الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاءوا مِنْ بَعْدِهِمْ..} إلى «إذا مات الإنسان انقطع عمله..»
تاريخ النشر: ١٢ / شعبان / ١٤٣١
التحميل: 1092
مرات الإستماع: 1591

قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا باب الصدقة عن الميت، والدعاء له.

قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

هذه الآية من سورة الحشر صيغتها صيغة الخبر، يخبر الله -تبارك وتعالى- بها عن قيل أهل الإيمان، ماذا يقولون، وما هو دعاؤهم، هو: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، لما ذكر المهاجرين الذين تركوا الأهل، والوطن، والعشيرة لله، وفي الله، وذكر الذين تبوءوا الدار والإيمان، أي: الأنصار ، ذكر الطائفة الثالثة، وهم من وصفهم الله بقوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر:10]، فهذا يشمل كل من أسلم بعد فتح مكة من الصحابة ، كما يشمل من جاء بعدهم من التابعين إلى يوم القيامة، فهذه الآية تصدق على جيلنا هذا، وتصدق على غيره من الأجيال قبله وبعده، بعد السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فغاية ما هنالك أن العبد يجد ويجتهد، ويحرص أن يكون من هؤلاء الذين جاءوا من بعدهم، من الذين اتبعوهم بإحسان.

وقوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر:10]، هذا تعليم من الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين كيف يقولون، فهو وإن كانت صيغته صيغة الخبر إلا أنه تعليم من الله، يعلمنا كيف نقول، ماذا نقول؟ نقول: ربنا اغفر لنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان.

ولهذا أخذ منها الإمام مالك -رحمه الله- إمام دار الهجرة: أن من سب السلف ، من سب الصحابة فلا حق له في الفيء؛ لأن الآيات تكلمت على الفيء، في وقعة بني النضير، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قال: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ [الحشر:8]، فهؤلاء أول من يستحق الفيء؛ لأنهم تركوا كل شيء، ثم قال: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [لحشر:9] يعني: قبل المهاجرين، جمعوا بين الوصفين، وإن كان المهاجرون أسلموا في الجملة قبل، لكن الأنصار سكنوا المدينة، واستوطنوها قبل المهاجرين، فهذا هو الصنف الثاني، الصنف الثالث والراجح أنه معطوف على الصنفين في استحقاق الفيء أيضًا: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر: 10]، فأخذ منها الإمام مالك -رحمه الله: أن من سب الصحابة فلا حق له في الفيء.

ولهذا كان بعض السلف ، وروي عن غير واحد: أنه إذا جاءه من يسب الصحابة، يقع في علي، أو في عثمان ، أو في غيرهم، يقول له: هل أنت من المهاجرين الأولين؟ فيقول: لا، يقول: هل أنت من الذين تبوءوا الدار والإيمان، من الأنصار؟ يقول: لا، في بعض الروايات يقول: وأنا أشهد أنك لست ممن قال الله فيهم: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ [الحشر:10].

فأقول: لم يبقَ لنا إلا هذا الوصف؛ ولهذا ينبغي على الإنسان أن يكون سليم الصدر لأصحاب رسول الله  ﷺ، ولسلف هذه الأمة، ولخيارها، وبهذا يعرف قبح ما عليه الرافضة، وعظم ما هم فيه من الجرم، والجناية على أصحاب رسول الله ﷺ، فهم قطعًا ليسوا ممن يصدق عليه هذا الوصف: يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10]، فهم في كل مناسبة يلطمون، ويضربون أجسادهم، ويشحنون قلوبهم بالغل، والحقد على أصحاب رسول الله ﷺ، ومن سار على نهجهم، وطريقتهم، يجددونه حينًا بعد حين، ولو سئلوا عن شر الناس لذكروا أصحاب النبي ﷺ، ولو سئلوا عن شر أصحاب رسول الله ﷺ لذكروا خيارهم، يذكرون أبا بكر وعمر رضى الله عنهما وأرضاهما.

إن أمي افتُلتتْ نفسُها
يقول: وعن عائشة رضى الله عنها-: أن رجلًا قال للنبي ﷺ: إن أمي افتُلتتْ نفسُها، وأُراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقتُ عنها؟ قال: نعم[1].

