الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(003-ب) من قوله تعالى (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ..) الآية 23 – إلى قوله (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) الآية 31
تاريخ النشر: ١٥ / محرّم / ١٤٣٩
التحميل: 687
مرات الإستماع: 934

قال الإمام ابن جزي عند قوله تعالى:

 قالَ رَجُلانِ [المائدة:23] هما يوشع وكالب.

الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقبل ذلك قَوْمًا جَبَّارِينَ [المائدة:22] قال: "هم العمالقة"، جبارين يعني أقوياء عظام الأجسام.

وبعضهم يقول: لطولهم قيل لهم ذلك، والجبار يقال: للقهار، يطلق على المتكبر المتعالي عن قبول الحق، والمتسلط والذي يكثر القتل، قال له: جبار، ويقال للعاتي من يجبر الناس على ما يريد، قالوا: فهو من الإكراه على هذا.

وبعضهم يقول: هو من جبر العظم، فهو المصلح لأمر نفسه، لكن هذا لا يصلح هنا، هذا يصلح في اسم الله الجبار، الجبار في اسم الله لا يتأتى المعاني التي تُذكر فيه هنا في قوله: جَبَّارِينَ [المائدة:22] فهنا بمعنى العتو، والتعالي عن الحق.

وبعضهم قال: من قتل رجلين فهو جبار رجلين فأكثر، أخذًا من قوله: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا [القصص:19] لكن قد لا يكون بهذا الفهم الذي فهمه من قال بذلك.

وأما في اسم الله -تبارك وتعالى- الجبار، فهو يأتي أيضًا بمعنى جبر الكسير، جبر العظم، يجبر القلوب الضعيفة، القلوب المنكسرة، تقول: اللهم اجبر كسرنا، اللهم اجبر ضعفنا، ونحو ذلك هذا لا إشكال في اسم الله ، ويقال أيضًا لمن يوصف بالطول، ولهذا يقال: نخله جبارة إذا كانت لا تنالها الأيدي، فهذه المعاني في الجبار، فالله -تبارك وتعالى- هو العالي على خلقه، وهو القهار، وهو أيضًا الذي يجبر الكسير والضعيف ونحو ذلك، لكن هنا لا يتأتى هذا المعنى، ولا يذكر في هذا المقام، لكن هؤلاء يقولون: إذا كان مصلح لأمر نفسه فهو يقال لكل من جر لنفسه نفعًا بالحق أو بالباطل، لكن قد لا يخلو هذا من تكلف.

والمعنى المتبادر للجبار هو ما ذُكر من القهر ونحو ذلك والتكبر والتعالي على الحق.

وبعضهم يقول: هؤلاء الجبارين كانوا من بقية قوم عاد.

وبعضهم يقول: من ولد عيص بن إسحاق.

وبعضهم يقول: كانوا من الروم، فالله أعلم، وتُذكر إسرائيليات في خبرهم فيها مبالغات ظاهرة لا يصح قبولها، يعني على سبيل المثال من ذلك يقولون: إن الذين بعثهم موسى دخلوا بستانًا فوجدوا أحد الجبارين صاحب البستان يعني معه سلة فيها فاكهة، فأخذ الوفد هؤلاء -المجموعة- ووضعهم في السلة سلة الفاكهة، وذهب بهم إلى ملكه ووضعهم بين يديه، يعني صار الرجال بمنزلة الذر أمام هؤلاء، لكن هذا الكلام غير معقول، هذه مبالغات لا يمكن أن تصدق.

وهنا قوله: قالَ رَجُلانِ [المائدة:23] هما يوشع وكالب، يوشع هذا جاء عن ابن عباس -ا-، ومجاهد، وعكرمة، وعطية، والسدي، والربيع[1]، وهم يقولون: بأن بني إسرائيل دخلوا المدينة المقدسة بعد موسى وهارون مع يوشع بن نون.

يَخافُونَ [المائدة:23] أي: يخافون الله، وقيل: يخافون الجبارين.

قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة:23] يعني أنهم يخافون الله، وأن قوله: أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة:23] صفة مدح لهذين الرجلين، وليس المقصود أنهم يخافون الجبارين، فإن هؤلاء يقولون: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ [المائدة:23] كيف يخافون الجبارين ويقولون مثل هذا الكلام؟

قيل: "يخافون الجبارين" وبعضهم يقول: إنهم يخافون يعني من ضعف بني إسرائيل، وقيل: بأن الواو عائدة إلى بني إسرائيل، قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ [المائدة:23] يعني من الموصوفين بالخوف الذي هم من بني إسرائيل، يعني كأنه يقول: قال رجلان من بني إسرائيل، لا يكون وصفًا للرجلين الخوف، وإنما من جملة أهل الخوف من القوم الموصوفين بالخوف، لكن ليس هذا هو المتبادر، وفي قراءةٍ غير متواترة لبعض السلف كمجاهد وسعيد بن جبير، يُخافون، يعني: قال رجلان ممن يُخافون، يعني من لهم مهابة ومنزلة يخافهم الناس ويجلونهم، ولكن هذا بعيد، والمقصود يخافون، وهذه القراءة الشاذة لا عبرة بها، وهي هنا لا تفسر القراءة المتواترة من الذين يخافون الله -تبارك وتعالى-.

ولكن الله أنعم عليهما بالصبر والثبوت؛ لصدق إيمانهما.

يعني "أنعم عليهما بالصبر والثبوت" الثبات يعني "لصدق إيمانهما" كذلك الشجاعة، واليقين الخوف من الله -تبارك وتعالى- وحده، وحسن النظر، وحصافة الرأي، وما أشبه ذلك.

ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23] أي: باب المدينة.

وبعضهم جوز أن يُراد مدخل الأرض المقدسة، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23] يعني المسالك إلى أرضهم، كأنه نظر إلى قوله تعالى: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21] هذا أوسع من المدينة التي عليها سور له أبواب، هذا قاله ابن عاشور يعني مداخل الأرض المقدسة[2]، يعني ليس هناك باب حقيقي، مع أن هذا خلاف الظاهر ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23] فالمفسرون عامة يعني أغلب المفسرين يحملونه على المشهور المتعارف الأرض المقدسة، ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23] يعني باب الأرض المقدسة حيث المدن كان عليها أسوار في ذلك الحين، وإلى عهدٍ قريب وله أبواب، يقول: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ [المائدة:23] باب المدينة، -والله أعلم-.

