الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(012-ب) من قوله تعالى "أياماً معدودات" الآية 183 – إلى قوله تعالى " تلك حدود الله فلا تقربوها" الآية 182
تاريخ النشر: ٢٠ / ربيع الأوّل / ١٤٣٧
التحميل: 1576
مرات الإستماع: 1694

"أَيَّامًا منصوب بـ(الصيام) أو بمحذوف، ويبعد انتصابه بـ(تتقون)".

منصوب بـ(الصيام): أي كُتب عليكم الصيام أيامًا، لكن هذا اعترض عليه النحاة، فكثير من النحاة يقولون: إن هذا لا يتأتى للفصل بين المصدر وصلته، يعني: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ الصيام مصدر يعمل عمل الفعل كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ ثم فصل بقوله: كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ثم قال: أَيَّامًا، فقالوا: هذا الفصل يمنع عمل المصدر بهذا الاعتبار.

يقول: "أو بمحذوف" يعني: أَيَّامًامنصوب بمحذوف مقدر، يعني: صوموا أيامًا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ صوموا أيامًا، منصوب بمقدر محذوف.

يقول: "ويبعد انتصابه بـ(تتقون)" هذا صحيح، يعني: كيف يكون هذا؟ لعلكم تتقون أيامًا، والتقوى ليس يُراد بها ذلك أصلًا، وإنما لتكون صفة راسخة للمؤمن.

ويمكن أن يكون نصب أَيَّامًا بناء على أنه مفعول ثاني لـ(كُتب)، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ الصيام مفعول أول، كُتب الصيام عليكم أيامًا معدودات، أو باعتبار أنه ظرف منصوب للصوم.

والمراد بـأَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ شهر رمضان قطعًا، وذَكَرَ ذلك بهذه العبارة من باب التيسير والتخفيف والتهوين عليهم، وحمل الأيام المعدودات على شهر رمضان لا إشكال فيه، ولكنه ليس محل اتفاق، وإنما قال به جماعة من السلف: كابن أبي ليلى[1]، ومقاتل[2].

وقال بعضهم: إن الأيام المعدودات هي ثلاثة أيام من كل شهر، التي كانت واجبة قبل رمضان، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ أي ثلاثة أيام، ثم نُسخ بصيام رمضان، وهذا مروي عن ابن عباس -ا- وعطاء، وقتادة[3].

"فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا الآية إباحة للفطر مع المرض والسفر، وقد يجب الفطر إذا خاف الهلاك، وفي الكلام عند الجمهور محذوف، يُسمى فحوى الخطاب".

عرفنا من قبل في مناسبة سابقة أن فحوى الخطاب يقصد بها غير المعنى المشهور، الذي هو مفهوم الموافقة، فمفهوم الموافقة الأعلى، يقال له: فحوى الخطاب.

فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23] هذا من باب أولى الضرب، هذا يسمونه فحوى الخطاب، لكن هو لا يقصد هذا، وإنما يقول: "وقد يجب الفطر إذا خاف الهلاك، وفي الكلام عند الجمهور محذوف يسمى فحوى الخطاب" يعني: المقدر المحذوف المقتضى هنا، التقدير مثلًا فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فأفطر هذا المقدر المحذوف الذي لا بد من تقديره، يقال له: فحوى الخطاب، فمن أجل أن يستقيم الكلام فاختصر لأنه معلوم، هذا على قول عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا، خلافًا لابن حزم -رحمه الله- في هذا[4]، وقوله معروف، وهو غير صحيح، إذ يقول: بأنه لا يصح منه الصوم، وإن صام، فعليه القضاء مطلقًا، قال: لأن الله قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يقول: فهذا هو الواجب في حقه، لكن هذا الكلام غير صحيح، فأهل العلم يقولون: فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فأفطر، فهذا داخل في دلالة الاقتضاء التي سماها هنا فحوى الخطاب.

"والتقدير: فمن كان منكم مريضًا، أو على سفر فأفطر، فعليه عدة من أيام أخر، ولم يقل الظاهرية بهذا المحذوف، فرأوا أن صيام المسافر والمريض لا يصح، وأوجبوا عليه عدة من أيام أخر، وإن صام في رمضان، وهذا منهم جهل بكلام العرب، وليس في الآية ما يقتضي تحديد السفر، وبذلك قال الظاهرية، وحده في مشهور مذهب مالك: أربعة برد".

فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ وليس في الآية ما يقتضي تحديد السفر، وهذا هو الراجح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-[5]، فلم تحدد المسافة، وإنما يرجع ذلك إلى العرف، فلم يرد التحديد لا في الكتاب، ولا في السنة، ولكن الذين حددوا أخذوا ذلك من أدلة غير صريحة في تحديد ما هو سفر مما ليس كذلك، يعني: أخذوه من أدلة فيما يتعلق بسفر المرأة من غير محرم، ونحو ذلك.

يقول: "وحده في مشهور مذهب مالك أربعة برد" البريد أربعة فراسخ، والفرسخ ستة كيلو مترات (6كم) يعني: (24كم)، لكن الفقهاء يختلفون في تحديد الفرسخ، إذا أردنا أن نحوله إلى الأميال والكيلو مترات، فالخلاف معروف بين الفقهاء: فالمالكية والشافعية في مقابل الحنفية مثلًا بينهم خلافات في هذا، والأميال والفراسخ يختلف حسابها من قوم لقوم.

"وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ قيل: يطيقونه من غير مشقة فيفطرون ويكفرون، ثم نسخ جواز الإفطار بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، وقيل: يطيقونه بمشقة، كالشيخ الهرم، فيجوز له الفطر، ويكفر بالإطعام، فلا نسخ على هذا".

هذه الآية أيضًا مما يتعلق بموضوع النسخ، فقوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ كان هذا في أول شرع الصوم، حيث على التخيير بالنسبة للقادرين، من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم، هكذا كان في أول الأمر، ثم نُسخ ذلك بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فالقول بأن الآية منسوخة هو الأقرب -والله تعالى أعلم- وأن ذلك كان في أول شرع الصوم، وهو المنقول عن عامة السلف من الصحابة فمن بعدهم، فهو مروي عن ابن عمر، ومعاذ، وسلمة ابن الأكوع[6] وجماعة من التابعين: كعلقمة، وعكرمة، والحسن، والضحاك، وعبيدة السلماني، والشعبي، وعطاء الخرساني، وزيد بن أسلم، والزهري[7].

واختاره من المفسرين: أبو جعفر بن جرير[8]، والحافظ ابن كثير[9]، وشيخ الإسلام ابن تيمية[10]، وهو قول الجمهور، وجاء في هذا روايات تدل عليه، عن جماعة من الصحابة، فقد جاء في رواية عن معاذ وقد يكون في إسنادها شيء قال: كان في ابتداء الأمر من شاء صام ومن شاء أفطر، وأطعم عن كل يوم مسكينًا[11]، لكن هذه الرواية لا تخلو من ضعف في الإسناد، إلا أنه جاء في معناها روايات ثابتة صحيحة عن غيره، كما في مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه قال: "كنا في رمضان على عهد رسول الله ﷺ من شاء صام ومن شاء أفطر فافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت هذه الآية: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185][12].

