الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(14- ا) حرف الباء من قوله بعد إلى قوله بدا
تاريخ النشر: ٢٢ / محرّم / ١٤٣٦
التحميل: 2445
مرات الإستماع: 2006

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير التسهيل لابن جُزي

معاني اللغات (الغريب)

(14- أ) حرف الباء من قوله: بَعُد إلى قوله: بدا

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا، ولوالدينا، ولشيخنا، والحاضرين، والمستمعين، أما بعد:

فيقول الإمام ابن جُزي الكلبي -رحمه الله تعالى-: بَعُد: له معنيان: ضد القُرب، والفعل منه: بَعُد بضم العين، والهلاك والفعل منه بكسرها، ومنه: كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ هود: 95.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله: بَعُد له معنيان: ضد القُرب، والهلاك، وأما ابن فارس فيُرجع ذلك إلى أصلين: الأول: خلاف القُرب، ومقابل: قَبْل، ويَذكر أيضاً ويشير إلى معنى الهلاك.

بَعُد له معنيان: ضد القُرب، والهلاك، وأما ابن فارس فيُرجع ذلك إلى أصلين: الأول: خلاف القُرب، ومقابل: قَبْل، ويَذكر أيضاً ويشير إلى معنى الهلاك.

 

فالمعنى الأول الذي هو ضد القُرب، يقول: الفعل منه: بَعُد.

والمعنى الثاني وهو الهلاك، والفعل منه يقول: بَعِد، هذا في النسخة الثانية، النسخة الإماراتية، يقول: والفعل منه: بَعِد: بكسرها، ومنه: كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُهود: 95، بَعِد أي: هلك.

وأما الذي يقابل كلمة قبْل فكقولهم: جاء من بَعْد، كما يقال: جاء من قبْل، يعني: بعد ذلك، وقبل ذلك، فهما متقابلان.

فقوله -تبارك وتعالى-: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا آل عمران: 30، "بعيدًا" هذا يقابل القُرب، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًاالنساء: 60، هذا يقابل القُرب، وكذلك في قوله -تعالى-: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًاالنساء: 116.

وأما معنى الهلاك فكقوله -تبارك وتعالى-: وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ هود: 44، فهذا للهلاك.

طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ الروم: 4، هذه التي تقابل: لفظ قبل، "من قبل ومن بعد"، فهذه ليست بمعنى: القُرب، وليست بمعنى: الهلاك.

وهذه المادة جاءت -على كل حال- في القرآن الكريم في مواضع كثيرة جدًّا وفي استعمالات بالإضافة، وبغير الإضافة، كقوله: الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ البقرة: 27، "من بعد" هذه التي تقابل: من قبل، ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ البقرة: 52، تقابل: من قبل، إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي البقرة: 133، تقابل: من قبل.

فصار عندنا معنى: الهلاك، وأيضاً ما يقابل: القُرب، وهو البُعد، وكذلك ما يقابل: قبل، فهذا هو الأصل الثاني الذي أشار إليه ابن فارس -رحمه الله-، أي: مقابل: قبل.

طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ التوبة: 42، هذا يقابل: القُرب، وهكذا في قوله: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ الزخرف: 38، هذا يقابل: القُرب أيضاً، فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا سبأ: 19، على القراءات فيها: بَاعَد، وغير ذلك، كل ذلك يقابل: القُرب، فهو البُعد الذي يقابل: القُرب.

قال -رحمه الله تعالى-: بلاء: له معنيان: العذاب، والاختبار، ومنه: وَإِذِ ابْتَلَى البقرة: 124، وَنَبْلُوكُمْ الأنبياء: 35.

هنا جعل له هذين المعنيين: العذاب، والاختبار، وابن فارس -رحمه الله- يُرجع ذلك إلى أصلين:

الأول: إخلاق الشيء.

والثاني: نوع من الاختبار.

فالأول الذي هو إخلاق الشيء يقال: بَلِي الثوبُ يَبْلى، يعني: صار رثًّا خلِقاً، ويقال: بِلًى وبِلَاءً، وجمع ذلك يقال: خُلْقان، والواحد يقال له: خَلِق، ولا زالت هذه مستعملة إلى اليوم: ثوبٌ خَلِق، أي: رث، وقديم، وبالٍ، ومنه: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى طه: 120، فهذا بمعنى: إخلاق الشيء، فالشيء القديم يقال له ذلك.

