الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
(022-أ) قوله تعالى "أو كالذي مر على قرية.." الآية 258 - إلى قوله تعالى "قول معروف ومغفرة.." الآية 262
تاريخ النشر: ٢١ / رجب / ١٤٣٧
التحميل: 1190
مرات الإستماع: 1699

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ[البقرة:259] تقديره: (أو رأيت مثل الذي) فَحُذِف لدلالة (ألم تر) عليه؛ لأنّ كلتيهما كلمتا تعجب، (وفي جميع النسخ: كلمتا تعجيب) ويجوز أن يحمل على المعنى كأنه يقول: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مرّ على قرية وهذا المارّ قيل: إنه عزير، وقيل: الخضر.

فقوله: "أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ [البقرة:259] تقديره: أو رأيت مثل الذي"، مر على قرية، يقول: "لدلالة ألم تر" يعني: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ [البقرة:258]، أو رأيت مثل الذي مر على قرية.

يقول: "فَحُذِف لدلالة ألم تر عليه؛ لأنّ كلتيهما كلمتا تعجب"، يعني: ألم تر "ويجوز أن يحمل على المعنى كأنه يقول: أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مرّ على قرية"، فهو للعطف حملًا على المعنى، أَوْ: هذه للعطف، العطف على ما قبلها، أرأيت الذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر، أو رأيت مثل الذي مر على قرية.

ثم ما يتعلق باسم المار عزير أو الخضر هذا لا دليل عليه، كل ذلك من أخبار بني إسرائيل، والقول بأنه الخضر: هذا بناءً على أن الخضر لم يمت، وأنه حي، وهذا لا دليل عليه، والنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: أرأيتم ليلتكم هذه، فإن رأس مائة سنة منها، لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد[1].

كل الناس هؤلاء سيموتون، فهذا يشمل الخضر وغير الخضر، القول بحياة الخضر أنها مستمرة بَنى عليها الصوفية كثيرًا من الأباطيل، والمختلقات، والدعاوى.

وعلى كل حال: لا دليل على تسميته، وهذا ما يسمى بالمبهمات في القرآن، قد مضى الحديث عن شيءٍ من هذا، وألف فيها السهيلي كتابه المشهور، وألف آخرون كُتبًا منها ما يتمم كتابه ويستدرك عليه ما فاته، قد سميت طائفةً منها في بعض المناسبات في شرح رسالة السيوطي في الكلام على المبهمات، وذكرت أنه لا فائدة من تتبعها، وأنها قد تفيد قليلًا لدفع تهمةٍ، أو بيان منقبةٍ، وإلا في الغالب لا فائدة من معرفتها.

وبعضهم يقول غير ما ذُكر، بعضهم يقول هو: حِزقيل، وبعضهم يقول: أرمياء، وبعضهم يقول: هو رجل من بني إسرائيل، المقصود العظة والعبرة، هذا مر على قرية وهي خاوية على عروشها، فاستبعد إحياء الله -تبارك وتعالى- لها بعد موتها، والمقصود إحياء أهل القرية، أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا [البقرة:259]، فالذي يموت هو أهلها، استبعد ذلك، ولا يدل ذلك على أنه لا يؤمن بالبعث وقدرة الله على الإعادة، لكنه يقول ذلك مستفهمًا مع إيمانه، يمكن أن يكون هذا، فأراه الله هذه الآية، وهذا أحد المواضع الخمسة كما ذكرنا في هذه السورة الكريمة؛ سورة البقرة التي وجد فيها هذا النوع من الأدلة على قدرة الله على البعث، وهي إحياء من ماتوا.

قال -رحمه الله-:

فقوله: أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ [البقرة:259]، ليس إنكارًا للبعث ولا استبعادًا، ولكنه استعظام لقدرة الذي يحيي الموتى، أو سؤالٌ عن كيفية الإحياء وصورته، لا شك في وقوعه، وذلك مقتضى كلمة أنّى فأراه الله ذلك عيانًا ليزداد بصيرة، وقيل: بل كان كافرًا، وقالها إنكارًا للبعث واستبعادًا، فأراه الله الحياة بعد الموت في نفسه، وذلك أعظم برهان.

على كل حال: مثل هذا لا يؤثر في العبرة والعظة التي من أجلها ذُكِرَ ذلك، يعني: سواء كان مؤمنًا، أم كان كافرًا، المقصود: بيان قدرة الله -تبارك وتعالى- على إعادته الحياة، وإحياء الموتى.

قوله -رحمه الله- في قوله تعالى:

وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]، أي: خالية من الناس، وقال السدّي: سقطت سقوفها[2] وهي العروش، ثم سقطت الحيطان على السُقُف.

قوله: "خالية من الناس،" خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا[البقرة:259]: أي خالية، هذا تفسيرٌ على المعنى، يعني هذا مثال للتفسير على المعنى، يعني: ليس معنى هذه الجملة خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا بمعنى أنها خالية من الناس أقصد من ناحية اللغة العربية في بيان معاني الألفاظ والتراكيب، لكن المعنى المراد أنها خالية من الناس، ففرق بين التفسير على اللفظ والتفسير على المعنى، والسلف كثيرًا ما يفسرون على المعنى، فالمقصود: أن هذا مثال له.

