الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(30- أ) حرف القاف من قوله اقترف إلى حرف السين سأل
تاريخ النشر: ١٢ / رجب / ١٤٣٦
التحميل: 1813
مرات الإستماع: 1441

الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمُتقين، وصلَّى الله وسلّم وبارك على عبده ورسوله محمدٍ، وعلى آله وصحابته الطّيبين الطَّاهرين.

يقول الإمامُ ابنُ جُزي الكلبي:

"اقترف: اكتسب حسنةً أو سيئةً".

الحمد لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله.

أما بعد: فهذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى أصلٍ يدلّ على مُخالطة الشيء، والالتباس به، وادِّراعه؛ وذلك أنَّ الأصل في ذلك هو القَرف، وهو كل قشرٍ[1].

"ومن الباب: يُقال: اقترفت الشَّيء، يعني: اكتسبته"، يقول: "كأنَّه لابسه وادَّرعه، والفرس الـمُقرف: الـمُداني الهُجنة، يقولون: الذي يكون أبوه هجينًا -يعني: ليس بأصيلٍ-، وأمّه عربية"[2]، أي: أصيلة، يُقال: مُقرف.

"ويُقال: قارف فلانٌ الخطيئة مثلًا، يعني: خالطها، وقارف امرأته: جامعها"[3].

والنبي ﷺ قال: هل منكم رجلٌ لم يُقارف الليلة؟[4]، يعني: لم يُجامع؛ وذلك في وضع ابنته في لحدها؛ لأنَّ كل واحدٍ من الرجل والمرأة لباسٌ لصاحبه.

والمقصود: أنَّ قولهم: اقترف الشيء، بمعنى: اكتسبه، أو اقتناه، واقترف المال، يعني: جمعه، واقترف الحسنة والسيئة، يعني: عملها واكتسبها: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا [الشورى:23]، وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام:113] يعني: ليرتكبوا، سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام:120] يعني: يعملون، أو يكتسبون، وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا [التوبة:24] يعني: اكتسبتموها.

"قصص، له معنيان: من الحديث، ومن قصِّ الأثر، ومنه: عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64]، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ [القصص:11]".

هذه أيضًا أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ يدلّ على تتبع الشَّيء، سواء كان ذلك في الأمور الحسيّة، أو الأمور المعنويّة، من ذلك قولهم: اقتصصت الأثر؛ إذا تتبعته، ومن ذلك اشتقاق القِصاص في الجراح، وذلك أنَّه يُفعل به مثلما فُعِلَ بالمجني عليه، فكأنَّه اقتصَّ أثره. ومن هذا الباب: القِصّة والقصص، كل ذلك يُتتبع فيُذكر[5]، حينما نقول: قصّة الإفك، يعني: الخبر، فهذا الذي يقصّ كأنَّه تتبع هذا الخبر فقصَّه.

ومن الباب: قصصت الشعر؛ وذلك أنَّك إذا قصصته فقد سويت بين كل شعرةٍ وأختها، فصارت الواحدةُ كأنَّها تابعة للأخرى، مُساوية لها في طريقها[6].

هذا كلّه يرجع إلى هذا المعنى عند ابن فارس، يُقال: قصَّ الكلام، أو الأخبار ونحوها، يقصّها قصًّا وقصصًا، يعني: رواها، وتتبعها، ونحو ذلك.

وهكذا أيضًا يُقال: قصّ القصص، بمعنى: روى الأخبار: فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ [القصص:25] روى له ما وقع، وأخبره بما جرى من قتله القبطي، ومن طلب فرعون له.

وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [النحل:118]، وذلك أنَّه أخبره تفاصيل ذلك، وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ [النساء:164].

وفي قول يعقوب : يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف:5]، (لا تقصص) يعني: لا تروي هذه الرؤيا لهم، ولا تُخبرهم بها.

يُقال: قصَّ الأثر؛ تتبعه، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ تتبعي أثره؛ ولذلك القصص يُقال لما يُتتبع ويُروى من الأخبار: إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران:62]، والقِصاص كما سبق: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]؛ لأنَّه يُتتبع فيه ما جرى للمجني عليه، فيُفعل به مثل ذلك: فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا [الكهف:64] يعني: يقصّان أثرهما.

"قررت به عينًا، أقرّ، بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع. وقررت في المكان، بالفتح في الماضي، والكسر في المضارع".

"قررت به عينًا، أقرّ، بالكسر في الماضي"، ويقَرّ في المضارع، "وقررت في المكان، بالفتح في الماضي، والكسر في المضارع"، الكسر في المضارع: قرّ يَقِرُّ.

وهذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلين: "يدلّ أحدهما على بردٍ، والآخر على تمكّنٍ"[7].

الأول: يدلّ على بردٍ، فالقرّ هو البرد، وقولهم: أقرّ اللهُ عينَه، زعم قومٌ أنَّه من هذا الباب، وأنَّ للسرور دمعةً باردةً، وللغمِّ دمعةً حارَّةً؛ ولذلك يُقال لمن يُدعى عليه: أسخن اللهُ عينَه[8]، فهذا دعاءٌ عليه بالحزن، وما يستدعي ذلك من المصائب، ونحو هذا.

هذا الأصل الأول: يدلّ على برودةٍ، يُقال: القرّ والحرّ، يعني: البرد والصيف، أو الحرّ.

والأصل الثاني: يدلّ على تمكُّنٍ، يُقال: قرّ بالمكان واستقرَّ، ومنه القُرارة، وهذه لا زالت مُستعملة إلى اليوم، يقال لما يعلق في أسفل القدر: القُرارة، فهذه كأنَّها شيء مُستقرّ في القِدر.

وهكذا الإقرار الذي يُقابل الجحود؛ وذلك أنَّه إذا أقرَّ بحقٍّ فقد أقرّه قرارةً، يعني: صار ذلك مُتمكِّنًا.

ويوم القرّ اليوم المعروف من أيام مِنى، وهو الذي يستقرّ به الحاجُّ في مِنى، يعني: ليس بيوم نفرٍ، وإنما يكون الحاجُّ قارًّا في مِنى، وهو يوم النَّحر، كما هو عند ابن فارس -رحمه الله-، حيث ذكر أنَّ يوم القرِّ هو يوم النَّحر، حيث يستقرّ الحاجُّ في مِنى بعد أن جاءوا من عرفة ومُزدلفة، لكن المشهور أنَّ يوم القرِّ هو اليوم الحادي عشر.