وأما ما يتعلق بالاختبار فيقال: البَلاء، فالبَلاء بمعنى الاختبار، فهذا -على كل حال- كما تقول: بلوتُه يعني: اختبرتُه، بلوتُه بَلْوًا وبلاءً يعني: امتحنتُه، وابتليته وأبليته، هذا كله بمعنى: الاختبار، وهذا الابتلاء والاختبار يكون بالخير والشر، وبالمحبوب وكذلك أيضاً بالمكروه.

وبعض أهل العلم يُرجع ما يتصل بهذا المعنى إلى الاختبار، أو نتيجته، أي: نتيجة الاختبار سواء كانت حسنة أو سيئة، وقد يُطلق ذلك على السبب الموصل إلى هذه النتيجة، فهذا كله قد يُعبَّر عنه بهذه اللفظة، يقول الله   -تبارك وتعالى-: وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ البقرة: 49، هنا بمعنى: الاختبار، وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ البقرة: 49، والمفسرون قد يذكرون معانيَ مقاربة أو مغايرة، والواقع أنها ترجع إلى هذا، قال: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا الأنفال: 17، البلاء الحسن هنا ما هو؟ النصر، يعني: يفسرونه هنا بالنصر، وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا الأنفال: 17يعني: ينصرهم، فهذا هو البلاء الحسن في هذا الموضع، لكن الواقع أن هذا يرجع إلى معنى: الاختبار، فهو ينصرهم هذا النصر على الأعداء؛ ليختبر شكرهم وحالهم كيف تكون بعد ذلك، كيف تكون بعد النصر، والغلبة، والظفر، فالناس يُقلَّبون في هذا، فيظهر حال العبد في حال السراء والضراء، وقال: وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاءٌ مُبِينٌ الدخان: 33، وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ البقرة: 124، هذه واضحة أنها بمعنى: الاختبار، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ البقرة: 155، فهذا كله بمعنى: الاختبار، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ محمد: 31، نختبر.

طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ يونس: 30، يعني: هنا تتكشف لها الحقيقة، ما علاقته بالابتلاء؟ يعني: كما يكشف الابتلاء الحقيقة، الابتلاء يكشف الحقائق، ويظهر التمحيص، يُمحَّص الناس ويتبين الصادق من الكاذب، هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ يونس: 30، ويمكن أن يقال: "تبلو" تختبر "كل نفس ما أسلفت"، فوجه ارتباطه عند من يعبر عنه بغير ذلك: أنه يتجلى له، ويظهر ما كان عليه من الحال والاعتقاد والعمل، كما يكشف الابتلاء الحقائق، ويُظهر المخبآت، وهذا ظاهر، وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ الأنبياء: 35، هذا الابتلاء بالسراء والضراء، وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ الأعراف: 168.

قال -رحمه الله تعالى-: بِرّ: له معنيان: الكرامة، ومنه: بر الوالدين، وأَنْ تَبَرُّوهُمْ الممتحنة: 8، والتقوى والجمع لخصال الخير، ومنه: وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى البقرة: 189، ورجل بارٌّ وبَرٌّ، والجميع: أبرار، والبَرُّ: من أسماء الله تعالى.

هذه الباء، والراء، والحرف المضعف، أرجعه ابن فارس -رحمه الله- إلى أربعة أصول:

الأول: الصدق، نحن نقول: صدق فلان وبَرَّ، ونقول: برتْ يمينه، يعني: صدقتْ يمينه، أبرّها -أبرّ اليمين- يعني: أمضاها على الصدق، وتقول: برَّ الله حجك، وبرَّ الله عملك، وتقول: حجة مبرورة، يعني: يرجعونها إلى معنى: الصدق، يقولون: قُبلت قبولَ العمل الصادق، وهكذا أيضاً: فلان يَبَرُّ ربه، يعني: يطيعه، فيرجعونه إلى معنى: الصدق؛ لأن المعاملة مع الله لا تكون إلا بالصدق، حتى قولنا: هو يَبرُّ قرابته يعني يقولون: أصله: الصدق في المحبة، يعني: أن مبنى هذا البر بالقرابة إنما هو: الصدق في المحبة، يعني: ليس لشيء آخر، فهذا كله يرجع إلى معنى: الصدق.