في قوله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ قرأ ابن عباس -ا-: (وعلى الذين يُطَوَّقونه)[13]، وهي قراءة شاذة، وفُسرت قراءة وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ يعني: يتجشمون الصوم بكلفة، كالشيخ الكبير، والمرأة المسنة، فهؤلاء يصومون لكن بمشقة، فيجوز لهم الفطر، ويخرجون فدية عن كل يوم، وعلى هذا فلا نسخ، والمقصود بالفدية الجزاء.

وفي قراءة نافع وابن عامر: (فديةُ طعامِ مساكين) على الإضافة من غير تنوين، وقراءة الجمهور فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ[14].

والذي يظهر -والله أعلم- أن الآية منسوخة على قول الجمهور من السلف ومن بعدهم، وهو قول عامة أهل العلم، كان الصوم على التخيير، ثم صار الصوم محتمًا بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.

"فَمَنْ تَطَوَّعَ أي: صام ولم يأخذ بالفطر والكفارة، وذلك على القول بالنسخ".

يعني: تطوع بالصوم، وهذا بالنسبة للقادرين.

"وقيل: تطوع بالزيادة في مقدار الإطعام؛ وذلك على القول بعدم النسخ".

قراءة الجمهور فَمَنْ تَطَوَّعَ وفي قراءة حمزة والكسائي (فمن يطّوع)[15]، بمعنى يتطوع، والمعنى واحد.

فيكون على القول بالنسخ (تطوع) يعني: صام، وعلى هذا فالصوم أفضل، ويدل عليه صراحة قوله: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ.

وقيل: تطوع بالزيادة في مقدار الإطعام، وهذا يكون على القول بعدم النسخ، والزيادة على مقدار الإطعام، يعني: الزيادة على المد، كأن يُخرج مديين، أو يخرج صاعًا عن كل يوم.

وبعضهم يقول: كأن يُطعم مسكينًا آخر، يعني: مسكينين عن اليوم، أو أكثر من مسكين عن اليوم الواحد.

وبعضهم قال: فَمَنْ تَطَوَّعَ يعني: مع الصوم بالإطعام.

وابن جرير عممه، ولم يخصص واحدًا من هذه المعاني[16]، فيشمل التطوع بالزيادة على المد، أو بإطعام أكثر من مسكين، أو الزيادة في الإطعام.

والقول بأن المراد: الزيادة في الإطعام مروي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وطاووس، وهو أحد القولين لمجاهد، وبه قال الحسن، والسدي، ومقاتل[17]، لكن الآية أطلقت فَمَنْ تَطَوَّعَ ولم تحدد بالزيادة على المد مثلًا، فلو أطعم مسكينًا آخر أو مساكين، فهذا داخل فيه، والله أعلم، لكن السلف قد يفسرون بالمثال، وما يُقرب المعنى.

"شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ، أو خبر ابتداء مضمر، أو بدل من الصيام".

بعضهم يقول: الشهر أصله من الشهرة والاشتهار؛ ولهذا شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: بأن الواحد مثلًا إذا رأى هلال رمضان ولم يخبر، لم يشهد بالرؤية، أو أنه شهد بذلك فلم تقبل شهادته، بأنه لا يصوم إذا لم تُعتبر شهادته[18]، باعتبار أن الشهر من الاشتهار، فمن رآه وحده ولم تُعتبر رؤيته، فلا يكون ذلك دخولًا للشهر على رأي شيخ الإسلام، ومضى الكلام في الغريب ببعض هذه المواضع.

وقال بعضهم: إنه سمي بذلك من رمض الصائم إذا احترق جوفه من العطس.

وبعضهم يقول: باعتبار أنه يرمض الذنوب، كأنه يحرقها.

وبعضهم يقول: سمي باعتبار شدة الحر الذي كان فيه، حينما أطلق عليه ذلك، يعني: كان في الصيف، في موسم الحر، فقيل له: رمضان، والله أعلم.

فيقول: شَهْرُ رَمَضَانَ مبتدأ، والخبر الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، وبعضهم يقول: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هذه صفة، والخبر فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.

يقول: "أو خبر ابتداء مضمر" يعني: المبتدأ مضمر، ويكون هذا شهر رمضان خبر.

وبعضهم يقدر المبتدأ: تلك الأيام شهر رمضان، أو شهر رمضان هو شهر رمضان، فيكون المبتدأ (هو) أو بدل من الصيام كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ شهر رمضان.

"أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ قال ابن عباس: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة القدر من رمضان، ثم نزل به جبريل على النبي ﷺ بطول عشرين سنة، وقيل: المعنى أنزل في شأنه القرآن: كقولك: أنزل القرآن في فلان، وقيل: المعنى ابتدأ فيه إنزال القرآن".

قوله: أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ جاء في حديث واثلة بن الأسقع وقد حسنه بعض أهل العلم، في نزول الكتب في رمضان، وليس القرآن فقط، قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضينا من رمضان، والإنجيل لثلاثة عشر خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان[19].

هذا بعض العلماء حسنه كالشيخ الألباني -رحمه الله-[20] وبعضهم يضعف هذا الحديث، لكن المقصود القرآن، فهذه الآية نص صريح على نزول القرآن في هذا الشهر.

والمقصود بهذا النزول شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ كما قال ابن عباس[21]: أنزل القرآن جملة واحدة إلى السماء الدنيا، في ليلة القدر من رمضان، وهذا حكى عليه القرطبي الإجماع[22]، ولكن هذا الإجماع غير صحيح، فهناك من أهل العلم من قال: بأن أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي: اُبتدأ فيه إنزال القرآن على النبي ﷺ.

ومن أهل العلم من جمع بين القولين وهذا جيد، فقالوا: أنزل القرآن جملة إلى السماء الدنيا، كما دل عليه أثر ابن عباس؛ وذلك مما لا يقال من جهة الرأي، فله حكم الرفع، وهو ثابت عن ابن عباس، فالآية تتناول هذا، وكذلك ابتداء نزول القرآن في رمضان، حيث نزل عليه اقْرَأْ [العلق:1] وكان ابتداء الوحي بالرؤيا الصالحة ستة أشهر، ثم جاءه الملك، وهو في غار حراء، فكان ابتداء نزوله أيضًا على النبي ﷺ في شهر رمضان، فصار ذلك يشمل هذا وهذا، والله أعلم.

وهناك من يقول بغير هذا، فمن السلف من يقول بأنه ينزل في كل رمضان ما سينزل في العام، وهذا غير صحيح، ولا دليل عليه، أما قوله هنا: بأنه نزل به جبريل على النبي ﷺ بطول عشرين سنة، هذا بناء على الخلاف في مكثه ﷺ قبل الهجرة بمكة، هل مكث عشر سنين، أو ثلاثة عشر سنة؟ وكلام أهل العلم في هذا معروف.