ويقال: أقرّ الشيء في المكان؛ ثبّته، يدلّ على التَّمكن، أو وضعه فيه بإحكامٍ، بحيث لا يعتريه اضطرابٌ، ولا تقلقل: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ [الحج:5].

وهكذا لما وصف الله -تبارك وتعالى- موضعَ الولد وصفه بأنَّه قرار، يعني: موضع يستقرّ فيه.

وأقرّ بالأمر: اعترف بأنَّه حقٌّ ثابتٌ، أثبته: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ [البقرة:84]، قَالُوا أَقْرَرْنَا [آل عمران:81].

وأمَّا الاستقرار بالمكان فكما في قوله -تبارك وتعالى- لموسى في الجبل: فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ [الأعراف:143] يعني: قرّ، ثبت؛ ولذلك يُقال: القرار: مكان الثَّبات، وفيما يصدر من قرارات مثلًا، أو نحو ذلك، يعني: أنَّ هذه القضايا ليست مجرد توصيات أو اقتراحات؛ ولذلك يُفرّق بين هذا وهذا، يُقال: هذه توصية، وهذا قرار، فالقرار مُستقرّ، ثابت، ويتحقق.

وكذلك يقول الله -تبارك وتعالى-: مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ [إبراهيم:26] يعني: استقرار، أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا [النمل:61] أي: مكانًا للاستقرار، وجعلها قارَّةً، ومن ذلك يُقال: القارات جمع قارّة؛ لأنَّها مُستقرّة.

وقُرّة العين -كما سبق- يدلّ على السُّرور، ونحو ذلك: هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [الفرقان:74]، فإذا كان هذا الولدُ بارًّا مُطيعًا صالحًا فلا شكَّ أنَّ عين الوالدين تكون قارَّةً به؛ لقرار القلب، بخلاف ما إذا كان سببًا لشقائهما؛ ولذلك الولد يُقال له: الضَّنى، والضَّنى هو التَّعب كما أشرتُ في مرةٍ سابقةٍ؛ تعب في حمله، وتعب في ولادته، وتعب في تربيته، وتعب في مرضه؛ إذا مرض مرض الوالدان معه، وإذا حصل له مكروهٌ، فإنَّ ذلك يكون سببًا لغمِّهما، وإذا كان الولدُ ليس كما ينبغي في الصَّلاح والبرِّ والتقوى، فإنَّ ذلك يكون سببًا لكثيرٍ من الألم بالنسبة للأبوين، ويكبر وتكبر معه هذه الهموم والآلام، فهو ضنى.

والمستقرّ يُقال للقرار، أو مكان الاستقرار، أو زمان ذلك: وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ [البقرة:36] يعني: موضع قرارٍ، لِكُلِّ نَبَأ مُسْتَقَرٌّ [الأنعام:67] يعني: زمانًا يتحقق به، فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ [الأنعام:98] يعني: هذا الرحم مُستقرّ، يعني: مُستقرّ النُّطفة، قيل: هو المستقرّ والمستودع. وقيل: المستقرّ هو الرحم، والمستودع هو الصُّلب؛ أصلاب الرجال: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ. وقيل غير ذلك، والمقصود هو التَّمثيل، وبعضهم يعكس هذا.

وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ [يس:38]، (لمستقرّ لها) يحتمل أن يكون زمانيًّا، ويحتمل أن يكون مكانيًّا، يعني: تصل إلى زمانٍ أو مكانٍ تستقرّ فيه.

أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24] يعني: مكان القرار.

والمستقِرّ: هو الثَّابت الدائم الذي ينتهي إلى غايةٍ يستقرّ عليها: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ [القمر:3] يعني: ينتهي إلى غايةٍ يستقرّ عليها لا محالة، وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ [القمر:38] يعني: يستقرّ فيهم، ولا يُدفع عنهم، فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [النمل:40] يعني: قائمًا، ثابتًا.

والقارورة: هي وعاء يُصبّ فيه الشَّراب فيستقرّ، ويكون غالبًا من الزجاج، لكنَّه لا يلزم كما أشرتُ في المرة الماضية، قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان:16]، فهذا يكون من الزجاج وغيره، لكن الغالب أن يكون من الزجاج، لكن قد ذكرتُ في المرة الماضية: أنَّ ابن فارس -رحمه الله- لا يرتضي هذا، فيجعل ذلك مما خرج عن الأصلين اللَّذين ذكرهما، يعني: يرى أنَّ هذا لا يخلو من تكلفٍ، مع أنَّ هذا أقرب بكثيرٍ من بعض ما يربطه بالمعنى الأصلي، وكَانَتْ قَوَارِيرَ ۝ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ [الإنسان:15-16]، مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ [النمل:44]، وهنا القطعة المسواة من الزجاج يُقال لها: قارورة، مُستقرّ المائع.

لكن ابن فارس لا يرتضي بربطه بمعنى الثَّبات، ولا البرودة، فهذه القطعة المسواة من الزجاج في قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ في قصّة سليمان مع ملكة سبأ، فهذا زجاجٌ تحته ماء أُجري، فكانت تظنّ أنَّ هذا ماء، فكشفت عن ساقيها تحسب أنَّها ستخوض لُجَّةً: قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ، فهذا -على كل حالٍ- ليس بمعنى القارورة التي هي مُستقرّ المائع، والله أعلم.

القارئ:أحسن الله إليكم شيخنا، قوله:

"بالكسر في الماضي" هل يقصد (قرِرت) بكسر الراء؟

 

الشيخ: في الماضي بالفتح (قرَرت)، وفي المضارع: (قرّ يَقِرّ)، مع أنَّ بعضهم ضبطه في المضارع: (يَقَرّ)، يُقال: قرَّ في المكان يقَرّ، وقالوا: يقِرّ، بمعنى: أقام أو ثبت في المكان ولم يُغادره، والله يقول: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، قرن أصله: أقررن، فهذا فعل أمرٍ.

قَرَّ يَقَرّ، وقَرَّ يَقِرُّ، ويُقال: قَرَّ يَقَرُّ أيضًا عند بعضهم، لكن ابن جُزي يقول: قررت أَقِرّ بالكسر في الماضي، والفتح في المضارع: يَقَرّ، وقررت في المكان بالفتح في الماضي، والكسر في المضارع: يقِرّ.

"قتر، وقترة: غُبار، وهو عبارة عن تغير الوجه، وقتور من التَّقتير".

القتر يقول: "غُبار، وهو عبارة عن تغير الوجه، وقتور من التَّقتير".

وابن فارس -رحمه الله- يقول: أنَّ ذلك يرجع إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على تجميعٍ وتضييقٍ[9].