يقول: "وقال السدّي:" السدي قال هذا أيضًا والضحاك، "سقطت سقوفها، وهي العروش، ثم سقطت الحيطان على السقف" خَاوِيَةٌ عَلَى، هذا من قبيل التفسير على اللفظ، والأول تفسير على المعنى؛ لأن العروش هي السقوف، خاوية على عروشها سقطت عروشها فسقطت الحيطان على السقوف، وأصل كلمة الخوى أصلها: تأتي بمعنى الخلو والسقوط والخلاء، والأصل في العروش ،كلمة العرش، عروش: جمع عرش يُقال: ارتفاع في شيءٍ مبني يُقال له: عرش.

قال -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى:

أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ [البقرة:259]، ظاهر هذا اللفظ إحياء هذه القرية بالعمارة بعد الخراب، ولكن المعنى: إحياء أهلها بعد موتهم؛ لأنّ ذلك هو الذي يمكن فيه الشك والإنكار، ولذلك أراه الله الحياة بعد موته، والقرية كانت بيت المقدس لما خربها بختنصر، وقيل: قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف.

قوله: "أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ [البقرة:259]"، أَنَّى هذا حرف للبحث عن الحال، "أَنَّى"، وكذلك المكان، بمعنى كيف هذا بالنسبة للحال، كيف يحي الله هذه القرية بعد موتها، وبالنسبة للمكان أين، تأتي أنى بمعنى: أين، أنى كنتم بمعنى أين كنتم، أنى تأتي بهذا، يعني: كيف تأتي به.

وتحديد القرية هذا أيضًا من المبهمات؛ لأن المبهمات منها ما فيه ذوات الأشخاص، ومنها ما يكون في الأمكنة، ومنها ما يكون في الأزمنة والأوقات إلى غير ذلك، فهذا من المبهمات في المكان، هذه القرية، وتحديد ذلك لا دليل عليه ولا حاجة للاشتغال به، فالله أعلم.

قوله تعالى:

كَمْ لَبِثْتَ [البقرة:259]: قال: سؤال على وجه التقرير، قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ[البقرة:259].

هذا باعتبار أن الله -تبارك وتعالى- يعلم كم لبث، ليس ذلك باستفهام حقيقي يُتعرف منه على ما خفي، وإنما هو للتقرير.

قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة:259]: استقل مدّة موته، قيل: أماته الله غدوة يومٍ ثم بعثه قبل الغروب من يوم آخر بعد مائة عام فظنّ أنه يوم واحد، ثم رأى بقية من الشمس فخاف أن يكذب في قوله: يومًا فقال: أو بعض يوم.

يحتمل هذا على كل حال في سبب قوله: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، ولا يلزم والله أعلم، يعني: لا يلزم أن يكون حصل له ذلك عند غروب الشمس، أو بعد الغروب، أو قبل الغروب، فالعلم عند الله -تبارك وتعالى-.

لكن هذا الجواب هو الجواب في خبر أصحاب الكهف، فقد بقوا مدة أطول من هذه، ثلاثمائة وتسع سنوات، فكان جوابهم: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19]، فهكذا لو بقوا ألف سنة، والذين يبعثهم الله أيضًا يوم القيامة، ويتساءلون يقولون كذلك: بأنهم لبثوا يومًا، فهكذا الحياة هي كيوم أو بعض يوم، ولو نظر الإنسان في اليقظة إلى ما مضى من أيام العمر كأنها يوم أو بعض يوم، ولو نظر أيضًا إلى الوقت الذي ينقضي عليه وهو في حال نومٍ وإن طال، فإن ذلك بالنسبة إليه قصير، في غاية القصر، يستوي فيه طول الزمان وقصره، يعني: لو أنه نام نهارًا كاملًا أو نام ساعتين هو لا يشعر بشيء من الوقت الذي مضى عليه، فهكذا لو تطاول به الوقت، يعني: لو أنه أُغمي عليه أسبوعًا، أو شهرًا، أو نحو ذلك، ثم أفاق كأنها يوم أو بعض يوم.

قوله تعالى:

فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ [البقرة:259]: قيل: كان طعامه تينًا وعنبًا، وأنّ شرابه كان عصيرًا ولبنًا.

لو يُعرض عن هذا في كتب التفسير؛ لأنه لا فائدة فيه، ولا دليل عليه، وهذه الأقوال المأخوذة عن بني إسرائيل تدل على أن ذلك كذب في تحديد الطعام والأقاويل، وكذلك تحديد الشراب ما يدل على أن ذلك فيه من الاختلاق.

في جميع النسخ: إن طعامه كان تينًا.

لا بأس ما يتغير المعنى، إن كان طعامه تينًا وأن شرابه كان..

قوله:

لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259] قال: معناه: لم يتغير، بل بقي على حاله طول مائة عام، وذلك أعجوبة إلهية.

يعني: الطعام والشراب يقول بعض أهل العلم: بأنه ذكر الطعام والشراب؛ ليكون ذلك أدلَّ على قدرة الله -تبارك وتعالى-؛ لسرعة تغيره، الطعام والشراب يُسرع إليه التغير فلم يتغير، بينما الحمار صار إلى تلك الحال.

قال:

واللفظ يحتمل أن يكون مشتقًّا من السَنَة؛ لأنّ لامها هاء، فتكون الهاء في يتسنه أصلية، أي: لم يتغير السنون، ويُحتمل أن يكون مشتقًا من قولك تسنن الشيء إذا فسد، ومنه الحمأ المسنون، ثم قُلِبَت النون حرف علة كقولهم: قصيت أظفاري، ثم حُذِفَ حرف العلة للجازم، والهاء على هذا هاء السكت.

