الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[23] من قول الله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} الآية 175 إلى قوله تعالى: {وَمَن ْيُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} الآية 178
تاريخ النشر: ٠٥ / ذو الحجة / ١٤٢٧
التحميل: 3056
مرات الإستماع: 2411

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۝ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۝ سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ [سورة الأعراف:175-177].

روى عبد الرزاق عن عبد الله بن مسعود في قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا الآية، قال: هو رجل من بني إسرائيل يقال له: بلعم بن باعوراء، وكذا رواه شعبة وغير واحد عن منصور به.

وقال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن ابن عباس -ا: هو صيفي بن الراهب، وقال قتادة: وقال كعب: كان رجلاً من أهل البلقاء، وكان يعلم الاسم الأكبر، وكان مقيماً ببيت المقدس مع الجبارين.

وقال العوفي عن ابن عباس -ا: هو رجل من أهل اليمن يقال له: بلعم، آتاه الله آياته فتركها.

وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل، وكان مجاب الدعوة، يقدمونه في الشدائد، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مدين، يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه، فتبع دينه وترك دين موسى .

وقال سفيان بن عيينة عن حصين عن عمران بن الحارث عن ابن عباس -ا: هو بلعم بن باعر، وكذا قال مجاهد وعكرمة، وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت، وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: هو رجل من مدينة الجبارين يقال له: بلعام، وكان يعلم اسم الله الأكبر.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: لما نزل موسى بهم -يعني بالجبارين ومن معه- أتاه -يعني بلعم- أتاه بنو عمه وقومه فقالوا: إن موسى رجل حديد، ومعه جنود كثيرة، وإنه إن يظهر علينا يهلكنا، فادع الله أن يرد عنا موسى ومن معه، قال: إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه، ذهبت دنياي وآخرتي، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه الله ما كان عليه، فذلك قوله تعالى: فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ الآية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فضرب الله تبارك وتعالى- في هذه الآية مثلاً لصاحب العلم الذي لم ينتفع بعلمه، ولم يرتفع به، وهو أسوأ مثلٍ في القرآن فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث... [سورة الأعراف:176]، وهذا مثل قيل: إنه مضروب لأمة من قريش حيث أنزل الله عليهم القرآن وبعث منهم محمداً ﷺ فكذبوه، وهذا خلاف المشهور، وقيل: إنها في أهل الكتاب. 

والمشهور: أنها في رجل من بني إسرائيل آتاه الله العلم، وليس في ذلك شيء مرفوع إلى النبي ﷺ، وإنما هي من الإسرائيليات التي لا تصدق ولا تكذب، فمن قائل: إنه من علمائهم، وقيل: إنه كان يعلم الاسم الأعظم وكان مجاب الدعوة، وقيل: إنه من علمائهم ويعلم الاسم الأعظم، وقيل: كانت له ثلاث دعوات مستجابة، وكانت له امرأة فطلبت وألحت عليه أن يدعو ربه أن تكون أجمل بني إسرائيل، فلما صارت كذلك ترفعت عليه، فدعا عليها، يقولون: فمسخت كلبة، فجاءه أولادها وجعلوا يتضرعون أنهم قد افتضحوا أمام الناس وأنه نزل بهم ما لا طاقة لهم به، أن أمهم صارت كلبة، فدعا لها الدعوة الثالثة، فرجعت إلى حالها، فضيع هذه الدعوات الثلاث في امرأة، قيل: إنه دعا على موسى، وقيل غير ذلك، فهذا رجل آتاه الله العلم ولكنه لم ينتفع بهذا العلم، فانسلخ منها. 

وللحافظ ابن القيم -رحمه الله، كلام جيد في المجلد الثاني من بدائع التفسير، وهناك مثل آخر في القرآن لا يقل سوءًا عنه، وهو أن أمة أوتيت العلم وحملت التوراة ثم أنها لم تعمل بها ولم تهتدِ بما فيها من المواعظ والعبر، فكان مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفاراً، والحمار من أبلد الحيوانات، ومن أقواها على الحمل وهو من أقلها زينة كما ذكر الله : وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة النحل:8]، وهو من أصبرها على التحمل مع غاية الذل، قال الله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [سورة الجمعة:5]،

وتكلم الحافظ ابن القيم –رحمه الله- على هذا المثل بكلام مفيد جيد، وهذه الأمثال في القرآن للاعتبار والاتعاظ، قال الله عنها: وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [سورة العنكبوت:43]، والعلم يراد به العمل والاعتبار والاتعاظ، وأما أن يتعلم الإنسان ولا يظهر ذلك في سمته وهديه، بحيث لا يزيد في عمله، فإن هذا يكون نقصاً في حقه، وأسوأ من ذلك إذا تحول العالم، لا سيما في أوقات الفتن وغيّر وانسلخ، وصار يضلل الناس، ويلبس عليهم ويستغل ما عرفه من العلم في التلبيس على الناس وإضلالهم، فهذا أشد ما يكون.