وابن جُزي -رحمه الله- كأنَّه ذكر معنيين:

الأول: الغُبار، وما يلحق به، مثل: تغير الوجه، وذكر القتور الذي هو التَّقتير، بمعنى: التَّضييق، ونحو ذلك.

فابن فارس أرجعها إلى أصلٍ واحدٍ يدل على تجميعٍ وتضييقٍ، الإقتار: التَّضييق، قتر على أهله، يقتر، وأقتر، وقَتْر، كلّ هذا بمعنى: ضيّق.

يقول: "ومن الباب: القتر؛ ما يغشى الوجه من كربٍ: وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ [يونس:26]، والقتر: الغُبار"[10].

لكن الارتباط بين الغُبار أو التَّغير من الكرب، ونحو ذلك، مع التَّضييق قد لا يخلو من إشكالٍ.

ولاحظ: أنَّ ما ذُكر في القارورة استبعد -رحمه الله- أن يرتبط بأصل المعنى، وهنا ربط بين التَّغير والغبار، وبين معنى التَّجميع والتَّضييق.

على كل حالٍ، يُقال: (القتور) لذلك، والقَتور هو البخيل، يقولون: المجبول على الشُّح، أو كثير التَّقتير: وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُورًا [الإسراء:100]، ويُقال: أقتر الرجل، يعني: ضاق عيشه، فهو مُقتر، يعني: فقير: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236] يعني: قابله بالموسع، فهذا فقيرٌ، وهذا غنيٌّ، تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ [عبس:41] يعني: تغير بسبب ما هم فيه من الكرب والشّدة، وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67] يعني: لا يكون ممسكًا شحيحًا بخيلًا، ونحو ذلك.

فجَعْل (القترة) على معنيين كما ذكر ابنُ جُزي أوضح: الغُبار، أو التَّغير، والمعنى الثاني الذي هو التَّقتير، الذي هو التَّضييق، أو نحو ذلك.

"قارعة: داهية وأمر عظيم".

القارعة يقول: الدَّاهية والأمر العظيم.

وابن فارس -رحمه الله- أرجع مُعظم هذا الباب: (القاف، والراء، والعين: قرع) إلى: "ضرب الشَّيء، يُقال: قرعت الشيء أقرعه: ضربته"[11]، وقرعت البابَ: طرقته وضربته، "ومُقارعة الأبطال: قرع بعضُهم بعضًا"[12]، والإقراع: القُرعة، التي هي الـمُساهمة، يقول: لأنَّها شيء كأنَّه يُضرب[13].

والقارعة: الشَّديدة من شدائد الدَّهر، سُمّيت بذلك لأنَّها تقرع الناس، أي: تضربهم بشدّتها، فالقارعة: القيامة؛ لأنَّها تضرب وتُصيب الناس بإقراعها.

وقوارع القرآن: الآيات التي مَن قرأها يقول: لم يُصبه فزع[14]. هكذا فسّره، وقيل غير ذلك؛ فبعضهم يقول: قوارع القرآن هي آيات الوعيد؛ لأنَّها تقرع الناسَ، كأنَّها تضربهم. لكن ابن فارس يقول: كأنَّها سُميت بذلك لأنَّها تقرع الجنَّ[15]، يعني: الآيات التي يحصل بها التَّحصن، ونحو ذلك.

يقول: وأمَّا القَرع فذهاب الشّعر، والقرع كذلك المأكول؛ النَّبات المعروف، فهذان شاذَّان، لا يرتبطان بأصل المعنى.

يقول الله -تبارك وتعالى-: الْقَارِعَةُ ۝ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2] يعني: القيامة، فكأنَّها بشدّتها تقرع الناس: كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ [الحاقة:4]، وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [الرعد:31] يعني: داهية، مُصيبة تروعهم: كالحرب، أو العقوبة التي تنزل بهم.

"قبس: شُعلة نار".

عن هذه المادة أيضًا يقول ابنُ فارس: أنها ترجع إلى أصلٍ يدلّ على صفةٍ من صفات النار، ثم يُستعار، يعني: لغيره[16]، من ذلك: القبس: شُعلة النار، ويقولون: أقبست الرجل علمًا، وقبسته نارًا.

يقول: ثم يُستعار منه، يعني: صار الناسُ يتوسعون في هذا الاستعمال، تقول مثلًا: اقتبست هذه الفائدة من كتاب كذا، كأنَّ ذلك في أصله من اقتباس النار.

وابن جُزي -رحمه الله- فسّره بمعنًى قريبٍ مُباشرٍ، حيث قال: شُعلة نارٍ، يعني: إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ [النمل:7]، شُعلة نارٍ، هذا هو المعنى المباشر، فُسّر بِشِهَابٍ قَبَسٍ.

وبعضهم يقول: أنَّ الشِّهاب هو القبس، فيكون قوله: (قبس) تفسير للشِّهاب.

وبعضهم يقول: بِشِهَابٍ قَبَسٍ يعني: مُقتبس على الوصفية، فيكون قبس صفةً للشِّهاب: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد:13] من هذا المعنى، يُقال: قبس النار يقبسها واقتبسها، بمعنى: طلبها، ويُقال ذلك إذا أوقدها أيضًا، أو أخذها، فالقبس يُقال للنار، أو شُعبة من النَّار.

"قنطَ: يأس من الخير".

يُقال: قَنط -بالفتح في الماضي- يَقْنَط، ويقُنط قنوطًا، فهو قانط، ويُقال أيضًا: قَنِط يَقْنَط قَنَطًا، فهو قَنِط، وهي قَنِطَة، فلان قنِط، وفلان قانط، قانط من قَنَط، وقنِط من قَنِطَ.

وابن فارس -رحمه الله- أرجع هذه المادة إلى أصلٍ يدلّ على اليأس من الشَّيء[17]: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ [الروم:36] يعني: ييأسون، قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ [الحجر:55].

وكذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ [فصلت:49] كثير اليأس، يعني: إذا مرض ظنَّ أنَّ هذا نهاية المطاف، وإذا خسر في تجارته ظنَّ أنَّ هذا نهاية المطاف، وإذا تعثّر في أمرٍ من أموره ظنَّ أنَّ هذا نهاية المطاف، وهكذا، فهو كثير القنوط: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا [الشورى:28]، لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر:53] اليأس من المغفرة وحصول الرحمة.

"قرطاس: صحيفة، وجمعه: قراطيس".

القرطاس يُقال للصَّحيفة التي يُكتب بها، من ورقٍ ونحوه، يُقال لها: قرطاس، قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا [الأنعام:91]، قراطيس، فهم ينقلون من الكتاب بصحائف، ويبدونها للناس مُحرَّفةً، مُبدّلةً، ويُضيفون ذلك إلى كتابهم.