أما القول بأن المقصود: أنزل في شأنه القرآن فهذا غير صحيح إطلاقًا، فليس هذا هو المقصود، لكن القول بأنه ابتدئ فيه إنزال القرآن، هذا قال به بعض السلف، والقول الأول أشهر، ويمكن الجمع بينهما.

"هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي: أن القرآن هدى للناس، ثم هو مع ذلك من مبينات الهدى؛ وذلك أن الهدى على نوعين: مطلق، وموصوف بالبينات، فالهدى الأول هنا على الإطلاق، وقوله: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي: وهو من الهدى المبين، فهو من عطف الصفات، كقولك: فلان عالم، وجليل من العلماء".

وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى يعني: دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها، لا تترك في الحق لبسًا، وتدل على صحة ما جاء به من الهدى، المنافي للضلال، والرَشد المنافي للغيم، ووَالْفُرْقَانِ فرق بين الحق والباطل، وفصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، فهي توضح وتجلي وتفصل وتفرق بين الحق والباطل، وتبين الأحكام وتجليها، وتبين ما يحتاج إليه الناس من براهين الإيمان، ودلائل الوحدانية والبعث، وما أشبه ذلك مما يحتاج إليه الناس في سيرهم إلى الله -تبارك وتعالى- والسير على صراطه المستقيم، وفيما يتصل بحقائق الآخرة، وأخبار الماضين، وما أشبه هذا، وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فأهل الكتاب حرفوا وبدلوا وغيروا واختلفوا، فجاء هذا الهدى الواضح الذي يُجلي الحق ويبينه، فلا يدع فيه لبسًا.

"فَمَنْ شَهِدَ أي: كان حاضرًا غير مسافر، والشَّهْرَ منصوب على الظرفية".

فَمَنْ شَهِدَ أي من كان حاضرًا، مقيمًا، فهذا يجب عليه الصوم، بخلاف المسافر، وفَهِم منها بعض السلف أن من دخل عليه رمضان وهو مقيم، فلا يجوز له الفطر إذا عرض له سفر فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ شهد دخول الشهر، فدخل عليه الشهر وهو في حال الإقامة، ولكن هذا القول بعيد، ويرده ما صح عن رسول الله ﷺ في عام الفتح، حينما أفطر ﷺ فكان رمضان قد أدركه في المدينة، ثم خرج إلى مكة، فكان ﷺ صائمًا، فأفطر بعد العصر؛ ليتقوى بالفطر، والله أعلم.

الْيُسْرَ والْعُسْرَ على الإطلاق".

يعني: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ في كل ما شرّعه هذا معنى على الإطلاق، وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ في كل ما شرّعه، والإرادة هنا إرادة شرعية، وليست إرادة كونية، ولو كانت إرادة كونية لتحتم وقوع المراد، فلم يلحق أحد عسر، لكن من الناس من يُلحق بنفسه العسر، وقد يتجشم الصوم وهو في غاية المرض، أو في حال سفر يشق عليه الصوم مشقة عظيمة، ويتجشم، فالإرادة شرعية هنا، لا تقتضي تحقق ووقوع المراد، فهذا حمله على الإطلاق أولى؛ لأن هذه الشريعة مبنية على اليسر.

"وقيل: الْيُسْرَ الفطر في السفر، والْعُسْرَ الصوم فيه".

وهذا يصلح أن يكون من قبيل التفسير بالمثال، وإلا فالأصل إن ذلك على الإطلاق في كل ما شرّعه.

"وَلِتُكْمِلُوا متعلق بمحذوف تقديره: شرع، أو عطف على الْيُسْرَ".

وَلِتُكْمِلُوا متعلق بمحذوف تقديره: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ يقول: عطف على اليسر، أو متعلق بمحذوف تقديره: شرع، أي: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ شرع لكم ذلك، والمقصود بالعدة عدة ما أفطر من شهر رمضان، بقضاء الأيام التي أفطرها، وعبارة ابن جرير قريبة من هذا: إكمال عدة ما أفطرتم[23]، أو عدة الشهر، وبين القولين ملازمة، وهما متقاربان، لكن من دقق النظر بينهما فرق، فإذا أكمل عدة ما أفطر يكون قد أكمل عدة الشهر.

"الْعِدَّةَ الأيام التي أفطر فيها، ووَلِتُكَبِّرُوا التكبير يوم العيد أو مطلق".

يُشرع التكبير إذا رؤي هلال شوال، من ليلة العيد، فهذا محمول عليه، كما كان التكبير مشروعًا في الحج، وكما جاء عن ابن عباس -ا-: كنت أعرف انقضاء صلاة النبي ﷺ بالتكبير[24]، والمقصود بالتكبير هو الذكر بعد الصلاة.

"أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ مقيد بمشيئة الله، وموافقة القدر، وهذا جواب من قال: كيف لا يستجاب الدعاء مع وعد الله بالاستجابة".

يعني: يكون مربوط بالقدر، ويدل على ذلك ما جاء من الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ كما في حديث أبي سعيد الخدري : ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم، ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن تعجل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها[25]، فهذه إحدى ثلاث، فالإنسان الذي يدعو لا يدري حينما لا يتحقق مطلوبه فقد يكون دُفع عنه من الشر مثل ذلك، أو ادخر له ذلك في الآخرة.

وفي حديث أبي هريرة : يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت لم يُستجب لي[26]، إذن من غير إثم، ولا قطيعة رحم، وأيضًا ما لم يعجل، فهذه كلها قيود، وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ هذا القرب الخاص من الداعين أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ وحمله بعض أهل العلم، كالحافظ ابن القيم -رحمه الله- على نوعي الدعاء: دعاء المسألة، ودعاء العبادة[27]، يعني: يعطي السائلين، وكذلك يثيب العابدين، فالدعاء قد يكون بلسان المقال: يا رب اغفر لي، وقد يكون بلسان الحال: فالذي يتصدق، أو يصوم، أو يصلي، أو نحو ذلك هو في الواقع سائل بفعله، يرجو ثواب الله -تبارك وتعالى-.

والنبي ﷺ يقول: خير الدعاء دعاء يوم عرفة فبعض أهل العلم يقول: الدعاء هنا ذكر بعده ما يفسره، باعتبار أنه من الدعاء وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله...[28] فقالوا: إن هذا ثناء وذكر وليس بسؤال، وهذا الذكر والثناء على الله -تبارك وتعالى- والتوحيد، إنما يرجو به قائله ما عند الله، فهو سؤال بطريق الذكر والثناء، وتكلموا في المفاضلة بين الأمرين.

وبعضهم يقول: بأن قوله: خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون[29] ليس المقصود به الدعاء، وأن ذلك خروج عن قضية الدعاء إلى بيان أفضل ما يقال، أي أنه بيّن أمرين:

الأول: أن أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة.

والأمر الثاني: خير ما قيل في يوم، ليس من الدعاء وإنما مطلقًا، فذكر هذا الذكر.

"فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي أي: امتثال ما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعة".

فليستجيبوا لي بالعبادة والطاعة والإيمان.

