختبارات - فإذا حذفت أيضاً شهر رمضان أربعة أسابيع، ثم احذف أجازة العيد، وهي أسبوع أقل شيء، ثم احذف أجازة نصف العام بين الفصلين مع الحج، وهي أسبوعان، واحذف أجازة منتصف الفصل الدراسي الثاني، وهي أسبوع، كم يبقى؟

ثلاثة، وعشرون أسبوعًا فقط، فإذا كان الدرس في الأسبوع، ويشرح في الدرس الواحد حديثًا واحدًا تُشق فيه الشعرة، والشعيرة، كم يصير عندنا في السنة في الواقع؟ كم حديثًا شُرح؟ ثلاثة، وعشرون حديثًا، وهذا هو الواقع الذي لربما ندخل في الدرس، ونحن ندرِّس، أو ندرُس دون أن نحسب هذه الحسابات، ونظن أننا سنقطع شوطاً، وسنحصِّل علماً، ثم بعد ذلك يبقى هذا الإنسان السنة، والسنتين، والثلاث، والأربع، ويجد نفسه ما قطع شوطًا! هذا كتاب واحد الآن، ومختصر، المستوى الأول في هذا الفن، متى سينهي المستويات الأخرى؟ ومتى سيدرس العلوم الأخرى؟!.

فالعمر يمضي، ثم بعد ذلك يتلاشى، فيتلاشى الآلاف من طلبة العلم الشرعي في الجامعات الشرعية، وممن يحضرون في الدورات العلمية، وفي مجالس العلم، هذه الدورة التي عندنا ستة أيام في الأسبوع الأول، وستة أيام في الأسبوع الثاني، اثنا عشر يومًا كم تصل؟، نصف هذه المدة المذكورة تقريباً، تصل إلى اثني عشر أسبوعاً، يعني بمعدل ثلاثة أشهر، فإذا حسبت (12 ضرب 5)؛ لأن عندنا خمسة دروس في اليوم، الواقع أنه يكون عندك في الأسبوعين ستون درساً، يعني ما يعادل ستين أسبوعاً، وهذا أكثر من درس في الأسبوع بكثير، الآن إذا أردنا أن ندرس بنفس الطريقة هذه: كنت عملت عملية حسابية لدراسة الكتب بشق الشعرة، والشعيرة يومًا في الأسبوع مع توقف الأجازات، والاختبارات، ويُشرح حديث واحد في الدرس. 

البخاري من غير المكررات تصل أحاديثه إلى ما يقرب من ألفين، وستمائة حديث، وبالمعلقات إلى ألفين، وسبعمائة، وواحد، وستين، وبالمكررات إلى سبعة آلاف، ومائتين، وخمسة، وسبعين، تدرون كم يحتاج لو شرحنا حديثاً واحداً في يوم في الأسبوع بنفس الطريقة، وهي ثلاثة، وعشرون أسبوعًا في السنة بثلاثة، وعشرين حديثًا؟ نحتاج إلى أكثر من مائة، وست سنوات، حتى نشرح صحيح البخاري، وإذا شرحنا حديثين نحتاج إلى حوالي ثلاث، وخمسين سنة، ولو كان الدرس كل يوم في كل يوم نشرح حديثًا نحتاج إلى سبع سنوات.

مسلم تصل أحاديثه إلى أربعة آلاف من غير المكرر، وبالتكرار أوصله بعضهم إلى اثني عشر ألفاً، وهذا يحتاج إلى مائة، وثلاث، وخمسين سنة.

أبو داود تصل أحاديثه إلى خمسة آلاف، ومائتين، واثنين، وخمسين، وهذا يحتاج إلى ما يقرب من مائتي سنة، بنفس الطريقة السابقة يوم في الأسبوع، وحديث واحد تُشق فيه الشعرة، والشعيرة.

الترمذي تقرب أحاديثه من أربعة آلاف حديث، يحتاج إلى مائة، واثنتين، وخمسين سنة.

النسائي تصل أحاديثه إلى خمسة آلاف، وسبعمائة، وسبعة، وستين حديثاً، يحتاج إلى مائتين، وواحد، وعشرين سنة.

ابن ماجه تصل إلى أربعة آلاف، وثلاثمائة، وواحد، وأربعين حديثاً، يحتاج إلى مائة، وست، وعشرين سنة.

منتقى الأخبار أكثر من خمسة آلاف حديث، يحتاج إلى مائة، وثلاث، وتسعين سنة.

بلوغ المرام ألف، وأربعمائة، واثنان، وثمانون حديثًا في بعض التعداد، يحتاج إلى سبع، وخمسين سنة على نفس الطريقة السابقة.

منهاج السالكين هذا الكتاب الصغير في الفقه في بعض طبعاته المحقِّق قسمه إلى فقرات بلغت ستمائة، وستًّا، وسبعين فقرة، بعض الناس يدرس فقرة واحدة يشققها، ويأتي في الكلام بالمطولات، والأدلة، والخلاف، والردود، والمناقشات، تدرون كم يحتاج على هذه الطريقة؟ يحتاج إلى ست، وعشرين سنة، حدثني بعض الإخوان: أنهم بدءوا يقرءون في تفسير ابن كثير في أحد الدروس من عام ألف، وأربعمائة، وخمسة إلى ألف، وأربعمائة، وسبعة، وعشرين، وصلوا إلى منتصف سورة النساء تقريباً، من ألف، وأربعمائة، وخمسة قراءة من تفسير ابن كثير، متى يُنهَى ابن كثير؟ متى يُنهَى ابن جرير إذن؟، ومتى تُنهَى الكتب المطولات؟ الله أعلم، يحتاج إلى قرون، يعيش الإنسان عمر نوح من أجل أن ينهي المختصرات، فضلاً عن أن هذه ليست طريقة صحيحة في التعلم، وما أقعد الناس عن العلم، وما قطعهم إلا هذا، وانظروا إلى طريقة العلماء في قراءاتهم قراءة الضبط مثلاً: صحيح مسلم قرأه القاسمي جمال الدين في أربعين يوماً.