وكذلك أيضاً: حكاية صوت، هذا المعنى الثاني عند ابن فارس -رحمه الله-، يقول: ومنه قول العرب -هذا ليس في القرآن-: هو لا يعرف هِرًّا من بِر، ويقولون: لا يعرف هِرًّا من بَر، فالهِر ما معناه؟ لا يعرف هِرًّا من بِر، لا يعرف هِرًّا من بَر، ما هو المقصود بالهِر؟ يعني: دعاء الغنم، يقال له ذلك، حكاية صوت، يعني هو يقول لها عبارةً هذه حكايتها، وكذلك أيضاً البَر حينما يُصوِّتُ بها إذا سيقت، يقول لها ذلك، يقول لها: بَر، فهذه حكاية صوت، ويقولون: البربرة: كثرة الكلام، فهي ترجع إلى هذا، ورجل بربار يعني: كثير الكلام.

والأصل الثالث الذي ذكره هو: خلاف البحر، وهو معروف، البَر.

والأصل الرابع: أنه نبت، ومنه: البُر المعروف، الحنطة، ويقال أيضاً لغير ذلك، لغير البُر، مثل: حمل الأراك يقال له: برير، وكذلك يقال البرير لما أدرك من ثمر شجر العضاه، الشجر الذي له شوك، معروف في بلاد الحجاز على أنواعه المختلفة، يقال له: برير.

على كل حال: الذي عندنا في القرآن هو ما يتعلق بمعنى: الصدق، وكذلك: خلاف البحر.

فابن جُزي -رحمه الله- ذكر معنى: الكرامة، قال: ومنه: بر الوالدين، فإذن: فلان يَبرُّ قرابته عند ابن جُزي بمعنى: يكرمهم، ولا يختص هذا بالقرابة وبالوالدين، وإنما يقال فيما هو أوسع من ذلك، يعني: الإكرام والإحسان يقال له: بِر؛ ولهذا فسره القرطبي -رحمه الله- بأنه: الاتساع في الإحسان والزيادة، قال: فلذلك سُميت البرية بذلك، أي: البَر؛ لسعتها، فلاتساعها قيل لها: بَر وبَرية.

والبِر عموماً هي: كلمة جامعة لخصال الخير، وقد مضى في الأسبوع الماضي في الكلام على أسماء الله الحسنى الإلمام بشيء من ذلك، في معنى اسم الله: البَر، فهو واسع العطاء والإفضال على عباده - وتقدست أسماؤه.

فهنا ابن جُزي جعله بمعنى: الكرامة، وأيضاً: التقوى، والجمع لخصال الخير، هذا يُرجعه ابن فارس إلى معنى الصدق، باعتبار: أن المعاملة مع الله مبناها على الصدق، وكذلك الإحسان إلى القرابة، وما إلى ذلك، مبناه على: الصدق، لا مجرد المصانعة، أو التزلف، أو أن يفعل ذلك رجاء نفع منهم يطلبه، أو خوف الضر، فعنده أن هذا لا يقال له: بِر، وإنما يقال له: بِر إذا كان مبناه على الصدق، وكذلك المعاملة مع الله لا يقال لها: بِر إلا إذا كان مبناها على الصدق، وأن لا يكون ذلك نفاقاً، أو رياءً، أو نحو ذلك، فلا يُسمى بهذا الاعتبار بِرًّا، هذا أصل الاستعمال، أصل المادة، وهذا كما قلت: مهم لطالب العلم، لكن المعنى المباشر في الموضع المعين يمكن أن يُعبر عنه بعبارة قريبة، هي أعلق بهذا الموضع.

ففي قوله -تبارك وتعالى-: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ مريم: 14، هذا بمعنى: بِر القرابة، الذي هو بمعنى: الإكرام، والإحسان، هذا المعنى المباشر، ومرجع ذلك ومبناه على الصدق، لكن هنا ما نقول: وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ مريم: 14، يعني: صادقاً، ليس هذا هو المراد، وإنما أصل المعنى، وكذلك: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي مريم: 32.

وقوله -تبارك وتعالى-: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ البقرة: 177الآية، هذا الذي ذكر ابن جُزي -رحمه الله- في معناه: التقوى، فالبِر: العمل الصالح الذي يحبه الله -تبارك وتعالى-، فهذه بمعنى: خصال الخير، والمعروف.