قال ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "فشبه سبحانه من آتاه كتابه وعلمه العلم الذي منعه غيره فترك العمل به واتبع هواه، وآثر سخط الله على رضاه ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو من أخس الحيوانات، وأوضعها قدراً وأخسها نفساً، وهمته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً، ومن حرصه أنه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمم، ويستروح حرصاً وشرهاً، لا يزال يشم دبره دون سائر أجزاء جسمه، وإذا رميت إليه بحجر رجع إليه ليعظه من فرط نهمته، وهو من أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا، والجيف القذرة المروحة أحب إليه من اللحم، العذرة أحب إليه من الحلوى، وإذا ظفر بميتة تكفي مائة كلب لم يدع كلباً يتناول معه منها شيئاً إلا هر عليه وقهره لحرصه وبخله وشرهه، ومن عجيب أمره وحرصه أنه إذا رأى ذا هيئة رثة وثياب دنية وحال رزية نبحه وحمل عليه، كأنه يتصور مشاركته له، ومنازعته في قوته، وإذا رأى ذا هيئة حسنة وثياب جميلة ورياسة وضع له خطمه بالأرض، وخضع له ولم يرفع إليه رأسه.

وفي تشبيه من آثر الدنيا وعاجلها على الله والدار الآخرة مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سر بديع، وهو أن هذا الذي حاله ما ذكره الله من انسلاخه من آياته واتباعه هواه، إنما كان لشدة لهثه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة، فهو شديد اللهث عليها، ولهفه نظير لهث الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه، واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.

قال ابن جريج: الكلب منقطع الفؤاد، لا فؤاد له، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فهو مثل الذي يترك الهدى لا فؤاد له إنما فؤاده منقطع، قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنه ليس له فؤاد يحمله على الصبر وترك اللهث، وهكذا هذا الذي انسلخ من آيات الله، لم يبق معه فؤاد يحمله على الصبر عن الدنيا، وترك اللهث عليها، فهذا يلهث على الدنيا من قلة صبره عنها، وهذا يلهث من قلة صبره عن الماء، فالكلب من أقل الحيوانات صبراً عن الماء، وإذا عطش أكل الثرى من العطش، وإن كان فيه صبر على الجوع، وعلى كل حال فهو أشد الحيوانات لهثاً، يهلث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً، وذلك لشدة حرصه، فحرارة الحرص في كبده توجب له دوام اللهث، فهذا مشبهه شدة الحرص، وحرارة الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث، فإن حملت عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركته ولم تعظه فهو يلهث.

قال مجاهد: ذلك مثل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به، وقال ابن عباس -ا: إن تحمل عليه الحكمة لم يحملها، وإن تتركه لم يهتدِ إلى خير، كالكلب إن كان رابضاً لهث وإن طرد لهث.

وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحق دُعي أو لم يدعَ، وُعظ أو لم يوعظ كالكلب يلهث طرداً وتركاً"[1].

قول الحافظ ابن كثير -رحمه الله، قول من قال بأنه أمية بن أبي الصلت، وأمية بن أبي الصلت كان من الشعراء الذين كثر في شعرهم ذكر الآخرة، وفي شعره من العظات والأمور التي لا شك قد تعلّمها من أهل الكتاب، ويذكر أموراً كثيرة من حقائق الآخرة في شعره، ويعظ في هذا الشعر، ويذكر أشياء من عظمة الله ، والدعاء إلى عبادته، فشعره من أعجب الشعر، والعجيب أنه لم يسلم، كما قيل: أسلم شعره ولم يسلم قلبه، فلما بلغته دعوة النبي ﷺ وظهر رسول الله ﷺ أعرض وكابر ونأى بجانبه، لكن المشهور أنها في رجل من بني إسرائيل. 

وقول الحافظ ابن كثير -رحمه الله: "وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة فإنما هو رجل متقدم"، فهذا على سبيل التوسع في العبارة، وإلا فسبب النزول هو ما نزلت الآية أو الآيات تتحدث عنه أيام وقوعه، أما أخبار الماضين فإن ذلك ليس من أسباب النزول، لكن قد يتوسع بعض العلماء في التعبير فيعبرون بمثل هذا، فليس هذا هو سبب النزول، وإنما هذا من قصص بني إسرائيل.