وقرئ على ابن لُبّاج بجامع قرطبة في أسبوع، يقرءون مرتين في اليوم.

وقرأه طلحة العَلثي الحنبلي في ثلاثة مجالس.

وقرأه الفيروزآبادي على ناصر الدين محمد بن جَهْبل كذلك.

وقرأه الحافظ ابن الأبّار على عبد الله الحجري في ستة أيام، وفي هذه المدة قرأه العراقي على محمد بن إسماعيل الخباز بدمشق.

وقرأه الفيروزآبادي على البياني بالمسجد الأقصى في أربعة عشر مجلساً.

وقرأه الحافظ ابن حجر على محمد بن محمد بن عبد اللطيف في خمسة مجالس، وكذا قرأ البقاعي على البدر الغَزِّي.

سنن ابن ماجه قرأه القاسمي في واحد، وعشرين يوماً.

وقرأه الحافظ في أربعة مجالس.

الموطأ قرأه القاسمي في تسعة عشر يوماً.

تهذيب التهذيب قرأه القاسمي مع تصحيح السهو، وتحشيته في عشرة أيام.

البخاري قرأه الخطيب البغدادي على إسماعيل الضرير في ثلاثة مجالس، طبعًا المجالس طويلة.

وقرأه أيضاً على كريمة المروزيّة في خمسة أيام بمكة، وكذا قرأه القسطلاني على النَّشاوي، وقرأه الحافظ في عشرة مجالس، كل مجلس أربع ساعات، وقرأه عثمان الدِّيمي في أربعة أيام في الروضة الشريفة.

وقرأه البقاعي على البدر الغزي في ستة أيام.

وقرأه محمد عبد الحي الكتاني تدريساً، وقراءة تحقيقٍ، وتدقيقٍ في نحو خمسين مجلسًا، لم يدع شاذة، ولا فاذة تتعلق بأبوابه، ومحل الشاهد منها إلا أتى عليها، مع غير ذلك من اللطائف المستجادة.

المحدث الفاصل قرأه الرامهرمزي على ابن الطيوري في مجلس.

سيرة ابن هشام قرأها الذهبي على أبي المعالي في ستة أيام.

المسند قرأه العراقي على ابن الخباز في ثلاثين مجلساً.

وقرأه الحافظ على شيخه عبد الله بن عمر الهندي في ثلاثة، وخمسين مجلساً بزياداته.

السنن الكبرى للنسائي قرأها الحافظ على الشرف ابن الكويك في عشرة مجالس.

المعجم الصغير للطبراني قرأه الحافظ على عمر بن محمد البالسي في مجلس، والكتاب يشتمل على نحو ألف، وخمسمائة حديث.

إنجازاتهم في المدة اليسيرة ماذا ينجزون؟

أقام الحافظ ابن حجر بدمشق مائة يوم سمع بها نحو ألف جزء حديثي، الجزء يعادل عشرين، ورقة لو جلدت لكانت تقارب مائة مجلد، وكتب في هذه المدة عشرة مجلدات، الإنسان إذا جاء يكتب رسالة جامعية "ماجستير" يحتاج إلى أربع سنوات، ثم يطلب خامسة تمديدًا، ثم في هذه السنوات لا يكلم أحدًا، ولربما لا يستطيع أن يلقي كلمة في المسجد، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً؛ لأن هذه الرسالة قد سيطرت على سمعه، وقلبه، وبصره، وجوارحه، رسالة "ماجستير" ثلاثمائة صفحة هذه السنوات الطوال.

تكرار قراءة الكتاب، ودراسته: يقول بعضهم: قراءة كتاب واحد ثلاث مرات أنفع من قراءة ثلاثة كتب في الموضوع نفسه.

درس عباس بن وليد الفارسي كتاباً ألف مرة.

ابن التبان درس كتابًا ألف مرة، وهو المدونة للإمام مالك - رحمه الله -.

الربيع بن سليمان صاحب الشافعي يقول: أنا أنظر في كتاب الرسالة منذ خمسين سنة، ما أعلم أني نظرت فيه مرة إلا وأنا أستفيد شيئًا لم أكن عرفته.

ابن عطية المحاربي قرأ البخاري سبعمائة مرة.

وسليمان بن إبراهيم العلوي اليمني قرأ البخاري مائة، وخمسين مرة.

وقرأه الشرجي مائتين، وثمانين مرة.

وقرأه أحمد بن عثمان الكُلتاني أكثر من أربعين مرة.

وقرأه أبو بكر القاهري الحنفي أكثر من مائة مرة.

وقرأه عثمان بن محمد التوزري على أكثر من ثلاثين رجلا.

وقرأه سعد بن محمد بن محمود الشيرازي على شمس الدين الكرماني أكثر من عشرين مرة.

وقرأه البرهاني الحلبي أكثر من ستين مرة، سوى قراءته له في أيام الطلب، أو قراءة غيره عليه.

وقرأه الفيروزآبادي أكثر من خمسين مرة.

وقرأ برهان الحلبي صحيح مسلم أكثر من عشرين مرة، سوى قراءته أيام الطلب، أو قراءة غيره عليه.

نحن نقرأ الكتاب مرة واحدة، ونقول: هذا قرأناه قبل عشر سنوات، مرة واحدة تكفي.

يقول الفقيه يحيى العمراني: إنه لم يعلق الزوائد على المهذب إلا بعد أن حفظه غيباً، ثم طالعه بعد ذلك قبل التصنيف أربعين مرة، أو أكثر، وكان يطالع الجزء من المهذب - وقد جزّأه إلى واحد، وأربعين جزءًا - في اليوم، والليلة أربع عشرة مرة، ينظر في الجزء الواحد أربع عشرة مرة.

وقرأ الشيخ عبد العزيز الميمني، وهو معاصر قرأ معجم الأدباء سبع، أو ثماني مرات.