فكلمة البِر من أجمع الكلمات، وقد تكلم على معناها جمع من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-، وتجدون أيضاً الشيخ عبد الرحمن بن سعدي في كتابه القواعد الحسان، يذكرون مثل هذه المعاني التي هي من قبيل الحقائق الشرعية، مثل: البر في القرآن ما المراد به.

طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى البقرة: 189يعني: البِر: تقوى من اتقى، البِر هو: التقوى، العمل الصالح الذي يُرضي الله -تبارك وتعالى-، وقوله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ آل عمران: 92، لاحظ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ، فابن فارس يُرجع مثل هذا إلى أصل المعنى، وهو: الصدق، باعتبار المعاملة مع الله -تبارك وتعالى-، لكن المعنى المباشر هنا لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ يعني: المراتب العالية حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، هذا لا ينافي ما سبق، ولا يخرج عن المعنى المذكور سابقاً، فالبر: كلمة جامعة لخصال الخير، لن تنالوا هذه المرتبة بحيث يوصف الإنسان بذلك فيقال: هو بارٌّ، أو بَرٌّ، أو من أهل البر، أو يصل إلى مراتب البِر، حتى ينفق مما يحب؛ ولذلك ابن فارس حينما يقول: يرجع إلى معنى الصدق، فإن الذي ينفق مما يحب يكون صادقاً ولابد؛ ولذلك قيل: إن الصدقة قيل لها: صدقة؛ لأنها تُصدِّق دعوى الإيمان، فالمال عزيز، وكذلك قيل: الشهادة للذي يقتل في سبيل الله، قيل لها: شهادة؛ لأن هذا برهان على صدق دعواه الإيمان، هذه أعظم؛ ولهذا قال النبي ﷺ: (الصدقة بُرهان)([1])، فدعوى الإيمان سهلة، لكن حينما ينفق أغلى ما يملك، وهي: المُهجة، وقرين المُهج: المال، فذلك يُصدِّق دعوى الإيمان.

طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى المائدة: 2، البِر هنا المقصود به: الخير، والعمل الصالح، وقوله: إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ الطور: 28، كما قلنا: واسع الفضل والعطاء والإحسان إلى عباده، وفُسر أيضاً بمعنى: الصدق، وغير ذلك من المعاني التي ذكرناها في الأسماء الحسنى، فكل ذلك صحيح، وقوله: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ الانفطار: 13، لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ آل عمران: 92، فهؤلاء هم: الأبرار، أصحاب المراتب العالية في الإيمان، أهل البر، أهل العمل الصالح، أهل التقوى، كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ المطففين: 18، فالبَرُّ هو: كثير الطاعة، يقال: فلان بَرٌّ يعني: كثير الطاعة، قال: ويجمع على: أبرار، والبارُّ هو: من يصدر عنه عمل البِر، وتصدر عنه الطاعات، ويجمع على: بررة، بَرٌّ وأبرار، وبارٌّ وبررة.

طيب، قوله -تبارك وتعالى-: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا البقرة: 224، "تبروا" هنا بمعنى: الإحسان، وصنع المعروف، والصلة للقرابات، وما إلى ذلك، يعني: لا تجعلوا الله لأجل الحلف به حاجزاً يمنعكم من صلة ذوي القرابات والإحسان إلى الناس، فالبِر هنا بمعنى: الصلة والإحسان.

طيب، في قوله: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا المائدة: 96، هذا المعنى الآخر الذي يقابل: البحر، هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يونس: 22، هذا واضح، لا إشكال فيه.

على كل حال: الذي في القرآن هو ما يرجع إلى معنى: الصدق، وأما المعاني التي ذكرها ابن جُزي -رحمه الله- فكل ذلك يرجع إلى معنى: الصدق عند ابن فارس -رحم الله الجميع-، لكن هنا ابن جُزي لم يذكر معنى البَر الذي هو يقابل: البحر؛ ربما لوضوحه فلا يخفى على أحد، مع أن الذين يتكلمون في الغريب، وكما ترون ابن جُزي -رحمه الله-، وعامة الذين يكتبون في الغريب يذكرون أشياء قد لا تدخل في الغريب، يعني: واضحة جدًّا، لكن كأنهم ينظرون إلى ما يمكن أن يوجد فيه أدنى توقف لدى قارئ القرآن فيدخلونه فيه، والمسألة نسبية على كل حال، مسألة الغرابة نسيبة، كذلك ما يقال مثلاً من مُشكِل الإعراب، ما هو المُشكِل؟ فهناك مُشكِل على أهل العلم، وهناك مُشكِل على من له لربما شيء من الإلمام في النحو، ولا عبرة بمن هو دون ذلك.