فيه حاشية رقم واحد في الكلام على قوله: وَلا تَرْتَدُّوا [المائدة:21] قال: "فإنه رُوي أنه لما أمرهم موسى دخول الأرض المقدسة، خافوا من الجبارين الذين فيها" إلى آخره كاتب أخرجه البيهقي إلى آخره، هذا التخريج ليس لهذه الرواية، فاضربوا على الرقم واحد هذا لا يرتبط بها إطلاقًا، فهذه الحاشية لا ترتبط به، إنما ترتبط بما سيأتي.

فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ [المائدة:24] إفراطٌ في العصيان وسوء الأدب بعبارةٍ تقتضي الكفر والاستهانة بالله ورسوله، وأين هؤلاء من الذين قالوا لرسول الله ﷺ: لسنا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.

الحاشية هنا المذكورة أسفل ليست لهذا التخريج، إنما الحاشية السابقة الذي هنا أخرجه البيهقي هو تخريجٌ لهذا، أخرجه البيهقي هو تخريج لهذه الرواية، "قالوا لرسول الله ﷺ: لسنا نقول لك كما قالت بني إسرائيل" فهنا أخرجه البيهقي في الدلائل، لكنه من مراسيل الزهري، فالزهري يقول: قال المقداد.

يقول: والذي في الصحيح روى البخاري بسنده: سمعت ابن مسعود يقول: "شهدت من المقداد بن الأسود مشهدًا لئن أكون صاحبه أحب إليّ مما عُدل به، أتى النبي ﷺ وهو يدعوا على المشركين فقال: لا نقول كما قال قوم موسى: فاذهب أنت وربك فقاتلا، ولكنا نقاتل عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، فرأيت النبي ﷺ أشرق وجهه وسره"[3]، هذا رواه البخاري، فهذا قوله: لسنا نقول لك كما قالت بني إسرائيل هذا تخريجه.

لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] قاله موسى ؛ ليتبرأ إلى الله من قول بني إسرائيل، ويبذل جهده في طاعة الله، ويعتذر إلى الله، وإعراب أخي عطفٌ على نفسي؛ لأن أخاه هارون كان يطيعه، وقيل: عطفٌ على الضمير في: لا أَمْلِكُ [المائدة:25] أي: لا أملك أنا إلا نفسي، ولا يملك أخي إلا نفسه.

يعني يكون فيه مقدر محذوف، والأصل عدم التقدير، يعني القول الأول لا يحتاج إلى تقدير: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] وهذا الظاهر المتبادر.

لكن القول الثاني: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] لا يملك إلا نفسه هذا وإن كان محتملاً إلا إنه خلاف الظاهر المتبادر، وهو يحتاج إلى تقدير والقاعدة الترجيحية أنه إذا دار الكلام بين كونه بين الاستقلال، أو الإضمار يعني التقدير فالأصل الاستقلال، لا يحتاج إلى تقدير ما لا يحتاج إلى تقدير أولى مما يحتاج إلى تقدير.

قيل: مبتدأٌ، وخبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه.

قيل: عطفٌ على الضمير في لا أَمْلِكُ [المائدة:25] أي: لا أملك أنا إلا نفسي ولا يملك أخي إلا نفسه، "قيل: مبتدأ خبره محذوف أي أخي لا يملك إلا نفسه" يعني يحتاج إلى تقدير، والعلماء لهم كلام في هذا يعني لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25]، وهذا الذي قال بأنه: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا [المائدة:23] لماذا قال: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] وهؤلاء يطيعونه أيضًا؟

فأجاب العلماء عن هذا بأجوبة: فبعضهم يحتمل أن يكون أراد بذلك من يتوثق طاعته، ويعلم أنه لا يدع ذلك أبدًا بحالٍ من الأحوال، قال: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي [المائدة:25] وأما غير ذلك فقد يطيعونه وقد لا يطيعونه، قد يطيعونه في بعض الأحوال ولا يطيعونه في غيرها، أو أنه قصد بذلك باعتبار بيان الحال والضعف في مقابل عصيانهم وتمردهم، قال: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي [المائدة:25] إظهارًا لهذا الجانب، -والله أعلم-.

فَافْرُقْ بَيْنَنا [المائدة:25] أي: فارق بيننا وبينهم فهو من الفرقة، وقيل: افصل بيننا وبينهم بحكم.

أصل الفرق هو الفصل والتمييز بين الشيئين، فَافْرُقْ [المائدة:25] يعني فافصل احكم بيننا، والفرقان قيل له: فرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل يفصل ويميز، والقول الثاني افصل بيننا إلى آخره هو المروي عن ابن عباس -ا- والضحاك[4].

فالمقصود أنه دعا بأن يحكم الله بينهم، وليس المقصود فارق بيننا، المفارقة المباعدة في الأجسام.

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] الضمير في قال لله تعالى، وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة، وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض أي في أرض التيه، وهو ما بين مصر والشام حتى مات كل من قال: إنا لن ندخلها، ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب، ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التيه أيضًا.

وقيل: إن موسى وهارون لم يكونا في التيه؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25]، وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة.

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26] إذا وقفت هنا يكون قوله: أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] أن مدة التيه في أربعين، لكن التحريم هنا مطلق، يعني أن هؤلاء الذين قالوا هذا الكلام فهي محرمةٌ عليهم لن يدخلوها أبدًا، ولهذا قالوا: إنهم ماتوا في التيه كما سيأتي.

ومن وقف أو وصل قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] يكون مدة التحريم في أربعين سنة، وهذا أيضًا يوجد من قال: بأن أيضًا هؤلاء لم يدخلوها كما سيأتي، قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] أين يكونون في الأربعين؟

قالوا: يتيهون في الأرض، ولك أن تصل في الآية: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] تعانق الوقف هنا يعني أنك لا تقف في الموضعين، لكن لك أن تصل في الجميع في تعانق الوقف.

فالمقصود أنه بحسب ذلك يتغير المعنى، قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26] إذًا لن يدخلوها، قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] فهنا يقول: وحرم الله على جميع بني إسرائيل دخول تلك المدينة أربعين سنة، يكون الوقف أين؟ قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] وهذا الذي اختاره ابن كثير -رحمه الله-[5].