وقرأ إبراهيم الأنباسي أوضح المسالك لابن هشام أكثر من سبعين مرة.

وقرأ أبو بكر الأبْهَري مختصر ابن عبد الحكم خمسمائة مرة، والأَسَدية خمسًا، وسبعين مرة، والموطأ خمسًا، وأربعين مرة، ومختصر البرقي سبعين مرة، والمبسوط ثلاثين مرة.

وقرأ عليُّ بن عبد الواحد الجزائري الكتب الستة على مشايخه دراية، قرأ البخاري سبع عشر مرة بالدرس قراءة بحثٍ، وتحقيق، وتدقيق، ومرَّ على الكشاف للزمخشري ثلاثين مرة.

وقرأ عبد الله بن محمد بن فرحون تفسير ابن عطية كثيرًا جدًّا حتى قال: " كدت أن أحفظه".

وهكذا أبو القاسم الشاطبي كاد أن يحفظ صحيح البخاري من كثرة التكرار له في كل رمضان.

كثرة تدريس الكتاب، نحن ندرِّس الكتاب مرة واحدة، والعمر لا يفي بالفراغ منه.

الكافِيَجي عالم يلقب بهذا، لماذا؟ لكثرة اشتغاله بالكافية لابن الحاجب في النحو.

الوجيزي، وهو جمال الدين الأشموني لقب بذلك لكثرة عنايته بالوجيز للغزالي.

المنهاجي، وهو الزركشي نُسب إلى منهاج الطالبين للنووي لكثرة تدريسه له.

فكانوا يدرِّسون الكتاب مرات كثيرة جدًّا، هذا ابن العجمي الشافعي شرح المهذب للشيرازي خمساً، وعشرين مرة.

وهذا عبد الغافر الفارسي أقرأ صحيح مسلم أكثر من ستين مرة.

وهذا إسماعيل بن الفراء الحراني الحنبلي شرح المقنع مائة مرة.

وهذا محمد السنجاري الشافعي أقرأ الحاوي ثلاثين مرة.

وهذا عبد القديم النزيلي درّس العباب في الفقه الشافعي ثمانمائة مرة.

وهذا صالح بن عبد الله الصباغ درّس الكشاف ثماني مرات.

وهذا إبراهيم الحريري أقرأ البخاري أربع مرات بالمدينة، وبمكة أكثر من عشرين مرة.

وهذا يحيى بن هلال القرطبي كان يُقرئ المدونة كل شهرين مرة.

وهذا إدريس بن جابر العيزري درّس كتاب التذكرة أكثر من أربعين مرة.

ومحمد التاودي درّس البخاري أكثر من أربعين مرة، ودرّس الألفية في النحو أكثر من ثلاثين مرة، وربما ختمها في شهر، ودرّس مختصر خليل ثلاثين مرة، وهكذا كانوا يدرِّسون الكتب المختصرة في مدة، وجيزة جدًّا، أبو إسحاق الجبنياني يقول: كنا نجتمع، ولقد ألقينا المدونة في شهر، ندْرُس النهار، ونلقي الليل، فما علمت أنا نمنا ذلك الشهر، وهذا التبريزي درّس الحاوي للماوردي في نصف شهر، ودرّسه في شهر واحد، كرر ذلك تسع مرات.

ويوجد أحد المشايخ المعاصرين كل سنة يبدأ ألفية ابن مالك أول العام، وينتهي منها آخر العام، كل سنة.

والبلقيني درّس الحاوي في ثمانية أيام.

ومحمد بن أحمد الجزائري - وهو متأخر - درّس مختصر خليل في أربعين يوماً، والخلاصة في أربعة أيام.

أقول: عرفتم لماذا صاروا علماء؟ نحن ماذا درسنا مرة واحدة فقط؟ ما هي الكتب التي أتممنا دراستها؟ ما هي؟ ولذلك نبقى بهذا المستوى الضعيف الضحل، مع فُشوّ القلم، مع كثرة المدارس، وانتشار التعليم، والجامعات، لكن هؤلاء قد تفرغوا للعلم، فصار العلم هو ديدنهم، فلما اشتغلوا به هذا الاشتغال تمهروا به، وتميزوا، وصاروا علماء، ولهذا أقول للإخوان الذين يدرِّسون: حينما تدرِّس مقرراً واحداً في التوحيد مثلاً، أو في الفقه، أو نحو ذلك، في المرحلة الثانوية، أو المتوسطة، أو غير ذلك تدرِّس هذا الكتاب، أو هذا المقرر عشر مرات، هل تحتاج إلى تحضيره بعد ذلك؟ تكون قد حفظته، ورسخ، أليس كذلك؟ فالعلم مع التكرار يثبت كثبوت ذلك المقرر الذي درّسته هذه المرات، لكن الواقع أننا نحضر الدرس إن حضرنا، ثم يكون آخر العهد، ونريد أن نحفظ، ونضبط، بهذه الطريقة، وهذا الحضور فقط مجلس سماع، فهذا لا يمكن، العلم يحتاج إلى بذل الجهد، ومواصلة الليل مع النهار.

هذا في التميز بالعلم، لكن ليس هذا لكل أحد، من الناس من يحضر ليدرك جملاً من العلم، فهذا يحصِّل أشياء.

من الناس من يحضر ليؤجر في رياض الجنة، تحفه الملائكة، فهذا على خير عظيم، وفي عبادة، لكن نحن نتكلم عن الرسوخ، وضبط العلم، والتمهر فيه، فهذا الذي أتحدث عنه.

ولابد من التدرج، فالعلم درجات فلابد من سير صحيح، ومنهج متبع يرشد إليه من عرف العلم، وحذقه، وحصّله، وخبره، يقول ابن شهاب - رحمه الله - يوصي يونس بن يزيد: "يا يونس لا تكابر العلم، فإن العلم أودية فأيها أخذت فيه قُطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام، والليالي، ولا تأخذ العلم جملة؛ فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام، والليالي"[3].