"حرف السين: أسباط: جمع سبط، وهم ذُرية يعقوب ، كان له اثنا عشر ولدًا ذكرًا، فأعقب كلُّ واحدٍ منهم عقِبًا، والأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب".

لاحظ: نحن حينما نفسّر الأسباط بمجردها يُذكر مثلما قال ابنُ جُزي -رحمه الله- ذُرية يعقوب ، فهم أولاد ولده، يعني: ما تناسل من أولاده، يقول: "كالقبائل في العرب" يعني: في بني إسرائيل، فهم الذُّرية.

وليس المراد بالأسباط هم أولاد يعقوب مباشرةً: يوسف وإخوته، وإنما الذُّرية؛ ولذلك يُقال: (السِّبط) لولد الولد، لكن من المقصود بالسياقات القرآنية؟

ابن فارس -رحمه الله- أرجع هذه المادة في أصلها إلى ما يدلّ على ارتداد شيءٍ، يقول: وكأنَّه مُقارب لباب الباء والسين والطاء: بسط[18]، هذا كأنَّه يرجع إلى ما يُعرف بالاشتقاق، يُقال: جذب وجبذ، فهنا يُقال: شعر سبط وبسط، يعني: إذا لم يكن جعدًا.

وتفسير الأسباط بأولاد يعقوب هكذا، هذا ردَّه شيخُ الإسلام -رحمه الله-، وذكر أنَّ كون الأسباط أولاد يعقوب غير صحيحٍ، ليسوا الأولاد للصُّلب مباشرةً، وإنما الذُّرية، وذكر أنَّ الأسباط من بني إسرائيل -كما سبق- كالقبائل من بني إسماعيل.

وذكر أيضًا أنَّ مثل هذا الحافد، فالأسباط هم حفدة يعقوب، وهم ذراري الأبناء الاثني عشر: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا [الأعراف:160]، يقول: فهذا صريحٌ في أنَّ الأسباط هم الأمم من بني إسرائيل، كل سِبطٍ أُمّة، لا أنَّهم بنوه الاثنا عشر، بل لا معنى لتسميتهم قبل أن تنتشر عنهم الأولاد: أسباطًا.

يقول: فالحال أنَّ السبط هم الجماعة من الناس، ومَن قال: إنَّ الأسباط أولاد يعقوب لم يُرد أنَّهم أولاده من صُلبه، بل أراد ذُريته، فتخصيص الآية ببنيه غلط، لا يدلّ عليه اللَّفظ، ولا المعنى، مَن ادَّعاه فقد أخطأ خطأً بينًا[19].

والصواب أيضًا: أنَّ كونهم أسباطًا إمَّا سمُّوا به من عهد موسى للآيات المتقدّمة، يقولون: ما كانوا يُسمّون بالأسباط قبل ذلك، وإنما كان ذلك في زمان موسى ، وتأمّل في السياق: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا الكلام في إنزال الوحي والكتب وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ [البقرة:136]، أولاد يعقوب ما كانوا أنبياء، إلا يوسف  هو الذي ثبتت نبوته، والباقي فيهم خلافٌ معروفٌ، والأقرب -والله أعلم- أنَّهم ما كانوا أنبياء، لا سيّما العشرة الذين اجتمعوا على ما وقع ليوسف ، وما فعلوا به، وبأبيهم.

فالشاهد: أنَّ هذا الإنزال: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وذكر الأسباط، المقصود ما نزل على الأنبياء من ذُرية يعقوب، يعني: من قبائل بني إسرائيل، وليس كل الأسباط، وأيضًا ليس كل الذّرية، إلا أن يُحْمَل ذلك على وجهٍ؛ باعتبار أنَّه أضافه إليهم: (ما أُنزل على الأسباط) يعني: الذُّرية، والمقصود: أنَّه ذكر الأسباط، وأراد بعضَهم، وهم الأنبياء منهم، فقد كان فيهم أنبياء كثيرون -كما هو معلوم-.

وكان الأنبياء يسوسون بني إسرائيل، فربما اجتمع في الزمن الواحد الأنبياء الكُثر، وقد جاء أنَّهم قتلوا في يومٍ واحدٍ سبعين نبيًّا[20]، فالأنبياء فيهم كالعُلماء في هذه الأمّة، الأمّة هذه يسوسها العلماء، وبنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، أولئك كانوا يقتلون الأنبياء، وهذه الأمّة ليس فيها أنبياء بعد النبي ﷺ، فوجد مَن يشتم العلماء، ويرميهم بكل قبيحٍ، ولا يقبل منهم قليلًا ولا كثيرًا، فهذا فيه شبه من بني إسرائيل في حالهم مع أنبيائهم الذين كانوا يسوسونهم.

فقول الله -تبارك وتعالى-: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى [الأعراف:160] إلى آخره، فقطعهم يعني: إلى قبائل، أو ما يُشبه ذلك، وأصل ذلك فيما يذكر بعضُ أهل العلم: أنَّ السّبط: الشَّجرة التي لها أغصان كثيرة، أصلها واحد، ولها فروع وأغصان كثيرة، فسمّوا الأسباط لكثرتهم.

فالسِّبط يُقال لولد الولد، سواء كان ذكرًا أم أنثى، يعني: ولد الابن يُقال له: سِبط، وولد البنت يُقال له: سِبط كذلك، فالحسن والحسين سِبطا رسول الله ﷺ، وكل قبيلةٍ من نسل رجلٍ يُقال لها أيضًا ذلك.

لكن هذه الآية التي يُشير إليها شيخُ الإسلام -رحمه الله-: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا هذا متى كان؟

وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى [الأعراف:160] في زمن موسى ، هم تكاثروا بعدما جاءوا إلى مصر -كما هو معلوم-: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [يوسف:4]، فهم إخوته مع أبيه وأمِّه، فلمَّا جاءوا واستقرُّوا في مصر تناسلوا، فكثروا.

والمؤرخون يذكرون أعدادَ هؤلاء الذين خرج بهم موسى على اختلافٍ، وهي روايات إسرائيلية، اختلف في عدد هؤلاء في هذه المرويات، فبعضهم يُوصلهم إلى أكثر من مئتي ألف، جاءوا في زمن يوسف كما سبق، وخرجوا في زمن موسى .

"سبيل: هو الطَّريق، وجمعه: سُبل، ثم استُعمل في طريق الخير والشَّر، وسبيل الله: الجهاد، وابن السَّبيل: الضَّيف، وقيل: الغريب".