قال -رحمه الله تعالى-: بات: معروف، ومصدره: بيات، وبيّت الأمر: دبره بالليل.

بات: يقول: معروف، يعني: المعنى ما يخفى، والمصدر: بيات، هذه المادة يُرجعها ابن فارس -رحمه الله- إلى أصل واحد، وهو: المأوى، والمآب، ومجمع الشمل، ومنه البيت، قيل له ذلك؛ لأنه مأوى لصاحبه، مأوى للإنسان، وأصل ذلك يقولون: إنه مأواه بالليل، بيت؛ لأنه يبيت فيه، فصار ذلك يقال لما أُعد للسكن مطلقاً، يقال: بيت، وإلا فالأصل: مأواه بالليل، وسواء كان هذا البيت من الشَّعر، أو الوبر، أو كان من المَدر، أو كان من البناء، بأي نوع كان، كالطين، وغيره كالحجارة، كل هذا يقال له: بيت، وهكذا أيضاً قالوا لبيت الشِّعر وسُمي بهذا بأي اعتبار؟ كأنه من قبيل التشبيه؛ لأنه يجمع الألفاظ، وينظم هذه الألفاظ والحروف، ويركب منها المعاني، فهذا يقال له: بيت، بيت من الشِّعر.

على كل حال: نحن نقول: بات الرجل يبيت، يعني: أدركه الليل، هذا الأصل، ويقال: بات يفعل كذا، إذا قضى الليل أو أغلب الليل يعمل ذلك، بات يقرأ القرآن، بات يصلي، يعني: قضى عامة الليل في الصلاة.

وأما المعنى الآخر الذي أشار إليه ابن جُزي -رحمه الله-: بيّت الأمر: دبره بالليل، فهو لا يخرج عن هذا، يقال: هذا أمر مُبيَّت بليل، يعني: مُدبر بليل، وكذلك ما يُقصد به: أنه دبره بخفاء، يعني: قد لا يكون دبره بالليل، دبره بالنهار؛ لكن لأن الليل محل الخفاء قيل: دُبِّر بليل، هذا أمر دُبِّر بليل، يعني: فيه خفاء، فالليل هو الأصل بذلك؛ لظلامه، وكذلك أيضاً يقال: بيّت القوم، يعني: في الغزو والحرب، فالتبييت تجدونه في كتب الفقه والسير، والسير ليست تراجم، وإنما ما يتعلق بالجهاد، وأحكامه، وتوابعه، يقال: التبييت، ما حكم التبييت؟ يعني: الإيقاع بالقوم ليلاً، الإغارة عليهم ليلاً، ماذا يقال لهذا؟ هذا يقال له: بيّته، ويقال: أهجَدَهم بالليل، من الهُجود، يعني: بيّتهم ليلاً، فهذه مستعملة إلى اليوم، فهذا حينما يكون مفاجئاً للإغارة، وهم حال كونهم غارِّين في النوم.

فقوله: قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ النمل: 49، فهذا بمعنى: التبييت، يعني: لنباغتنه وأهله بالإهلاك ليلاً، وفي قوله -تبارك تعالى-: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ الأعراف: 4، بَيَاتًا هذا البيات: إما أنه مصدر من بات، يعني: وقت البيات، فكأنه قال: ليلاً، وإما اسم بمعنى: التبييت، يعني: الإيقاع بالعدو فجأة، جاءها بأسنا بياتاً يعني: تبييتاً لهم، يعني: وهم على غفلة في حال غرة، والمعنى في النهاية يرجع إلى شيء واحد؛ لأن الذي يأتيهم في الليل يكون هؤلاء في حال من الغفلة في نومهم، وقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ الأعراف: 97، كذلك أيضاً، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا يونس: 50، كذلك، وقوله: فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ لاحظ هنا: بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ النساء: 81، يعني: دبروا بليل، بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، أو دبروه في خفاء، كما ذكرنا سابقاً، ولكن لمّا كان ذلك يكون عادة في الليل قيل: عُبر بذلك، يعني: يُدبرون خلاف ما تقول، {بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ}، فهذا إذا كان بتدبير وإدارة بينهم، وقد يكون هذا التبييت يبيته المرء في نفسه، تقول: فلان بيّت خلاف ما قيل له، أو ما طُلب منه، أو ما أُمر به، بيّت أمراً في نفسه.