وهذا معنى قرره أهل العلم، وعباراتهم في ذلك كثيرة كقول حافظ المغرب الإمام ابن عبد البر - رحمه الله - : "طلب العلم درجات، ومناقل، ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف - رحمهم الله - ومن تعدى سبيلهم عامداً ضل، ومن تعداه مجتهداً زل"[4].

وهكذا الماوردي - رحمه الله - يقول: إن للعلم أوائل تؤدي إلى أواخرها، ومداخل تفضي إلى حقائقها، فليبتدئ طالب العلم بأوائلها لينتهي إلى أواخرها، وبمداخلها لتفضي إلى حقائقها، ولا يطلب الآخر قبل الأول، ولا الحقيقة قبل المدخل، فلا يدرك الآخر، ولا يعرف الحقيقة؛ لأن البناء على غير أسٍّ لا يُبنى، والثمر من غير غرس لا يُجنى"[5].

وهكذا أيضاً تجد لابن خلدون - رحمه الله - كلاماً طويلاً مفصلاً في هذه القضية، وخلاصة ما ذكر: أنه يرى أن العلم لابد أن يجري، وأن يسير في ثلاث مراحل:

الأولى: دراسة المسائل الأساسية من كل باب، وتُشرح على سبيل الإجمال مع مراعاة استعداد المتعلم، يقول: هنا تحصل ملكة جزئية تهيئه لفهم، وتحصيل مسائل الفن.

ولهذا تجد العلماء - رحمهم الله - كتبوا للمبتدئين كتباً فيها جمل من مسائل الأبواب، وهي المسائل الأساسية دون التوسع، والدخول في التفصيلات.

ولهذا فإن من الجناية على الطلاب، وأهل العلم: أن يُتوسع في هذه الجمل حتى يتحول ذلك إلى شيء من المطولات، فهذا خطأ، انظر إلى كتاب الورقات مثلاً، من الخطأ أن نأتي بشرح مختصر الروضة للطوفي، أو بما في شرح مختصر التحرير، أو ما في كتاب البحر المحيط للزركشي، وهذه الكتب الثلاثة من أوسع الكتب المصنفة في أصول الفقه، ثم يؤتى بها في شرح الورقات.

والمرحلة الثانية التي يقترحها ابن خلدون - رحمه الله - هو: أن يدرس هذا العلم مرة ثانية مع الخروج عن الإجمال في الشرح إلى شيء من الاستيفاء مع ذكر الخلاف، ووجهه، فتجود ملكته، يعني العلماء - رحمهم الله - يقولون: في المرحلة الأولى يدرس العلم على قول واحد، إذا كان يدرس الفقه مثلاً يدرس ذلك على قول واحد يُبيَّن له فيه الراجح، ومأخذ المسألة مع الدليل، تُفك له العبارة، ويوضح له المبهم، ويرفع عنه الإشكال فقط، طبعاً بعض الطلبة المتحمسين لربما لا يعجبه هذا فهو يريد التوسع؛ لأنه اعتاد عليه فيما يرى في الكثير من الدروس، ومثل هذا لا يجاب، ومن غير الصواب أن تكون الدروس بحسب رغبة الطالبين في توسعها، وتفاصيلها، وما يذكر فيها، وإنما المعلم مثل الطبيب يعرف حاجتهم، وما ينفعهم، وما يصلح لأمثالهم، فيكون حكيماً في تعليمه، والله يقول: وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ آل عمران: [79] والرباني كما قال ابن عباس : هو الذي يعلم الناس بصغار العلم قبل كباره[6].

والمرحلة الثانية: هي التي يشار فيها إلى الخلاف القوي، يُذكر له القول الآخر دون توسع، ثم يبين له الراجح، وبهذا يكون له نوع دربة، وبداية في المعرفة في الخلاف.

والمرحلة الثالثة كما يقول ابن خلدون - رحمه الله - : لا يترك عويصًا، ولا مبهمًا، ولا منغلقًا إلا كشفه[7].

وهذا أيضا ليس على إطلاقه، هو بحسب حال الطلاب، أحيانا يكون هؤلاء الطلاب في المرحلة الثالثة قد حصّلوا كثيرًا من العلم، ولا يحتاجون إلا إلى مسائل، وقضايا، أو الوقوف عند بعض القضايا التي تحتاج شيئًا من المناقشة، وإلا فالباقي هو بالنسبة إليهم يعد تحصيل حاصل، فلماذا يعاد لهم الشرح من جديد؟ فهذه طريقة ينبغي أن تراعى، وهذا التدرج آفته العجلة، وهذه العجلة تسبب لصاحبها الخسارة، والبخس، فلا يرجع بكبير طائل في العلم، لا ينتفع، ولا يكون له براعة فيه، ولكن الناس قد يقعون في هذه العجلة فيتقدم على المرحلة التي يجب أن يكون مبتدئًا بها لسبب، أو لآخر، منهم من يبتدئ العلم، وهو كبير، فيستحي أن يجلس مع من يدرسون من الصغار من المبتدئين، فيريد أن يلتحق بأقرانه، ونظرائه في السن، ولهذا تجد الرجل أحيانًا لم يطلب العلم قط، ثم بعد ذلك توجد عنده الرغبة بعدما تخرج من الجامعة، وصار يُعلِّم، وصار الناس ينتظرون منه الإفادة، والواقع أنه بحاجة إلى دراسة، ورجوع إلى البداية، فيستنكف، ويأبى، ويخجل أن يدرس مع الصغار، ولهذا تجد بعض المعلمين لربما يمنعه من التعلم أنه لا يريد أن يجلس مع تلامذته في مجلس واحد، وبعضهم يصرح بهذا، يقول: اجعلوا لنا دروسًا خاصة حتى لا نستوي مع تلامذتنا في مجلس واحد، وهذا لا شك أنه نوع من الخطأ، والغرور، ولا يجاب إلى مثل ذلك، والعلم ليس فيه ما يُستحيا منه، وليس هناك كبير على العلم، والإنسان إنما يكون مقداره بحسب ما عنده من التحصيل، والله قد جعل الناس على رتب، ودرجات، وقد قيل: "من رقّ وجهه رق علمه"[8] والخليل بن أحمد الفراهيدي - رحمه الله - يقول: "يرتع الجهل بين الحياء، والكبر في العلم"[9] فهذا قد جمع بين كبر، وحياء.