افتُلتتْ نفسُها يعني: خرجت نفسها قبل أن تتكلم، قبل أن توصي، داهمها الموت، عاجلها الموت قبل أن تذكر ما تريد أن تذكره من وصية بصدقة، أو غير ذلك، والقائل هو: سعد بن عبادة كما توضحه بعض روايات الحديث.

إن أمي افتُلتت نفسها، وأُراها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم.

إذن، دلت الآية السابقة على أن الدعاء ينفع، وهذا لا شك فيه قطعًا، بالإجماع، ودل هذا الحديث على أن الصدقة تصل للميت، صدقة الأحياء عن الأموات، فهو وإن كان صدور السؤال من ولد يتصدق لوالدته فإن بلوغ الصدقة للميت أمر لا إشكال فيه.

هذا الحديث الأول، وأما الحديث الثاني فهو:

إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا
حديث أبي هريرة : أن رسول الله ﷺ قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له[2]رواه مسلم.

هذه الثلاث هي من عمله، فقوله:صدقة جارية يعني: أنها مستمرة، بمعنى: أنه لم يتصدق مثلًا بطعام أكله الفقير، وانتهى، لا،صدقة جارية بمعنى: تستمر، كأنْ حفر بئرًا يستقي منها الناس، أو أجرى نهرًا، فهذه صدقة جارية، أو وضع مكيفات في مسجد، أو بنى بيتاً لابن السبيل، أو بنى وقفًا، أو ساهم في بناء وقف، أو وضع مثلًا سيارة إسعاف، أو سيارة تنقل الأموات إلى المقابر والمغاسل، ونحو ذلك، فهذه من الصدقات الجارية، أو وضع أجهزة في مسجد، ينتفع بها، كمكبرات صوت، وأجهزة تسجيل، ووضع مكبرات وأشياء للدعوة إلى الله، تستعمل في المخيمات، والبرامج الدعوية، وما إلى ذلك، فهذه صدقة جارية، أو أجهزة حواسيب، أو نحو ذلك، تستعمل في برامج دعوية، في أمور نافعة، أو أجهزة في مستشفى، كغسيل كلى، أو نحو ذلك، أو أجهزة أشعة، فهذه كلها من الصدقة الجارية، أو بنى مستشفى، أو بنى مدرسة، أو معهدًا، كل ذلك من الصدقة الجارية.

يقول: أو علم ينتفع به، يعني: علمه الناس، وتعلموه، وبقي عندهم، والنبي ﷺ يقول: من دل على خير فله مثل أجر فاعله[3]، فهؤلاء الذين تعلموا من هذه الأشياء، بعضهم أسلم، وبعضهم صار يعمل أعمالا من العبادات، وإلى آخره، فهذا الذي دلهم يشترك معهم في الأجر، فله كأجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ.

ويدخل في العلم: التأليف، والكتابة، أو ترك شيئًا ينتفع به الناس بعده؛ ولهذا تجد العلماء ألفوا وكتبوا، منهم: الإمام النووي -رحمه الله، انظروا إلى هذا الكتاب: "رياض الصالحين" يقرأ في المساجد، وعبر هذه القرون المتطاولة، والناس يستفيدون منه غاية الاستفادة، ويترحمون على مؤلفه، وكلما فتحوا الكتاب يقولون: قال الإمام النووي -رحمه الله، هذه هي الغبطة، وبعض الناس يموت، وبعد أيام يُنسى تمامًا، وإذا أردت أن تعرف ذلك فانظر الآن لو سألناك مثلًا عن الجد الخامس، ربما أولادك ما يعرفونه، ما يعرفون أسماءهم، فضلًا عن أن يعرفوا عنهم شيئًا، ولربما ينقضي عمر الولد من أوله إلى آخره وما جاء على لسانه اسم الجد الرابع أو الخامس، ما طرق لسانه، فضلًا عن أن يترحم عليه، ولو سئل عن إخوان جده، أو أعمام جده، أو نحو هذا، ما يعرفهم.