لاحظ: هنا يذكر تفسير السَّبيل بما يُقال فيه ذلك من الطريق المحسوس المادي، وكذلك المعنوي الذي هو السَّبيل بمعنى: طريق الخير، وطريق الشَّر.

وابن فارس أرجعه إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على إرسال شيءٍ من علو إلى سُفلٍ، وعلى امتداد شيءٍ[21]، فجعله على هذين الفرعين:

الأول: من قولك: أسبلت السِّتر، وأسبلت السّحابةُ ماءها. أسبلت الستر يعني: سدلته، وأسبلت السَّحابةُ بمعنى: أنزلت ماءها، والسّبل: المطر الكثير، وسِبال الإنسان من هذا؛ لأنَّه شعرٌ مُنسدلٌ.

ويُقال للمُمتد طولًا: السَّبيل، وهو الطَّريق، سُمّي بذلك لامتداده، والسَّابلة يُقال للناس الذين يذهبون ويجيئون في الطَّريق، يُقال: هؤلاء سابلة.

وكذلك أيضًا يُقال: أسبل الزرع؛ إذا أخرج سُنبله. وقيل: إنَّ السُّنبل سُمّي بذلك لامتداده، معنى الامتداد.

فعلى كل حالٍ، السَّبيل يُقال للطريق، وبعضهم يُقيد هذا بالطريق الواضحة السَّهلة، يُقال ذلك في الطريق الحسي والمعنوي، سواء كان ذلك طريق الهداية، أو طريق الغواية، كما ذكر ابنُ جُزي -رحمه الله-، يُقال: طريق الخير، وطريق الشَّر.

وابن السَّبيل: المسافر، نُسِبَ إلى السَّبيل، وهي الطَّريق؛ لملازمته لها، كما يُقال في الطائر المعروف: ابن الماء؛ لملازمته للماء.

والناس لا زالوا يستعملون هذا في المسافر، أو الذي يكون على سفرٍ، أو نحو ذلك، يقولون: طرقي، نسبة إلى ماذا؟ نسبة إلى الطَّريق.

ويُطلق السَّبيل أيضًا على الوسيلة، لكنَّه يرجع إلى معنى الطَّريق، تقول: ما السَّبيل إلى كذا؟ يعني: ما الوسيلة؟

يقول الله -تبارك وتعالى-: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ [العنكبوت:29] يعني: قطع الطَّريق، هذا في الحسيِّ، وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، هذه طرق الغواية.

فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:74]، سبيل الله إذا أُطلقت في القرآن فالمقصود بذلك الجهاد على القول الرَّاجح، لما ذكر الله -تبارك وتعالى- مصارفَ الزكاة: وَفِي سَبِيلِ اللّهِ [التوبة:60]، فسبيله هو الجهاد، وألحق به جمعٌ من أهل العلم مثل: الحجّ، وأنَّه سبيل الله؛ لما جاء عن النبي ﷺ في ذلك.

وبعض أهل العلم قال: كلّ ما يُراد به التَّقرب إلى الله، وإعزاز الدِّين، فهو من سبيل الله.

فأدخلوا فيه الدَّعوة إلى الله، والعمل الذي يُراد به وجهه، وهذا معنى صحيحٌ، ولكن هذا لا يُفسّر به الآيات الواردة في ذلك عند الإطلاق، حينما يذكر اللهُ مصارفَ الزكاة، فالمقصود به الجهاد في سبيل الله، مع أنَّ طلب العلم يكون في سبيل الله، والدَّعوة إلى الله في سبيل الله، لكن ليست هي المرادة بذلك، وإنما يقصد به الجهاد، ومَن تتبع ذلك في كتاب الله -تبارك وتعالى- وجد أنَّه يطرد في هذا المعنى، والله –تعالى- أعلم.

هنا ابن جُزي فسّر ابن السَّبيل بالضيف، وقيل: القريب. فسّره بالضيف باعتبار أنَّ هذا الذي يكون مُسافرًا، وقد انقطعت به السُّبل، فذهبت نفقته، ونحو ذلك، يكون ضيفًا على هؤلاء الذين يحتفّ بهم، أو يرد عليهم بهذا الاعتبار، وإلا فالأصل أنَّ ابن السَّبيل نُسب إلى الطَّريق، وهو المسافر الذي قد انقطع في هذا السَّفر؛ لانعدام النَّفقة لأي سببٍ كان؛ كأن ضاعت، أو سُرقت، أو انتهت.

ويقول الله -تبارك وتعالى-: فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]، كأنَّه يذهب في شأنه، أو في طريقه، أو يسلك ما شاء، وقال تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ [المائدة:16] يعني: طُرق الهداية الموصلة إلى ذلك، وقال: فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108]، (سواء السبيل) هذا من باب إضافة الصِّفة إلى الموصوف، يعني: السَّبيل المستوية، والطَّريق المستوية، وقال: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، هنا أُطلق على الوسيلة الموصلة، ويرجع إلى المعنى الأصلي الذي سبق، والله أعلم.

وقال: وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ طرق الغواية.

"سوَّى بالتَّشديد له معنيان: من التَّسوية بين الأشياء، وجعلها سواء، وبمعنى: أتقن وأحسن، ومنه: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ [الانفطار:7]".

ابن فارس -رحمه الله- أرجع هذه المادة إلى أصلٍ يدلّ على استقامةٍ واعتدالٍ بين شيئين[22]، يُقال: هذا لا يُساوي كذا، أي: لا يُعادِله، المكان السُّوى، يعني: الـمَعْلَم، يقول: قد علم القومُ الدُّخولَ فيه والخروجَ منه[23].

هذا أحد المعاني التي فُسّر بها ذلك، وإلا فكما سيأتي أنَّه فُسّر بغير هذا، والسّي: المثل، تقول: سيّان، يعني: مِثلان.

وهكذا أيضًا قولهم: لا سيّما، يعني: لا مثلَ ما، كما يُقال: ولا سواء.

ومن الباب: السّواء: وسط الدار وغيرها، سُمّي بذلك لاستوائه، قال تعالى: فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55].

يقول: وأمَّا قولهم: هذا سِوَى ذلك، يعني: غير ذلك، فهو من الباب؛ لأنَّه إذا كان سواه فكلّ واحدٍ منهما في حيّزه على سواء. أرجعها كلّها إلى هذا المعنى.

وأصل المادة يرتبط بالمادتين اللتين بعده، فلو قرأتهما.

"سواء -بالفتح والهمز- من التَّسوية بين الأشياء، وسَوَاءِ الْجَحِيمِ وسطها، وسواء الصِّراط: قصد الطَّريق.