وأحياناً لربما ينتقل الإنسان، ويقفز؛ لأنه لربما يعجب بشيخ يدرِّس الطلاب المتقدمين، فيريد أن يلتحق به، ولربما فعل ذلك لأن له رفقاء قد بلغوا تلك المرتبة فأراد أن يرافقهم في العلم، ولربما فعل ذلك لأنه يريد أن يختصر مراتب التعلم، ودرجات التعليم، يختصر هذا السلم الذي يطول، فيقول: بدلا من أن أدرس في المرحلة الأولى، ثم المرحلة الثانية، ثم في المرحلة الثالثة، فأبدأ في المرحلة الثالثة مرة واحدة، فهذا مثل الإنسان الذي دخل في المرحلة الابتدائية، ويقول: لماذا الابتدائي، ثم المتوسط، ثم الثانوي؟ اذهبوا بي إلى الثانوية مرة واحدة، فهل هذا لو ذهبوا به في الثانوية، ودرس عندهم النحو، والرياضيات، والكيمياء، والأدب، وما أشبه ذلك، هل يتعلم؟ هل يفهم؟ لن يحصِّل شيئاً، فالعلوم الشرعية هكذا أيضاً حينما نتحدث عن مراتبها، ودرجاتها، ومناقلها، والنفوس أحياناً يكون فيها شيء من العلل، والأدواء لربما يريد الإنسان أن يترأس، وقد قال أحدهم حينما قرأ في ترجمة لبعض أهل العلم: إنه جلس للإفتاء حينما بلغ الحادية، والعشرين، فقال: أنا مستعد أن أضاعف في الجهد، بدلا من أن أقرأ أربع ساعات في النحو أقرأ اثنتي عشرة ساعة، وأبدأ بألفية ابن مالك، -، وهو لم يقرأ قبل ذلك شيئاً - هل أستطيع من خلال دراسة هذه العلوم في نحو أربع سنوات أن أجلس للإفتاء؟ فهذه نية مختلة منذ البداية، فأحياناً يستعجل الإنسان لقصد فاسد، وهكذا أيضًا قد يستعجل لأنه مشغول، ليس عنده وقت فهو موظف في شركة لا يرجع إلى بيته إلا بعد غروب الشمس مثلاً، أو أن عنده من العيال، أو التجارة، أو الأشغال، أو الهموم ما يستبطئ معه المدة، فيقول: نلتحق بالمرحلة النهائية، ثم بعد ذلك يكون ما يكون.

وهذه الأشغال، والهموم لا شك أنها من المعيقات التي تحصل للإنسان، وقد قيل: "الهم قيد الحواس"، وقالوا: "من بلغ أشُده لاقي من العلم أشَده"[10] ومن الحكمة: "تفقهوا قبل أن تُسوَّدوا"[11] وقد قيل: "الشغل مجهدة، والفراغ مفسدة"، "وربما شح الزمان بما سمح، وضن بما منح" وقد سمع الأحنف بن قيس - رحمه الله - رجلاً يقول الحكمة المعروفة، وهي: "التعلم في الصغر كالنقش على الحجر"، فقال له: "الكبير أكثر عقلا، ولكنه أشغل قلباً"[12] وهذا صحيح؛ لأن الكبير له من الإدراك، والفهم، والحذق ما ليس للصغير، ولكن الهموم، والأشغال، وتفرق القلب هو الذي يعوقه عن كثير من العلم.

بعد ذلك أقول: إذا تقرر أنه لابد من التدرج فبماذا نبدأ؟

ينبغي أن يلاحظ هنا حينما نقرأ كلام العلماء - رحمهم الله - فيما يُبدأ به أنهم يتكلمون عن زمانهم، وفي زمانهم كان التعليم اختياريًّا، كثير من الناس لا يتعلمون، ولا يقرءون، وإنما مباشرة يذهب إلى فلاحة، أو صناعة، أو لربما بقي حبيساً في بيته، فالذين يذهبون إلى التعليم الذي يمكن أن يسمى في عصرنا هذا بالتعليم الابتدائي هم أولئك الذين يذهبون إلى الكتّاب، والمدارس قليلة، ولربما لا تتسع للناس لو توجه المجتمع بأكمله إليها، بالبلد الواحد لربما تعد ثلاث مدارس، إذا كان من البلاد التي تزدهر بالعلم، والعلماء، فوجود الكتاتيب في ذلك الزمان كان يلبي بعض الحاجات في وقتهم عند من يتوجه إليها مع مراعاة ما ذكر أن كثير من الناس لا يتوجهون حتى إلى الكتاتيب، فالذين يذهبون إلى الكتاتيب يتعلمون القرآن بالدرجة الأولى، ولربما تعلموا القراءة، والكتابة فإن ارتقوا درجة تعلموا مبادئ الحساب، وغالباً لا يتعلمون ذلك، هذا أمر لابد من مراعاته، فالعلماء - رحمهم الله - حينما يقولون: "أول ما يبدأ به" هم يتحدثون عن أناس جاءوا لم يتعلموا شيئاً، أما نحن الآن فالتعليم عندنا تعليم إلزامي، يدرس الإنسان منذ نعومة أظفاره، قبل بلوغه السابعة، لربما درس سنتين يتعلم فيهما القراءة، والكتابة، وما إلى ذلك، ثم بعد ذلك يتعلم ست سنين يتعلم فيها مبادئ في العلوم، سواء كان ذلك في القرآن، أو في العربية، أو في العلوم الطبيعية، أو الرياضية، كل ذلك يتعلمه من وقت مبكر، ثم تأتي مراحل: المرحلة المتوسطة، والمرحلة الثانوية، فهذه اثنتا عشرة سنة ينبغي أن تلغى من حساباتنا حينما نتحدث عن مراحل التعليم، وأول ما يبدأ به، فحينما نتحدث عن شاب في المرحلة الثانوية مثلاً، أو فيما بعد المرحلة الثانوية، أو نحو ذلك، لا ننظر إلى هذا الإنسان أنه جاء، ولم يحصِّل شيئاً، جاء من الصحراء، خلاص تعلم أشياء في العقيدة، وفي غيرها، فالعلماء - رحمهم الله - يقولون: يبدأ بالقرآن كما يقول النووي، ثم يحفظ في كل فن مختصرًا، ويبدأ بالأهم، يبدأ بالقرآن، لكن من هو الذي يبدأ بالقرآن؟ إذا جاءنا شاب صغير نقول له: احفظ القرآن، التحق بحلقة، لكن إذا جاءك شخص متخرج من الجامعة، وقال: أنا ما أتممت حفظ القرآن، وأريد أن أتعلم الفقه، والعقيدة، ونحو ذلك، نقول له: ارجع، واحفظ القرآن أولاً؟ هذا تصعب مطالبة الناس به.