ووجه الشبه في قوله : فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ [سورة الأعراف:176]، من أهل العلم من يقول: إنه على ظاهره أن الرجل يلهث حقيقة، أو اندلع لسانه لما دعا على موسى -عليه الصلاة والسلام، فخرج لسانه كالكلب، فيكون وجه الشبه ظاهراً أنه صار بهيئة الكلب، مسخه الله ، لكن ليس معنى ذلك أن صارت هيئته هيئة الكلب بكل شيء وإنما شابهه بخروج لسانه. 

وما ذكره الحافظ ابن القيم -رحمه الله- فيما نقله عن بعض السلف في قلة صبره عن الشرب، وبالنسبة لهذا الإنسان في قلة صبره عن شهواته، فهذا الجامع المشترك، هذا لا يصبر عن العطش، وذاك لا يصبر عن شهواته، وهذا كقول من قال: إن كبد الكلب حراء، وفؤاده منقطع، أي: لقلة صبره، وهذا الإنسان أيضاً كبده حراء وفؤاده منقطع لا صبر له عن الشهوات، فكلما لاحت له شهوة سارع إليها، وهذا ما يمكن أن يفسر به -والله تعالى أعلم؛ لأنه لا يثبت مثل تلك الأخبار فيبنى عليها حكم، ويفسر بها القرآن فيقال: إن لسانه خرج حقيقة، لأنها من الأخبار الإسرائيلية، والكلب إن حملت عليه وطردته فإنه يلهث، وإن تركته في حاله فهو يلهث وهو رابض على جنبه، ويلهث وهو يمشي، ويلهث وهو واقف، فالكلب يلهث في جميع حالاته، وهذا من أسوأ صور الكلب، ولا يعرف هذا عند أي حيوان بصورة مستمرة كالكلب، فمن أهل العلم من قال: إن تحمل عليه أي: إن تطارده فهو يجري ويلهث، وإذا تركته فإنه يطاردك، هكذا قال بعضهم: والأول أحسن من هذا، والله أعلم.

وقوله تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ [سورة الأعراف:176].

وقوله تعالى: فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [سورة الأعراف:175] أتبعه الشيطان، يقول ابن جرير -رحمه الله: "أي: صيره تابعاً له"، صار من أتباع الشيطان، والمشهور: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ أي: تبعه الشيطان، كما يقول ابن القيم: هذه اللفظة فَأَتْبَعَهُ تدل على أنه لحقه وأدركه الشيطان. 

فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ، أي: أن الشيطان يتبع الإنسان لكنه قد يدركه ويتمكن منه، وقد لا يتمكن منه فيشغله بالوساوس والخواطر والأحلام والرؤى المزعجة؛ لأن هذا غاية ما استطاعه، ولهذا قال النبي ﷺ: الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة[2]، فإذا يئس من ابن آدم أن يضله أشغله بالخواطر والأفكار، فيقول له: من خلق كذا، من خلق كذا، ويقلقه في طهارته، فيجعله يعيد الوضوء عدة مرات، لأنه لا يريده أن يصلي أصلاً، فعلى هذا يكون الأقرب -والله تعالى أعلم- في فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ [سورة الأعراف:175] أي: تبعه، كما قال الله: فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ،

والشيطان كما قال الحافظ ابن القيم -في بعض كتبه: مع الإنسان مثل الكلب مع الغزال، الغزال سريع جداً، لا يقارن بسرعة الكلب، قفزة واحدة وإذا الكلب في ناحية والغزال في ناحية أخرى، لكن ما الذي يحصل؟ يطارده الكلب بلا توقف، يقول ابن القيم: فالذي يحصل كيف يصطاد الكلب الغزال والغزال أسرع؟ يطارده ثم بعد ذلك يلتفت الغزال، فإذا التفت ضعف وخارت قواه، فيظفر به الكلب، بهذه الطريقة، وإلا فهو أسرع منه، وهذا حاصل للإنسان، هو يقول: الإنسان إذا التفت للشيطان وطاوعه في خطواته وتزيينه وكذا، أدركه الشيطان، وإذا انطلق ولم يلتفت لا للوساوس ولا للخواطر ولا لخطوات الشيطان صار يسير سيراً صحيحاً مستقيماً، وإذا التفت إليه فإنه يزين له خطواته فيوقعه فيها، فيقع في المنكرات والفواحش، وغير ذلك من النظر في كُتب الشبه، وكذلك ما يقع فيه بعض الناس من الوسوسة في الوضوء مما يجعله يتوضأ عدة مرات حتى يخرج وقت الصلاة، فإذا لم يلتفت له فإنه سينجو من الوسوسة بإذن الله تبارك وتعالى.