على كل حال: هذا أصل الاستعمال: أن ذلك يرجع إلى المبيت في كل استعمالاته، كالبيت، والبيات، والتبييت، وبيَّت، كقوله -تبارك وتعالى-: وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ النساء: 108، وقوله: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا الفرقان: 64، يعني: يقضون ليلهم في الصلاة بين سجود وقيام، فهذا وصف لهم بإحياء الليل.

قال -رحمه الله تعالى-: بغتة: فجأة.

البغتة ترجع إلى هذا المعنى: المفاجأة أو الفجأة، فقوله: حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً الأنعام: 31يعني: فجأة، أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ الأنعام: 44، قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الأنعام: 47يعني: فجأة، أو كان لذلك مقدمات يعرفون العذاب بها، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً الأعراف: 187، هذه الساعة، كما ذكر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في الرجلين اللذيْن يتبايعان الثوب([2])، وكذلك أيضاً ذاك الذي يحلب ناقته([3])، والآخر الذي يُصلح حوضه([4])، فتفاجئهم الساعة، كما قال: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يوسف: 107، فالبغت هو: أن يُفاجَأ الإنسان بالشيء.

قال -رحمه الله تعالى-: بُروج: جمع بُرج، وهو: الحصن، وبروج السماء: منازل الشمس والقمر.

لاحظ هنا أنه ذكر معنيين: الحصن، ومنازل الشمس والقمر، هذه المادة يُرجعها ابن فارس -رحمه الله- إلى معنيين، أو إلى أصلين:

الأول: البروز، لاحظ هنا ابن جُزي ما ذكر أصل المعنى، وإنما يذكر المعنى المباشر، فالأصل: البروز والظهور، ولا شك أن هذا أصل تدور عليه كثير من استعمالات هذه المادة، فأصل ذلك يرجع إلى معنى: الانكشاف والبروز، ولهذا نقول البرج؛ لظهوره وانكشافه، والمباني المرتفعة يقال لها: أبراج، وبُرج المياه، ونحو ذلك، هذا كله يقال له: بُرج؛ لظهوره، وانكشافه، فبَرَجَ الشيءُ إذا ظهر وارتفع، ومن هنا قيل للانكشاف: بروج، ويقال للمرأة التي تُظهر مفاتنها: متبرجة، وهكذا يرجع إليه استعمالات أو إطلاقات أو عبارات السلف في تفسير بعض المواضع من كتاب الله -تبارك وتعالى- كقوله -تبارك وتعالى-: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى الأحزاب: 33، كل ما قالوه في ذلك صحيح، يعني: بمعنى: أنها مثلاً التي تمشي في وسط الطريق، هذه من الظهور والانكشاف، لا تلصق بحافات الطريق حياء ومباعدة من الرجال، وكذلك أيضاً التي تعمل مخالطة للرجال متبرجة ولو كانت مستترة لا يُرى منها شيء؛ لأنها تكون قد ظهرت وبرزت، فيقال: متبرجة بهذا الاعتبار، والتي تُظهر مفاتنها يقال لها: متبرجة؛ ولهذا قالوا: أصل التبرج هو: التكلف في إظهار ما يخفى، ثم خُص بتكشف المرأة في غالب الاستعمال، وتجد في كلام أئمة اللغة كالأزهري وغيره، تجد أمثال هذه العبارة، يقال: تبرجت المرأة إذا أظهرت وجهها، فهي: متبرجة، ومن هنا قيل أيضاً: البارجة والبوارج للسفن الكبار، فيقال: هذه بارجة، ويقال للسفن الحربية أيضاً: بوارج، منذ القدم، يعني: هذا استعمال قديم جدًّا، يقال للسفن الحربية: بوارج، فهذا الأصل الأول الذي هو: الظهور والبروز.

