الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(010) من قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني ءادم..) الآية 172– إلى قوله تعالى (وممن خلقنا أمة يهدون بالحق..) الآية 181
تاريخ النشر: ٠٤ / شعبان / ١٤٣٩
التحميل: 416
مرات الإستماع: 467

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:

فاللهم اغفر لنا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، ولجميع المسلمين.

قال الحافظ ابن جزي - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى:

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] الآية: في معناها قولان:

أحدهما: أن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه، وهم مثل الذر، وأخذ عليهم العهد، بأنه ربهم، فأقروا بذلك، والتزموه، روى هذا المعنى عن النبي ﷺ من طرق كثيرة[1] وقال به جماعة من الصحابة، وغيرهم.

والثاني: أن ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية عبارة عن إيجادهم في الدنيا، وأما إشهادهم فمعناه: أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: ألست بربكم، وكأنهم قالوا بلسان الحال: بلى أنت ربنا.

والأول هو الصحيح؛ لتواتر الأخبار به، إلا أن ألفاظ الآية لا تُطابقه بظاهرها؛ فلذلك عدل عنه من قال بالقول الآخر، وإنما تُطابقه بتأويل؛ وذلك أن أخذ الذرية إنما كان من صلب آدم، ولفظ الآية يقتضي أن أخذ الذرية من بني آدم، والجمع بينهما: أنه ذكر بني آدم في الآية، والمراد آدم، كقوله: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ [الأعراف: 11] الآية، على تأويل: لقد خلقنا أباكم آدم، ثم صورناه، وقال الزمخشري: إن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، والمراد بذريتهم من كان في عصر النبي ﷺ منهم[2] والصحيح المشهور: أن المراد جمع بني آدم حسبما ذكرناه.

فقوله - تبارك، وتعالى -: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: 172] الذرية هم الأولاد، وأولاد الأولاد، كل هذا يقال له: ذرية، وهي مأخوذة من (ذرأ) بمعنى خلق؛ لأن الذرية هي خلق الله.

وما ذكره المؤلف - رحمه الله - من الخلاف في معنى الآية، وهو أخذ هذا الميثاق، فظاهر الآية أن الله - تبارك، وتعالى - أخذ ذلك وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ فمن هنا، وقع الاختلاف هل المقصود بهذا ما جاء في النصوص: من أن الله - تبارك، وتعالى - استخرج ذرية آدم  من صلبه، فإن استخراج الذرية الوارد في الأحاديث إنما هو من صلب آدم، وهنا قال: مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ولذلك اختلفوا في المراد بذلك.

وكما هو معلوم أن القرآن يفسَّر بالسنة، فإذا، وُجِد تفسير هذا عن النبي ﷺ فلا يُعدل عنه إلى غيره، لكن الذي أوقع الخلاف بين العلماء من أهل السنة أنفسهم فضلاً عن غيرهم هو ما ذكرت.

فذكر المعنى الأول: أن الله لما خلق آدم أخرج ذريته من صلبه، وهم مثل الذر، وأخذ عليهم الميثاق بأنه ربهم، فأقروا بذلك، والتزموه، يقول: "رُوى هذا المعنى عن النبي ﷺ من طرق كثيرة" هذا جاء عن ابن عباس - ا -[3] وعن ابن عمرو - ا -[4] وعن عمر[5] وأنس[6] وعبد الرحمن بن قتادة[7] وأبي هريرة[8] وأبي أمامة[9] فكل هؤلاء قد رووا الحديث، ولكن هذه المرويات منها المرفوع، ومنها الموقوف، ومنها الصحيح، ومنها دون ذلك، وقد لا تخلو طرق هذه الأحاديث، أو أكثرها من مقال، ولكن بمجموعها - على كثرتها - يقوي بعضها بعضًا، فالحديث ثابت، وصحيح، وقال به جماعة من الصحابة كابن عباس[10] وعبد الله بن عمر[11] وأبي بن كعب[12] - ، وأرضاهم - .

فهذا القول هو المشهور، وهو الأرجح، والله تعالى أعلم؛ لتضافر هذه النصوص، ويُجاب عن هذا الإشكال كما أجاب المؤلف - رحمه الله - وغيره.

وأما القول: بإن هذا من باب التمثيل، وأن المقصود هو إيجاد هؤلاء، وأن إشهادهم بمعنى ما نصب لهم من الأدلة على ربوبيته، فشهدت بها عقولهم، كأنه أشهدهم على أنفسهم، يعني: إن هذا من باب التمثيل، وإنه ليس بالحقيقة، فهذا خلاف الظاهر.

وما ذكره المؤلف - رحمه الله - في ترجيح القول الأول صحيح، ثم ذكر قول صاحب الكشاف: بأن المراد ببني آدم أسلاف اليهود، وأن المراد بذريتهم من كان في عصر النبي ﷺ فهذا قولٌ ساقط، ولا يدل عليه ظاهر القرآن، وهو تأويلٌ بعيد، ليس عليه قرينة، ولا ملجئ إلى مثل هذا التكلف.

وهذا القول الذي رجحه المؤلف يدل عليه الحديث، وهو الذي اختاره جماعة كبيرة من المفسرين: كأبي جعفر ابن جرير - رحمه الله -[13] والواحدي[14] والقرطبي[15] والشوكاني[16] والشيخ محمد أمين الشنقيطي[17] رحم الله الجميع.

وفي حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ: لما خلق الله آدم مسح ظهره فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة[18] وهذا فيه استخراج الذرية.

وفي حديث ابن عباس - ا - قال النبي ﷺ: أخذ الله - تبارك، وتعالى - الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قُبُلاً: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۝ ​​​​أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172 - 173][19].

حديث ابن عباس - ا - هذا جاء فيه الربط بالآية، وهذا النوع من الأحاديث في التفسير لا يُعدل عنه؛ لأنه لا يدخله اجتهاد المفسر من جهة الربط بين الآية، والحديث، فالـمُفسِّر قد يصيب، وقد يخطئ؛ لأنه يدخله الاجتهاد، أما هذا فلا يدخله الاجتهاد، ولا يتطرق إليه، وهذا القول نسبه الشيخ محمد أمين الشنقيطي - رحمه الله - إلى جمهور السلف[20] وهذا صحيح، فممن قال به: ابن عباس، وابن عمرو، وأُبي، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحَّاك، والسُدِّي[21] وغير هؤلاء.

وذكر ابن الأنباري: أنه مذهب أصحاب الحديث، وكبراء أهل العلم[22] أي: أن الله - تبارك، وتعالى - أخرج الذرية من صلب آدم، وأصلاب أولاده، وهم في صور الذر، وأخذ عليهم الميثاق: أنه خالقهم، وأنهم مصنوعون، فاعترفوا بذلك، وقبلوا؛ وذلك بعد أن ركَّب فيهم عقولاً عرفوا بها ما عرض عليهم.

وذكر هذا المعنى أيضًا غيره، كصاحب التفسير الكبير أيضًا بأن ظاهر الآية يدل على هذا المعنى، وذكر محمل ذلك باعتبار أنه - تبارك، وتعالى - يعلم أن الشخص الفلاني يتولد منه فلان؛ وذلك يتولد منه آخر، فعلى الترتيب الذي عَلِم دخولهم في الوجود يخرجهم، ويميز بعضهم عن بعض، وأما أنهم يُخرج كل تلك الذرية من صلب آدم، يقول: هذا ليس في لفظ الآية ما يدل على ثبوته، وليس في الآية أيضًا ما يدل على بطلانه، إلا أن الخبر قد دلَّ عليه، فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم من القرآن، وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخبر، فلا منافاة بين الأمرين، ولا مدافعة[23].