بعضهم يقول: أن أصله يتنسى، والمعنى يختلف تمامًا لم تغيره السنون، أو لم يتسنه بمعنى: لم يتغير، وكلام أهل العلم في أصل هذه المادة واشتقاقها، فيه تفاصيل لكن هذه خلاصة، لم يتسنه في هذا الكتاب معجم مفردات الإبدال والإعلان، وأصل هذه المادة مأخوذة من كتاب الحلبي وهو الدر المصون.

يقول: "لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]": فعل مضارع اختلف في اشتقاقه وتصريفه على ثلاثة أقوال:

الأول: ذهب الفراء إلى أن الهاء فيه أصل، ووزنه يتفعل، وهو مشتق من لفظ السَنة على لغة من يقول: أن لامها هاء، لام الكلمة -يعني: آخر حرف فيها- على وزن فعل بمعنى: سَنَهَ، فالمعنى لم يتغير بمرور السنين عليه، وأصل سنةٌ؛ أصل كلمة سنة على هذا سنَّه.

الثاني: ذهب المبرد إلى أن الهاء للسكت، يعني: زائدة ليست أصلية، فيكون وزنه: يتفعه، يتسنه، وإثباتها وصلًا من قبيل إجراء الوصل مجرى الوقف، يعني: لماذا لا تُحذف في حال الوصل إذا كانت للسكت؟ فقال: بأن ذلك من قبيل إجراء الوصل مجرى الوقف، وأن أصل الكلمة مشتقٌ من السنة ولامها واو، فأصل يتسنه أصله يتنسى ألف مقصورة، ثم حذفت اللام للجزم، اللام الحرف الأخير، وقبل ذلك كان: يتسنو، بمعنى: أنها كانت في الأصل واو، تحركت الواو وانفتح ما قبلها، يتسنو والواو يتنسو مضمومة، يصعب النطق بهذا، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها وقلبت ألفًا "يتسنى"، أو هو مشتق من لفظ "مسنون" وهو المتغير، فالأصل يتسنن فاستثقل توالي ثلاثة أمثال، يعني ثلاثة حروف حرف النون، يتسنَّن مشدد بحرفين والثالث النون الأخيرة، فأُبدلت الأخيرة ياء، ثم تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفًا ثم حُذِفَت جزمًا، "لَمْ يَتَسَنَّهْ".

الثالث: يقول ذهب النقاش إلى أنه مأخوذ من أسِن الماء، أي: تغير، وهذا لا يصح؛ لأن تفعل من أَسِنَ تأسن، إلا إذا ادعي بقلب المكان بأن أُخرت فائه؛ يعني الحرف الأول إلى لامها، فصار يتسنأ بالهمز، ثم أُبدت الهمزة ألف، ثم حُذِفَت جزمًا، هذه ثلاثة أقوال.

قوله تعالى:

وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]، قيل: بقي حماره حيًّا طول المائة عام، دون علف ولا ماء، وقيل: مات ثم أحياه الله وهو ينظر إليه.

ما ذكره ابن جُزي قبل ذلك في قوله: فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ [البقرة:259]: معناه لم يتغير بل بقي وأن هذه أعجوبة إلهية، بمعنى: أن الطعام يُسرع إليه كما سبق التلف والتغير، فبقي هذه المدة لم يتغير بينما الحمار تحول، ثم أعاده الله هذا بناءً على القول الآخر أن الحمار تحلل، ثم أعاد الله خلقه.

القول الآخر: أن الحمار لم يتغير "وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ [البقرة:259]": أي كذلك لم تغيره السنون، لكن كأن في الآية قرينة تدل على أن الحمار تغير ما هي؟ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا [البقرة:259]، فهذا يدل على أنه تغير، وأن الله أعاده أمامه شيئًا فشيء، وهو ينظر -والله أعلم-.

وعلى كل حال: القول بأنه مات -يعني الحمار- ثم أحياه الله وهو ينظر إليه، هذا الذي اختاره الحافظ بن كثير -رحمه الله-[3]، يعني: بقي الطعام والشراب لم يتغير، والحمار تحلل، وإعادة الحمار أبلغ من الطعام والشراب؛ لأنه ذو روح، هذا هو الإحياء.

قوله تعالى:

وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ [البقرة:259]: التقدير: فعلنا بك هذا لتكون آية للناس، وروى أنه قام شابًّا على حالته يوم مات فوجد أولاده وأولادهم شيوخًا.

الله أعلم.

قوله:

وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ [البقرة:259]: قال: هي عظام نفسه، وقيل: عظام الحمار على القول بأنه مات.

يعني: -مثلًا- من يقول: بأن الحمار لم يتغير ولم يمت، كيف يُجيب عن هذه القرينة في الآية؟ "وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ [البقرة:259]" قال: "إلى عظام نفسه"، لكن كأن الأول أقرب -والله أعلم- أن ذلك عظام الحمار؛ لأنه لم يشعر شيء، قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [البقرة:259]، هو لم يستنكر شيئًا، ولم ير شيئًا يدل على حصول أمرٍ يعجب منه بالنسبة إلى حاله هو.

قوله تعالى:

ننشرها بالراء نحييها، وقرئ بالزاي، ومعناه نرفعها للإحياء.

قراءة بالزاي هي قراءة ابن عامر والكوفيين الثلاثة، والقراءة بالراء هي قراءة الباقين، ننشرها من الإنشار: وهو الإحياء، نشور الإحياء، ننشرها نحييها، وانظر إلى العظام كيف ننشرها بمعنى الإحياء، وهذا المعنى فسره فسر الآية به مجاهد -رحمه الله-[4].