يقول: "وتركهم في هذه المدة يتيهون في الأرض" هي حُرمت عليهم لأربعين سنة وصارت مدة التيه بإزاء ذلك يعني في أربعين سنة.

 يقول: "وهو ما بين مصر والشام حتى مات كل من قال: إنا لن ندخلها، ولم يدخلها أحد من ذلك الجيل إلا يوشع وكالب، ومات هارون في التيه، ومات موسى بعده في التيه أيضًا" وهذا مروي عن ابن عباس -ا- وزاد فيه: "وكل من جاوز الأربعين سنة"[6]، كل من كان عمره في ذلك الوقت قد جاوز الأربعين مات في التيه.

وبعض أهل العلم يقولون: إن الجيل بعضهم يحدد القرن بأربعين سنة، والطبقة بعضهم يحددها بأربعين سنة.

وبعض أهل العلم يقولون: إن ذلك لحكمه في الأربعين أن الجيل الجبان هذا الجيل الذي غلب عليه الخوف وعصا موسى يتغير بالكلية، فيأتي جيل جديد فهم الذين يحصل على يدهم النصر، ودخول المدينة المقدسة.

والقول: بأن موسى وهارون ماتا في التيه هذا ليس محل اتفاق، وقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25] على القول بأن المقصود التفريق فصاروا أولئك في التيه وموسى وهارون لم يكونوا في التيه، ومن أطاعهما.

يقول: "وقيل: إن موسى وهارون لم يكونا في التيه؛ لقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25]" على المعنى الآخر فافرق من التفريق وليس الحكم والفصل، "وخرج يوشع ببني إسرائيل بعد الأربعين سنة، وقاتل الجبارين، وفتح المدينة" وذهب ابن جرير إلى أن الذي فتحها هو موسى ، وأن الله حرمها عليهم، وتاهوا أربعين سنة ابن جرير يقول: موسى كان معهم ولم يمت في التيه وهو الذي فتحها[7].

والقول: بأن الذي فتح المدينة يوشع مروي عن ابن عباس -ا-، واختاره الحافظ ابن كثير[8]، وهذا هو المشهور؛ أن الذي فتحهما هو يوشع، وأنه هو الذي حُبست له الشمس في قصة الغنائم، -والله أعلم-.

والعامل في أربعين: محرمةٌ على الأصح.

يعني ما الذي عمل في الأربعين؟ هنا أنها منصوبة محرمةٌ أربعين سنة على الأصح، يعني ما يكون التحريم مطلقًا، وإنما أربعين سنة ثم بعد ذلك يكون دخولهم المدينة، فيجب وصله معه يعني: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] فتصل، لكن لو وقفت قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26] لا يكون العامل في أربعين محرمة؛ لأنه مفصول عنه.

والقول: بأنه يعني يجب وصله، وأنه هو العامل يعني الوقف على قول: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] هذا مروي عن الربيع بن أنس[9]، وعلى هذا القول فمن وُجد منهم بعد الأربعين سنة دخلها معهم.

والعامل في أربعين: محرمةٌ على الأصح، فيجب وصله معه، وقيل: العامل فيه يتيهون فعلى هذا يجوز الوقف على قوله: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26]، وهذا ضعيف؛ لأنه لا حامل على تقديم المعمول هنا مع أن القول الأوّل أكمل معنىً؛ لأنه بيان لمدّة التحريم والتيه معًا.

إذا وقفت هنا: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] صارت مدة التحريم أربعين، ومدة التيه هي مدة التحريم أربعين سنة، قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] ماذا يفعلون بهذه الأربعين؟ قال: يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] فتيههم في أربعين سنة كذلك.

فهنا يقول: "وقيل: العامل فيه يتيهون" يعني يحارون ويضلون، يتيهون "فعلى هذا يجوز الوقف على قوله: فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26]" هذا التحريم على قول بعض أهل العلم إنه مطلقًا، يعني أنهم ماتوا جميعًا ولم يدخل هؤلاء الجيل الذي امتنع، وكان تيههم أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ مدة التيه أربعين سنة، يعني يكون العامل في أربعين ما بعده يتيهون، لماذا نُصبت؟

يتيهون أربعين سنة يكون هذا هو العامل فيه جاء بعده، وهذا خلاف الأصل، فالأصل أن يكون المعمول بعد عامله لا يتقدم عليه، هذا الأصل، لكن هذا القول: بأن الوقف على قوله: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26] يعني تحريمًا مطلقًا أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] فهذا القول الذي ضعفه ابن جزي مروي عن الحسن وقتادة[10] واختاره بعض المفسرين، قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26] وعليه فلم يدخلها أحد منهم، وإن دخلها أحفاده، أو أولاده كما جاء عن ابن عباس -ا- بأنه لم يبق إلا يوشع وكالب والباقي ماتوا[11].

يَتِيهُونَ [المائدة:26] أي: يتحيرون، ورُوي أنهم كانوا يسيرون الليل كله، فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه.

قوله -تبارك وتعالى-: فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:25] بأن الذي دخلها هو يوشع وليس موسى، قلنا: أن ابن جرير يقول: بأنه موسى هو الذي دخل وأنه لم يمت في التيه، والحافظ ابن كثير يقول: بأن الذي دخلها هو يوشع، وأما ما يتعلق بالوقف: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] هذان موضعان بينا وجه كل واحدٍ منهما، لكن ابن كثير -رحمه الله- يقول: بأن الوقف على قوله: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26]، هنا، أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] يعني هذا الذي ضعفه ابن جزي هو الذي اختاره ابن كثير[12]، وابن كثير -رحمه الله- يقول: "قوله: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26]: حكم الله بتحريم دخولها عليهم مدة أربعين سنة، فوقعوا في التيه يسيرون دائمًا لا يهتدون الخروج فيه"[13].