سِوَى بالكسر والضَّمِّ، [وفي نسخةٍ خطيَّةٍ: بالكسر أو الضمِّ] مع ترك الهمز، استثناءٌ، وقد يكون من التَّسوية".

صحيحٌ هي: بالكسر أو الضم، وبالكسر والضمِّ أيضًا: سُوَى وسِوَى.

فهذا كلّه يرجع إلى هذا الأصل الذي ذكره ابنُ فارس -رحمه الله-، يُقال: سوَّى الشَّيء تسويةً، بمعنى: عدَّله وجعله لا عوجَ فيه، ويُقال: سوَّاه: جعله على كمالٍ واستعدادٍ لما أُنشئ من أجله، قال تعالى: ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى [القيامة:38]، وقال: ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا [الكهف:37] يعني: كملك وعدلك في خلقك، ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ [السجدة:9]، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا [الشمس:7]، يُقال: سوَّى الشيء بالشيء، يعني: جعله مثله سواء، فكانا مثلين، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا [الشمس:14] فسَّره بعضُهم بمعنى: جعل الدّمدمة سواء بينهم، أو عليهم سواء، فلم يُفلت منهم أحدٌ، أو فسوَّى بلادَها بالأرض.

ويقول الله -تبارك وتعالى-: بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ [القيامة:4] يعني: نجعلها مُتساويةً، وقيل غير هذا.

إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:98] يعني: يجعلونه معهم سواء في المحبّة ونحو ذلك.

لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ [النساء:42] يعني: يستوون معها، يكونون هم والتراب سواء.

وأيضًا يُقال: ساوى الشيء بالشيء، أو ساوى الشيء الشيء، يعني: عادله وماثله: حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ [الكهف:96] يعني: بين الجبلين، جعلهما سواء مُتعادلين، يُقال: استوى الشَّيئان، بمعنى: تعادلا وتماثلا: هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ [الرعد:16]، لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ [التوبة:19]، لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ [النساء:95] يعني: مع غيرهم من المجاهدين.

وهكذا أيضًا يُقال: استوى الشَّيء، يعني: اعتدل في ذاته، وفي أحواله: فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [الفتح:29] فُسّر بَكَمُل واعتدل.

واستوى الغلام: تمَّ شبابه: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى [القصص:14].

والاستواء على ظهر الدَّابة بمعنى: الاستقرار والارتفاع والعلو عليها.

واستوى بمعنى: علا وارتفع، وأُضيف إليه أيضًا معنيان آخران عند بعض أهل العلم، مثل: استقرَّ واعتدل، هذه أربعة معانٍ: لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف:13]، والله -تبارك وتعالى- استوى على العرش، بمعنى: علا وارتفع، وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ [هود:44] بمعنى: استقرَّت عليه، وعلت عليه، ونحو ذلك: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون:28] بمعنى: الاستقرار، ولا يخلو ذلك من معنى العلو أيضًا، ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ [الزخرف:13].

فهذه هي المعاني المعروفة لهذه المادة، وإن كان بعضُهم قد فسّر (استوى) بحسب السياق؛ فإذا عُدِّي بـ(إلى) يكون بمعنى: قصد: اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ [البقرة:29]، بعضهم فسَّره: بقصد، وتجدون ذلك في بعض كتب أهل السُّنة: كالحافظ ابن كثير[24] -رحمه الله-، مع أنَّ من أهل العلم مَن أنكره، وقال: إنَّ الاستواء لا يأتي بمعنى القصد، وإنما علا وارتفع.

أمَّا تفسير الاستواء بمعنى: استولى، فهذا مُحْدَثٌ من قِبَل أهل البدع، ولا يوجد في كلام المتقدّمين من أهل اللغة، لكنَّك تجد هذا المعنى –للأسف- في بعض القواميس والكتب المتأخّرة، مثل: "لسان العرب"، ونحو ذلك؛ لأنَّ هذه الكتب دخلها ما دخلها من أثر العلوم الكلامية.

وهذا يحتاج أن يُتنبّه إليه، إذا رجعت في تفسير مثل هذه الألفاظ فلا تعتمد على هذه المصادر، وإنما ترجع إلى المصادر الأصلية، مثل: كلام ابن فارس -رحمه الله-، والأزهري في "تهذيب اللغة"، ونحو ذلك من أهل السُّنة، مثل: الأصمعي، وثعلب، وابن الأعرابي، والخليل، وأمثال هؤلاء الذين كانوا على عقيدة السَّلف الصَّالح -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم-، وإلا فإنَّ العلوم الكلامية -كما هو معلوم- دخلت –للأسف- في اللغة بعلومها المختلفة؛ في الكلام على مُفرداتها، وتراكيبها، ووُجِدَ ذلك في النَّحو والبلاغة والفروع المختلفة لعلوم اللُّغة.

كما دخل ذلك أيضًا في علم أصول الفقه بكثرةٍ، ولم تخلُ منه أيضًا علوم الحديث.

أمَّا السُّوى فهو ما يستوي طرفاه: مَكَانًا سُوًى [طه:58]، ابن فارس -رحمه الله- فسّر ذلك -كما سبق- بأنَّه المعلَّم، قد علم القومُ الدخولَ فيه، والخروجَ منه. لكن من أهل العلم مَن فسّره بغير هذا؛ فبعضهم قال: يعني: على نصف المسافة بيننا وبينكم، يعني: مُناظرات لا بدَّ أن يستوي فيها المتناظرون، يعني: ما تكون المناظرةُ مثلًا في دار هذا الطرف، وإنما تكون في مكانٍ يستوي فيه هذا وهذا، بحيث لا يحصل له انزعاج، أو ارتباك، أو خوف، أو نحو هذا.

وبعضهم يقول: مَكَانًا سُوًى يعني: مُستويًا، لا وعر فيه ولا وهاد، ولا فيه مُنخفضات ولا مُرتفعات، بحيث يرى الناسُ جميعًا ما يجري، من غير أن يخفى عليهم شيء، فبعضهم يقول: أنا كنتُ في مكانٍ دونه شجر، أو جبل، أو حجر، أو دونه كذا، أنا لم أرَ ذلك الذي يقولون. لكن مكان في غاية الاستواء.

أو المكان الذي تستوي فيه الحال، وتكون منازل المتناظرين أو المتباريين أو نحو ذلك مُستويةً.