يقول: "وبناءً عليه يجب المصير إليهما معًا"[24] يعني: أن ذلك، واقع، وأن الله أخرج ذرية آدم من صلبه، وهذه الذرية في علم الله متسلسلة، والله - تبارك، وتعالى - يعلم ما، وُجِد، وما سيوجد، فاستخرجهم من صلب آدم على تسلسلهم من أصلاب أولاد آدم، وذرية آدم، فكان بهذا الاعتبار مستخرجًا لهم من صلبه، وصحَّ نسبة ذلك إلى بني آدم باعتبار أن هذا تسلسل فيهم.

وذكر أيضًا البغوي هذا السؤال، ثم قال: قيل: إن الله أخرج ذرية آدم بعضهم من ظهور بعض على نحو ما يتوالد الأبناء من الآباء في الترتيب، فاستُغنِي عن ذكر ظهر آدم لما عُلِم أنهم كلهم بنوه، وأُخرجوا من ظهره[25] وهذا يوافق قول صاحب التفسير الكبير - أعني الرازي - أو ممن أكمل تفسيره؛ لأن النسبة للرازي لا تخلو من إشكال؛ لأن الرازي لم يُكمل الكتاب، فبعض أهل العلم يقولون بأن الرازي كتب من أوله إلى قدرٍ معين، ثم بعد ذلك أُكمِل، والشيخ عبد الرحمن المعلمي - رحمه الله - جعل التكميل في مواضع متعددة، في أثناء الكتاب، يعني ليس في موضع، واحد[26] وهذا استنتاج من الشيخ عبد الرحمن المعلمي - رحمه الله - وعلى هذا يكون الأمر أصعب، وليس من الدقة في العلم، ولا من العدل أيضًا أن يُضاف ذلك إليه بإطلاق، يعني حتى بعض الأقوال المنحرفة قد تكون من صاحب التكملة في بعض المواضع، فحينما يُقال: قال الرازي، قد لا يكون من كلام الرازي، فقد يكون ممن أكمل الكتاب، ومثل الرازي، وصاحب الكشاف عادةً لا أحب أن أذكرهم في التفسير، لكن أحيانًا قد توجد لهم بعض العبارات التي قد لا تخالف قول بعض أهل السنة، وفيها إبانة بصورة ربما ينتفع بها السامع لمزيد تفصيل - والله أعلم -.

وبعضهم يقول: المعنى: واذكر حين استخرج ربك ذرية آدم من أصلاب آبائهم، وجعلهم يتناسلون في الدنيا قرنًا بعد قرن، وهذا غير القول الأول، وهو خلاف ما جاء في الأحاديث فيما يظهر، لا سيما، وقد رأيتم حديث ابن عباس - ا - مُصرِّح بالآية، وهذا القول اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[27] والحافظ ابن القيم[28] والحافظ ابن كثير[29] والشيخ عبد الرحمن السعدي[30] فهؤلاء الأئمة اجتمعوا على تأييد هذا القول، مع أن الأحاديث على كثرة ألفاظها، فهي متفاوتة في الألفاظ، لكنها تجتمع في معنًى واحد وهو أن الله استخرج من صلب آدم ذريته، وليس المقصود أنهم يتوالدون في الدنيا.

وبعضهم يقول: هذا الأشهاد بما نصب في نفوسهم من الفطرة، أو من دلائل، وحدانيته أو نحو ذلك، فالله تعالى أعلم.

لكن ظواهر الأحاديث - كما ذكرت - تدل على أن الله استخرج من صلب آدم ذريته، والإشكال الذي أورده بعض أهل العمل بأن ظاهر الآية: أن الاستخراج من ظهور الذرية، يُجاب عنها بما سبق، والعلم عند الله ورحم الله الجميع.

س: ...

في الطحاوية كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - وكلام الحافظ ابن القيم، وجُل ما فيها هي نصوص منقولة عن ابن القيم، وعن شيخ الإسلام، لكن الطحاوي - رحمه الله - عالم حنفي، وكأنه أراد أن يُقرِّب عقيدة أهل السنة لهؤلاء الأحناف، فلم يُصرِّح لهم بأسماء هؤلاء الأئمة الأعلام[31] كشيخ الإسلام - رحمه الله - والحافظ ابن القيم، من أجل أن يقبلوا بها، وإلا فالكلام الذي في الطحاوية هو شيخ الإسلام، وابن القيم، وهو الذي أشرت إليه آنفًا.

س: ...

معروف أنه في شرح العقيدة الطحاوية، هو يقصد هذا.

س: ...

أيضًا أنه مسح ظهره، وجاء في عدد من الروايات.

س: ...

تقصد أنه يؤيد كلام شيخ الإسلام: أنهم يتوالدون، وإلا استخراجهم من صلب آدم؟

س: ...

هذا غير قول شيخ الإسلام وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ هذا يوافق من ذكرت من الصحابة فمن بعدهم.

وهم يوريدون أسئلة على القول: أنه استخرجهم من صلب آدم، الذي هو قول عامة الصحابة، ونُسِب لأئمة الحديث، ومن الأسئلة التي ترد: أنهم لا يذكرون أهل النفاق.

والجواب: أن الله لا يؤاخذهم بمقتضاه، وبمجرده، وإنما بعده أيضًا ركَّز في فطرهم، فكل مولود يولد على الفطرة، وكذلك فإن الله - تبارك، وتعالى - أرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، فهذا الذي يؤاخذهم به وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [الإسراء: 15] لكن هذا من باب توارد الحجج، بحيث لا يبقى لهم عذر، منذ كانوا في صلب أبيهم آدم والله أعلم -.

قوله تعالى: قالُوا بَلى شَهِدْنا [الأعراف: 172] قولهم بلى: إقرار منهم بأن الله ربهم، فإن تقديره: أنت ربنا، فإن بلى بعد التقرير تقتضي الإثبات، بخلاف نعم، فإنها إذا، وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب، وإذا، وردت بعد التقرير تقتضي النفي؛ ولذلك قال ابن عباس في هذه الآية: لو قالوا: نعم لكفروا[32].

هذا الذي ذكره المؤلف - رحمه الله - من أنَّ (بلى) بعد التقرير تقتضي الإثبات، يعني: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى يعني: أثبتوا ذلك كما هنا، وإذا، وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب، وإذا، وردت بعد التقرير تقتضي النفي أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى وما نقله هنا عن ابن عباس - ا - أنهم لو قالوا: نعم لكفروا، هذا يذكره بعض المفسرين، وفيما يحضرني أن الذين ينقلون هذا هم المتأخرين، ولا أقصد بالمتأخرين المعاصرين، وإنما كتب التفسير غير المسندة، حيث نقل هذا جماعة منهم من غير إسناد، لكن لا، وجود له في مثل تفسير ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأمثال هذه المصنفات المسندة، ولا في غيره - والله تعالى أعلم -.

وأما قولهم: شَهِدْنَا [الأعراف: 172] فمعناه: شهدنا بربوبيتك، فهو تحقيق لربوبية الله، وأداء لشهادتهم بذلك عند الله، وقيل: إن شهدنا من قول الله، والملائكة، أي: شهدنا على بني آدم باعترافهم.