"أُحِلَّ لَكُمْ الآية، كان الأكل والجماع محرمًا بعد النوم في ليل رمضان، فجرت لذلك قصة لعمر بن الخطاب ولصرمة بن مالك، فأحلهما الله تخفيفًا على عباده".

قوله: "كان الأكل والجماع محرمًا بعد النوم في ليل رمضان" وهذا كما أشرنا من قبل، بأن الروايات الصحيحة دلت على أن صفة الصوم كانت على حال، ثم نسخت، يحرم الأكل والشرب والجماع مطلقًا ليالي الصوم إلى آخر الشهر، وأما الأكل والشرب، فجاء في بعض الروايات عن بعض الصحابة إلى العشاء، أي يأكل ويشرب إلى العشاء، وفي بعضها: ما لم ينم، يعني: لو أنه نام بعد غروب الشمس قبل أن يفطر، فإنه يكون بذلك مأمورًا بالإمساك إلى اليوم الذي بعده، إلى غياب الشمس، فنُسخ هذا بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ.

ومن هذه الروايات ما جاء عن البراء بن عازب قال: قال: " كان أصحاب محمد ﷺ إذا كان الرجل صائمًا، فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي ﷺ فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ [البقرة:187] ففرحوا بها فرحًا شديدًا، ونزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [البقرة:187][30].

وهذا سبب نزول صريح، والرواية ثابتة صحيحة، فقال الله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ وقال: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ فلم يتقيد ذلك بنوم.

ولفظ البخاري: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ[31] هذا في الجماع.

يقول: "فجرت لذلك قصة لعمر بن الخطاب ولصرمة بن مالك" وفي البخاري سماه: قيس بن صرمة الأنصاري.

وأورد لكم بعض هذه الروايات في هذا الباب: منها: حديث سهل بن سعد قال: أنزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ، مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ [البقرة:187] ولم ينزل مِنَ الفَجْرِ [البقرة:187] فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض، والخيط الأسود، ولم يزل يأكل حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد: مِنَ الفَجْرِ [البقرة:187] فعلموا أنه إنما يعني: الليل والنهار[32]. فهذا سبب نزول آخر لقوله: مِنَ الفَجْرِ.

وجاءت روايات فيها ذكر عمر بعضها صحيحة، وبعضها لا تخلو من ضعف، جاء هذا عن جماعة من الصحابة، لكن يقوى بعضها بعضًا.

ومن هذه الروايات التي يصح إسنادها، ما جاء عن ابن عباس -ا- في قوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ يقول: وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة -قيده هنا إلى العشاء بغض النظر عن النوم- ثم إن ناسًا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء، منهم عمر بن الخطاب -هنا الإشارة إلى عمر- فشكوا ذلك إلى رسول الله ﷺ فأنزل الله: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَاب عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ[33].

وجاء أيضًا عن ابن عباس في رواية صحيحة قال: إن الناس كانوا قبل أن ينزل في الصوم ما نزل يأكلون ويشربون، ويحل لهم شأن النساء -وهنا ذكر شأن النساء أنه حلال ما لم يكن نومة- مع أن الرواية الأخرى التي ذكرنا قبل أنه يحرم عليهم الشهر كله، يعني: النساء، فإذا نام أحدهم لم يطعم ولم يشرب، ولم يأت أهله حتى يفطر من القابلة، فبلغنا أن عمر بن الخطاب بعدما نام ووجب عليه الصوم وقع على أهله، ثم جاء إلى النبي ﷺ فقال: أشكو إلى الله، وإليك الذي صنعت، قال: وماذا صنعت؟ قال: إني سولت لي نفسي فوقعت على أهلي بعد ما نمت، وأنا أريد الصوم، فزعموا أن النبي ﷺ قال: ما كنت خليقًا أن تفعل فنزل الكتاب: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ[34].

وهذه الروايات وإن وُجد في تضاعيفها بعض التفاصيل، إلا أن ذلك لا يؤثر، يعني: كونه مثلًا إلى العشاء، أو إذا نام، وكونه كان النساء يحرمن الشهر كله، أو ما لم ينم، كالأكل والشرب، فالقدر المتفق عليه بين هذه الروايات: أن الصوم لم يكن كما هو عليه بعد نزول هذه الآية، فكان يحرم عليهم الأكل والشرب والجماع، إما أن يحرم الجماع مطلقًا في الشهر، أو ما لم ينم، أو إلى العشاء، ثم نُسخ، يعني: أنه وجد نسخ، فهذا القدر المشترك في الروايات الصحيحة يدل على وقوع النسخ، فالذين قالوا: بأن التشبيه في الصفة كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قالوا: هذه الآية أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ هي ناسخة لذاك الصوم الذي كان على صفة صوم أهل الكتاب، فكان يحرم عليهم الوقاع، والأكل والشرب ما لم ينم، أو إلى العشاء.

وقال بعض أهل العلم: إن قوله: كَمَا كُتِبَ في أصل الفرض فلا نسخ في الآية، وهذه الروايات يمكن أن يقال: بأن ذلك نسخ لما ثبت في السنة، من صفة الصوم في أول ما شُرع، وهذا يحتمل أن تكون كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أنه وقع فيها نسخ جزئي، ويحتمل أنها ليست منسوخة، وإن وقع نسخ في شأن الصوم، فهو نسخ لما ثبت في سنة رسول الله ﷺ فالنسخ موجود لكن الآية تحتمل، والله أعلم.

"الرَّفَثُ هنا الجماع، وإنما تعدى بـ(إلى) لأنه في معنى الإفضاء".

تفسير الرفث بالجماع، قال به عامة السلف: كابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وطاووس، وسالم بن عبد الله بن عمر، عمرو بن دينار، والحسن البصري، وقتادة، والزهري، والضحاك، وإبراهيم النخعي، والسدي، وعطاء الخرساني، ومقاتل بن حيان[35]، فكل هؤلاء قالوا: إن الرفث هو الجماع.

وبعضهم يقول: بأن الأصل في الرفث: التصريح بما يجب أن يُكنى عنه من ذكر النكاح وكل كلام يُستحي من إظهاره والإفصاح عنه، طبعًا قطعًا هذا ليس بمقصود؛ لأنه لا يحرم عليهم ليلة الصيام أن يتحدثوا عن شيء من هذا، فليس هذا الذي كان محرمًا، فبعضهم يقول: إنه في الأصل  يطلق على كل ما يريد الرجل من امرأته، فيدخل فيه الجماع فما دونه من المباشرة، والقبلة والمعانقة، ونحو ذلك من جوه الاستمتاع، وهذا قاله الأزهري صاحب تهذيب اللغة[36]، والزجاج صاحب معاني القرآن[37]، فعلى هذا يشمل الجماع ومقدماته، وما يتصل به من قول، أو فعل، كل هذا يقال له رفث.

فصار عندنا في تفسير الرفث أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ احتمالات، فيحتمل أنه الجماع فقط، ويجوز المباشرة والقبلة، ونحو هذا، ويحتمل أن يكون المراد جميع أنواع الاستمتاع فتحرم عليه، كما يحرم على المحرم الاستمتاع، والله أعلم، لكن الجماع داخل فيه قطعًا بالاتفاق، والقدر الزائد على الجماع هو الذي اختلفوا فيه.