ويقال أيضاً: الوَزَر والملجأ، وهو: الأصل الثاني، فالبُرج يقول: واحد بروج السماء، وأصل البروج: الحصون والقصور، يعني: لو أن أحداً أراد أن يجمع أصل المعنى يمكن أن يقول: العلو والارتفاع والانكشاف، فهذه المرأة التي تخرج متبرجة هي قد برزت وظهرت وانكشفت، والبرج والبارجة والبوارج كذلك، فالبروج بمعنى: القصور؛ لارتفاعها وظهورها، وبروج السماء أيضاً كذلك، حتى إن بعضهم فسر البروج التي في السماء بمعنى: القصور، والبروج تقال أيضاً: لما يكون من الحصون، وما يشبهها، يعني: في السابق كانوا يبنون حائطاً يحيط بالمدن وبالبلد ويضعون عليه أبراجًا، فهذه قيل لها: أبراج؛ لارتفاعها، فهي مواضع مرتفعة في الزوايا، وبعض النواحي، فيقال لها: أبراج؛ لظهورها وانكشافها؛ ولهذا فإن بعض أهل العلم يُرجع جميع استعمالات هذه المادة إلى أصل الظهور والانكشاف، ويربط بها بروج السماء، وما إلى ذلك، والله تعالى أعلم، وهذا له وجه.  

طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ النساء: 78، البروج هنا معناها: الحصون، وهكذا أيضاً: وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا الحجر: 16، هي: منازل الشمس والقمر، تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا الفرقان: 61، وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ البروج: 1، يعني: منازل الشمس والقمر، وبعضهم يقول: الكواكب، وبعضهم يقول: النجوم، وبعضهم يقول: القصور، يعني: كأن هذه المنازل التي ينزل فيها الشمس والقمر، وهي: اثنا عشر منزلاً، كأنها قصور تنزل فيها، وقوله -تبارك وتعالى- وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَىالأحزاب: 33، يعني: التكشف بصوره المتنوعة، بالمخالطة، أو إظهار المفاتن، أو غير ذلك؛ ولهذا بعضهم يقول: المرأة المتبرجة مثلاً هي الخرّاجة الولّاجة، يعني: كثيرة الخروج، فهذا كله مما يدخل فيه، فالتي تبدي وجهها متبرجة، والتي تبدي مفاتن الجسد متبرجة، والتي لا تحتجب متبرجة، والتي تمشي في وسط الرجال متبرجة، والتي تعمل بين الرجال وتخالطهم يقال لها: متبرجة، كل ذلك من التبرج، وقال: غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ النور: 60، هذا في القواعد من النساء، بهذا القيد، يعني: غير مظهرات للزينة، فهو يرجع إلى معنى الظهور، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: بيْن: ظرف، وبين يدي الشيء: ما تقدم قبله، والبيْن: الفراق والاجتماع؛ لأنه من الأضداد.

هذه المادة ومادتان بعدها بينها ارتباط، فهنا: بيْن يقول: ظرف، وبين يدي الشيء: ما تقدم قبله، وابن فارس -رحمه الله- يُرجع أصل هذه المادة إلى: بُعْد الشيء وانكشافه، يقول: فالبين: الفراق، يقال: بان يبين بيْناً وبينونة، فبان يعني: انفصل، فهذا بمعنى: أنه بعُد كل جزء عن الآخر، فالبين: الافتراق، وكذلك أيضاً يقولون: البَيون هي: البئر البعيدة القعر، لاحَظوا البُعد، والبِين: قطعة من الأرض على قدر مد البصر، بقدر مد البصر، يقال لها: بِين، حينما يقول مثلاً: اشتريت بِيناً، يعني: أرضًا بهذا المقدار، أرضًا كبيرة على قدر مد البصر، وكذلك أيضاً -كما سيأتي- يقال: بان الشيء: إذا اتضح وانكشف، فابن فارس يُرجع ذلك إلى: البُعد والانكشاف، ومن هنا يقال للفراق: البينونة، ويقال في الطلاق: البينونة الصغرى، والبينونة الكبرى، ويقال: بانت منه امرأته، فهذا كله بمعنى: الافتراق.

يقول ابن جُزي: بيْن: ظرف، وبين يدي الشيء: ما تقدم قبله، يعني: هذا مثال، بين يدي الشيء، وبين يدي الشهر، وبين يدي العام، وبين يدي كذا، يعني: ما تقدم قبله، أقول مثلاً: أذكر بين يدي هذا الدرس تنبيهاً، أو استدراكاً، أو تصحيحاً للنسخة، فبين يديه يعني: ما يتقدمه، ويكون قبله، وهكذا البيْن بمعنى: الافتراق؛ ولهذا يقال: غراب البيْن، وكانوا يتشاءمون بالغربان يقول شاعرهم:

مَشائيمُ ليسوا مُصلحين عشيرةً *** ولا ناعبٍ إلا ببيْنٍ غرابُها

ولا ناعبٍ إلا ببينٍ، يعني: هو: يُنذر بالفراق؛ لأنهم إذا سمعوا الغراب، أو صوته، أو كذا تشاءموا به أنّ ذلك مُنذر بوفاة أحد، ووقوع مكروه، والافتراق بعد الاجتماع، ونحو ذلك.