وظاهر اللفظ: أن ذلك من إقرارهم هم، وأنهم شهدوا على أنفسهم؛ لأن الله قال: وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ فأقروا بذلك، واعترفوا، وهذا القول الذي ذكره المؤلف أنه من شهادتهم أنفسهم هو اختيار كبير المفسرين أبي جعفر ابن جرير - رحمه الله -[33].

قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ [الأعراف: 172] في موضع مفعول من أجله، أي: فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا، فهو من قول الله لا من قولهم، وقرئ بالتاء على الخطاب لبني آدم، وبالياء على الإخبار عنهم.

قراءة الجمهور بالتاء أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ[34] وأما القراءة بالياء (أن يقولوا) فهذه قراءة أبي عمرو[35] وهي قراءة متواترة، كما هو معلوم.

قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها [الأعراف: 175] قال ابن مسعود : هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى إلى ملك مدين داعيًا إلى الله، فرشاه الملك، وأعطاه الملك على أن يترك دين موسى، ويتابع الملك على دينه ففعل، وأضل الناس بذلك[36].

هذا الرجل الذي ذكره الله - تبارك، وتعالى - فآتاه الآيات فانسلخ منها، بعض أهل العلم يقول: هو رجلٌ معين، وإن اختلفوا في تحديده، فيكون من قبيل المبهمات، والمبهمات كما ذكرنا في عدد من المناسبات الأصل أنه لا فائدة من البحث فيها، والتكلُّف في تسمية هذا المبهم؛ لأنه لا يترتب عليه فائدة، العبرة فيما ذُكِر، وأما تسمية هذا فلا فائدة فيه، وإن كان فيه فائدة لذكره الله وسمَّاه، فهذا الشأن في عامة هذه المبهمات، وذكرت أن هذه المبهمات تارةً تكون في أسماء الأشخاص، وتارة في المواضع، والأمكنة، وغير ذلك.

وما جاء هنا عن ابن مسعود في الجملة الأولى: أنه رجل من بني إسرائيل، فهذا أخرجه ابن جرير - رحمه الله -[37] وأما باقي الأثر فليس في ابن جرير، ولا في غيره من الكتب المعروفة بهذا السياق، ويظهر - والله أعلم - أن هذه من جملة ما أُخِذ عن بني إسرائيل، باعتباره هنا أنه من أصحاب موسى .

وقال ابن عباس: هو رجل من الكنعانيين اسمه بلعام، كان عنده اسم الله الأعظم[38] فلما أراد موسى قتال الكنعانيين، وهم الجبارون: سألوا من بلعام أن يدعو باسم الله الأعظم على موسى، وعسكره، فأبى، فألحوا عليه حتى دعا عليه ألا يدخل المدينة، ودعا موسى عليه، فالآيات التي أُعطيها على هذا القول: هي اسم الله الأعظم، وعلى قول ابن مسعود: هي ما علَّمه موسى من الشريعة، وقيل: كان عنده من صحف إبراهيم.

وقال عبد الله بن عمرو بن العاص - ا -: هو أمية بن أبي الصلت[39] وكان قد أوتي علمًا، وحكمة، وأراد أن يسلم قبل غزوة بدر، ثم رجع عن ذلك فمات كافرًا، وفيه قال النبي ﷺ : كاد أمية بن أبي الصلت أن يُسلم[40] فالآية على هذا: ما كان عنده من العلم، والانسلاخ عبارة عن البعد، والانفصال منها، كالانسلاخ من الثياب، والجلد.

الأثر الثاني الذي ذكره عن ابن عباس - ا -: أنه رجلٌ من الكنعانيين اسمه بلعام، يعني ليس من أصحاب موسى بخلاف الرواية التي قبلها عن ابن مسعود .

يقول: "كان عنده اسم الله الأعظم" إلى آخر ما ذكر، وهذه الرواية عن ابن عباس - ا - من طريق علي بن أبي طلحة[41] وذكرتُ لكم أن هذه الطريق جيدة الإسناد، لكن يبدو أن مصدر مثل هذه الرواية بنو إسرائيل.

يقول: "فالآيات التي أعطيها على هذا القول: هي اسم الله الأعظم، وعلى قول ابن مسعود هي ما علَّمه موسى من الشريعة، وقيل: كان عنده من صحف إبراهيم".

وبعض أهل العلم يقول: هي الآيات الشرعية الـمُنزَّلة، وهذا اختاره من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله -[42] والشيخ محمد أمين الشنقيطي - رحمه الله -[43].

وبعضهم يقول: هي حجج التوحيد، وفهم أدلته، وهذا اختاره أيضًا جماعة من المفسرين: كالواحدي[44] والطاهر بن عاشور[45] لكن على القول الأول: أنها الآيات الشرعية الـمُنزَّلة، كأنه يتضمن هذا؛ لأن فهمها يقتضي ما ذُكِر، وأبو جعفر ابن جرير - رحمه الله - لم يحدد هذا، ولا هذا، باعتبار أن الآية تحتمل المعنين، ولا دليل على تحديد واحد من هذه المعاني[46].

وما ذكره عن عبد الله بن عمرو - ا -: من أنه أمية بن أبي الصلت، هذا أخرجه النسائي في التفسير[47] وابن جرير أيضًا[48] وهو ثابت عن عبد الله بن عمرو، وهذه فيها أيضًا أقوال غير ما ذُكِر - والله تعالى أعلم -.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - لما ذكر قول عبد الله بن عمرو: من أنه أمية، قال: "وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه" يعني: لا أنّ الآية نزلت فيه، وإنما كانت حاله مشابهه، يقول: "فإنه كان قد اتصل إليه - يعني أمية بن أبي الصلت - علمٌ كثيرٌ من علم الشرائع المتقدمة، ولكنه لم ينتفع بعلمه، فإنه أدرك زمان رسول الله ﷺ وبلغته أعلامه، وآياته، ومعجزاته، وظهرت لكل من له بصيرة، ومع هذا اجتمع به، ولم يتَّبعه، وصار إلى موالاة المشركين، ومناصراتهم، وامتداحهم، ورثى أهل بدرٍ من المشركين بمرثاةٍ بليغة[49] هذا كلام ابن كثير، والعلماء يذكرون هذا، وغيره.

والطاهر بن عاشور ذكر قول من قال: بأنها نزلت في رجل من الكنعانيين، وأنه بلعام... إلى آخره، يقول: "وذكروا قصته، فخلطوها، وغيَّروها، واختلفوا فيها، فلا ينبغي الالتفات إلى هذا القول لاضطرابه، واختلاطه"[50].

وأبو جعفر ابن جرير - رحمه الله -: يرى أن الصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله - تعالى ذكره - أمر نبيه ﷺ أن يتلو على قومه خبر رجلٍ كان الله آتاه حججه، وأدلته، وجائز أن يكون الذي كان الله أتاه ذلك بلعام، وجائز أن يكون أمية، ولا خبر بأي ذلك المراد، وأي الرجلين المعني يوجب الحجة، ولا في العقل دلالة على أن ذلك المعني به من أي، فالصواب أن يُقال فيه ما قال الله، ويُقرُّ بظاهر التنزيل على ما جاء به الوحي من الله[51].

وهذا كما قال القرطبي - رحمه الله - بأن هذا المثل في قول كثير من أهل العلم في التأويل عام في كل من أوتي القرآن، فلم يعمل به[52] لكن هل هذا في شخصٍ بعينه، أو أنه مثلٌ مضروب لمن آتاه الله العلم فلم يعمل بمقتضاه، وانسلخ منه، هذا يحتمل، لكن الأكثر على أنه معين، وإن اختلفوا فيهِ، فليس عندنا دليل يجب الوقوف عنده، بأنه بلعام - رجل من الكنعانيين - أو أنه رجلٌ من بني إسرائيل، لا يوجد، لكن العبرة ظاهرة، وأنه أتاه الله آياته، فلم ينتفع بها، نسأل الله العافية.