وينبغي أيضاً أن نعرف حال هؤلاء الناس، تغيرت أحوال الناس عن السابق، هل هذا الإنسان أصلاً من برنامجه أن يحفظ القرآن كاملاً، ثم هذا الإنسان ماذا يريد من العلم الشرعي؟ هل يريد أن يتخصص فيه؟ أو أنه يريد أن يتعلم ما تمس إليه حاجته؟ ومطالبة الجميع بأن يبدأ بحفظ القرآن يقول لك: أنا أحفظ بعض الأجزاء من القرآن، وأصلي بها، فهل يلزم أن يحفظ القرآن كاملاً؟ نقول: نحن إذا وضعنا برنامجاً للناس في العلم منذ الصغر، نقول لهم: ابدءوا بالقرآن، وننصح الناس بهذا، ونرشد إليه، لكن هل هذا من شرط الطلب؟

الجواب: لا، فالشاهد أن هذا من الذي يطالَب به؟ يطالَب به الصغير، ويطالَب به من كانت له همة في حفظ المتون العلمية، نقول له: الأولى، والأحرى بك قبل أن تشتغل بحفظ المتون أن تحفظ القرآن، احفظ القرآن أولاً، ثم بعد ذلك احفظ متناً في كل علم، وهذا المتن الذي يحفظه ينبغي أن يكون للإنسان أيضاً تصور، وبرنامج، واضح، محدد المعالم، وهذا يحتاج إلى مرشد، وموجه، مثلاً: المتون العلمية كثيرة منها المختصرة، ومنها المتوسطة، ومنها المتقدمة، على المراتب الثلاث، في كثير من الأحيان نجهد هؤلاء التلاميذ، أو الطلبة، فيحفظ الواحد منهم متنًا في المرحلة الأولى، ومتنًا في المرحلة الثانية، ومتنا في المرحلة الثالثة، لماذا هذا الإجهاد؟ ثم إن القضية لا تقف عند الحفظ، فالحفظ قد يسهل، ولكن المراجعة، ينبغي أن تعلم أن مراجعة القرآن مع مراجعة المتون المحفوظة إذا تكاثرت فإن ذلك قد يحتاج إلى ما لا يقل عن أربع ساعات في اليوم.

وبعض الناس إذا قلنا له: تقرأ أربع ساعات في اليوم قراءة طلب العلم؟

قال: أنتم تبالغون، المراجعة فقط قد تحتاج منك إلى أربع ساعات في اليوم، هل عندك هذا الاستعداد؟ وإذا ما راجعتها نسيتها، ثم أيضاً ماذا تحفظ هل تحفظ المنظوم؛ لأنه أسهل في الحفظ، أو تحفظ المنثور؟ نقول: كلٌّ بحسبه، ولكل مزية، المنظوم أسهل حفظاً، ومراجعة، ولكنه إذا أخطأه، أو نسيه، أو تعثر فيه لم يتيسر له إيراد المعنى.

أمّا حفظ المنثور فإنه إن نسيه فإنه يبقى الاستظهار، يستطيع أن يأتي به بأسلوبه، وبعبارته، بالمعاني، ولا يتقيد بحروفه، هذه مزية للمنثور، لكن نحن نقول للناس: كلٌّ بحسبه، إذا كنت تميل إلى حفظ النظم فاحفظ النظم، وإذا كنت تميل إلى حفظ النثر فاحفظ النثر، لكن ينبغي أن تعرف ماذا تحفظ.

على سبيل المثال: في علوم الحديث هل تريد أن تحفظ من الدرجة الأولى احفظ البيقونية مثلاً، أو تريد أن تحفظ من المرتبة الثانية تحفظ مثلاً نخبة الفكر، أو نزهة النظر، أو تريد أن تحفظ من المرتبة الثالثة مثل ألفية السيوطي، أو ألفية العراقي في علوم الحديث.

الحماس الزائد يقول: أريد أن أحفظ هذا، وهذا، وهذا، نقول: هذا جربه قبلك مجربون، فإما أن يضيع بسبب قلة الوقت، وشحه فيما يتصل بالمراجعة، وإما ألا يحصل لك المطلوب في بقية العلوم، فحدد منذ البداية، ولهذا أقول للإخوان في الدورة المنهجية لحفظ المتون: لا تلزموا أحدًا بشيء، قد لا يريد أن يحفظ كل المتون في المرحلة الأولى، يختار لا بأس، يقول: أنا لا أريد أن أحفظ الآجرومية، أنا أريد أن أدخر حفظي في النحو في الألفية، ولا أريد أن أحفظ ملحة الأعراب، لا بأس، يقول: أنا لا أريد أن أحفظ الأربعين النووية، ولا عمدة الأحكام، أريد أن أحفظ بلوغ المرام، لا إشكال؛ لأنه ينبغي أن نراعي أحوال الناس، ونراعي الأمر المهم، وهو المراجعة، لكن كثير من الناس يقدم بحماسة فيحفظ، ولا يفكر بعد ذلك في المراحل الأخرى، ولا يفكر في المراجعة، ثم يذهب عليه الوقت سدى.