فأقول: إذا ترك الإنسان شيئًا فإن ذلك يبقى، سيموت الإنسان، لكن يبقى أثره، وهذا يدخل في عموم قوله -تبارك وتعالى: إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ [يس:12]، فالراجح: أنه يدخل في عموم قوله: وَآثَارَهُمْ: الخطا التي يمشونها للمساجد، ولمجالس العلم، ولحلق الذكر، وإلى طاعة من الطاعات، ويدخل فيه أيضًا: ما تركوه بعدهم من الآثار، من علم ينتفع به، أو نحو ذلك من الأوقاف التي تركوها، فتبقى هذه الآثار من بعدهم، فتجري لهم هذه الأجور؛ ولهذا لابد للإنسان أن يستيقظ، بحيث إنه يبدأ يفكر، فالعمر القصير هذا سيمضي، وبعده سينقطع العمل، ما الذي سيبقى لي بعد ذلك؟ ما الذي سيبقى؟ فيترك الإنسان شيئًا ينتفع به، إن كان له علم يبذل علمه، إن لم يكن من أهل العلم يساهم فيه، يطبع كتبًا جيدة، ينتفع بها الناس، ككتيبات، ومطويات ينتفع بها الناس، يضع جهازاً يستفاد منه في برامج وأعمال دعوية، ونحو ذلك، أيُّ شيءٍ يبقى، وإذا كنت تستطيع أن تبني مسجدًا، أو تبني معهدًا، أو تبني مدرسة، فابنِ، فكل هذا مما يبقى أثره، وهؤلاء الذين يتعلمون كما جاء عن ابن عباس -ا- وهو ثابت صحيح: "من علّم آية من كتاب الله -تبارك وتعالى- فله ثوابها ما تليت"، يعني: للذي يعلم القرآن، يعلم الطلاب، كل آية يتعلمونها، هذا متى؟ هذا إذا احتسب، إذا كان يحتسب الأجر عند الله، ما يعلّم من أجل أنه يأخذ مقابلا على ذلك من عرض الدنيا، لكنه إن أخذ من ذلك شيئًا من غير استشراف نفس، فلا إشكال، لكن الإشكال حينما تكون هذه هي طليبته، وغايته، ومقصوده، فهذه هي المشكلة، يذهب أجره، ولا يبقى له إلا هذا الحطام الذي سرعان ما يتلاشى، فالإنسان يحرص أن يكون له شيء، وأن يكون له أثر.

فهنا ذكر: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له، والواقع أن هذه الثلاث هي كلها من الإنسان، فولده هو من عمله.

فالولد الصالح هو: الذي يدعو له، يرفع يديه ويدعو، وما يعمله هذا الولد مما تعلمه من أبيه، ورباه عليه من الأعمال الطيبة، والأخلاق الكريمة، يؤجر الولد عليها، ويؤجر الوالد، بل الناس يدعون لأبيه، ولآبائه، يدعون لوالديه، إذا رأوا منه الخير، والبر، والمعروف، والنفع، قالوا: رحم الله والديه.

أما الإنسان البعيد الآخر السيئ -نسأل الله العافية- فإنه إذا صدر منه ما يصدر من الأخلاق السيئة المذمومة، والأعمال المكروهة، فالناس لربما شتموه، وشتموا أبويه -نسأل الله العافية، فيلحقهم هذا الشتم، وإن كان قد لا يضرهم، لكن هذا امتداد له، هذه التربية أحيانًا، وإن كانت الهداية من الله ، فأحيانًا الوالد يبذل كل ما يستطيع، لكن الولد طينة غير قابلة لهذا الزرع والنبت، فهو يسرع إلى الشر والمنكر، ولكنه يتباطأ عن الخير وأهله.