أما أمية بن أبي الصلت فتجدون له كلامًا في شعره عجيبًا، يدل على أنه قد اطَّلع على ما في كتب أهل الكتاب؛ ولذلك يذكر تفاصيل عجيبة موافقة لما جاء في القرآن، لا يمكن أن تُعلَم إلا من طريق الكتب، والوحي الـمُنزَّل، وله أشعار على كل حال كثيرة، وذكر الحافظ ابن كثير جملةً منها في البداية، والنهاية، والرجل له أخبار كثيرة، وأراد أن يُسلِم فلما بلغ بدرًا، وكانت غزوة بدر قد انتهت قبل وقت وجيز، فجاء من صرفه، وقال له: هؤلاء صناديد قريش في القليب فلان، وفلان، وفلان، وكان له قرابة من بعضهم من جهة الخؤولة، كعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، فضاق ذرعًا بذلك، وقال قصيدة يرثيهم بها، ورجع، ولم يُسلم، نسأل الله العافية.

ومن أشعاره في العرش مثلاً:

مَجِّدوا اللهَ فَهـوَ لِلمَجـدِ أَهـلُ رَبُّنا فِي السَّمـاءِ أَمسَـى كَبيـرا
بالبناء العالي الذي بهر النَّاسَ وسَـوَّى فَـوقَ السَّمـاءِ سَريـرا
شرَجـعـًا لا يَـنـالُـهُ بَـصَـرُ العين تَرى حولهُ المَلائِـكُ صـورا[53].

ومن شعره أيضًا:

وأنت بفضل منك نجيت يونسا وقد بات في أضعاف حوتٍ لياليا[54].

ومن شعره أيضًا في هذا:

فأنبت يقطينًا عليه برحمةٍ من اللـه لولا اللـه أصبح ضاويا[55].

يعني في الشمس وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ [الصافات: 146].

ويقول مثلاً:

فمن حاملٍ إحدى قوائم عرشه ولولا إله الخلق كَلَّوا وبَلَّدوا
قيام على الأقدام عانون تحته فرائصهم من شدة الخوف تُرعد[56].

 كما قال الله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ ومَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر: 7] فهذا من شعر هذا الرجل الذي - نسأل الله العافية - لم ينتفع بما أوتي، فالعلم أحيانًا قد لا ينفع صاحبه، وإنما العبرة بما يؤثره هذا العلم من الإيمان، والعمل الصالح، وتقوى الله - تبارك، وتعالى - وإلا فاليهود أخبر الله عنهم، وما أتاهم من العلم، وكان أسوأ مثل مضروب لأمة هو ما ضُرِبَ لهؤلاء اليهود: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة: 5] وأسوأ مثل مضروب لمن أوتي العلم، ولم ينتفع به، ولم يعمل بمقتضاه، هو هذا المثل الذي في سورة الأعراف: كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176].

نسأل الله العافية، يعني هذا مثل الكلب، وأولئك مثل الحمار، يحمل أسفارًا، والله المستعان.

يقول: "والانسلاخ عبارة عن البعد، والانفصال منها" يعني الخروج من العمل بها "كالانسلاخ من الثياب، والجلد، وأصل السلخ خروج الشيء عن جلده".

قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها [الأعراف: 176] أي: لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده.

يقول: "لرفعنا منزلته بالآيات التي كانت عنده" وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - أن مضمون ذلك: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها أنه لم يتعاطَ الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: من إيثار الله، ومرضاته على هواه، ولكنه آثر الدنيا، وأخلد إلى الأرض، واتبع هواه[57].

وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إلى الْأَرْضِ [الأعراف: 176] عبارة عن فعله لما سقطت به منزلته عند الله.

يعني اطمأن إليها، ولزمها، أو ركن إلى الدنيا ظانًا أنه يخلد فيها، أصل المادة (خلد) يدل على الثبات، والملازمة، أخلد إلى الأرض أي ركن إليها، وإذا أضيف ذلك إلى الأرض معنى ذلك الدنيا، وما فيها من الحطام الزائل.

قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ أي: صفته كصفة الكلب؛ وذلك غاية في الخسة، والرداءة.

والعلماء - رحمهم الله - كابن القيم يذكرون لماذا وصف بالكلب؟ فذكروا أشياء من أوصافه السيئة، فذكر جملة منها الحافظ ابن القيم التي تدل على دناءتهِ[58] يعني مثلاً ذكر أنه دائمًا يضع خطمه في الأرض كأنه يُشمشم دائمًا الأرض لشدة شرهه، ولهفه، وكذلك أيضًا أنه - أعزكم الله، ومن يسمع - يقيء، ويعود على قيئه، وذكر أيضًا: أنه لا يفتر من أشياء، وأوصاف سيئة، يعني يضع - أعزكم الله - أنفه في دبره، وكذلك أنه إذا رأى ذا هيئة من الناس أنزل رأسه إلى الأرض كأنه يخضع له، وإذا رأى من هو دون ذلك فيه ابتذال، أو نحو هذا نبحه، وأنه لا يزال يُخرج لسانه يلهث دائمًا، وأن هذه أسوأ ما يكون من الصور، والأشكال، فالحيوانات، والطيور عادةً تلهث في حالة التعب الشديد، أو الحر، والعطش، أما هذا فدائمًا يلهث.

في نسخة: وذلك غاية في الخسة، والرذالة.

قوله تعالى: إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ، أو تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ [الأعراف: 176] اللهث: هو تنفس بسرعة، وتحريك أعضاء الفم، وخروج اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات مع الحر، والتعب، وهي حالة دائمة للكلب، ومعنى إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ إن تفعل معه ما يشق عليه من طرد، أو غيره، أو تتركه دون أن تحمل عليه، فهو يلهث على كل حال، ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه أن، وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، فضلالته على كل حال، كما أن لهث الكلب على كل حال.

هذا المعنى في وجه الشبه اختاره ابن جرير - رحمه الله - أنه ضال في كل الأحوال[59].

وقيل: أن ذلك الرجل خرج لسانه على صدره، فصار مثل الكلب في صورته، ولهثه حقيقة.

على هذا ليس من باب التمثيل، وإنما عُوقِبَ هذا الرجل بعد ما فعل ما فعل على أنه معين، فخرج لسانه على صدره، لكن هذا ليس فيه دليل ثابت، وإنما جاء في بعض المرويات الإسرائيلية، فيكون هذا وصفٌ لحقيقةٍ، واقعة، وليس من باب التمثيل، وبعضهم يقول: بأن المعنى أن قلب الكافر، والمنافق، والضال ضعيف، فارغ من الهدي، فهو كثير الوجيب، فعُبِّر عن هذا بهذا، وهذا جاء عن الحسن البصري - رحمه الله -[60] وهو تصوير لحاله من فراغ قلبه، من معرفة الله، والإيمان به، فصار بحالة من الخوف الدائم المستمر، لكن الأول أقرب - والله تعالى أعلم - فهو في كل حالاته - نسأل الله العافية - على ضلال، إن، وعظته، أو تركته، كما أن الكلب يلهث في كل حال.