يقول: "وقرئ بالزاي، ومعناه نرفعها للإحياء"، باعتبار أن أصل معنى النشز الارتفاع والعلو، المكان النشاز، يعني: المرتفع، وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ [النساء:34]: يعني الترفع على الزوج على طاعته، لا تُطيعه تترفع عن طاعته، هذا النشوز، ففيه معنى الارتفاع والعلو، فيكون نُنشِزُهَا [البقرة:259]، يعني: نرفعها إلى مواضعها ونحرك بعضها إلى بعض فيُركب بعضها على بعض، يعني: بعد ما كانت ترابًا أصبحت هذه العظام عادت وبدأت تتركب هذا في الساق، وهذا في العضد، وهذا في الظهر، وهذا في الرأس، كل عظمٍ يعود إلى موضعه ويرتفع هذا الجسد من جديد، كَيْفَ نُنشِزُهَا [البقرة:259] نرفعها.

قوله تعالى:

قَالَ أَعْلَمُ [البقرة:259]، بهمزة قطع وضم الميم أي: قال الرجل ذلك اعترافًا، وقرئ بألف وصل، والجزم على الأمر، أي قال له الملك ذلك.

"قَالَ أَعْلَمُ [البقرة:259] بهمزة قطع وضم الميم"، يعني: هو يتحدث عن نفسه ويكون ذلك من قوله هو إقرارًا واعترافًا، أعلم بهمزة القطع فهو يخبر عن نفسه وهذه قراءة الجمهور.

"قال اعلم" هكذا بالجزم وهمزة الوصل هذه قراءة حمزة والكسائي، "قال اعلم" فيكون من قول الله -تبارك وتعالى- "قال أعلم".

والقراءتان إذا كان لكل قراءة معنى فهما بمنزلة الآيتين، فيكون هنا "قَالَ أَعْلَمُ" هذا إقرار منه كأنها آية مستقلة، هو يقر بذلك، هذا كلام الله وهذه القراءات هي عائدة إلى الأحرف السبعة، وهي وما تضمنته من المعنى حق، "قال اعلم" فيكون ذلك من قول الله، "قال اعلم"، فيكون الله خاطبه بذلك، فيكون هو أيضًا قد أقر به، "قَالَ أَعْلَمُ"، فليس ذلك من الاحتمالات والمعاني التي تتطرق إلى اللفظ، ويكون أحدها صحيحًا، لا. لا، هذه كأنهما آيتان، فيكون قيل له ذلك، وقال هو أيضًا، يعني يقول: أنا عالم بهذا، أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:259]، أعلم، أنا عالم به وقد رأيته عيانًا، أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

قوله تعالى:

وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ [البقرة:260] الآية: قال الجمهور: لم يشك إبراهيم في إحياء الموتى، وإنما طلب المعاينة؛ لأنه رأى دابة قد أكلتها السباع والحيات (قال في جميع النسخ: والحيتان).

لا. لا، أكلتها السباع والحيتان! كيف يكون هذا؟ السباع في البر، والحيتان في البحر.

قد أكلتها السباع والحيات.

كأنه يقصد الحيات ربما يقصد الدود.

 فسأل ذلك السؤال، ويدل على ذلك قوله: كَيْفَ [البقرة:259]، فإنها سؤال عن حال الإحياء وصورته لا عن وقوعه.

لا شك أن إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- لم يشك في قدرة الله على إحياء الموتى، وهو إمام الحنفاء، وأبو الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- ولكن أراد أن ينتقل من مرتبةٍ إلى مرتبة، يعني: أراد أن ينتقل من علم اليقين وقد كان يتقن بهذا، أراد أن ينتقل إلى مرتبةٍ أعلى وهي عين اليقين، إذ المراتب في اليقين ثلاث:

المرتبة الأولى: علم اليقين وهي العلم بالشيء الذي لا يتطرق إليه الشك والتردد ولا يقبل التشكيك.

والمرتبة الثانية: وهي عين اليقين إذا شاهده.

والمرتبة الثالثة: هي حق اليقين.

وللحافظ ابن القيم كلام على هذا فعلم المؤمن بالجنة؛ بوجود الجنة هذا علم يقين، فإذا رآها فهذا عين اليقين، فإذا دخلها فهذا حق اليقين، علمك بهذا المسجد علم اليقين، فإذا رأيته فذلك عين اليقين، فإذا دخلت فيه فهذا حق اليقين، مثلَّ ابن القيم لهذا بأمثلة العسل، تعلمون عنه شيئًا علمًا يقينيًّا أنه حلو المذاق مثلًا، فإذا رأيته كان ذلك علم اليقين، فإذا ذُقته فهذا حق اليقين.

إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أراد أن ينتقل من علم اليقين إلى مرتبة أعلى وهي عين اليقين، وقول النبي ﷺ: نحن أحق بالشك من إبراهيم[5] حمله الحافظ بن القيم -رحمه الله- على المسافة التي تكون بين علم اليقين وعين اليقين، أن ذلك يُقال له شك، ليس الشك بمعنى التردد أو مستوي الطرفين، وإنما أُطلق على هذا المعنى[6]، والله أعلم.

وبعضهم يحمل قول النبي ﷺ: نحن أحقُّ بالشك من إبراهيم، يعني: لو وقع ذلك منه، لو حصل منه، لكنه لم يحصل.