الشاهد الآن والخلاصة: هذه الآية دلت على أن الدعاء يصل، وحديث عائشة دل على أن الصدقة عن الميت تصل، وهذا الحديث حصر أن العمل ينقطع، وحصر الذي يصل إليه، وأنه ثلاثة أشياء، والواقع: أنها من عمله، انقطع عمله إلا من ثلاث، وهي: هذه الثلاث المذكورة، وهي: من جملة عمله؛ ولهذا العلماء -رحمهم الله- اختلفوا كثيرًا: ما الذي يصل الميت بعد موته؟ فبعضهم قال: نقف على ما ورد في الأحاديث فقط، ونجمع الأحاديث، ما الذي ورد في الأحاديث؟ الحج عنه، والعمرة عنه، فهذا ثابت؛ لحديث: إن فريضة الله أدركتْ أبي شيخًا كبيرًا، لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: نعم[4]، والصيام عنه؛ لحديث المرأة لما سألت النبي ﷺ عن صوم أمها، فالشاهد أنه قال: أرأيتِ لو كان عليها ديْن أكنتِ تقضينه؟ قالت: نعم، قال: فديْن الله أحق بالقضاء[5]، أو كما قال ﷺ، فمثّله بالدين؛ ولهذا قال: من مات وعليه صيام، صام عنه وليه[6]، فالجمهور حملوه على صوم النذر، والأقرب -والله أعلم: أن ذلك يدخل فيه صيام رمضان ممن وجب عليه القضاء ولم يقضِ، يعني: المريض أحيانًا يكون في حالة مرض، فيمرض ويموت في رمضان، أو يموت يوم العيد، أو يموت بعد العيد بأسبوع أو عشر أيام، أو أقل أو أكثر، والمرض مستمر، ما يستطيع، والأطباء يقولون: يُرجى برؤه، إذن حقه القضاء، لكنه مات، إما في رمضان أو بعده، ولم تكن هناك مُكْنة للقضاء، ما كان في مجال، فما الحل هنا؟ ما العمل؟ ما الحكم؟ أنه لا يجب عليه قضاء، ولا إطعام.

الصورة الثانية: أن المريض قال الأطباء فيه: هذا لا يرجى برؤه، إذن كان الواجب الإطعام، فيطعم عنه.

الصورة الثالثة: أنهم قالوا: يرجى برؤه، ثم أفطر أيامًا من رمضان، ثم بعد رمضان كان هناك فرصة للقضاء، وشفي، ولكنه تأخر، ما قضى في شوال، فمات في ذي القعدة، صار له حادث، أو صار له شيء، ومات، هنا القضاء في ذمته؛ لقوله: من مات وعليه صيام، صام عنه وليه، والجمهور يقولون: يطعم عنه، والأقرب -والله تعالى أعلم: أنه يجوز الصوم عنه أيضًا؛ للعموم في هذا الحديث، والرواية التي فيها التخصيص بالنذر لا تصح.

إذن عندنا قضاء رمضان عنه، وعندنا النذر، وعندنا الكفارة، فلو أن إنسانا عليه قتل نفس، ومات، فعليه كفارة: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فماذا عليه الآن؟ يقال: لو أنهم صاموا عنه يصح، لكن ذلك لا يجب عليه، أو إنسان عليه كفارة جماع في نهار رمضان: عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطيع فإطعام ستين مسكينًا، فهنا لو فعلوا ذلك عنه يصح، لكنه لا يجب عليهم، إلا أن هذا من البر والإحسان للميت.

الشاهد: صار عندنا هذه الأشياء الثلاثة، وفي الأحاديث أشياء أخرى تصل إلى الميت.

فمن أهل العلم من قال: العبادات المالية تصل مطلقًا، والبدنية لا تصل إلا ما ورد في الحديث، مثل: الحج، والعمرة، ومن مات وعليه صوم، ونحو ذلك، أما أن أقرأ قرآناً وأجعل ثوابه للميت فلا، هذا قال به كثير من أهل العلم، من فقهاء الأمصار قديمًا وحديثًا، فهذا قول، أن العبادات المالية تصل، كالصدقة، ونحو ذلك، والبدنية لا تصل إلا ما ورد في الأحاديث.

ومنهم من قال: تصل العبادات المالية والبدنية، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، وعلى غير العادة الغالبة خالفه ابن القيم مخالفة قوية في هذا، فهو: يرى أن العبادات البدنية لا تصل، إلا ما ورد في الأحاديث فقط.

ومن أهل العلم من قال: لا يصل إلا ما ورد في هذا الحديث الحاصر بالثلاث.

والذين أظنه أقرب -والله تعالى أعلم: أن الأعمال تصل حتى البدنية، إلا أن المشروع: أن يعمل الإنسان لنفسه، يقرأ القرآن لنفسه، ويطوف لنفسه، وإذا كان الميت قد حج أو اعتمر فحج لنفسك، واعتمر، فالحياة فرصة قصيرة، وادع للميت، والنبي ﷺ لم يرشد أصحابه أن يقرءوا القرآن ويجعلوا ثوابه للأموات؛ ولهذا يقال: هذا يجوز، لكنه لا يشرع.