وكلمة (سواء) تدل على معنى: التوسط والتَّعادل، يُقال: فلان وفلان سواء، يعني: مُتساويين: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، وكذلك أيضًا: لَيْسُوا سَوَاءً [آل عمران:113] يعني: لا يستوون، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64] يعني: كلمة عدلٍ، أو مُستوية بيننا وبينكم، لا تختلف فيها التوراة والإنجيل والقرآن، أو لا اختلافَ فيها في كل الشَّرائع.

وهكذا: فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58] يعني: على طريقٍ مُستوٍ، وحال قصدٍ بينك وبينهم، تُعلمهم أنَّ العهدَ الذي بينك وبينهم قد انتهى، فتستوي معهم في انقضاء العهد، وهذا من تمام العدل.

كذلك أيضًا سواء الشّيء: وسطه، فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ [البقرة:108] يعني: الطَّريق المستوية المعتدلة، وسط الطريق، وقصد الطَّريق، سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الصافات:55] وسط الجحيم مثلًا، والله أعلم.

فكلام ابنُ جُزي في (سوّى) بالتَّشديد من التَّسوية بين الأشياء، جعلها سواء، بمعنى: أتقن وأحسن، وهذا الذي ذكرت أنَّه بمعنى: الاعتدال، والسواء قال: بالفتح والهمز من التَّسوية بين الأشياء، سَوَاءِ الْجَحِيمِ وسط الجحيم، سواء الطريق، كلّ هذا واضح.

يقول: "استثناءٌ"، يعني: سِوى كذا، يعني: يُستثنى، كأن يقول: خذ هذه الأشياء سوى كذا.

وقد يكون من التَّسوية، ويُقال أيضًا: السّوي، بمعنى: المستقيم، المعتدل، والكامل: فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى [طه:135] يعني: المستقيم، أو المعتدل، آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10] يعني: من غير عِلَّةٍ، فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [مريم:17] يعني: كاملًا في خلقه، فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا [مريم:43] يعني: مُستقيمًا، فالسَّوي يُقال للمُستقيم، والمعتدل، والكامل.

"سُفهاء: جمع سفيه، وهو النَّاقص العقل، وأصل السَّفه: الخفّة؛ ولذلك قيل لمُبَذّر المال: سفيه، وللكفَّار والمنافقين: سُفهاء".

أما السُّفهاء فإنَّ هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على خفَّةٍ وسخافةٍ، فالسَّفه ضدّ الحِلم، يُقال: ثوب سفيه، يعني: رديء النَّسج[25]، أو خفيف النَّسج، ويُقال: تسفّهت الريحُ؛ إذا مالت. هذا كلام ابن فارس -رحمه الله-.

وأصل السَّفه يُقال للخفّة والحركة، والثوب السَّفيه، والزِّمام السَّفيه: كثير الاضطراب.

وكذلك أيضًا يُستعار في الجهل وخفّة الحِلم، يعني: ذلك يُقال في الأمور المادية: زمام سفيه، وثوب سفيه.

ويُقال في الأمور المعنوية: الجهل، وخفّة الحِلم، سفه نفسَه: حملها على السَّفه: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ [البقرة:130] يعني: خسرها جهلًا، أو حملها على السَّفه.

ويُطلق أيضًا على الطيش، ونُقصان العقل، والجهل في الأمور الدُّنيوية، أو الدِّينية: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:140]، إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ [الأعراف:66] نسبوه للسَّفه ونُقصان العقل، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا [البقرة:282] يعني: لا يُحسن التَّصرف في المال؛ لضعف عقله، أو لقصور نظره، أو لسُوء تدبيره، وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا [الجن:4].

ويقول الله -تبارك وتعالى-: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ [النساء:5] هم الذين لا يُحسنون التَّصرف في الأموال، ولا يُحسنون وضع النَّفقة في مواضعها، فيُسيئون التَّصرف.

والمقصود بالآية -كما هو معروفٌ- عدم إيتاء هؤلاء أموالهم هم، لكنَّه قال: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا، فهم لكونهم يشتركون في المصالح، ويكونون كالنفس الواحدة؛ قال: وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا إلى آخر ما ذكر الله، وهذا في اليتامى فيما يبدو -والله أعلم-، وإن كانت الآيةُ يُؤخذ من عمومها أن لا يُعطى السُّفهاء الأموال مُطلقًا، ولو كانت ملكًا للإنسان، فذلك يكون في ولده، وفي غيره، إذا كانت هذه الأموال ذات شأنٍ، كثيرة.

وهكذا في قوله: قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ [البقرة:13] يعني: مَن يتَّهمونهم بنقص العقل، وأنَّهم حمقى، لا رأي لهم، ولا يُحسنون النَّظر في مثل هذه القضايا.

"سلوى: طائر يُشبه السُّمانى، وكان ينزل على بني إسرائيل مع المنّ".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس إلى أصلٍ واحدٍ يدلّ على خفضٍ وطيب عيشٍ[26]، يُقال: فلان في سلوةٍ من العيش، يعني: في رغدٍ. يُسليه الهمّ، ويُقال: سلا فلان؛ إذا فارقه ما به من همٍّ. وسلا عن فلانٍ ممن يُحبّه، وقد جزع لفراقه، يُقال: سلا، إذا فارقه بموتٍ، أو انتقالٍ، أو هُجرانٍ، أو غير ذلك، ويُقال في السّلوى واحدته: سلوات.

والسُّمانى طائر صغير يصفه المفسّرون بأوصافٍ ترجع إلى موصوفٍ واحدٍ، فبعضهم يقول: طائر أصغر من الحمامة، وأكبر من العصفور، أو طائر بالهند يُشبه كذا، أو طائر له منقار أحمر، أو نحو هذا. هذا كله يرجع إلى موصوفٍ واحدٍ، ذكروا بعضَ أوصافه.

ويُقال (السُّمانى) الآن لنوعٍ من الطيور صغير، بهذا الحجم الذي وصفوا، ويكون ممتلئًا، مُكتنزًا، وهو من الطّيور الـمُهاجرة التي تنتقل شتاءً وصيفًا، وهو يستوطن -كما يقولون- في أوروبا، وحوض البحر الأبيض، ثم يُهاجر في الشتاء إلى مصر والسّودان وأثيوبيا، من مقارّه الأصلية: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57] فُسّر بهذا الطَّائر.

"سأل، له معنيان: طلب الشَّيء، والاستفهام عنه. وسال بغير همزٍ من المعنيين المذكورين، ومن السَّيل".

هذه المادة أرجعها ابنُ فارس -رحمه الله- إلى أصلٍ واحدٍ، بل قال: إنَّها كلمة واحدة، يُقال: سأل، يسأل، سؤالًا، ومسألة[27]، يعني: السؤال المعروف.