فالشاهد: أن النووي - رحمه الله - كغيره من أهل العلم يرون البداية بالقرآن، ثم بعد ذلك يحفظ متنًا مختصراً في كل فن، ويبدأ بالأهم، النووي - رحمه الله - يرى أن الأهم هو: الفقه، والنحو، ثم الحديث، والأصول، ثم الباقي على ما تيسر، ثم يستشرحها، ويختار من الشيوخ الأكمل - كما سيأتي - لكن هذا الذي ذكره من أنه يبدأ بالفقه، والنحو إنما هو بحسب نظره، وهذا ذكره جمع من أهل العلم، لاسيما في الفقه، ولكن المتخصص في فن من الفنون غالباً يدور حول فنه، ولذلك تجد المتخصص في الحديث يقول: يبدأ بالحديث، والمتخصص بالتفسير يقول: يبدأ بتفسير القرآن، وهكذا.

فالنووي - رحمه الله - يفعل ذلك، ويستشرح هذه المتون، ثم يطالع بعد ذلك الكتب الأوسع، ويعلق ما يراه من النفائس، والفوائد مما قرأ، أو سمع، فإذا كملت أهليته اشتغل بعد ذلك بالتصنيف.

وشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ينبه إلى أن تعلم ما يتصل به، وتدعو إليه حاجته مما يتعلق به من الأحكام أنه أولى من الاستزادة في حفظ القرآن، يعني عنده ما يصلي به، يحفظ جزء عم مثلاً، ولكنه لا يعرف في الأحكام شيئاً، لا يعرف الطهارة، والصلاة، فشيخ الإسلام يقول: إن تعلمه لما يحتاج إليه من هذه العلوم أولى من الاستزادة في حفظ القرآن[13]

فإذًا نفرق في أحوال الناس، فإذا كان عنده ما يكفيه من هذه العلوم فإنه يبدأ بحفظ القرآن عند شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -.

وهكذا الذهبي أيضاً يرى أن البداية تكون بالفقه، فيحفظ متنًا فيه، ويستشرح هذا، ويطالع الشروح.

وابن جماعة يرى الاشتغال أولاً بالقرآن حفظاً، وتفسيراً، مع دراسة علوم القرآن، ثم يحفظ من كل فن مختصراً من الحديث، والنحو، والتصريف، إلى غير ذلك، ويشتغل باستشراحها على أهل العلم.

والعلماء - رحمهم الله - حينما يتحدثون عن هذه القضية - كما قلت - كلٌّ بحسب ميوله، واهتماماته، وبحسب ما برع فيه، أو تبين، وظهر له.

والشيخ أحمد شاكر - رحمه الله - من المعاصرين يرى أولاً الاعتناء بالصحيحين، ثم بالسنن، وصحيحي ابن خزيمة، وابن حبان، والسنن الكبرى للبيهقي، ثم بالكتب الجامعة المؤلفة في الأحكام؛ كالموطأ، ثم كتب ابن جريج، وابن أبي عروبة، وسعيد بن منصور، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، ثم كتب العلل، ثم يشتغل بكتب رجال الحديث، وتراجمهم، وأحوالهم، ثم يقرأ كثيراً من كتب التاريخ، وغيرها.

يعني أن الشيخ شاكر - رحمه الله - يرى أن الاشتغال بالجرح، والتعديل، والعلل، وعلم الرجال أنه يكون في الآخر، وهو رجل متخصص في الحديث، ونحن نرى بعض الشباب في بداية الطلب يشتغل بهذه القضايا، ولربما كان ذلك - كما قال بعض أهل العلم - لأن علم الحديث له شهوة، فتطرب له النفس أحياناً، ولذلك تجدون بعض الخلفاء كان يستهويه ما يراه من مجالس أهل الحديث، ومجالس الإملاء، والتحديث، ويتمنى لو أنه حصل له شيء من ذلك.

وهل يجمع دروساً، أو علوماً مختلفة في وقت واحد؟

المعروف أن المغاربة لهم طريقة في هذا، ولا يزال عليها الشناقطة عند بعضهم على الأقل إلى اليوم، وإن كان بعضهم قد غير ذلك، فهم يرون أن هذه العلوم لا يمكن أن تجمع في وقت واحد، ويشبهون ذلك بالمولوديْن - التوأم - لا يمكن أن يخرجا في وقت واحد، فيولد الأول، ثم الثاني، والمشارقة كانوا يجمعون بين العلوم.

ويمكن أن يقال: إن ذلك يختلف باختلاف الناس بحسب أوقاتهم، وبحسب قُدرهم، وإمكاناتهم، فمن الناس من لا يتيسر له أن يجمع بين العلوم المختلفة، فيقف على فن واحد، فإذا انتهى منه فإنه يدرس الفن الآخر، ولكن الأمور أحياناً قد لا تساعده على ذلك، هذا طالب ذهب إلى الجامعة، وجاء في منطقة فيها دروس كثيرة، فيها عالم يدرِّس علومًا مختلفة، وقال: أنا سأقتصر على فن واحد، طيب، والباقي؟ هذا الفن الواحد لربما عند العالم ما ينتهي إلا بعد عشر سنين، أو أكثر، وبقية العلوم؟ فلماذا تهدر هذه الأوقات، باقي الوقت ماذا تفعل به؟ ولذلك نقول لبعض الشباب إذا جاء يسأل أحياناً يقول: أنا أريد أن أشتغل بالقرآن، قيل لي: لا تشتغل بغير القرآن! نقول: كم تشتغل بالقرآن؟ قال: في مدة لا تتجاوز الساعتين، نقول: طيب ساعتان من أربع، وعشرين ساعة كم بقي؟ اثنتان، وعشرون ساعة أين تذهب؟ لا تشتغل بغير القرآن، فكثير من الناس أخذوا بهذه المقولة، فذهبت عليهم سنوات، وفاتهم علم كثير، ولذلك أقول: أحياناً يوجد لدى الإنسان من يعلمه بهذه الطريقة، يقتصر على فن واحد، ويسير به شيئاً فشيئاً، فهذا لا إشكال، ولكن في الغالب لا يتيسر له مثل هذا، فماذا يصنع الإنسان؟.