قال: وإنما تعدى الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ بـ(إلى) لأنه في معنى الإفضاء، يعني: أنه مضمن معنى الإفضاء، فكلمة الرفث مصدر، فهو مضمن معنى الإفضاء؛ لأن الإفضاء يتعدى بـ(إلى) لم يقل: أحل لكم ليلة الصيام الرفث مع نسائكم، وإنما قال: (إلى) بهذا الاعتبار، والله أعلم.

وهذا أحسن من قول الكوفيين: بأن الحرف مضمن معنى حرف آخر، يعني: الرفث إلى نسائكم يقولون: حروف الجر تتناوب فـ(إلى) هنا بمعنى (مع) وذكرنا من قبل أن قول البصريين أبلغ، فيكون فيه تضمين الفعل، أو ما يقوم مقامه معنى فعل آخر، فيكون أوفى وأكمل بالمعنى، كما قال الله : لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [الممتحنة:8] ولم يقل: وتقسطوا معهم، وإنما قال: إليهم، فالإقساط هنا مضمن معنى الإفضاء، تفضوا إليهم، يعني: يكون بينكم وبينهم مداخلة بمصالح ومنافع متبادلة، ونحو ذلك، فجاء بـ(إلى) ليدل على معنى الإفضاء، فدل على العدل وزيادة، والله أعلم.

"هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ تشبيه بالثياب، لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر، وهذا تعليل للإباحة".

هنا التشبيه بالثياب لاشتمال كل واحد من الزوجين على الآخر، يعني: أن كل واحد من الزوجين بالنسبة للآخر بمنزلة اللباس، ووجهه بعضهم بقوله: هو كناية عن شدة المخالطة، يعني: كالثياب التي تلي الجسد، فهي أقرب شيء إليه، فهذا مؤذن بقلة الصبر عنهن؛ لشدة القرب، أو لأن كل واحد منهما لباس للآخر باعتبار أن كل واحد من الزوجين يستر حال صاحبه.

وقال بعضهم: يستره عند الوقاع عن أعين الناس، ومن أهل العلم من قال: يستر حال صاحبه، إما باعتبار أنه لا يفشي سره ويتكلم، كما جاء النهي والوعيد على هذا، تحدث الرجل أو المرأة في المجالس عما يجري بينهما، وكذلك الستر باعتبار آخر، وهو أنه يستره بمعنى يمنعه من الفجور، يقول الإنسان مثلًا: زوجت بناتي لأسترهن، وتزوجت أريد الستر، يعني: العفاف، فالزواج يمنعه من الفجور.

وبعض أهل العلم يقول: إن ذلك باعتبار انضمامهما متجردين، فكل واحد منهما بمنزلة اللباس للآخر، وبعضهم يقول: لشدة امتزاجهما في حال الوقاع كامتزاج اللابس الثوب بلابسه، وبعضهم فسره بأمر معنوي هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ قال: بمعنى سكن لكم، وأنتم كذلك سكن لهن، وهذا مروي عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، ومقاتل بن حيان[38].

وقال بعضهم: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ هن لحاف لكم، وأنتم كذلك، وهذا مروي عن الربيع[39]، والعرب تقول للمرأة: لباس، وإزار، وفراش، وأصل هذه المادة يدل على الملابسة، والمخالطة، والقرب، ونحو ذلك، بمعنى أن صبرهم عنهن يقل ويكاد ينقطع لشدة المقاربة والمخالطة، فهو لا يصبر عنها.

"تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي: تأكلون وتجامعون بعد النوم في رمضان".

تختانون افتعال من الخيانة، وهي مخالفة الحق، بنقض العهد سرًا، أَنْفُسَكُمْ أضاف هذا إلى النفس باعتبار أن ذلك يعود عليها بالضرر والإثم.

"فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ أي: غفر ما وقعتم فيه من ذلك، وقيل: رفع عنكم ذلك الحكم".

فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ يحتمل هنا العفو عن الذنب، ويحتمل العفو هنا بمعنى التوسعة والتسهيل عليهم، يقول: "أي غفر ما وقعتم فيه من ذلك" ويحتمل أن يكون تاب عليكم، يعني: قَبِل توبتكم، ووفقكم للتوبة، وقبلها منكم وَعَفَا عَنْكُمْ بمعنى وسع عليكم، ورفع الحرج ونحو ذلك من العفو الذي هو التوسعة، أو عفا عن الذنب، أي قَبِل التوبة، وعفا عن الذنب.

وقيل: رفع عنكم ذلك الحكم، وهذا هو التوسعة، كقوله تعالى: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ [المزمل:20] بالتوسعة، أي خفف عنكم، وهذا كقوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ [النساء:92] فهذا تخفيف من الله -تبارك وتعالى- على عباده.

"بَاشِرُوهُنَّ إباحة".

يعني: الأمر هنا للإباحة، فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ والأصل أن الأمر للوجوب، فهل يجب عليه أن يباشر ليلة الصوم؟ الجواب: لا، والقاعدة أن على الأرجح الأمر بعد النهي يعود فيه الحال إلى ما كان عليه قبل النهي، ما حكم المباشرة قبل النهي عنها ليلة الصوم؟ إذا قلنا: إنها مباحة فيكون للإباحة، مثل ما جاء في قوله في الجمعة: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] اتركوا البيع، وهذا تحريم للبيع وسائر المعاملات، وأنواع العقود، إلى أن قال: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10] إذا فُسر هذا بالتجارة، مع أن بعض أهل العلم قال: عيادة المريض، وصلة الرحم، وطلب العلم، لكن المشهور هو التجارة، أنها أبيحت لهم، فلما قال: وَذَرُوا الْبَيْعَ قال بعد ذلك: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فهذا أمر، فهل يجب عليه إذا صلى الجمعة الخروج، كما يقول ابن حزم؟ الجواب: لا؛ لأن الأمر هنا يرجع إلى ما كان عليه قبل النهي، وحكم التجارة قبل النهي مباح، فيكون ذلك بعد الصلاة مباحًا.

فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ والمباشرة أصلها كما سبق في الغريب من ملاقاة البشرة للبشرة.

"ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ قيل: الولد يبتغى بالجماع، وقيل: الرخصة في الأكل والجماع لمن نام في ليل رمضان بعد منعه".

قيل: "الولد يُبتغى بالجماع" وهذا قول الجمهور من السلف فمن بعدهم، وهو أحد الأقوال عن ابن عباس، وكذلك قول أنس، وأبو هريرة وشريح، والحسن، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، والربيع بن أنس، وقتادة، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان، وابن زيد[40].

وقوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ معناه: أن يكون له نية في الوقاع، لا يواقع بمجرد الاستجابة للغريزة، فالعلماء قالوا: يكون للإنسان نية في النكاح، فيقصد بذلك الاقتداء بالمرسلين -عليهم السلام- وكذلك إعفاف نفسه، وإعفاف غيره، وإنجاب أولاد صالحين، والامتثال لقول النبي ﷺ: يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج[41]، وقوله: تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأمم[42]، فتكون نيته في ذلك صالحة في النكاح، هذا أكمل حالًا ممن يتزوج لمجرد قضاء الوطر، وكذلك في كل مرة يأتي أهله يكون له نية، فالمراد بقوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الولد، يكون له ولد صالح يعبد الله ويدعو له، ونحو ذلك، وبعض أهل العلم يقولون: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني: ليلة القدر.

وبعضهم يقول: العبادة في ليالي العشر، أو في ليالي رمضان، يعني: حينما أُبيح لهم الوقاع ليالي الصوم، فلا ينبغي أن يكون ذلك مشغلًا لهم عن المطلوب الأعظم، وهو قيام هذه الليالي، والتعبد فيها، أو التماس ليلة القدر.

وبعض أهل العلم جمع بين المعنيين فقال: طلب الولد بالجماع، وكذلك طلب ما ينبغي طلبه من العبادة في ليالي رمضان، والتماس ليلة القدر، وهذا قول جيد، والآية تحتمل هذا وهذا وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ لم يحدد، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير[43]، والحافظ ابن القيم -رحم الله الجميع-[44]: أن ذلك يشمل هذا وهذا.

أما قول من قال: بأن المقصود من قوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي الرخصة في الأكل والجماع لمن نام في ليل رمضان، وهذا قال به قتادة[45]، واستحسنه ابن عطية[46]؛ وابن عاشور[47] حمل هذا على ما أباحه الله من مباشرة النساء في غير وقت الصوم.

وأبعد من ذلك من قال: بأن المقصود من قوله: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني: القرآن، باعتبار بما أبيح لكم فيه، فهذا لا يخلو من تكلف، والله أعلم.

وقال بعضهم: وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من الإماء والزوجات، وهذا أيضًا بعيد، لكن ابن جرير -كما سبق- حملها على طلب ما كُتب لهم في اللوح المحفوظ، وعمم هذه المعاني، سواء كانت الرخصة، التي رخص الله ووسع عليهم بها، أم الولد، أم ليلة القدر، أم ما كتبه لهم أنه يباح ويطلق، يقول: "وقد يدخل فيه جميع معاني الخير" ويعتبر هو أن الولد هو الأقرب، لكن يقول: كل هذا داخل فيه.

"مِنَ الْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض لا للأسود؛ لأن الفجر ليس له سواد، و(الخيط) هنا استعارة يراد بـ (الخيط الأبيض) بياض الفجر، وبـ(الخيط الأسود) سواد الليل، وروي أن قوله: مِنَ الْفَجْرِ نزل بعد ذلك بيانًا لهذا المعنى؛ لأن بعضهم جعل خيطًا أبيض وخيطًا أسود عند وسادته، وأكل حتى تبين له، فقال له النبي ﷺ: إنما ذلك سواد الليل، وبياض النهار[48]".

هذا جاء من حديث سهل بن سعد في الصحيحين: أنها نزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187] ولم ينزل مِنَ الْفَجْرِ فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض، والخيط الأسود، فلا يزال يأكل ويشرب، حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد مِنَ الْفَجْرِ وهو الحديث الذي ذكره المؤلف، وقد قاله النبي ﷺ في عدي بن حاتم، ولكن ليس فيه أنه سبب النزول، يعني: قوله: إنما ذلك سواد الليل، وبياض النهار[49] هذا قاله لعدي لما ذكر أنه اتخذ عقالين أسود وأبيض... إلخ، فقال له النبي ﷺ: إنما ذلك سواد الليل، وبياض النهار[50] لكن لم يرد فيه أنه سبب النزول.

"إِلَى اللَّيْلِ أي: إلى أول الليل، وهو غروب الشمس، فمن أفطر قبل ذلك فعليه القضاء والكفارة، ومن شك هل غربت أم لا؟ فأفطر فعليه القضاء والكفارة أيضًا".

باعتبار أن الأصل بقاء النهار، بخلاف من شك في طلوع الفجر فأكل وشرب، فالأصل بقاء الليل، لكن لو أنه لم يشك فأفطر فتبين أن النهار لم يزل بعد، فليس عليه شيء على الأرجح.

وقد جاء عن أسماء بنت أبي بكر الصديق -ا- قالت: "أفطرنا على عهد النبي ﷺ يوم غيم، ثم طلعت الشمس" قيل لهشام: فأمروا بالقضاء؟ قال: "لا بد من قضاء" وقال معمر: سمعت هشامًا، يقول: "لا أدري أقضوا أم لا"[51].

لكن لا يكون مبنى ذلك على الشك، فإذا شك فيجب عليه أن يتثبت؛ لأن الأصل بقاء النهار.

"وقيل: القضاء فقط".

الراجح أنه عليه القضاء فقط، ولا كفارة عليه.

"وقالت عائشة -ا-: إِلَى اللَّيْلِ يقتضي المنع من الوصال، وقد جاء ذلك في الحديث".

عائشة -ا- احتجت بقوله: إِلَى اللَّيْلِ على منع الوصال، فهذا مروي عنها -ا- حيث قالت: من أراد الوصال إلى السحر فله ذلك؛ لحديث أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي ﷺ يقول: لا تواصلوا، فأيُّكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر[52] فهذا ثابت في الصحيح، لكن أيضًا ورد عنها الاستدلال على منع الوصال بقوله: إِلَى اللَّيْلِ، والليل يصدق بغروب الشمس، لكن ما ذكرت من الحديث هو الثابت عنها -ا-.

وحديث أبي سعيد أنه سمع النبي ﷺ يقول: لا تواصلوا، فأيُّكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر[53]، ولما ذكروا له ﷺ وصاله، قال: إني لست كهيئتكم، إني أبيت لي مطعم يطعمني، وساق يسقين[54]، وهو مخرج في الصحيحين.

وهنا قال: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ فيه بيان انقضاء الصوم، هل معنى ذلك أنه إذا غابت الشمس أفطر الصائم حتمًا شاء أم أبى؟ فكلامه مبناه على هذا ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ إذن ما بعد الليل ليس محلًا للصيام.

أما الوصال فبعضهم يقول: يحرم الوصال مطلقًا، وقال بعضهم: يواصل إلى السحر، وكلام أهل العلم في هذا معروف، لكن حديث أبي سعيد هذا أنه رخص لهم في الوصال إلى السحر، ونهاهم عما زاد على ذلك، مع أن بعض السلف كان يواصل، والحافظ ابن حجر -رحمه الله- نقل عن ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن الزبير أنه كان يواصل خمسة عشر يومًا[55]، يعني: يواصل خمسة عشر يومًا متواصلة، وسئل كيف تطيق؟ فذكر أنه يشرب الودك[56]، فيتقوى به، وكان يَفُل الكتيبة لما حاصره الحجاج في الحرم، كان يخرج من باب، ويلقى كتيبة وحده، وهو مواصل الصوم، ويفُلُهم إلى الحجون، ونحن الواحد إذا صام يكون وجهه أصفر وشاحب، وإذا جاء الظهر بدأت ترتعش أطرافه من الجوع!

"وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ تحريم للمباشرة حين الاعتكاف، قال الجمهور: المباشرة هنا الجماع فما دونه، وقيل: الجماع فقط".

الجماع فما دونه، يعني: القبلة والمعانقة والمباشرة، وكل هذا، وهذا الذي ذهب إليه ابن جرير[57]، وتكلمنا على هذا وتفصيل المذاهب، كلام الفقهاء فيه، في الكلام على أحكام الاعتكاف.

فإذا نظرنا إلى معنى المباشرة بأنها تشمل الجماع فما دونه، فيقال: يحرم عليه سائر أنواع الاستمتاع، وهو منقطع للعبادة، وهذا هو الأقرب، لكن له أن يجلس مع امرأته، وأن يمسها من غير شهوة، كما في حديث عائشة: "أنها كانت ترجل، تعني: رأس رسول الله ﷺ وهي حائض، ورسول الله ﷺ حينئذٍ مجاور في المسجد، يدني لها رأسه، وهي في حجرتها، فترجله وهي حائض"[58].

وكذلك حينما جاءت صفية وحدثته، وهو في معتكفه ﷺ في القصة المعروفة، وقوله: على رسلكما إنها صفية[59].

"فِي الْمَساجِدِ دليل على جواز الاعتكاف في كل مسجد، خلافًا لمن قال: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام، ومسجد المدينة، وبيت المقدس".

حديث: لا اعتكاف إلا في هذه المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد إيلياء[60]، وكلام أهل العلم في محمله، فبعضهم يقول: لا اعتكاف على وجه الكمال، وبعضهم تكلم في ثبوته وصحته.

والمساجد إذا قيل: بأن (أل) هذه معرفة فهي للعموم، على ما قال المؤلف، هذا الذي مشى عليه باعتبار أن ذلك في كل المساجد، وعلى تفاصيل عند أهل العلم، هل يكون في غير الجامع أو لا؟ يعني: هل يشترط أن يكون في جامع؟ والذين قالوا: في جامع، قالوا: من أجل ألا يحتاج إلى الخروج في وقت الجمعة، لكن هذا يرد عليه لو كان سيعتكف في غير وقت جمعة؟

والأقرب أنه يصح في كل مسجد تصلى فيه الجماعة، يعني: له إمام راتب، يعني: ليس مجرد مصلى.

وأما المرأة فتعتكف في المسجد ولو كان ليس له جماعة راتبة، يعني: لو كان المصلى لا يصلى فيه، لكنه باقي مسجد، أو يأتونه الناس من المسافرين فيصلون فيه في بعض الأوقات، أو مكان يُصلى فيه فرض واحد لوجود ناس في هذا المكان في وقت فرض معين، فالمرأة لأنها غير مأمورة أصلًا بحضور الجماعة فلها أن تعتكف في مثل هذا المسجد، وأما الرجل فلا يعتكف إلا في مسجد تُقام فيه الجماعة في الفروض الخمسة، ولو لم يكن جامعًا، ويجوز له أن يخرج، لكن تكلموا في التبكير للجمعة بالنسبة للمعتكف، هل يُبكر لها أو لا يُبكر؟ وقول الجمهور: أن ذلك لا يختص بالمساجد الثلاثة.

وبعض النساء تسأل في رمضان تقول: أنا أريد أن أعتكف في مكان معين في البيت، في غرفة، أضع فيها مصلى وأعتكف هناك؟ نقول: لا، ليس لها أن تعتكف في بيتها، وبقاؤها في بيتها أفضل من اعتكافها في المسجد، لكن لا تكون معتكفة شرعًا في بيتها.

"وفيه أيضًا دليل على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المساجد، لا في غيرها خلافًا لمن أجازه في غيرها من مفهوم الآية، حُدُودُ اللَّهِ أي: أحكامه التي أمر بالوقوف عندها".

الحد يقول بعضهم: أصله من المنع، قيل له ذلك لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج عنها ما هو منها، وهذا أيضًا قيل للحدود التي تقام على أصحاب الجنايات الخاصة؛ لأنها تمنع صاحبها من العود.

"فَلا تَقْرَبُوها أي لا تقربوا مخالفتها، واستدل بعضهم به على سد الذرائع؛ لأن المقصود النهي عن المخالفة للمحدود؛ لقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة:229] ثم نهى هنا عن مقاربة المخالفة سدًا للذريعة".

هنا لم ينهَ عن مقارفة ذلك مثلًا، ومواقعته، وإنما عن المقاربة؛ ولذلك إذا نهى الله عن شيء، فهو نهي عنه وعن كل ما يوصل إليه، وإذا أمر بشيء فهو أمر به وبكل ما يوصل إليه؛ ولهذا قال صاحب المراقي:

سَدُّ الذَّرَائِعِ إِلَى الْمُحَرَّمِ حَتْمٌ كَفَتْحِهَا إِلَى الْمُنْحَتِمِ[61].

فتح الذرائع إلى الواجب واجب، والأسباب الموصلة إليه، وكذلك في الممنوع في المحرم يجب سد الذريعة الموصلة إليه؛ ولذلك قال: فَلَا تَقْرَبُوهَا، وهذه منهيات ومحظورات، فقال: فَلَا تَقْرَبُوهَا، وفي المأمورات قال: فَلَا تَعْتَدُوهَا [البقرة:229] يعني: لا تتجاوزوا هذه التي أمركم الله بها.

أسئلة وردت للشيخ:

س1: يقول: ما القول في حال كون الجاني غير بالغ أو مجنون؟

ج: لا يُقتص منه.

س2: هل يجوز قول المؤلف في آية الصيام: وكأنه اعتذار عن كَتْبِه عليهم، استخدام لفظة اعتذار في حق الله ؟

ج: لو عُبر بغير هذا كان أفضل.

س3: يقول: ما تفسير قول الله : فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] وتفسير فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ [التوبة:5] وهل القتال في الأشهر الحرم يحرم أو نُسخ؟

ج: هذا سيأتي الكلام عليه في قوله تعالى: وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ [البقرة:191] هذا في الحرم، وسيأتي الكلام عند قوله: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [البقرة:194] باعتبار أن النبي ﷺ في غزوة الحديبية في ذو القعدة، صده المشركون، فاعتمر من قابل في ذي القعدة، ومسألة الأشهر الحرم هل هي منسوخ القتال فيها أو لا؟ فيها خلاف مشهور ومعروف، والأقرب أنه لم ينسخ، وأن حرمتها باقية، وكذلك حرمة مكة، وإنما الوقائع التي استدل بها من قال بالنسخ محمولة على معنى، كما كان في حصار الطائف، فقد خرج النبي ﷺ فبلغه أن أهل الطائف خرجوا إلى حنين، فخرج إليهم من مكة ﷺ في شوال، ثم بعد ذلك تبع فَلّهم إلى حصن الطائف، ونصب المنجنيق، فدخل عليه شهر ذو القعدة، وهو محاصر لهم، فهذا لم يكن ابتداء، فباقي تحريم الأشهر الحرم، وسيأتي الكلام عليها -إن شاء الله- في هذه السورة، وكذلك أيضًا في سورة براءة: مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36].