وقوله: أَرْبَعِينَ سَنَةً [المائدة:26] منصوبًا بقوله: يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] يعني جعل العامل فيه هو الذي بعده، فلما انقضت المدة خرج بهم يعني هو يرى أن الوقف على قوله: مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [المائدة:26] ثم قال: أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ [المائدة:26] فيكون العامل في قوله: أَرْبَعِينَ [المائدة:26] يَتِيهُونَ [المائدة:26] العامل فيه ما بعده، قال: "فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع -كأنه يرى أن الذي دخل بهم المدينة المقدسة هو يوشع، وليس موسى - "أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني، فقصد بهم بيت المقدس وحاصرها، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر، فلما تضيفت الشمس بالغروب، وخشي دخول السبت عليهم قال: إنك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها عليهم"، كما جاء في الحديث: "فحبسها الله تعالى حتى فتحها"[14]، إلى آخره، وفيه أنه أُمروا أن يدخلوا الباب سجدًا، ويقولوا: حطة؛ فقالوا ما قالوا، وفعلوا ما فعلوا من الاستهزاء والسخرية.

فَلا تَأْسَ [المائدة:26] أي: لا تحزن والخطاب لموسى، وقيل: لمحمد ﷺ، ويراد بالفاسقين: من كان في عصره من اليهود.

يقول هنا: يَتِيهُونَ [المائدة:26] أي: يتحيرون التيه هنا بمعنى التحير، "كانوا يسيرون في الليل كله فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه" يعني بعضهم يقول: إن الأرض التي تاهوا فيها كانت نحو ستة فراسخ ليست كبيرة، فكيف يتيهون أربعين سنة على القول أنهم كان معهم هارون وموسى -عليهما السلام- لكن إذا أراد الله شيئًا كان، فقيل أنهم: "كانوا يسيرون في الليل كله فإذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في الموضع الذي كانوا فيه" وهكذا حتى أذن الله بخروجهم، ستة فراسخ يضيعون فيها أربعين سنة فأين هؤلاء الذين يقولون الآن: عن طريق الأقمار الصناعية وغير ذلك اكتُشف كل شبر من الأرض، أين المسيح الدجال؟ وأين يأجوج ومأجوج؟ والإنسان أحيانًا يكون النظارة يلبسها ويبحث عنها، أليس كذلك؟ ويكون الشيء بيده وهو يبحث عنه في كل مكان، وقد يكون بين عينيه يراه أمامه وهو يبحث عنه، ويسأل عنه، فإذا أراد الله أن يصرفه عن شيءٍ صرفه ولو كان بين يديه.

والمشهور أن موسى وهارون -عليهما السلام- ماتا في التيه، وفي التيه هذا أُنزلت عليهم التوراة وشُرعت الشرائع، فهو منع حرمان لهم من دخول المدينة، لكن كان ينزل عليهم المن والسلوى ويظللهم الغمام، أمة عجيبة مع التمرد وهذا لطف الله بهم وحلمه، وإلا هؤلاء بهذه الطريقة مع هؤلاء الأنبياء، ولاحظ الخطاب الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]، ويقولون: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا [المائدة:24]، إِنَّا لَنْ [المائدة:24] أقوى صيغة في النفي، لن ندخلها حتى يخرجوا منها، تمرد ما بعده تمرد، ولما دخلوا مع يوشع: وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ[البقرة:58] دخلوا يزحفون على أستاههم ويقولون: حبة في شعرة أو شعيرة، ما بعد هذا استهزاء؟!!

وقت النصر وإكرامهم وهذا الإنعام ويقولون مثل هذا الكلام، عتاة على الله!!، قتلوا أنبياء بني إسرائيل ليس أنبياء غيرهم، حتى ورد أنهم قتلوا فيهم سبعين نبيًا، من يفعل هذا غير بني إسرائيل؟!

ويقال: إن دانيال من أنبياء بني إسرائيل، وُجد في بيت لمال لما فُتحت بلاد فارس، فوُجد في بيت المال رجل مسجى ولم يتغير منه إلا شعرات في قفاه، فكان الفرس إذا أجدبوا حملوه على السرير، وتعرضوا للسماء، فينزل المطر يعني يستسقون به، يقال: إن دانيال من بني إسرائيل من أنبيائهم، وأنه من جملة من أخذهم بختنصر إلى العراق، فرأوا منه ما يدل على كرامته على الله ، فلما مات لم يدفنوه فكانوا يستسقون به، وأجسام الأنبياء لا تتغير، فأمر عمر أن يحفر له نحو ثلاثة عشر قبرًا، ويوضع في أحدها في الليل، ويُعمى قبره لئلا يفتن به الناس، فهؤلاء الفرس عبدت النار لما رأوا منه ما رأوا أبقوه هذه المدة الطويلة، قرون متطاولة وهو عندهم بهذه الطريقة، وهؤلاء من بني إسرائيل يقتلون أنبيائهم.

فَلا تَأْسَ [المائدة:26] أي لا تحزن، وأن الفاسقين من كان في عصرهم من اليهود.

"وقيل: لمحمد ﷺ، ويراد بالفاسقين: من كان في عصره من اليهود، فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ [المائدة:26] أن هذا خطاب لموسى هذا هو المتبادر.

نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ [المائدة:27] هما قابيل وهابيل.

لم ترد هذه التسمية في الكتاب ولا في السنة، لكن هذا مشهور وكأنه متلقى عن بني إسرائيل، وهو على ألسن العلماء يذكرونه، والجمهور على أنهما من صلبه وهذا ظاهر القرآن بني آدم يعني من صلبه، وكان ذلك أول قتل يقع على وجه الأرض، خلافًا لبعض السلف كالحسن والضحاك حيث قالوا: "إنهما من بني إسرائيل"[15]، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ [المائدة:27] أن القتل هذا حصل في بني إسرائيل، وليس لابني آدم من صلبه، وهذا غير صحيح، -والله أعلم-.

إِذْ قَرَّبا قُرْبانًا [المائدة:27] روي أن قابيل كان صاحب زرع فقرب أرذل زرعه، وكان هابيل صاحب غنمٍ، فقرب أحسن كبش عنده، وكانت العادة حينئذٍ أن يقرب الإنسان قربانه إلى الله ويقوم يصلي، فإذا نزلت نارٌ من السماء وأكلت القربان فذلك دليل على القبول وإلا فلا قبول، فنزلت النار فأخذت كبش هابيل ورفعته، وتركت زرع قابيل فحسده قابيل فقتله.