قوله تعالى:

وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي[البقرة:260] أي بالمعاينة، قوله: أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ[البقرة:260]، قيل: هي الديك، والطاووس، والحمام، والغراب.

على كل حال هذا لا دليل عليه، ولا حاجة إليه.

فقطعها وخلط أجزاءها، ثم جعل من المجموع جزءًا على كل جبل، وأمسك رؤوسها بيده، ثم قال: تعالين -بإذن الله- فتطايرت تلك الأجزاء حتى التأمت، وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء، فجاءته تسعى، حتى وضعت أجسادها في رؤوسها وطارت -بإذن الله-.

قوله: فَصُرْهُنَّ: أي ضمهن.

هذا على قراءة الضم، فصُرهن -بضم الصاد- يوجه لهذا المعنى الضم، قراءة الضم أي ضمه يعني: أملهن إليك واجمعهن، وبعضهم يقول: صح بهن، فصُرهن، يعني بالنداء يُنادي على هذه الأجزاء فتأتي، يدعوهن.

وقيل: قطّعهن على كل جبل.

هذا يوجه أيضًا على قراءة الكسر للصاد فصِرهن -بكسر الصاد- فيكون بمعنى قطعهن، يعني هنا قد تُذكر أقوال ويكون كل قول عائد إلى قراءة، هذا مثال له توجيه أقوال المفسرين باعتبار القراءات، وهذه من الطرق التي يُمكن أن يُجمع فيها بين أقوال المفسرين، يعني يكون هذا القول حق وهذا القول حق، هذا بناءً على قراءة وهذا بناءً على قراءة، ولا نحتاج إلى ترجيح، ما نحتاج إلى ترجيح.

فيكون فَصُرْهُنَّ: يعني اجمعهن، أملهن إليك. وصِرهن قطعهن، يعني: قطعهن واجمعهن إليك، ونكون جمعنا بين المعنيين بناءً على القراءتين.

قيل: أربعة جبال، وقيل سبعة، وقيل: الجبال التي وصل إليها حينئذ من غير حصر بعدد.

على كل حال لا دليل على تحديد العدد، فبقي عندنا معنيان بناءً على قراءتين: صُرهن يعني: ضمهن واجمعهن ونحو ذلك، أو صح بهـن، أو أملهن إليك، وصِرهن، يعني: قَطِّعهن، قيل: رجل أصور إذا كان مائل العنق، هذا المعنى أملهن إليك، وهذا لا يختلف والله أعلم مع قوله: اجمعهن، ضمهن.

قوله:

فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]: ظاهره الجهاد، وقد يُحمل على جميع وجوه البر.

"سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]" في القرآن إذا أُطلق بعض أهل العلم يقولون: المراد به الجهاد، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261] قال: في الجهاد، وهذا مروي عن مكحول الدمشقي -رحمه الله-.

وفي حديث أبي عبيدة مرفوعًا: من أنفق نفقةً فاضلةً في سبيل الله فسبعمائة.

لاحظ الآية: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة:261]: يعني: سبعمائة.

أي هذا الحديث: من أنفق نفقةً فاضلةً في سبيل الله فسبعمائة، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضًا أو ماز أذى -يعني أزال أذى- فالحسنة بعشر أمثالها[7].

وفي حديث أبي مسعود : جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله، فقال رسول الله ﷺ: لك بها يوم القيامة سبع مائة ناقة كلها مخطومة[8].

 وهذا يحتمل أن يكون في سبيل الله يُحمل عليها في سبيل الله، يعني في الجهاد.

في حديث أبي هريرة : كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله : إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به[9].

كل عمل ابن آدم، فهذا يُمكن أن يستدل به من يقول: في سبيل الله سائر وجوه البر، وهذا هو القول الآخر، يقولون: قد يُحمل على جميع وجوه البر، وهذا الذي قال به بعض أهل العلم؛ كسعيد بن جبير[10]، وهو اختيار الحافظ ابن القيم -رحمه الله- مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]: يعني في وجوه البر، يعني: في أي بابٍ منها لا يختص ذلك بالجهاد، فيكون إلى سبعمائة ضعف[11].

أن المضاعفة إلى سبعمائة لا تختص بالجهاد، والدليل على هذا: حديث أبي هريرة: كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله : إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، وهذه المضاعفة إلى سبعمائة ضعف كما ذكر الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أنها تكون بحسب ما يحتف بالعمل[12]، يعني بحسب ما يقوم بقلب صاحبه من الإخلاص والإخبات، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:60].

وبحسب طيب هذه النفقة، وبحسب أيضًا الجهة المنفق فيها، فهذا يتفاضل كما قال الله : فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ۝ فَكُّ رَقَبَةٍ ۝ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ۝ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ۝ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:11- 16]، فهذا الإطعام في اليوم شديد الحاجة، وكذلك اليتيم القريب لا شك أنه أعظم وأبلغ أثرًا، وأعظم عائدةً على صاحبه من الأجر.

على كل حال: أبو جعفر بن جرير -رحمه الله- يجعل هذه الآية: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:261]، مردودة إلى الآية الخامسة والأربعين بعد المائتين، وهي قوله -تبارك وتعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً[البقرة:245][13].

ما هذه الأضعاف الكثيرة؟ مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ[البقرة:261]، كل هذا تفصيل لما سبق من الأضعاف الكثيرة، فيكون ذلك بيانًا للإجمال في الأضعاف؛ لأنه لم يُبيَّن هذه الأضعاف ما قدرها، فهنا بيَّن أن ذلك إلى سبعمائة ضعف.