فالحاصل: أن هذه الأحاديث ليس بالضرورة أنها تحصر الأعمال التي تصل إلى الميت بهذا، ليس بالضرورة، نعم الحديث صيغته صيغة حصر: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، لكن هذا من عمله هو، لكن عمل غيره إذا أهداه له، كما لو أنه وهبه ماله، فإنه يملك هذا المال، فهكذا بعد الموت لو أنه أهداه ثواب هذا العمل، فالأقرب -والله أعلم- أن ذلك يصل.

والسيوطي -رحمه الله- جمع عشرة أشياء في حديث عند ابن ماجه، من حديث أبي هريرة ، ذكر فيه النبي ﷺ ما يلحق المؤمن بعد موته، ذكر سبع خصال، ذكر بناء المسجد، وذكر البيت الذي يبنى لابن السبيل، وذكر المصحف الذي يورثه الإنسان، والنهر الذي يجريه[7]، ذكر جملة من الأمور تبلغ سبعة، والسيوطي -رحمه الله- ذكرها، وزاد عليها من بعض الأحاديث، فبلغ ذلك عشرة، ويمكن أن يزاد على هذا على كل حال، فالنبي ﷺ أخبر أنه: ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه إنسان، أو طير، أو بهيمة، إلا كان له به صدقة[8]، فهذا الزرع الذي يزرعه الإنسان يؤجر عليه، فإذا مات لا يزال الأجر مستمراً من أكل الطيور، والبهائم، والناس، يقول السيوطي -رحمه الله:

إذا مات ابن آدم ليس يجري عليه من فعالٍ غير عشرِ
علومٌ بثها، ودعاءُ نجل وغرسُ النخل، والصدقات تجري
وراثةُ مصحف، ورباط ثغر وحفرُ البئر، أو إجراء نهرِ
وبيتٌ للغريب بناه يأوي إليه أو بناءُ محل ذكرِ
وتعليمٌ لقرآنٍ كريم فخذها من أحاديث بحصر

فقوله: "ودعاء نجل"، أي: دعاء الولد الصالح الذي يدعو له، "والصدقات تجري"، صدقة جارية يعني، "ورباط ثغر"، المرابطة في الثغور؛ لأن المرابط ثبت عن النبي ﷺ: أنه يجري عليه عمله[9]، لأنه مات في الرباط، فيجري عليه عمله الذي كان يعمله، "وبيت للغريب بناه" يعني: الذي ذكرته في حديث ابن ماجه: أو بيتا لابن السبيل بناه، "أو بناء محل ذكر" يعني: المسجد، فهذه عشرة أشياء، والله -تبارك وتعالى- أعلم، وأسأله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

 
  1. أخرجه البخاري، كتاب الوصايا، باب ما يستحب لمن توفي فجاءة أن يتصدقوا عنه، وقضاء النذور عن الميت، رقم: (2760)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، رقم: (1004).
  2. أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته، رقم: (1631).
  3. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل إعانة الغازي في سبيل الله بمركوب وغيره، وخلافته في أهله بخير، رقم: (1893).
  4. أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب وجوب الحج وفضله، رقم: (1513)، ومسلم، كتاب الحج، باب الحج عن العاجز لزمانة وهرم ونحوهما، أو للموت، رقم: (1334).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، رقم: (1953)، ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، رقم: (1148).
  6. أخرجه البخاري، كتاب الصوم، باب من مات وعليه صوم، رقم: (1952)، ومسلم، كتاب الصيام، باب قضاء الصيام عن الميت، رقم: (1147).
  7. أخرجه ابن ماجه، افتتاح الكتاب في الإيمان وفضائل الصحابة والعلم، باب ثواب معلم الناس الخير، رقم: (242)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (1/ 443)، رقم: (2231).
  8.  أخرجه البخاري، كتاب المزارعة، باب فضل الزرع والغرس إذا أكل منه، رقم: (2320)، ومسلم، كتاب المساقاة، باب فضل الغرس والزرع، رقم: (1553).
  9. أخرجه مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله ، رقم: (1913).

مواد ذات صلة