القربان هو ما يتقرب به عمومًا من ذبحٍ أو غيره، يعني هذا قرب كبشًا والآخر قرب زرعًا، وكل هذه أخبار بني إسرائيل، فما يتقرب به يقال له: قربان، لكنه صار بالغلبة يقال: للنسيكة التي هي الذبيحة يتقرب بها إلى الله -تبارك وتعالى-، مثل: الهدي والأضحية ونحو ذلك، والحافظ ابن كثير -رحمه الله- ذكر مرويات في سبب ذلك القربان، وجود إسناد أحد هذه الروايات[16]، نذكر لكم منها روايتين:

يقول هنا: "وكان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف، أن الله تعالى شرع لآدم أن يزوج بناته من بنيه؛ لضرورة الحال"، -يعني زوج الأخ أخته لضرورة الحال؛ لأنه لا يوجد غيرهم لبقاء النسل،- يقول: ولكن قالوا: كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر، وكانت أخت هابيل دميمة، وأخت قابيل وضيئة، فأراد أن يستأثر بها على أخيه فأبى آدم ذلك، إلا أن يقرب قربانًا فمن تُقبل منه فهي له، فتُقبل من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه"[17] هذه أخبار متلقاة عن بني إسرائيل.

وقال: وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "نُهي أن تنكح المرأة أخاها توأمها، وأُمر أن ينكحها غيره من أخوتها، وكان يولد له في كل بطنٍ رجلٌ وامرأة، فبينما هم كذلك إذ ولد له امرأة وضيئة، وولد له أخرى قبيحة دميمة، فقال أخو الدميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي، فقال: لا أنا أحق بأختي، فقربا قربانًا فتُقبل من صاحب الكبش ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله"، قال ابن كثير: إسنادٌ جيد[18].

هذا عن ابن عباس -ا-، لكن ابن عباس -ا- من أين تلقى مثل هذا؟

نقول: خبر الصحابي في أمرٍ غيبي له حكم الرفع إلا أن يكون ممن يأخذ عن بني إسرائيل، وابن عباس -ا- كان لربما أخذ عن بني إسرائيل، فقد يكون هذا مما تُلقي عن بني إسرائيل، -والله أعلم-، وجاء في هذا الخبر التسمية لهما قابيل وهابيل.

إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] استدل بها المعتزلة وغيرهم على أن صاحب المعاصي لا يتقبل عمله، وتأولها الأشعرية بأن التقوى هنا يراد بها تقوى الشرك.

إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] استدل بها المعتزلة وأيضًا الخوارج، بأن صاحب المعاصي لا يتقبل عمله باعتبار أنه كافر، المعتزلة يقولون: فاسق ملي مخلد في النار، والخوارج يقولون: خارج من الملة أصلاً، وتأولها الأشعرية بأن التقوى هنا يراد بها تقوى الشرك، انتبهوا تكلمنا عن عقيدة المؤلف، وهنا إشكال تأولها هنا ما قال ما تبني هذا، قال: تأولها الأشعرية، لكن ذكر شيخ الإسلام أن هذا قول المرجئة، والأشاعرة تعرفون أن عندهم إرجاء، أن هذا قول المرجئة، أن المقصود به إنما يتقبل الله من المتقين، يعني من يتقون الشرك، فشيخ الإسلام -رحمه الله- يقول: "هذا قول المرجئة حيث أدخلوا أهل الكبائر في اسم المتقين"[19]، يعني ماعدا المشركين فهم بجملة المتقين، فماعدا المشركين فهم متقون، فيدخل فيهم أهل الكبائر أنهم من جملة المتقين على هذا فهذا إرجاء، يعني لا يضر مع الإيمان ذنب، فهذا القول فيه إشكال، وشيخ الإسلام حملها هنا: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] على قبول العمل الذي اتُقي الله فيه، فكان خالصًا موافقًا للمشروع؛ عملاً معين.

ويحتمل أن ذلك كان في شرعهم، ثم نُسخ يعني أن الله لا يتقبل إلا من يتقي عمومًا، لكن في هذه الأمة يتقبل الله من العاصي عملاً صالحًا اتقى الله فيه.

ويحتمل أن المراد بالمتقين: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] بعضهم قال: أو يحتمل أن يكون مراد به أهل الإخلاص، من عمل ذلك خالصًا لوجه الله، أو أن المقصود التقبل التام الدال عليه احتراق القربان، أو خصوص تقبل القرابين، إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27]، وذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: "بأن المراد بذلك هو من اتقى الله في فعله ذلك"[20]، وهذا هو الأقرب أن قوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] يعني من اتقى الله في هذا العمل المعين، فإن كان نسيكة مثلاً فيكون على الوجه المشروع وبإخلاص، يعني تحققت فيها شروط القبول صلاة، صيام، صدقة، حج، عمرة، اتقى الله فيها جاء بها على الوجه المشروع، وكذلك أيضًا كان عمله خالصًا لله -تبارك وتعالى- هذا هو الأقرب، وليس المعنى إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [المائدة:27] من كان متصفًا بالتقوى تقبل الله أعماله عمومًا، ومن لم يتصف بالتقوى كان عنده فسق ومعاصي لا يقبل الله منه عملاً هذا ليس بصحيح، يعني المرأة من بني إسرائيل البغي التي سقت الكلب، كان ذلك سببًا لمغفرة الله لها، فالله يتقبل العمل إذا كان موافقًا للمشروع ولو كان صاحبه فاسقًا، لكنه لا يتقبل من الكافر المشرك.

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ [المائدة:28] الآية، قيل: معناها لئن بدأتني بالقتال لم أبدأك به، وقيل: إن بدأتني بالقتال لم أدافعك، ثم اختُلف على هذا القول، هل تركه لدفاعه عن نفسه تورعًا وفضيلة؟ وهو الأظهر والأشهر، وكان واجبًا عندهم أن لا يدافع أحدٌ عن نفسه وهو قول مجاهد[21]، وأما في شرعنا فيجوز دفع الإنسان عن نفسه، بل يجب.

قوله: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ [المائدة:28] يعني مددت إليّ يدك، وبسط اليد يقال لما يكون من الضرب والقتل، ونحو ذلك، وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ [الممتحنة:2]، لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ [المائدة:28] قيل معناه: لئن بدأتني، لاحظ هذا الجواب على إشكال كيف يقول: أنا لن أدفع عن نفسي، أو لن أبسط إليك يدي لأقتلك، فبعضهم يقول: المقصود "لئن بدأتني بالقتال لم أبدأك به" يعني لا يعني أنه لن يدافع عن نفسه على هذا القول.