قوله تعالى:

كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة:261]، كل ما يُزرع ويُقتات (وفي جميع النسخ: يزدرع ويقتات) وأشهره: القمح، وفي الكلام حذف تقديره: مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة أو يقدر في آخر الكلام، (قال: وفي بعض النسخ: في أجزاء الكلام) كمثل صاحب حبة.

هذا مضى الكلام عليه في شرح الأمثال في القرآن تفصيلًا، يعني هذا المثل المضروب مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ [البقرة:261]، فهنا ظاهر اللفظ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ الأشخاص المنفقين، هل المنفقون كحبة؟ المنفق كحبة؟ فهذا يحتاج إلى تقدير، لاحظ! فهنا يقول: "وفي الكلام حذف تقديره: مثل نفقة الذين ينفقون"، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

مثل نفقة هؤلاء كمثل حبة، فيكون الحبة بإزاء النفقة، هذه النفقة تضاعف أو يكون ذلك في آخر الكلام، التقدير في آخر الكلام، يعني في الأول: مثل نفقة الذين ينفقون كمثل حبة، يعني: شبه النفقة بحبة أنبتت سبع سنابل، فالمشبه: هو النفقة، والمشبه به: الحبة، أو في آخر الكلام: فيكون: "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل كمثل صاحب حبة"، جعلناه في آخر التقدير في آخر الكلام: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كحبة؛ كصاحب حبة، صاحب حبة أنبتت له سبع سنابل في كل سنبلةٍ مائة حبة، واضح؟ فهنا أو يقدر ليس في أجزاء الكلام وإنما في آخر الكلام، إما في الأول: فيكون ذلك تمثيلًا للنفقة بحبة، أو يكون التمثيل لصاحب النفقة بصاحب حبة.

يعني: على القول الأول يكون التقدير في الأول: "مثل نفقة الذين ينفقون"، وعلى القول الثاني: لا تقدير في الأول، مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ التقدير في المشبه به: "كمثل صاحب حبة" لاحظتم؟ وإنما اقتضى ذلك التقدير سواءً في البداية أو في الآخر أن الكلام لا يستقيم إلا به، كلام الله في غاية الفصاحة والبلاغة، والعرب تحذف من الكلام؛ اختصارًا ثقةً بفهم السامع.

قوله تعالى:

أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ[البقرة:261]: بيانٌ أن الحسنة بسبعمائة كما جاء في الحديث: أن رجلًا جاء بناقةٍ، فقال هذه في سبيل الله، فقال رسول الله ﷺ: لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة[14]، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261]، أي يزيده على سبعمائة وقيل: هو تأكيدٌ وبيانٌ للسبعمائة، والأول: أرجح؛ لأنه ورد في الحديث ما يدلُّ عليه.

يعني: هنا في قوله: "وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ[البقرة:261]: يحتمل أن المقصود: يضاعف هذه المضاعفة من العشر إلى السبعمائة، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، من الذي يصل إلى السبعمائة؟ هذا لمن شاء الله -تبارك وتعالى- فيكون تأكيدًا وبيانًا للسبعمائة.

يعني: ليس أكثر من سبعمائة، لكن ما جاء في الحديث: إلا الصوم، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، فيكون بلوغ السبعمائة لمن يشاء، ويحتمل أنه زيادة على السبعمائة، والله يضاعف فوق السبعمائة لمن يشاء، وهذا كأنه هو المتبادر زيادة على السبعمائة، كما قال الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: بحسب إخلاصه في عمله[15]، يكون المعنى: يضاعف هذه المضاعفة على القول بأن ذلك بيان وتأكيد للسبعمائة، ابن جرير[16]، والحافظ ابن القيم[17]، يقول: "وَاللَّهُ يُضَاعِفُ [البقرة:261]" أي: هذا العدد، يضاعف هذا العدد لمن يشاء، والآية تحتمل على كل حال، والله أعلم.

سؤال: كيف تأسيس مقدم على التوكيد؟

جواب: لا مدخل للقاعدة هنا؛ لأن الكلام ليس في زيادة لفظة فيُقال: هي مؤسسة أو مؤكدة، لا. لا الكلام ليس بهذا، وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]، يُضاعف فوق العشر إلى السبعمائة هذا معنى، أن ذلك لا يكون لكل أحد، أو يضاعف فوق السبعمائة لمن يشاء، والله أعلم.

قوله تعالى:

الَّذِينَ يُنفِقُونَ [البقرة:262] الآية: قيل: نزلت في عثمان[18]، وقيل: في عليّ، وقيل: في عبد الرحمن بن عوف.

على كل حال: ورد فيه روايات، منها ما هو صحيح، ومنها ما هو ضعيف، أذكر بعض الروايات الصحيحة في سبب النزول، هذه الآية قوله -تبارك وتعالى-: مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [البقرة:261]: القول بأن الآية نزلت في عثمان وعبد الرحمن بن عوف، هذا مروي عن الكلبي وغيره، هذا لا يصح، يقول: نزلت في عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، أما عبد الرحمن بن عوف فإنه جاء إلى النبي ﷺ بأربعة آلاف درهم صدقة، فقال: كان عندي ثمانية آلاف درهم، فأمسكت منها لنفسي ولعيالي أربعة آلاف درهم وأربعة آلاف أقرضتها ربي، فقال له رسول الله ﷺ: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت.