ونلحظ: أنَّ ابن جُزي -رحمه الله- ذكر معنيين: طلب الشَّيء، والاستفهام عنه.

"وسال بغير همزٍ من المعنيين المذكورين، ومن السَّيل"، والواقع أنَّ هاتين مادتان مختلفتان، ليست هذه ترجع إلى مادةٍ واحدةٍ في الاشتقاق، هما مادتان؛ فسأل (السين والهمزة واللام)، قال: سأله بكذا، أو عن كذا، يعني: استخبره عنه، وطلب منه معرفة هذا الشَّيء: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [المعارج:1] سأل بكذا، وقول موسى للخضر: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا [الكهف:76]، وقال له قبل ذلك: فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ [الكهف:70]، وهكذا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي [البقرة:186] هذا يستخبر هذا السَّائل، ويطلب معرفة ذلك الذي سأل عنه.

تقول: سأله عن كذا، بمعنى: حاسبه وآخذه، يعني: هو أصله في السؤال، حينما يسأله يستخبر، لكن ذلك يُستعمل أيضًا في الـمُحاسبة، باعتبار أنَّ هذا السؤال أحيانًا يكون سؤال مُحاسبةٍ: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]، وهذا السؤال: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65]، وكذلك أيضًا يُسأل الرسل -عليهم السلام- عن البلاغ: تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ [النحل:56].

فهذا كلّه يرجع إلى هذا المعنى، فالسؤال يعني: ما يُطلب، وأيضًا: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36]، فالسؤل ما يُطلب، والسؤال هو الطَّلب: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ [ص:24]، والسَّائل هو الـمُستخبر: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ [يوسف:7].

وطالب المعروف والإحسان، والذي يسأل الصَّدقة أو المال يُقال له: سائل أيضًا، وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات:19].

وهذا كلّه يرجع إلى الأصل الذي هو بمعنى: الاستخبار، أو الخبر، والطَّلب في غيره؛ ولذلك قال ابنُ جُزي هنا: "طلب الشّيء، والاستفهام عنه"، فيُقال: سأله الشّيء، بمعنى: طلبه منه، وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا [الأحزاب:53]، وهكذا: قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة:102]، فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ [النساء:153] يعني: طلبوا منه.

وقول نوح لما استعاذ ربَّه، قال: أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ [هود:47]، وقال: فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [هود:46] بمعنى: الطلب؛ لأنَّه طلب نجاةَ ولده.

وكذلك أيضًا يُقال: سأله الوعد، وأسألك الوعد. يعني: طلب وفائه وإنجازه، وكذلك إذا طلب معروفه يكون قد سأله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ [يونس:72] يعني: إحسانًا، فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ [البقرة:61] يعني: طلبتم، وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ [إبراهيم:34] يعني: طلبتُموه.

سأله بالله أن يفعل كذا، يعني: أقسم عليه، والمسؤول المطلوب الوفاء به: إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا [الإسراء:34]، تَسَاءَلُونَ [النساء:1] يعني: يسأل بعضُكم بعضًا، لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ [الكهف:19] أصحاب الكهف يسأل بعضُهم بعضًا، وَلَا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] ولا يسأل بعضُهم بعضًا.

وكذلك يُقال للمُحاسَب: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء:36] بمعنى: المحاسبة، وإلا فأصله السؤال، يعني: الإنسان يُسأل: ماذا عمل بها؟ هي تُسأل أيضًا: كيف كان معها؟

وهذان معنيان يمكن أن تُحمل عليهما الآية، والله أعلم.

وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24]، تساءلوا بالله، يعني: تحالفوا، وقال بعضُهم لبعضٍ: أسألك بالله، وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، فهذا كلّه في السؤال.

أمَّا المادة الثانية التي أشار إليها ابنُ جُزي، حيث قال: "وسال -بغير همزٍ- من المعنيين المذكورين، ومن السَّيل"، يقصد المعنيين المذكورين في مسألة الطلب والسؤال والاستفهام: أنَّها مُسهّلة، سُهِّلت الهمزة، يعني: أنَّ أصله مهموز: سأل، سال، لكن الواقع أنَّ السَّيل أصل مادته: (السين والياء واللام)، وليس الهمزة، يُقال: سال المائعُ يسيل سيلًا، بمعنى: جرى، فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا [الرعد:17]، والسَّيل يُقال للماء الكثير الذي يجري على الأرض: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ [سبأ:16]، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا [الرعد:17]، هذا الماء الكثير الذي يجري يُقال له: سيل، قد يكون من مكانٍ بعيدٍ، في أرضٍ ليس فيها مطرٌ -كما هو معلومٌ-.

وكذلك أيضًا يُقال: أسال المائع، يعني: جعله يسيل، يقول الله -تبارك وتعالى-: وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ [سبأ:12] يعني: النُّحاس الـمُذاب، فقد يكون (سال) في غير الماء.

  1. "مقاييس اللغة" (5/72-73).
  2. "مقاييس اللغة" (5/73).
  3. "مقاييس اللغة" (5/73).
  4. أخرجه البخاري: كتاب الجنائز، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((يُعذّب الميت ببعض بكاء أهله عليه)) إذا كان النوحُ من سُنَّته، برقم (1285).
  5. "مقاييس اللغة" (5/ 11).
  6. "مقاييس اللغة" (5/ 11(.
  7. "مقاييس اللغة" (5/ 7(.
  8. "مقاييس اللغة" (5/ 7(.
  9. "مقاييس اللغة" (5/55).
  10. "مقاييس اللغة" (5/ 55).
  11. "مقاييس اللغة" (5/ 72).
  12. "مقاييس اللغة" (5/ 72).
  13. "مقاييس اللغة" (5/ 72).
  14. "مقاييس اللغة" (5/ 72).
  15. "مقاييس اللغة" (5/ 72).
  16. "مقاييس اللغة" (5/48).
  17. "مقاييس اللغة" (5/32).
  18. "مقاييس اللغة" (3/128).
  19. "جامع المسائل" لابن تيمية، ط. عالم الفوائد - المجموعة الثالثة (ص297).
  20. "هداية الحيارى في أجوبة اليهود والنصارى" (1/251).
  21. "مقاييس اللغة" (3/129).
  22. "مقاييس اللغة" (3/112).
  23. "مقاييس اللغة" (3/112).
  24. "تفسير ابن كثير" ت: سلامة (1/213).
  25. "مقاييس اللغة" (3/79).
  26. "مقاييس اللغة" (3/91).
  27. "مقاييس اللغة" (3/124).

مواد ذات صلة