"وقيل: إن بدأتني بالقتال لم أدافعك" هذا معنى آخر أنه لا يدفع عن نفسه، وعلى هذا القول هل تركه لدفاعه عن نفسه كان من باب التورع؟

يقول: "هذا هو الأشهر والأظهر، أو كان واجبًا" عندهم هذا غير الذي قبل، يعني هل كان تورعًا؟ أو كان واجبًا، وفي بعض النسخ الخطية وكان واجبًا وهذا غير صحيح، "أو كان واجبًا عندهم أن لا يدافع أحدٌ عن نفسه وهو قول مجاهد" لكن هذا لا يصح عن مجاهد؛ لأن فيه راوٍ مبهم عن رجل سمع مجاهدًا، من هو الرجل؟ لا نعرف.

قال: "وأما في شرعنا فيجوز دفع الإنسان عن نفسه، بل يجب" هل هذا يجب؟ هذا فيه نظر لا يلزم، وفي وقعة الحرة لما أبو سعيد الخدري دخل في غار فتبعه رجلاً من أهل الشام يريد قتله معه السيف، فلما أقبل نحوه فقال له: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة:28] فقال: من أنت؟ قال: أبو سعيد، قال: صاحب رسول الله ﷺ؟ قال: نعم"، فهنا ذكر أن يقابله، بل لن يدافع عن نفسه أصلاً، وابن جرير -رحمه الله- ذهب إلى أنه لم يقصد ترك دفعه، وإنما لن يستحل قتله والعدوان عليه ابتداءً[22].

لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ [المائدة:28] يعني لن أُقدم على قتلك كما تفعل، وليس المقصود ترك المدافعة، وظاهر القرآن لا يدل على عدم المدافعة، إنما نفي الإقدام على قتله، فقد يدفعه بغير القتل بما هو دونه، لكنه يدفع عن نفسه، -والله أعلم-.

إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار، هذا كل واحد كان يريد قتل الآخر، قالوا: وهذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصًا على قتل صاحبه[23]، هذا في الخصومات، وليس في مقام الدفاع عن النفس، والفقهاء ذكروا في الدفاع عن النفس أنه يدفع بالأسهل، فإن لم يمكن دفع هذا إلا بالقتل قتله، ومن ترك ذلك تورعًا فلا يقال: إنه ترك واجبًا كما يقول ابن جزي، فهذا في القتال بحيث كل واحد يريد قتل الآخر، إذا التقى المسلمان بسيفهما، ليس المقام دفاع هنا، وإنما كان حريصًا على قتل صاحبه من قال: على دفع صاحبه على قتله، فكلاهما يريد قتل الآخر، فهذا الحديث في هذا المعنى والتنزيل، -والله أعلم-.

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة:29] الإرادة هنا ليست بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخيير في أهون الشرين، كأنه قال: إن قتلتني، فذلك أحب إليّ من أن أقتلك كما ورد في الأثر: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل[24].

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة:29] إني أريد أن تبوء أصل المباءة هي المنزل، يعني ترجع وتنقلب المباءة هي المنزل يرجع إليها الإنسان ويؤوب بعد تفرقه في حاجاته، باء يعني رجع تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة:29] يعني ترجع تنقلب ولا يكاد يستعمل ذلك إلا بالشر، باء بغضب من الله، فليتبوأ مقعده من النار، ونحو ذلك.

أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة:29] فذكرنا في الغريب أن الإثم يقال: هو اسم لما يبطئ عن الثواب، وذكرت تفصيلاً هناك تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة:29] الإرادة هنا ليست بإرادة محبة هذا الجواب عن إشكال، يعني هنا سؤال يرد: كيف أراد أن يبوء بإثمه؟ يعني بمعنى كيف أراد أن يقع القتل والمعصية من أخيه ليأثم بذلك؟ إرادة المعصية هذا أمر غير مطلوب شرعًا، ولا يجوز الإنسان أن يريد وقوع المعصية، فكيف قال: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [المائدة:29]؟ هذا موضع إشكال، فهو سؤالٌ مقدر أجاب عنه ابن جزي -رحمه الله- بما ذكر هنا.

قوله هنا: "الإرادة هنا ليست بإرادة محبةٍ وشهوة" هذا جواب عن هذا السؤال، كيف أراد وقوع المعصية بالقتل؟

فقال: "هنا ليست بإرادة محبة وشهوة، وإنما هو تخيير في أهون الشرين" أهون الشرين أن يقع القتل مادام القتل واقع واقع، فيقع منك ولا يقع مني، "كأنه قال: إن قتلتني، فذلك أحب إلي من أن أقتلك كما ورد في الأثر: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل" بهذه الصيغة، أو بهذا اللفظ أخرجه الإمام أحمد عن خالد بن عرفطة [25]، لكنه لا يصح من جهة الإسناد.

وجاء نحوه أيضًا عن خباب في قصة عبد الله بن خباب مع الخوارج، لما قاتلوه قالوا: حدثنا عن أبيك إلى آخره[26]، فذكر نحو هذا لكنه أيضًا ضعيف الإسناد.

وهنا ذكر عندكم في الهامش رواية قال: أخرج الترمذي بسنده أن الرسول ﷺ، هذا حديث سعد بن أبي وقاص ، قال: إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، والقائم خيرٌ من الماشي، والماشي خيرٌ من الساعي، قال: أفرأيت إن دخل علي بيتي وبسط يده إليّ ليقتلني، قال: كن كابن آدم[27]، هذا حديث صحيح.

كن كابن آدم يعني المقتول ولا تكن القاتل، فهذا يدل على أنه لا يجب عليه أن يدفع عن نفسه، الحديث واضح في هذا.