وأما عثمان فقال: علي جهاز من لا جهاز له في غزوة تبوك، فجهز المسلمين بألف بعير بأقتابها وأحلاسها، وتصدق برومة - كية كانت له- على المسلمين، فنزلت فيهما هذه الآية[19] وهذا لا يصح.

وهكذا مرويات أخرى: حديث أبي سعيد قال: رأيت رسول الله رافعًا يده يدعو لعثمان يقول: يا رب، إن عثمان بن عفان رضيت عنه، فما زال رافعًا يده حتى طلع الفجر، فأنزل الله فيه: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[البقرة:262][20].

وكذلك يقول ابن الجوزي في زاد المسير[21]، وكذلك جاء في البغوي[22]، قال ابن السائب ومقاتل: نزلت في عثمان بن عفان في نفقته في غزوة تبوك وشرائه بئر رومة بالمدينة، تصدق بها على المسلمين، وفي عبد الرحمن بن عوف تصدق بأربعة آلاف درهم، وكانت نصف ماله، هذا ليس بصريح في سبب، لكن الأول والثاني صريحان، لكن لا يصح منهما شيء.

وهنا ذكر في الحاشية بأن قوله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262] يقول: الصحيح أنها نزلت في عثمان، فعن عبد الرحمن بن سمرة قال: "جاء عثمان بألف دينار في جيش العسرة، وضعها في حجر رسول الله ﷺ فرأينا النبي ﷺ يُدخل يده ويقلبها ويقول: ما ضرَّ عثمان ما عمل بعد اليوم فأنزل الله تعالى: الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ[البقرة:262]"[23]، هذا عند الترمذي وأحمد، وقال الترمذي: حديثٌ حسن غريبٌ من هذا الوجه، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي.

المقصود: أن الروايات التي تذكر عبد الرحمن بن عوف، وكذلك علي فذلك لا يصح منه بشيء، تبقى هذه الرواية على كل حال أنها نزلت في عثمان -رضي الله عن الجميع-.

قوله تعالى:

مَنًّا وَلا أَذًى [البقرة:262]: المن: ذكر النعمة على معنى التعديد لها والتقريع بها، والأذى: السب.

المن والأذى، "المن: ذكر النعمة" المنَّ من المخلوق نقص وعيب، ومن الله -تبارك وتعالى- ليس كذلك، وقد مضى الكلام على هذا في شرح الأسماء الحسنى، المنان فالله يمنَّ على عباده -تبارك وتعالى- ولا يكون ذلك نقصٌ، وليس بأذى للمعطَين، فالله سبحانه هو الأول والآخر، فالنعم منه مبتدئة، وإليه المرجع والمآب.

فهنا ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى "الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة:262]"، هذه نفقة خالصة، لكن ذكر المبطل الآخر وهو المن والأذى، والمن والأذى هذا غير الرياء والسمعة، مما يبطل العمل مما يكون قبله أو في أثنائه، أو في يكون بعده حينما يُسمع به، فيذكره في التسميع طلبًا للسمعة، بينما المن والأذى هذا يكون للمعطَى، فالمن: يكون بذكر النعمة له على سبيل التقريع ونحو ذلك.

والأذى يقول: "السب" وما يُكره ويُغتم به كل ذلك من الأذى، فحينما يُذكره بالنعمة والعطاء فيقول: بأي طريق كان هذا من المنَّ، وقد قال بعض السلف: إذا كان تسليمك عليه يعني يؤذيه، يعني تتصل عليه مثلًا وتقول: أنا أردت أن أُسلم وأطمئن، إذا كان يثقل عليه فدعه، فهذا المن سواء كان صريحًا تقول له: أعطيتك، أحسنت إليك، أو كان ذلك تعريضًا فإنه يكون سببًا لذهاب الأجر، وكذلك الأذى أثناء العطية أو بعد ذلك كأن يقول له مثلًا: خذ هذا ولا تأتي، لا أراك بعد اليوم، فيذمه ويزجره، ويرفع صوته عليه، ويُسِمعه ما يكره، بعض الناس يفعل هذا يُعطي ولكنه يؤذي.

ولهذا قال الله : قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى[البقرة:263]، يعني: كأن يُقال له: أبشر إذا جاءنا الشيء أعطيناك، نسأل الله أن يفرج عنك وييسر أمرك خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى [البقرة:263]، هذا أفضل من أن يُعطيه ويقول له كلامًا يجرحه، فمراعاة حال هذا السائل ومراعاة مشاعر هؤلاء الناس هذا مطلب شرعي، ليس فقط هو سد الحاجة بالمال بل أيضًا قال الله -تبارك وتعالى-: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى:10]؛ لأنه يكفيه ذل السؤال، فلا يجتمع عليه هذا وهذا.

ذكرت في لعله في الكلام على قوله -تبارك وتعالى- في سورة الإسراء: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28]، إذا ما كان عندك شيء وتنتظر عطاء الله ورزقه فقل لهم قولًا ميسور، يكون بإذن الله إذا أعطانا الله ووسع علينا أعطيناكم وتعدهم العدة الحسنة، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا [الإسراء:28].

إلا تكن ورقٌ يوماً أجود بها للسائلين فإني لين العودِ

إذا ما كان عندك شيء تعطيه (إلا تكن ورقٌ يومًا أجود بها) إذا ما عندك ذهب فضة ورق تجود بها، (للسائلين فإني لين العودِ)، يعني: أرد بالكلام الجميل والكلام الطيب.