وفي الكلام على مفردات هذا المثل، وتفسير ذلك إجمالاً، أو بأجزائه، كل هذا مضى بشيءٍ من التفصيل في الكلام على الأمثال المضروبة في القرآن، وليس من العادة التي جرت في مثل هذا الكتاب، والتعليق عليه أن يُستَطرد في شيءٍ من ذلك، وإنما المقصود توضيح كلام المؤلف - رحمه الله - .

قوله تعالى: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الأعراف: 176] أي: صفة المكذبين كصفة الكلب في لهثه، أو كصفة الرجل المشبه به؛ لأنهم إن أُنذروا لم يهتدوا، وإن تُركوا لم يهتدوا، أو شبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات، والمعجزات فلم تنفعهم، كما أن الرجل لم ينفعه ما كان عنده من الآيات.

هذا باعتبار أن هذا المثل يصدق على كل من أوتي علمًا فلم ينتفع به، ونقلت قول القرطبي - رحمه الله -: بأنه عام في كل من أوتي القرآن، فلم يعمل به[61].

قوله تعالى: ساءَ مَثَلاً [الأعراف: 177] أي: مثل القوم.

 

ساء مثلاً يعني قبح، ويقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: أي ساء مثلهم أن شُبِّهوا بالكلاب، التي لا همة لها إلا في تحصيل شهوةٍ، أو طعام، أو نحو ذلك، فمن خرج عن حيز العلم، والهدى، وأقبل على شهوة نفسه، واتبع هواه، صار شبيهًا بالكلب، وبئس المثل مثله[62].

قوله تعالى: وَأَنْفُسَهُمْ [الأعراف: 176] قدّم هذا المفعول للاختصاص، والحصر.

 

وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ يعني كانوا يظلمون أنفسهم، فلما قدَّمه أفاد هذا المعنى الذي هو الاختصاص، يعني ما ظلموا غيرهم، وإنما ظلموا أنفسهم، فالإنسان عند ما يُعرِض عن الإيمان، والعمل الصالح فهو يظلم نفسه فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة: 36] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ [يونس: 23] مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ومَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا [فصلت: 46].

قوله تعالى: كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ والْإِنْسِ [الأعراف: 179] هم الذين علم الله أنهم يدخلون النار بكفرهم، فأخبر أنه خلقهم لذلك، كما جاء في قوله: هؤلاء إلى الجنة، ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار، ولا أبالي[63].

 

نعم هذا الحديث ثابت صحيح، أخرجه الإمام أحمد، وغيره، وكذلك جاء في حديث عائشة - ا - عن النبي ﷺ : إن الله خلق للجنة أهلاً، خلقهم لها، وهم في أصلاب آبائهم، وخلق للنار أهلاً، خلقهم لها، وهم في أصلاب آبائهم[64].

وفي حديث عبد الله بن عمرو - ا - مرفوعًا: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات، والأرض بخمسين ألف سنة[65] فالله يعلم ما كان، وما يكون.

قوله تعالى: لا يُبْصِرُونَ بِها [الأعراف: 179] ليس المعنى نفي الفهم، والسمع، والبصر جملة، وإنما المعنى نفيها عما ينفع في الدين.

هو هذا، وإلا فكانت لهم أبصار، كما قال الله : الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي [الكهف: 101] فهذا هو المراد، فهم صمٌ بكمٌ عميٌ، وإلا فالله - تبارك، وتعالى - أعطاهم سمعًا، وأبصارًا، وأفئدة، كما قال الله : وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وأَبْصَارًا وأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ ولَا أَبْصَارُهُمْ ولَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأحقاف: 26] وهكذا في قوله تعالى: إن شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ولَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ ولَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 22 - 23] نسأل الله العافية.

قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الأعراف: 180] قال رسول الله ﷺ : إن لله تسعة، وتسعين اسمًا، من أحصاها دخل الجنة[66].

هي حسنى، باعتبار - كما ذكر بعض أهل العلم كالقرطبي - أنها حسنة في الأسماع، والقلوب[67] فهي دالة على توحيد الله وكرمه، وجوده، ورحمته، وإفضاله، وكذلك هي حسنة من كل وجه، في ألفاظها، ليس فيها لفظ ينبو عنه السمع، أسماء الناس، والمخلوقين، والأشياء قد يوجد فيها بعض الأسماء ما يكون في لفظه ليس بذاك، لكن أسماء الله حُسنى في ألفاظها، كما أنها حُسنى أيضًا في معانيها، ودلالاتها، فأسماء المخلوقين قد يوجد الاسم، وليس له معنى، فبعض الأسماء يتسمى بها الناس، وإذا سئلوا ما معنى هذا الاسم؟ لربما قالوا: نبتة في الصحراء، وهو لا يعرف ذلك، فليس لها معنى، ولا حاجة لئن أُمثِّل ببعض الأسماء التي لا معنى لها في كتب اللغة، وفي كلام العرب، إذا سألت أصحابها، أو من سمَّى، ولده بذلك لا يعرف معنى الاسم، لكن أعجبه اللفظ، وذائقة الناس تختلف في هذا أيضًا.

وكذلك أيضًا بعض هذه الأسماء تدل على معانٍ سيئة، وبعض ذلك هي أسماء حيوانات مكروهة، كالقرد، ونحوه، ولكن هؤلاء قد يستحسنون شيئًا دون أن يعرفوا ما تحته من المعنى.

لكن أسماء الله هي حُسنى في ألفاظها، وحُسنى في معانيها، وفي مقتضياتها، ولوازمها، هي حُسنى من كل وجه، فهي بالغةٌ في الحسنِ غايته، ليس فيها عيب، ولا نقص بوجهٍ من الوجوه.

وسبب نزول الآية: أن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ فيذكر الله مرة، والرحمن أخرى، فقال: يزعم محمد أن الإله واحد وها هو يعبد آلهة كثيرة، فنزلت الآية مبينة أن تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد.

هذه الرواية في سبب النزول: أن أبا جهل... إلى آخره، ليس لها إسناد يُعرَف، إلا ما جاء في كتاب (إن لله تسعة، وتسعين اسمًا) لأبي نُعَيم، ذكر فيه حديث: إن لله تسعةً، وتسعين اسمًا[68] بلفظ أن رسول الله ﷺ قال، وهو ساجد: يا الله، يا رحمن[69] فسمعه أبو جهل، وهو لا يعرف الرحمن، فقال: محمدٌ ينهانا أن نعبد إلهين، وهو يدعوا إلهًا مع الله آخر، يُقال له الرحمن، فأنزل الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوْ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] غير هذه الآية، مع أن إسناده في غاية الضعف، وهو مروي عن ابن عباس - ا - فسبب النزول، وهو أن ذلك بسبب قول أبي جهل، لا يصح، والرواية التي جاءت في خبر أبي جهل هي ما سمعتم، وليس في هذه الآية، مع أنها لا تصح أصلاً - والله أعلم -.

والحُسنى مصدر وصف به.

يعني كالذكرى.

أو تأنيث أحسن.

وهذا هو المشهور، والحُسنى جاء في هذا الموضع، وفي غيره اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه: 8] وهكذا: هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الحشر: 24].

وحُسن أسماء الله هي أنها صفات مدح، وتعظيم، وتمجيد.

هو كما ذكرت: أن ذلك في ألفاظها، وفي مضامينها، ومعانيها، ولوازمها، ومقتضياتها، ودلالاتها.

قوله تعالى: فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: 180] أي: سموه بأسمائه، وهذا إباحة لإطلاق الأسماء على الله تعالى.