وبعضهم ذكر في الجواب عن هذا الإشكال غير ما ذكره ابن جزي فقال: المراد إن أنت قتلتني فإني مريدٌ أن تبوء بإثم معصيتك في قتلك إياي، وهذا حاصل له إذا قتله، يعني ما هو يريد أن يقع من القتل الذي هو المعصية، لكن قال: أريد أن يقع لك الإثم المترتب على هذا القتل، وهذه الإرادة غير موجبة لذلك القاتل في الوقوع في الخطأ، أو أن المراد أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، والمظلوم له أن يريد العقاب لظالميه، أريد أن تبوء بإثمي، يقول: لن أقتلك، وإنما أريد أن تبوء، يعني ترجع بإثم قتلي، أو باعتبار ما يأخذه من حسناته؛ لأن المظلوم لاسيما المقتول يأخذ من حسنات ظالمه، فإن لم يكن له حسنات فيؤخذ من سيئات المظلوم، ويوضع على الظالم وتطرح عليه.

هذه أجوبة، وعمومًا حديث: كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، لا يصح من جهة الإسناد، لكن قوله: كن كابن آدم، حمله العلماء على الفتن، لكن لو جاءه إنسان مجرم قاطع طريق، يريد قتله، أو عرضه، أو نحوه فيدفع بالأسهل، لكن لو لم يستطع دفعه إلا بالقتل ففي هذه الحالة يصوغ له أن يقتله، لكن لا يجب عليه أن يدفعه، أما في الفتنه فلا يجوز له أن يُقدم على القتل في الفتن، كذلك ما يتعلق بالسلطان، لو أن السلطان بعث إليه بعثًا، هل يجوز له أن يدافعهم فضلاً عن أن يجب عليه؟

الجواب: لا، فهذا لا يحمل عليه حديث: من قُتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد[28]، لا ليس هذا موضعه، وإنما هذا في المجرمين قطاع الطرق، أغاروا عليه هجموا عليه، نحو ذلك فهو يدفعهم بالأسهل، فلا يُخلط بين هذا وهذا، -والله أعلم-.

بإثمي وإثمك فمعناه: بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي، وإنما تحمل القاتل الإثمين؛ لأنه ظالمٌ، فذلك مثل قوله ﷺ: المتسابان ما قالا فهو على البادئ[29]، وقيل: بإثمي أي تحمل عني سائر ذنوبي؛ لأن الظالم تُجعل عليه في القيامة ذنوب المظلوم، وبإثمك أي: في قتلك لي، وفي غير ذلك من ذنوبك.

وفي غير ذلك من ذنوبك، يعني جاء في صحيح مسلم: يؤتى يوم القيامة بالظالم والمظلوم فيؤخذ من حسنات الظالم[30]، يعني وتكون للمظلوم، كذلك ورد في القتل على سبيل الخصوص بأنه يأخذ من حسناته يعني حتى يرضى، فما ظنكم؟! وابن جرير -رحمه الله- نقل الإجماع على أن المراد إثم قتلي مع إثمك الذي في عنقك[31].

وذكر ابن جزي: "بإثم قتلي لك لو قتلتك، وبإثم قتلك لي، وقيل: بإثمي أي تحمل عني سائر ذنوبي" إلى آخره، ابن جرير -رحمه الله- نقل الإجماع على أن المراد إثم قتلي مع إثمك الذي اكتسبته من معاص سابقة، ابن جرير تعرفون إذا نقل الإجماع يقصد به قول الأكثر، وهذا القول الذي ذكره ابن جرير هو الأقرب والله أعلم، والأرجح أن المقصود بإثمي وإثمك، إثمي يعني إثم قتلي؛ لا أنك تتحمل عني ذنوبي؛ لأنه لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [الأنعام:164]، وإنما بإثم قتلي مع إثمك الذي اكتسبته من المعاصي السابقة، وهذا الذي اختاره أيضًا ابن كثير -رحمه الله-[32].

وبعضهم يقول: إثم قتلي، بإثمي يعني إثم قتلي، وإثمك الذي من أجله لم يُتقبل قربانك، يعني الإثم الذي كان مانعًا من قبول القرب، بإثمي وإثمك الذي منعك وحجز عنك القبول، لكن الذي ذكره ابن جرير -رحمه الله- أقرب، -والله أعلم-.

وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [المائدة:29] يحتمل أن يكون من كلام هابيل، أو استئنافًا من كلام الله تعالى.

يعني يكون على هذا أنه كلام الله من قبيل الموصول لفظًا المفصول معنى، هو كثير وأنواع بعضه على قراءات، وبعضه يحتمل على أحد وجوه الإعراب، وبعضهم بحسب السياق، فالموصول لفظًا هو أنواع كثيرة، فبعضه يجزم به، وبعضه يحتمل احتمالاً ظاهرًا، وبعضه يحتمل احتمالاً متساويًا، وبعضه يحتمل ذلك احتمالاً ضعيفًا مرجوحًا، وجُمع هذا فيما أظن في رسالة مطبوعة في مجلد: "الموصول لفظًا المفصول معنى في القرآن"، وهو أحد الأنواع الذي ذكره السيوطي في كتابه: "الإتقان".

فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا [المائدة:31] الآية: رُوي أن غرابين اقتتلا حتى قتل أحدهما الآخر، ثم جعل القاتل يبحث عن التراب ويواري الميت، وقيل: بل كان غرابًا واحدًا يبحث ويلقي التراب على هابيل.

يقول: "رُوي أن غرابين" هذا كله يعني متلقى -والله أعلم- عن بني إسرائيل، لكن هو مرويٌ عن جماعةٍ من السلف، جاء عن ابن عباس -ا- عن طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس -ا- الطريق معروفة، قال: "جاء غرابٌ إلى غرابٍ ميت فحثا عليه من التراب حتى وراه"[33]، يعني لم يكن هناك قتال بين الغرابين أن أحدهما قتل الآخر، فهذا يصدق على قوله: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ [المائدة:31].

القول الآخر الذي ذكره قال: "بل كان غرابًا واحدًا يبحث ويلقي التراب على هابيل" يلقي التراب على الميت على المقتول، هذا يؤيده أن الله قال: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا [المائدة:31] وما قال غرابين، غرابًا واحدًا يعني، لكن القول المروي عن ابن عباس أحسن من هذا، بدلاً من أنه يلقي على هذه يبحث في الأرض أن الله بعث غرابًا حيًا، يبحث في الأرض ليلقي التراب على غرابٍ ميت، لم يذكر بينهما قتال أنه قتله، لكن جاء إلى غرابٍ ميت فصار يحثو عليه التراب ويبحث في الأرض، لكن القول: بأنهما غرابان اقتتلا هذا مروي عن جماعة من السلف، وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله-[34]، ومن المعاصرين الشيخ عبد الرحمن السعدي[35]، فما جاء عن ابن عباس -ا- كأنه -والله أعلم- موافق للفظ غرابًا، وقال: يحثو على غرابٍ ميت، أما الاقتتال ونحو ذلك هذا كأنه تلقي أيضًا عن بني إسرائيل، لكن هذه الرواية عن ابن عباس مقدمة، -والله أعلم-.