لا يعدم السائلون الخير من خلقي إما نوالي وإما حسن مردودي

إما أعطيهم وإما يجدون الرد الحسن، أما الرد الجارح فهذا غير وارد لا مع العطاء ولا مع الحرمان، وهو مع الحرمان أشد، فإذا كان يُذم في المعطي مع مثل هذه الكلمات والعبارات فكيف بالمنع؟

قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ [البقرة:263]، هو ردّ السائل بجميل من القول: كالدعاء له والتأنيس.

هذه كما قال ابن دريد:

لا تدخلنك ضجرة من سائل فلخير دهرك أن ترى مسئولًا

إذا فكر الإنسان في هذا خير دهرك أن تُرى مسئولا، يعني: الناس يطمعون بنوالك وعطائك ويسألونك ما هو أنت

الذي تسأل، يقول:

لا تجبهن بالرد وجه مؤمل فبقاء عزك أن ترى مأمولًا

هذه منزلة الله وضعك بها أن هؤلاء الناس يأملون منك ويسألونك، ولم تكن أنت السائل ولا المؤمل، ولم تكن أيضًا بحالٍ ييأس الناس منه فلا يأتون إليه.

قوله تعالى: وَمَغْفِرَةٌ [البقرة:263]: عفوٌ عن السائل إذا وجد منه جفاء، وقيل: مغفرة من الله لسبب الردّ الجميل، والمعنى: تفضيل عدم العطاء إذا كان بقولٍ معروفٍ ومغفرة، على العطاء الذي يتبعه أذى.

وبعضهم يقول: المغفرة، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ[البقرة:263]، يعني: مغفرة من جهة السائل إذا اعتذر منه، لكن هذا بعيد، المتبادر: أن القول المعروف والمغفرة كل ذلك يرجع إلى المسئول، وهذه المغفرة خيرٌ من صدقة يتبعها أذى، القول المعروف والمغفرة خير من صدقة يتبعها أذى، فهو مأمور بأن يقول القول المعروف، وأن يتجاوز عن هذا السائل؛ لأن هذا السائل قد يأتي في وقت غير مناسب، في وقت راحة، في وقت انشغال قد يُلحف في المسألة، قد يقطع عليه حديثه، قد يتكلم بكلامٍ غير مناسب فيستفز السامع، فهنا يحتاج إلى غفر، قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ.

وهذا المعنى، يعني: أن ذلك يرجع إلى المسئول، وَمَغْفِرَةٌ، يعني: عفوٌ عن السائل إذا وجد شيء، هذا الذي اختاره ابن جرير[24] وابن كثير[25]، وهو المتبادر أن ذلك يرجع إلى المسئول، كل ذلك يرجع جميعًا إليه، مَغْفِرَةٌ ويكون في معنى أيضًا مغفرة؛ لأن فيها بمعنى الغفر، ويكون بذلك أيضًا ستر خلة هذا السائل وفاقته، وترك أذيته، وترك المؤاخذة، هذا من المؤاخذة والستر، فيستره.

قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ، لا يتكلم أيضًا في المجالس ويقول: فلان يسأل، ويتكلم، ويطلب ولا يحسن خطاب ولا طريقة السؤال ونحو ذلك، كذلك قد يُعطيه أو لا يُعطيه، لكن يتكلم أنه جاء وسأل وطلب، وذاك قد يكون جاءه بصفة خاصةٍ ولا يُريد من الآخرين أن يعرفوا أنه طلب أو احتاج فيتحدث عن أنه جاء إليه، وأنه يطلب مساعدة ونحو ذلك، هذا لا يليق، طيب نتوقف هنا.

  1. أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب ذكر العشاء والعتمة، ومن رآه واسعا، رقم: (564)، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة  باب قوله ﷺ: "لا تأتي مائة سنة، وعلى الأرض نفس منفوسة اليوم" رقم: (2537).
  2. تفسير الطبري (5/446).
  3. تفسير ابن كثير (1/688).
  4. تفسير ابن كثير (1/688).
  5. أخرجه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قوله -: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم إذ دخلوا عليه} [الحجر:52]، رقم: (3372)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة، رقم: (151).
  6. انظر: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (1/469).
  7. أخرجه أحمد (3/220)، رقم: (1690).
  8. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها، رقم: (1892).
  9. أخرجه البخاري، كتاب اللباس، باب ما يذكر في المسك، رقم: (5927)، ومسلم، كتاب الصيام، باب فضل الصيام، رقم: (1151).
  10. تفسير ابن كثير (1/691).
  11. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/141).
  12. تفسير ابن كثير (1/691).
  13. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (5/512).
  14. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الصدقة في سبيل الله وتضعيفها، رقم: (1892).
  15. تفسير ابن كثير (1/693).
  16. تفسير الطبري (5/515).
  17. طريق الهجرتين وباب السعادتين (ص:364).
  18. سنن الترمذي، باب في مناقب عثمان بن عفان ، وله كنيتان، يقال: أبو عمرو، وأبو عبد الله، رقم: (3701).
  19. أسباب النزول ت الحميدان (ص:87).
  20. أسباب النزول ت الحميدان (ص:87).
  21. زاد المسير في علم التفسير (1/238).
  22. تفسير البغوي (1/325).
  23. أخرجه الترمذي، أبواب المناقب عن رسول الله ﷺ، باب في مناقب عثمان بن عفان ، رقم: (3701)،
  24. تفسير الطبري (5/520).
  25. تفسير ابن كثير (1/693).

مواد ذات صلة