والذين يقولون منسوخة يقولون نُسخ بقوله: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً [التوبة:36] وكذلك بقوله: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ لكن هذا فيه نظر، والله أعلم.

س4: يقول: ما توجيهكم في موضوع الديات في هذا الوقت خصوصًا أنها أصبحت تجارة، فصارت الدية، وعتق الرقبة بعشرين أو ثلاثين مليون ونحوها، مثل هذه الحملات هل نساهم فيها أو لا؟

ج: هذه لا تخلو من إشكال، وهذا قد يجرأ القتلة الاستهانة بدماء الناس، فهو يقتل وهو في ظنه أنه سيُغرى هؤلاء من أهل المجني عليه بالمال، حتى يقبلوا بالدية، يعطي عشرين مليون، حتى يقبلوا بذلك، مثل هذه المبالغات فيها مفاسد، والله أعلم.

س5: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى [البقرة:178]...؟.

ج: بعضهم قد يدخله في اللف والنشر، باعتبار أنه أجمل، ثم بعد ذلك ذكر تفصيلًا، فهذا بعضهم يسميه لف ونشر، والصورة الأوضح في اللف والنشر أن تُذكر الأقسام صراحة، ثم يُذكر حكم كل قسم بعدها إما مرتبًا، فهو لف ونشر مرتب، أو مشوش، لكن في مثل هذا بعضهم يسميه لف ونشر من جهة الإجمال، ثم بعد ذلك جاء تفصيل بعده، فيسميه لف ونشر، وإلا فمثل: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:105] فهنا ذكر القسمين، ثم ذكر أحكام كل قسم فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ۝ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ۝ وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ [هود:106-108] فهذا لف ونشر مرتب، يعني: ذكر الحكم الأول أولًا، ثم ذكر الحكم الثاني ثانيًا.

 

  1. البحر المحيط في التفسير (2/180).
  2. تفسير ابن أبي حاتم (1/306).
  3. البحر المحيط في التفسير (2/180).
  4. المحلى بالآثار (4/393).
  5. مجموعة الرسائل والمسائل لابن تيمية - رشيد رضا (2/4).
  6. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/178).
  7. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/252) والبحر المحيط في التفسير (2/189).
  8. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/178).
  9. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/499).
  10. بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية (8/515).
  11. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/161).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الصيام، باب بيان نسخ قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية} [البقرة:184] بقوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة: 185] برقم: (1145).
  13. فضائل القرآن للقاسم بن سلام (ص:290) وجمال القراء وكمال الإقراء ت عبد الحق (2/608).
  14. معاني القراءات للأزهري (1/192).
  15. الميسر في القراءات الأربع عشرة (ص:28).
  16. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/186).
  17. تفسير ابن أبي حاتم (1/309).
  18. الفتاوى الكبرى لابن تيمية (2/461) ومختصر الفتاوى المصرية (ص:80).
  19. أخرجه أحمد في المسند (28/191-16984) وقال محققو المسند: "حديث ضعيف".
  20. في صحيح الجامع (1/313-1497).
  21. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (15/115).
  22. تفسير القرطبي (2/297).
  23. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/219).
  24. أخرجه البخاري في كتاب الأذان، باب الذكر بعد الصلاة برقم (842) ومسلم في كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة برقم: (583).
  25. أخرجه أحمد في المسند (17/213-11133) وقال محققوه: "إسناده جيد".
  26. أخرجه البخاري في كتاب الدعوات، باب يستجاب للعبد ما لم يعجل برقم: (6340) ومسلم في الذكر والدعاء والتوبة باب بيان أنه يستجاب للداعي ما لم يعجل برقم (2735).
  27. بدائع الفوائد (3/2).
  28. أخرجه الترمذي في أبواب الدعوات برقم: (3585) وحسنه الألباني.
  29. سبق تخريجه.
  30. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب قول الله جل ذكره: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} [البقرة:187] برقم: (1915).
  31. أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم} [البقرة:187] برقم: (4508).
  32. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187] (1917) ومسلم في الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر رقم (1091).
  33. تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/496-2940).
  34. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/511).
  35. تفسير ابن كثير ت سلامة (1/510).
  36. تهذيب اللغة (15/58).
  37. معاني القرآن وإعرابه للزجاج (1/270).
  38. تفسير ابن أبي حاتم (1/316).
  39. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/232).
  40. تفسير ابن أبي حاتم (1/317).
  41. أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب قول النبي -ﷺ: ((من استطاع منكم الباءة فليتزوج، لأنه أغض للبصر وأحصن للفرج)) وهل يتزوج من لا أرب له في النكاح برقم (5065) ومسلم في نكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه، رقم (1400).
  42. أخرجه أبو داود في كتاب النكاح، باب النهي عن تزويج من لم يلد من النساء برقم: (2050) وقال الألباني: "حسن صحيح".
  43. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/248).
  44. التفسير القيم = تفسير القرآن الكريم لابن القيم (ص:147).
  45. تفسير عبد الرزاق (1/311) وتفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (3/508).
  46. تفسير ابن عطية = المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (1/258).
  47. التحرير والتنوير (2/183).
  48. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب قول الله تعالى: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة:187] برقم: (1916) ومسلم في الصيام، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر رقم: (1090).
  49. سبق تخريجه.
  50. سبق تخريجه.
  51. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب إذا أفطر في رمضان ثم طلعت الشمس برقم: (1959).
  52. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الوصال إلى السحر برقم: (1967).
  53. سبق تخريجه.
  54. أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب الوصال، ومن قال: "ليس في الليل صيام" برقم: (1963) ومسلم عن ابن عمر في كتاب الصيام، باب النهي عن الوصال في الصوم برقم: (1102).
  55. فتح الباري لابن حجر (4/204).
  56. الودك: هو دسم اللحم ودهنه الذي يستخرج منه. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (5/169).
  57. تفسير الطبري = جامع البيان ط هجر (3/272).
  58. أخرجه البخاري في كتاب الحيض، باب غسل الحائض رأس زوجها وترجيله برقم: (296).
  59. أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق، باب صفة إبليس وجنوده برقم: (3281) ومسلم في كتاب السلام، باب بيان أنه يستحب لمن رئي خاليا بامرأة وكانت زوجته أو محرما له أن يقول هذه فلانة ليدفع ظن السوء به برقم: (2175).
  60. أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه (4/348-8016) وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (6/667-2786): "وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين، وقول ابن مسعود، ليس نصًا في تخطئته لحذيفة في روايته للفظ الحديث، بل لعله خطأه في استدلاله به، على العكوف الذي أنكره حذيفة، لاحتمال أن يكون معنى الحديث عند ابن مسعود: لا اعتكاف كاملًا، كقوله -ﷺ: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا
    دين لمن لا عهد له)) والله أعلم".
  61. نشر البنود على مراقي السعود (2/265).

مواد ذات صلة