وهذا دليل على أنه من صلبه، ولو كانا من بني إسرائيل فالدفن معروف قبل بني إسرائيل، فآدم حين توفي لا شك أنه دُفن، فلم يكن ذلك خافيًا على بني إسرائيل، فالقول بأن ذلك في بني إسرائيل أن الرجلين اللذين قدما قربانا أنهما من بني إسرائيل، هذا غير صحيح بقرينة: فَبَعَثَ اللَّهُ غُرابًا [المائدة:31]، وكذلك: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ [المائدة:32]

لكن أولئك الذين خصوا ذلك ببني إسرائيل يحتمل أنهم رأوا أن القرينة: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [المائدة:32] لماذا خص بني إسرائيل؟ لأنهم منهم، كانوا منهم، كان ذلك وقع فيهم، لكن ليس بلازم، وسيأتي الكلام على وجه تخصيص بني إسرائيل بالذكر.

سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة:31] أي: عورته، وخُصت بالذكر؛ لأنها أحق بالستر من سائر الجسد، والضمير في أخيه عائدٌ على ابن آدم، ويظهر من هذه القصة أن هابيل كان أول من دُفن من بني آدم.

سَوْأَةَ أَخِيهِ [المائدة:31] قال: العورة، "وخُصت بالذكر؛ لأنها أحق بالستر من سائر الجسد" وجسد الميت عمومًا، يقصد بها ستره، والعورة تقال لكل شيءٍ يُحترز له، أو يسوء ظهوره وانكشافه، ولا شك أن هيئة الميت أمرٌ لا يحسن انكشافه وظهوره، فلذلك تجد الناس يغطونه، وليس المقصود هنا السوءة العورة المغلظة وإنما جميع الميت.

يا وَيْلَتى [المائدة:31] أصله يا ويلتي، ثم أُبدل من الياء ألف، وفُتحت التاء وكذلك يا أسفي، ويا حسرتي، فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ [المائدة:31] على ما وقع فيه من قتل أخيه، واختُلف في قابيل هل كان كافرًا أو عاصيًا، والصحيح أنه لم يكن كافرًا.

قصد التقرب أيضًا هؤلاء أولاد آدم من صلبه، يعني لم يقع الكفر كان الناس على التوحيد كما جاء عن ابن عباس عشرة قرون[36].

لأنه قصد التقرب إلى الله بالقربان، ولأنه لم يكن في تلك المدة كافرا، وأصبح هنا وفي الموضع الأول عبارةٌ عن جميع الأوقات، لا مختصةٌ بالصباح.

قال: دخل في الصباح، لكن يتوسع في الاستعمال فيقال: يعني صار بمعنى صار على حاله، وهذا كما جاء في الحديث: لا تُقتل نفسٌ ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول كفلٌ من دمها[37]؛ لأنه أول من سن القتل، فهذا يدل على أنهما من صلبه، ابن آدم الأول.

 

  1. تفسير ابن كثير (3/77).
  2. انظر: التحرير والتنوير (24/71).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب قول الله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ...}، برقم (3952).
  4. تفسير ابن كثير (3/79).
  5. تفسير ابن كثير (3/79).
  6. تفسير ابن كثير (3/80).
  7. انظر: تفسير الطبري (8/307).
  8. تفسير ابن كثير (1/273).
  9. تفسير القرطبي (6/130).
  10. الدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/51).
  11. انظر: تفسير ابن كثير (3/79)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/52).
  12. تفسير ابن كثير (3/79).
  13. تفسير ابن كثير (3/79).
  14. أخرجه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول النبي ﷺ: ((أحلت لكم الغنائم))، برقم (3124).
  15. انظر: تفسير الطبري (8/324)، والدر المنثور في التفسير بالمأثور (3/56).
  16. تفسير ابن كثير (3/83).
  17. تفسير ابن كثير (3/82).
  18. تفسير ابن كثير (3/83).
  19. مجموع الفتاوى (10/322).
  20. تفسير ابن كثير (3/85).
  21. انظر: تفسير الطبري (8/329)، وتفسير البغوي (3/43)، وتفسير القرطبي (6/136).
  22. تفسير الطبري (8/328).
  23. أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، برقم (31)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، برقم (2888).
  24. أخرجه أحمد في المسند، برقم (22499)، وقال محققوه: "حسن لغيره، وهذا إسناد ضعيف لضعف علي بن زيد، وهو ابن جدعان"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3616).
  25. سبق تخريجه.
  26. أخرجه أحمد في المسند، برقم (21064)، وقال محققوه: "رجاله ثقات رجال الشيخين، والرجل المبهم الذي روى عنه حميد إن كان ثقة عنده فالإسناد صحيح".
  27. أخرجه الترمذي، أبواب الفتن عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أنه تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، برقم (2194)، وابن ماجه، أبواب الفتن، باب التثبت في الفتنة، برقم (3961)، وأحمد في المسند، برقم (1609)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله ثقات رجال الشيخين غير عياش بن عباس، فمن رجال مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (3623).
  28. أخرجه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب من قاتل دون ماله، برقم (2480)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق، كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وأن من قتل دون ماله فهو شهيد، برقم (141).
  29. أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب النهي عن السباب، برقم (2587).
  30. لم أجده في صحيح مسلم، ولعل  المراد به حديث المفلس، أخرجه مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2581).
  31. تفسير الطبري (8/331).
  32. تفسير ابن كثير (3/87).
  33. تفسير الطبري (8/342).
  34. انظر: تفسير الطبري (8/343-345).
  35. تفسير السعدي (ص:229).
  36. أخرجه ابن حبان في صحيحه، برقم (6190)، وصححه الشيخ شعيب الأرناؤوط في تحقيقه.
  37. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم -صلوات الله عليه- وذريته، برقم (3335)، ومسلم، كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات، باب بيان إثم من سن القتل، برقم (1677).

مواد ذات صلة