يقول تعالى: وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا: أي: لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها، وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ: أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها.

قوله: لَرَفَعْنَاهُ قال الحافظ ابن كثير-رحمه الله: "رفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات"، وقيل أي: شرفناه، وهذا يرجع إلى هذا المعنى، وقيل: رفعناه في الآخرة، وقيل: رفعناه فلم يقع في الكفر والمعصية، وغير ذلك، وكل ذلك داخل فيه -والله تعالى أعلم- كما قال كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- لَرَفَعْنَاهُ بِهَا: "رفعناه: شرفناه بالعلم"، رفعه عن الدنايا والمدنسات، رفعه عن الذنوب، رفعه عن الكفر، رفع مرتبته في الدنيا والآخرة، فبدلاً من أن يكون إماماً في الحق، صار مثله مثل الكلب، أخس الأمثلة، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا فصار إماماً يقتدى به، مترفعاً عن كل دنس ورزية وخلق مشين، لكنه أبى: كل أمتي يدخل الجنة إلا من أبى قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى[3].

وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ أي: مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها، وأقبل على لذاتها ونعيمها، وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى.

أصل الإخلاد اللزوم، ومنه الخلود خَالِدِينَ فِيهَا [سورة المائدة:85]، أي: يمكثون أبداً بلا انقطاع، أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ أي: ركن إليها، ومن لزم الدنيا شُغل بها، وصارت هي غايته ومطلوبه الأكبر، وصار تشاغُلُه بها على حساب الآخرة.

وقال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم أبي النضر أنه حدث: أن موسى لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام فقالوا له: هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل، وإنا قومك وليس لنا منزل وأنت رجل مجاب الدعوة فاخرج فادع الله عليهم، قال: ويلكم! نبي الله معه الملائكة والمؤمنون، كيف أذهب أدعو عليهم وأنا أعلم من الله ما أعلم؟! 
قالوا له: ما لنا من منزل، فلم يزالوا به يرققونه ويتضرعون إليه حتى فتنوه فافتتن، فركب حمارة له متوجهاً إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل وهو جبل حسبان، فلما سار عليها غير كثير ربضت به، فنزل عنها فضربها حتى إذا أزلقها قامت فركبها، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت به فضربها حتى إذا أزلقها أذن لها فكلمته حجة عليه، فقالت: ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم؟ فلم ينزع عنها فضربها فخل الله سبيلها حين فعل بها ذلك فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان، على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم، ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف الله لسانه إلى بني إسرائيل، فقال له قومه: أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا، قال: فهذا ما لا أملك، هذا شيء قد غلب الله عليه، قال واندلع لسانه فوقع على صدره فقال لهم: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة، ولم يبق إلا المكر والحيلة، فسأمكر لكم وأحتال، جمِّلوا النساء وأعطوهن من السلع ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعنها فيه، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كُفِيتموهم، ففعلوا. 
فلما دخل النساء العسكر مرت امرأة من الكنعانيين -اسمها كسبى ابنة صور رأس أمته- برجل من عظماء بني إسرائيل، وهو زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام، فلما رآها أعجبته، فقام فأخذ بيدها وأتى بها موسى وقال: إني أظنك ستقول: هذا حرام عليك لا تقربها؟ قال: أجل، هي حرام عليك، قال: فوالله لا أطيعك في هذا، فدخل بها قبته فوقع عليها، وأرسل الله الطاعون في بني إسرائيل، وكان فنحاص بن العيزار بن هارون صاحب أمر موسى وكان غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما صنع، فجاء والطاعون يجوس فيهم فأخبر الخبر فأخذ حربته وكانت من حديدة كلها ثم دخل القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته، ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء، والحربة قد أخذها بذراعه واعتمد بمرفقه على خاصرته، وأسند الحربة إلى لحييه -وكان بكر العيزار- وجعل يقول: اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك، ورُفع الطاعون، فحُسب مَن هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفاً، والمقلل لهم يقول: عشرون ألفاً في ساعة من النهار، فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها الرقبة والذراع واللحى، والبكر من كل أموالهم وأنفسهم؛ لأنه كان بكر أبيه العيزار، ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا [سورة الأعراف:175]، إلى قوله لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة الأعراف:176].

هذا من أخبار بني إسرائيل، وأخبار بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب، يقولون: إنه رفع الرجل والمرأة بالرمح وهما متعلقان بالرمح ما ينزلان معه، مع ثقل الإنسان والرمح، كأنه رافع حمامتين، فالله أعلم بهذا.

وقوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث [سورة الأعراف:176]، اختلف المفسرون في معناه، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم عن أبي النضر أن بلعاماً اندلع لسانه على صدره، فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زُجر وإن ترك ظاهرٌ، وقيل معناه: فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان، وعدم الدعاء كالكلب في لهثه في حالتين إن حملتَ عليه وإن تركته هو يلهث في الحالين.

هذا هو الأقرب، وهو المشهور الذي عليه عامة أهل العلم، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله: أن التشبيه ليس أن هذا أخرج لسانه، وإنما في الوعظ، سواء وعظته أو لم تعظه، فهو على حاله.

فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه كما قال تعالى: وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [سورة يــس:10]، اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ [سورة التوبة:80] ونحو ذلك، وقيل معناه: أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ من الهدى فهو كثير الوجيب، فعبر عن هذا بهذا، نقل نحوه عن الحسن البصري وغيره. 

وقوله تعالى: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [سورة الأعراف:176]، يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ أي: لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه -في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب- في غير طاعة ربه، بل دعا به على حزب الرحمن وشعب الإيمان أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان، كليم الله موسى بن عمران ، ولهذا قال: لعلهم يتفكرون، أي: فيحذروا أن يكونوا مثله، فإن الله قد أعطاهم علماً وميزهم على من عداهم من الأعراب وجعل بأيديهم صفة محمد ﷺ يعرفونها كما يعرفون أبناءهم، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته ومؤازرته، كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به، ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يُعلم به العباد، أحل الله به ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة.

وقوله: سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا [سورة الأعراف:177]، يقول تعالى: ساء مثلاً مثلُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أي: ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همّة لها إلا في تحصيل أكلة وشهوة، فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه واتبع هواه صار شبيهاً بالكلب، وبئس المثلُ مثلَه، ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله ﷺ قال: ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه[4].

وقوله: وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ [سورة الأعراف:177] أي: ما ظلمهم الله، ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهدى وطاعة المولى إلى الركون إلى دار البلاء، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى.

مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة الأعراف:178] يقول تعالى: من هداه الله فإنه لا مضل له، ومن أضله فقد خاب وخسر، وضل لا محالة، فإنه تعالى ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولهذا جاء في حديث ابن مسعود -: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله[5] الحديث بتمامه رواه الإمام أحمد وأهل السنن وغيرهم.

وزيادة "نستهديه" هذه لا تصح[6].

  1. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/194-196)، للإمام ابن القيم.
  2. رواه أبو داود برقم (5112)، كتاب الأدب، باب في رد الوسوسة، وأحمد في المسند (4/10)، برقم (2097)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في ظلال الجنة (658)، وفي تحقيق كتاب الإيمان لشيخ الإسلام ابن تيمية (102).
  3. رواه البخاري برقم (6851)، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله ﷺ.
  4. رواه النسائي برقم (3698)، كتاب الهبة، باب ذكر الاختلاف لخبر عبد الله بن عباس فيه، والترمذي برقم (1298)، كتاب البيوع، باب ما جاء في الرجوع في الهبة، صححه الألباني في صحيح الجامع (5426).
  5. رواه مسلم برقم (868)، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، دون لفظة "ونستهديه ونستغفره"، والنسائي برقم (3278)، كتاب النكاح، باب ما يستحب من الكلام عند النكاح.
  6. هذه اللفظة وردت في مسند الإمام الشافعي (67)، برقم (287)، وأخرجها في كتاب الأم (1/179)، وقال الشيخ الألباني: منكر جداً بزيادة "الاستهداء والاستنصار"، والسبب في نكارتها هو تفرد إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هو أبو إسحاق المدني متروك من السابعة، انظر: تقريب التهذيب(1/93) وهاك كلام العلماء على الرجل، قال يحيى بن سعيد القطان: سألت مالكا عنه أكان ثقة؟ قال: لا ولا ثقة في دينه، وقال عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان قدريا معتزلياً جهمياً كل بلاء فيه، وقال أبو طالب عن أحمد: لا يكتب حديثه، ترك الناس حديثه كان يروي أحاديث منكرة لا أصل لها، وكان يأخذ أحاديث الناس يضعها في كتبه، وقال بشر بن المفضل سألت فقهاء أهل المدينة عنه فكلهم يقولون كذاب، وقال علي بن المديني عن يحيى بن سعيد: كذاب، وقال المعطي عن يحيى بن سعيد: كنا نتهمه بالكذب" انظر: تهذيب التهذيب(1/137)، فهي زيادة تفرد بها، وهذا حال الرجل، فيكون تفرده من قبيل المنكر، فهي منكرة جداً.

مواد ذات صلة