نقول: يدرس بحسب طاقته، وبحسب ما يتاح له من الوقت، والإمكان، ولهذا النووي - رحمه الله - كان يقرأ في كل يوم اثني عشر درساً على مشايخه شرحاً، وتصحيحاً، فهو متفرغ للعلم، ليس عنده ما يشغله، والناس اليوم في دراساتهم في الجامعة مثلاً كم يدرسون من محاضرة في اليوم الواحد؟

خمس محاضرات، فمثل هذا لا يستغرب.

ثم أقول: إذا درس هذه المختصرات ينتقل بعد ذلك إلى المطولات، فيراجع، ويقرأ، ويجرد الكتب، ويكون له برنامج يسير عليه في ذلك، يوجد تقويم إلى سنة ألف، وأربعمائة، وخمسين للهجرة موجود، ومطبوع يباع أصدرته، وزارة المالية، تقويم في مجلد لطيف، فيه الأيام، والتواريخ لهذه السنوات كلها، تستطيع أن تجعل لك برنامجًا في المختصرات، والمطولات، والكتب التي تقرأ صيفاً، وشتاءً، متى ستنهي هذا، ومتى ستنهي هذا، ومتى ستحفظ هذا، ومتى ستجرد هذه المطولات، بحيث يعرف الإنسان متى سينتهي من مراحل التعلم هذه، ولا يبقى في حال من التسويف، ثم بعد ذلك لا يخرج بطائل.

وينبغي عليه في دراسته أن يحذر من التشتت، والتفرق في العلم الذي يقرؤه، وهذا يقع لكثير من طلاب العلم، وذلك أنه لربما أراد أن يحضر درسًا من الدروس، فيذهب، ويقرأ كثيرًا من الشروح، كأنه يحضِّر لإلقاء درس لطلاب الدراسات العليا، إنسان عمره لربما لم يجاوز العشرين، وهو يريد أن يدرس كتاباً مختصراً في المرحلة الأولى، أو الثانية، يريد أن يقرأ مثلاً في شرح الأربعين النووية، أو في عمدة الأحكام، وذهب يدرس عند أحد الشيوخ فصار يحضِّر أكثر مما يحضره الشيخ، الشيخ ربما يحضر من سبعة كتب، أو من ثمانية كتب، وهذا يحضر من عشرة، أو من أكثر من ذلك، ويبقى سائر ساعات اليوم، وهو يحضر، وهذا موجود، ونتحدث عن أمثلة واقعية موجودة، فيأتي هذا الطالب، وقد صار أكثر اطلاعًا من الشيخ، ثم يجلس، وينظر في هذا الكلام الذي قيل: أوه! بقيت أشياء، وبقيت مسائل ما ذكرها، وهناك أشياء أخرى تتعلق بهذه، وهناك فوت كذا، وترك كذا، وأهمل كذا، وما علق على الآيات التي وردت، ويجلس في هذا الدرس يحصي، وكلما ذكر الشيخ شيئًا يقول: نعم، هذا معروف، هذا معروف، في غيره؟ هذا لا ينتفع، وقد ذكر النووي - رحمه الله - أن هذا مما يضر به، فيزهد في علم الشيخ، وهذا لربما أوقع الإنسانَ فيه الجهلُ، أو الحرصُ الزائد، ولكنه لا يستطيع المواصلة، الآن تصور إنسانًا يحضِّر بهذه الطريقة، طالب يحضر للدروس التي يحضرها، خمسة دروس بهذه الطريقة، الليل، والنهار، وهو يحضر، هل سيستطيع المواصلة كل السنوات بهذه الطريقة؟

أبداً، تجد ربع الكتاب الأول عنده دائماً مظلمًا من الكتابة، والحواشي الكثيرة، من الشروح، هو يدرس الآن في قطر الندى، وتجد الحواشي منقولة من أوضح المسالك، ومن شرح الأشموني، وحاشية الخضري، وينقل من هذه الكتب في النحو، ولربما يثقل عليه هذا جدًّا، ولكنه يتحمل، ويتحامل، من أجل ماذا؟ فيزهد فيما يسمع، ثم ما يلبث أن ينقطع، يقول: لماذا أحضر؟.

  1.  انظر: المدخل إلى مذهب الإمام أحمد لابن بدران (ص: 490 - 491).
  2.  أخرجه ابن ماجه، كتاب النكاح، باب خطبة النكاح، رقم: (1894)، والنسائي في السنن الكبرى، برقم (10255)، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، برقم (4216).
  3.  جامع بيان العلم، وفضله (1/431).
  4.  المصدر السابق (2/1129).
  5.  أدب الدنيا، والدين، ص: (48). 
  6.  صحيح البخاري (1/24).
  7.  تاريخ ابن خلدون (1/ 734).
  8.  تاريخ ابن معين (3/74)، والثقات لابن حبان (9/130).
  9.  ربيع الأبرار، ونصوص الأخيار (2/19).
  10.  أدب الدنيا، والدين (51). 
  11.  صحيح البخاري (1/25). 
  12.  انظر: أدب الدنيا، والدين (1/50 - 51). 
  13.  انظر: مجموع الفتاوى (23/ 54). 

مواد ذات صلة