فادعوه بها قُلِ ادْعُوا اللَّهَ، أو ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [الإسراء: 110] فَادْعُوهُ بِها ويدخل في الدعاء: دعاء المسألة: يا الله يا رحمن، ونحو ذلك، ويدخل فيه أيضًا دعاء العبادة، وهو أن يُعبَد بمقتضياتها، ونحن دائمًا في الكلام على معاني الأسماء الحسنى، في الدروس المتعلقة بهذا نذكر النوعين: دعاء المسألة، ودعاء العبادة، والدعاء - كما هو معلوم - يقال لهذا، وهذا.

فأما ما ورد منها في القرآن، أو في الحديث، فيجوز إطلاقه على الله إجماعًا، وأما ما لم يرد، وفيه مدح لا تتعلق به شبهة، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله، ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري، وغيره، ورأوا أن أسماء الله موقوفة على ما، ورد في القرآن، والحديث.

يقول: "وهذا إباحة لإطلاق الأسماء على الله تعالى" هذا مقيد بما، ورد في الكتاب، والسنة، فإن أسماء الله - تبارك، وتعالى - توقيفية، وصفاته - تبارك، وتعالى - مشتقةٌ من الأسماء؛ لأن الراجح أن جميع أسماء الله مشتقة، وليس فيها اسمٌ جامد، والمشتقة أبلغ من الجامدة؛ لأنها تدل على أوصاف، ومن، ثم فإن جميع الأسماء مشتقة، أعني أسماء الله - تبارك، وتعالى - ولا يُسمى إلا بما سمى به نفسه، أو سماه به رسوله ﷺ ولا يُشتق له من أوصافه أسماء، فالأسماء توقيفية، وإنما تشتق الصفات من الأسماء.

يقول: "وأما ما لم يرد، وفيه مدح لا تتعلق به شبهة، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله" يعني الباقلاني، وهو من علماء الأشاعرة، ومن أصحاب المدارس المعروفة في المذهب الأشعري، وما ذكره غير صحيح، فإن ذلك من إساءة الأدب مع الله أن يُسمَّى بما لم يُسمِّ به نفسه، ولو سماك أحد بغير الاسم الذي سمَّاك به أبوك، فإنك لا تقبل بهذا، فالله أعظم، وأجل، وذكر منع أبي الحسن الأشعري، وأن أسماء الله توقيفية، وهذا قول أهل السنة، والجماعة.

وقد ورد في كتاب الترمذي عدّتها أعني تعيين التسعة، والتسعين[70] واختلف الـمُحدِّثون هل تلك الأسماء المعدودة فيه مرفوعة إلى النبي ﷺ أو موقوفة على أبي هريرة؟ وإنما الذي، ورد في الصحيح كونها تسعة، وتسعين من غير تعيين.

إن لله تسعة، وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة[71] يعني لها هذه المزية، فالكلام متصل أن من أسماء الله هذه الأسماء التسع، والتسعين، التي لها مزية، وهو أن من أحصاها دخل الجنة، وإلا: أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو علمته أحدا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك[72] فأسماؤه لا يحصيها إلا هو، وهذه الزيادة في سرد الأسماء الحسنى تحدثت عنها، وعن طرقها، والكلام عليها، في مقدمات الأسماء الحسنى، في أول المجالس المتعلقة بذلك، وهي ليست من الحديث، وإن جاءت في بعض الروايات، كما عند الترمذي[73] والحاكم[74] لكنها كما ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - وغيره أنها مدرجة في الحديث[75] وذكر ابن حزم - رحمه الله - أن أحاديثها مضطربة[76] وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في التلخيص أنه جمع من القرآن تسعة، وتسعين اسمًا، ثم سردها[77] والأسماء التي في الكتاب، والسنة أكثر من هذا، ونقل أبو بكر بن العربي عن بعض أهل العلم أنه جمع من الكتاب، والسنة ألف اسم[78] وهي لا تبلغ هذا العدد، وأذكر أني حاولت أن استقرأ جملة من الكتب المصنفة في الأسماء الحسنى، ووضعت لها جدولاً يعني الأسماء سردًا، ثم في الأعلى أسماء المؤلفين، ثم أمام أسماء المؤلفين إشارة إلى من ذكره، يعني بمجرد نظرة تعرف أن هؤلاء هم الذين ذكروا هذا الاسم، والأسماء التي توجد في هذه الكتب حتى عند الـمُكثِرين جدًا، يعني ربما تزيد على الأربعمائة بشيء، وكثير من هذه الأسماء لا يثبت.

وذكرت هناك في المقدمات أيضًا أن اختلاف العلماء في ضابط ما يُطلَق على الله من الأسماء، فقلنا: توقيفية، لكن هل يكون ذلك مقتصرًا على ما جاء مثلاً بالتعريف، والإطلاق: العزيز، الحكيم، الرحمن، الرحيم، القدوس، السلام... إلى آخره، وهل يدخل في ذلك ما جاء بصيغة التنكير: محيط، واسع، ونحو ذلك، هذا فيه خلاف بين أهل العلم، وكذلك ما جاء بالإضافة: ذو الجلال، والإكرام، ونحو هذا، هذا فيه خلاف، وهذا باختلاف الضوابط التي، وضعوها، فيبقى المتفق عليه هو ما جاء بالتعريف، والإطلاق، يعني من غير إضافة: العزيز، الحكيم... إلى آخره.

وهذه الموجود منها - فيما أعلم - في الكتاب، والسنة قد لا تبلغ المائة، بهذا القيد الذي هو أضيق هذه القيود، هذا باتفاق، يعني الكل يتفق على أن هذه من الأسماء، ويبقى ما ذُكِرَ بصيغة التنكير، فهذه أكثر، يعني مع الأولى، وكذلك ما جاء بصيغة الإضافة.

ونجد بعض أهل العلم من أهل السنة أمثال: شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -[79] والحافظ ابن القيم، ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن بن السعدي[80] وأمثال هؤلاء يُدخِلون في جملتها هذه التي جاءت بصيغة التنكير، وكذلك ما جاء بالإضافة.

والخلاف في هذا معروف، لكن هذه المبالغة أنه جمع بعضهم من الكتاب، والسنة نحو ألف اسم، هذا كثير، فالوارد في الكتاب، والسنة لا يبلغ نصف هذا العدد، بل لا يبلغ ربع هذا العدد - والله أعلم -.

وشيخ الإسلام - رحمه الله - ذكر اتفاق أهل المعرفة بالحديث على أن هاتين الروايتين في سرد الأسماء الحسنى، ليستا من كلام النبي ﷺ وإنما من كلام بعض السلف؛ لأن بينها شيء من المغايرة في الأسماء، فتجد في الرواية بعض الأسماء لم تُذكَر في الرواية الأخرى، والعكس.

ويقول: إن الوليد بن مسلم، وهو أحد رواة الحديث، ذكرها عن بعض شيوخه الشاميين[81] وذكر - شيخ الإسلام - كلامًا يمكن أن يُرَاجَع في مجموع الفتاوى، في المجلد الثامن، والمجلد الثاني، والعشرين، الثامن صفحة ستة، وتسعين، وفي الثامن صفحة أربعمائة، واثنين، وثمانين.

قوله تعالى: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ [الأعراف: 180] قيل: معنى ذروا: اتركوهم، لا تحاجوهم، ولا تتعرضوا لهم، فالآية على هذا منسوخة بالقتال، وقيل: معنى ذروا: الوعيد، والتهديد، كقوله: وَذَرْنِي والْمُكَذِّبِينَ [المزمل: 11] وهو الأظهر؛ لما بعده.

وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ يعني يجورون فيها عن الحق، ويعدلون، وسيأتي ما ذكره المؤلف - رحمه الله - وما ذُكر من أن الآية منسوخة بالقتال على هذا القول الذي ذكره، يعني: اتركوهم، لا تحاجوهم، ولا تتعرضوا لهم، هذا غير صحيح؛ لأن النسخ لا يثبت بالاحتمال، وإنما هذا فيه تهديد، كقوله تعالى: وَذَرْنِي والْمُكَذِّبِينَ وهذا الذي رجَّحه المؤلف - رحمه الله - .

وإلحادهم في أسماء الله هو ما قال أبو جهل، فنزلت الآية بسببه.

وهي الرواية السابقة، وقلنا: بأنه لا تصح، وأصلاً الآية ليست المذكورة في الرواية تلك ليست هي آية الأعراف.

وقيل: تسميته بما لا يليق به، وقيل: تسمية الأصنام باسمه، كاشتقاقهم اللات من الله، والعُزى من العزيز.

كل هذا داخل في الإلحاد في أسمائه، يعني تسميته بما لا يليق، وتسمية الأصنام بأسمائه، هذا كله داخل فيه.

وذكر الحافظ ابن القيم - رحمه الله - حقيقة الإلحاد في أسماء الله وأن ذلك بمعنى العدول بها، عن الصواب فيها، وإدخال ما ليس من معانيها فيها، وإخراج حقائق معانيها عنها[82] فالإلحاد إما بجحدها، وإنكارها، يعني كما فعلت الجهمية الذين لم يُثبتوا الأسماء، والصفات.

وإما بجحد معانيها، وتعطيلها، يعني هذا كما فعل المعتزلة بنفي الصفات، ووقع في ذلك طوائف من المتكلمين أيضًا في نفي بعضها، كالأشاعرة، والماتريدية؛ وذلك إما بتحريفها أيضًا عن الصواب، وإخراجها عن الحق بالتأويلات الباطلة، وهذا الذي فعله كثير من المتكلمين، وإما بجعلها أسماء لهذه المخلوقات المصنوعات، يعني تسمية الأصنام بها مثلاً، أو اشتقاق أسماء للأصنام من أسماء الله - تبارك، وتعالى - .

والشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - ذكر جملة من هذه الصور، في الإلحاد في أسماء الله  وأن ذلك يرجع إلى الميل بها عما يجب اعتقاده فيها[83] سواء كان ذلك بإنكار هذه الأسماء، أو ما دلَّت عليه من الصفات، أو بتسمية الله بما لم يُسم به نفسه، أو تسمية المخلوقين، وتسمية الأصنام، واشتقاق لها أسماء من أسماء الله إلى غير ذلك.

قوله تعالى: وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ [الأعراف: 181] الآية، روي أن النبي ﷺ قال: هذه الآية لكم، وقد تقدَّم مثلها لقوم موسى[84].

هذه الرواية لا تصح عن النبي ﷺ فهي عن قتادة مرسلة وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يعني جماعة من المسلمين يهتدون بالحق الذي أنزله الله، ويرشدون الناس إليه، أو على ما ذكر ابن جرير: جماعة من المسلمين يهتدون بالحق الذي أنزله، وبه يعدلون، يعني بالحق يقضون، وينصفون الناس[85] فيكون قوله: وبه يعدلون إما يدعون، ويرشدون الناس إليه، أو يقضون، وينصفون.

تنبيه:

فيه تنبيه، في أحد الدروس السابقة جاء كلام على قوله - تبارك، وتعالى -: وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] الكلام على إعراب هذه الآية: وَيَذَرَكَ هل هذه حال؟ يعني: جملة حالية، فقلتُ: إن أحد الاحتمالات أنه حال، ونبَّه الشيخ محمد إلى إشكال: أن الفعل منصوب، ثم بعد ذلك راجع، وأرسل لي كلامًا لأبي حيَّان في البحر المحيط:

وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ أنه حال بناء على قراءة غير متواترة، وهي: ويذرُك، بالرفع[86] وما ذكر الشيخ محمد صحيح، لكن الذي ذكرته ذكره جمع من أهل العلم، منهم الحافظ ابن كثير، ذكر أنها حالية، دون أن يذكر هذه القراءة أصلاً، كان يتحدث عن القراءة المتواترة.

وعلى كل حال هذا على قراءة شاذة، وهي: يذرُك، فلا يكون حالاً إلا بهذا، على هذه القراءة، وهي قراءة الرفع، مع أن الوجهين اللذين ذكرت منهما هذا: أنها حالية، هو أيضًا في غير ابن كثير، في بعض كتب التفسير المتأخرة، ويبدو لي - والله أعلم - أنهم أيضًا نقلوه من ابن كثير، دون الإشارة إليه، فهذا تنبيه على هذا الخطأ.

  1.  منها: ما أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (2455)، وقال محققو المسند: "رجاله ثقات رجال الشيخين غير كلثوم بن جبر، فمن رجال مسلم": عن ابن عباس - ا - عن النبي ﷺ قال: أخذ الله الميثاق من ظهر آدم بنعمان - يعني عرفة - فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ ۝ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف: 172 - 173].
  2.  تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/177).
  3.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (2455) مرفوعًا، وقال محققو المسند: "رجاله ثقات رجال الشيخين غير كلثوم بن جبر، فمن رجال مسلم".
  4. أخرجه ابن جرير في تفسيره جامع البيان ت شاكر برقم: (15354)، وسياقه:
    عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ قال: "أخذوا من ظهره كما يؤخذ بالمشط من الرأس، فقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى قالت الملائكة: شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ.
  5.  أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب تفسير القرآن، باب، ومن سورة الأعراف برقم: (3075)، وضعفه الألباني.، وسياقه:
    عن مسلم بن يسار الجهني، أن عمر بن الخطاب، سئل عن هذه الآية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172] قال عمر بن الخطاب: سمعت رسول الله ﷺ يسأل عنها، فقال رسول الله ﷺ: إن الله خلق آدم، ثم مسح ظهره بيمينه، فأخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ قال: فقال رسول الله ﷺ: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخله الله الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار، فيدخله الله النار هذا حديث حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم بن يسار، وبين عمر رجلاً".
    لكن ليس فيه التصريح بأنه أشهدهم على أنفسهم.
  6.  أخرجه البخاري برقم: (6557)، ومسلم برقم: (2805)، وسياقه عند البخاري:
    عن أبي عمران، قال: سمعت أنس بن مالك  عن النبي ﷺ قال: يقول الله تعالى لأهون أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أن لك ما في الأرض من شيء أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقول: أردت منك أهون من هذا، وأنت في صلب آدم: ألا تشرك بي شيئا، فأبيت إلا أن تشرك بي.
  7.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (17660)، وقال محققو المسند: " صحيح لغيره، وإسناده مضطرب" وسياقه:
    عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي، أنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الله خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء في الجنة، ولا أبالي، وهؤلاء في النار، ولا أبالي قال: فقال قائل: يا رسول الله فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر.
  8.  أخرجه الترمذي ت شاكر برقم: (3076)، وسياقه:
    عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: لما خلق الله آدم مسح ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم، وبيصًا من نور، ثم عرضهم على آدم فقال: أي رب، من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم فأعجبه، وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب من هذا؟ فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود، فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: ستين سنة، قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما قضي عمر آدم جاءه ملك الموت، فقال: أولم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال: أولم تعطها ابنك داود قال: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وخطئ آدم فخطئت ذريته هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي ﷺ .
    لكن ليس فيه التصريح بأنه أشهدهم على أنفسهم.
  9.  أخرجه الطبراني في المعجم الكبير برقم: (7943)، والدرامي في الرد على الجهمية (ص: 36 - 42)، وسياقه:
    عن القاسم، عن أبي أمامة قال: قال رسول الله ﷺ: لما خلق الله - عز، وجل - الخلق، وقضى القضية أخذ أهل اليمين بيمينه، وأهل الشمال بشماله. فقال: يا أصحاب اليمين، قالوا: لبيك، وسعديك، قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، قال: يا أصحاب الشمال قالوا: لبيك، وسعديك، قال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، ثم خلط بينهم، فقال قائل: يا رب لم خلطت بينهم؟ قال: لهم أعمال من دون ذلك، هم لها عاملون أن يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين، ثم ردهم في صلب آدم.
  10.  سبق الإشارة إلى حديثه.
  11.  سبق الإشارة إلى حديثه.
  12.  حديث أُبي أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (21232)، وقال محققو المسند: "أثر ضعيف" وسياقه:
    عن أبي بن كعب، في قول الله - عز، وجل -: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ الآية [الأعراف: 172] قال: "جمعهم فجعلهم أرواحًا، ثم صورهم فاستنطقهم، فتكلموا، ثم أخذ عليهم العهد، والميثاق، وأشهدهم على أنفسهم، ألست بربكم؟ قال: فإني أشهد عليكم السماوات السبع، والأرضين السبع، وأشهد عليكم أباكم آدم أن تقولوا يوم القيامة: لم نعلم بهذا، اعلموا أنه لا إله غيري، ولا رب غيري فلا تشركوا بي شيئًا، وإني سأرسل إليكم رسلي يذكرونكم عهدي، وميثاقي، وأنزل عليكم كتبي، قالوا: شهدنا بأنك ربنا، وإلهنا، لا رب لنا غيرك، ولا إله لنا غيرك، فأقروا بذلك، ورفع عليهم آدم ينظر إليهم، فرأى الغني، والفقير، وحسن الصورة، ودون ذلك، فقال: رب لولا سويت بين عبادك؟ قال: إني أحببت أن أشكر، ورأى الأنبياء فيهم مثل السرج عليهم النور، خصوا بميثاق آخر في الرسالة، والنبوة، وهو قوله تعالى: وَإِذۡ أَخَذۡنَا مِنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ مِیثَـٰقَهُمۡ إلى قوله: وَعِیسَى ٱبۡنِ مَرۡیَمَ [الأحزاب: 7] كان في تلك الأرواح فأرسله إلى مريم، فحدث عن أبي: أنه دخل من فيها)).
  13.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/222).
  14.  الوجيز للواحدي (ص: 420).
  15.  تفسير القرطبي (7/315).
  16.  فتح القدير للشوكاني (2/299).
  17.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/43).
  18. سبق تخريجه.
  19.  سبق تخريجه.
  20.  أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (2/43). 
  21.  انظر مروياتهم في تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/224)، وما بعدها.
  22.  تفسير الخازن = لباب التأويل في معاني التنزيل (2/267).
  23.  تفسير الرازي = مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير (15/401 - 402).
  24.  تفسير الرازي = مفاتيح الغيب، أو التفسير الكبير (15/402).
  25.  تفسير البغوي - إحياء التراث (2/247).
  26.  للشيخ المعلمي بحث حول تفسير الرازي مطبوع.
  27.  درء تعارض العقل، والنقل (8/484).
  28.  أحكام أهل الذمة (2/949).
  29.  تفسير ابن كثير ط العلمية (3/456).
  30.  تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 308).
  31. هذا سهو من الشيخ: الذي نقل هو شارح الطحاوية ابن أبي العز الحنفي، وليس الإمام الطحاوي فقد توفي الطحاوي قبل ابن تيمية بأربعة قرون 321 هـ (فليراجع). 
  32.  الدر المصون في علوم الكتاب المكنون (1/456)، واللباب في علوم الكتاب (9/383).
  33.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/250).
  34.  السبعة في القراءات (ص: 298).
  35.  السبعة في القراءات (ص: 298).
  36.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/476).
  37.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/253).
  38.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/258).
  39.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/255).
  40.  أخرجه البخاري في كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية برقم: (3841)، ومسلم في كتاب الشعر برقم: (2256).
  41.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/254).
  42. تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن (ص: 309).
  43.  العذب النمير من مجالس الشنقيطي في التفسير (4/319).
  44.  التفسير الوسيط للواحدي (2/427)، والوجيز للواحدي (ص: 421). 
  45. التحرير، والتنوير (9/175).
  46.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/260).
  47.  تفسير النسائي (1/511). 
  48.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/255). 
  49.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/507). 
  50.  التحرير، والتنوير (9/175). 
  51.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/259 - 260). 
  52.  تفسير القرطبي (7/323).
  53.  البداية، والنهاية ط إحياء التراث (1/13). 
  54.  البداية، والنهاية ط إحياء التراث (1/39).
  55.  البداية، والنهاية ط إحياء التراث (1/271).
  56.  البداية، والنهاية ط إحياء التراث (2/288).
  57.  الأمثال في القرآن (ص: 32).
  58.  الأمثال في القرآن (ص: 27).
  59.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/273).
  60.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/273).
  61.  تفسير القرطبي (7/323).
  62.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/512).
  63.  أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (17660)، وقال محققو المسند: "صحيح لغيره".
  64.  أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موت أطفال الكفار، وأطفال المسلمين برقم: (2662).
  65.  أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب حجاج آدم، وموسى - عليهما السلام - برقم: (2653).
  66.  أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط، والثنيا في الإقرار، والشروط التي يتعارفها الناس بينهم، وإذا قال: مائة إلا واحدة أو ثنتين برقم: (2736)، ومسلم في الذكر، والدعاء، والتوبة، باب في أسماء الله تعالى، وفضل من أحصاها، برقم: (2677).
  67.  تفسير القرطبي (7/326).
  68.  سبق تخريجه.
  69.  حديث إن لله تسعة، وتسعين اسما لأبي نعيم الأصبهاني (ص: 162 - 90).
    وانظر: تفسير السمعاني (3/93)، وتفسير النسفي = مدارك التنزيل، وحقائق التأويل (2/283)، وتفسير البغوي، إحياء التراث (3/22).
  70. أخرجه الترمذي ت شاكر في أبواب الدعوات برقم: (3507)، وضعفه الألباني.
  71.  سبق تخريجه.
  72. أخرجه أحمد ط الرسالة برقم: (3712)، وقال محققو المسند: "إسناده ضعيف".
  73.  سبق تخريجه. 
  74.  المستدرك على الصحيحين للحاكم برقم: (42).
  75.  تفسير ابن كثير ت سلامة (3/515).
  76.  المحلى بالآثار (6/282).
  77.  التلخيص الحبير ط العلمية (4/424).
  78.  أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية (3/580).
  79. المستدرك على مجموع الفتاوى (1/43). 
  80.  تفسير أسماء الله الحسنى للسعدي (ص: 172). 
  81.  دقائق التفسير (2/473). 
  82.  بدائع الفوائد (1/169). 
  83. القواعد المثلى في صفات الله، وأسمائه الحسنى (ص: 16). 
  84.  تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (2/482). 
  85.  تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (13/285). 
  86. البحر المحيط في التفسير (5/143). 

مواد ذات صلة