فابن جُزي -رحمه الله- يقول بأنه بمعنى: الافتراق أو الفراق والاجتماع، فهو من الأضداد، كيف يكون من الأضداد؟ يعني: البين بمعنى: الاجتماع، الوصلة، والصلة، والاتصال، والتئام الشمل، والاجتماع، وسيأتي ما يوضحه في الأمثلة.

طيب، في قوله -تبارك وتعالى-: مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ الصف: 6، هنا بمعنى: قبله، لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ هذا المثال بمعنى: قبل، وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الحجرات: 1، لا تسبقوه برأي، ولا اقتراح، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً المجادلة: 12يعني: قبل النجوى، لكن قوله -تبارك وتعالى-: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا الكهف: 61، لاحظ: فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا الكهف: 61يعني: المجمع الذي يجمع بينهما، هذا: ظرف، وفي قوله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ النساء: 92، افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ الأعراف: 89، هذا كله ظرف، قوله -تبارك وتعالى-: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ الأنفال: 1يعني: ما بينكم، أو الأمر بينكم، أو الأحوال الواقعة بينكم، أو حقيقة ما بينكم، أصلحوا ذات بينكم، الوصلة بينكم، لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ الأنعام: 94يعني: وصلكم ومودتكم، أو تفرق شملكم؛ هنا لأنه عبر بـ"تقطّع"، وإلا فالبين هنا بمعنى: الوصل، البين قلنا: يأتي بمعنى: الوصل والاتصال والاجتماع، ويأتي بمعنى: الافتراق، فتَحوَّلَ اجتماعُهم إلى فرقة.

طيب، هذا ما يتعلق بـ"بيْن"، وما بعده كما قلت: له اتصال به.

قال -رحمه الله تعالى-: بينات: براهين من المعجزات، وغيرها، ومُبيِّنة: من البيان.

لاحظ: قلنا: إن ابن فارس -رحمه الله- يُرجع أصل المادة إلى معنى: بُعد الشيء وانكشافه، فهنا البينات تكون باعتبار: الظهور والوضوح.

فهنا ابن جُزي يقول: براهين من المعجزات، هذا تفسير مباشر للفظة، وإلا فالبينات هنا عبر عنها وقال: براهين؛ لكونها في غاية الوضوح، فإن ما يأتي به الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- لا لبس فيه؛ ولهذا موسى ﷺ لما واعد فرعون قال: وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى طه: 59، بحيث لا يبقى هناك التباس فيقال: هذا وقع في ظلام المغرب ما رأيت جيدًّا، الصورة غير واضحة، لا، بل في الضحى، وتأمل قوله -تبارك وتعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى البقرة: 159، البينات قيل لها: بينات؛ لظهورها وانكشافها، وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ البقرة: 185، فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ البقرة: 209، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الإسراء: 101، يعني: واضحات، وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ الحج: 16، وما إلى ذلك، لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ الكهف: 15أي: ظاهر، سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ البقرة: 211واضحة، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ البينة: 1، على الأقوال التي قيلت، سواء قيل: إن المقصود بها النبي ﷺ، أم غير ذلك، كله يرجع إلى معنى: الشيء الواضح الذي لا خفاء فيه.

قال -رحمه الله تعالى-: يُبِين: من البيان، وله معنيان: بيَّنَ غير متعدٍّ، ومُبينٌ لغيره.

على كل حال: هذه في النسخة الأخرى، النسخة الإماراتية، جعلها واحدة تابعة لما سبق، وكما قلت لكم: الثلاث ترجع إلى أصل واحد، لكن هو لما كان يتكلم عن المعنى المباشر ساغ أن يجعل ذلك في كل موضع بصورة مستقلة.

فهنا يقول: من البيان، يعني: يرجع إلى ما سبق، له معنيان: بَيِّنٌ أو بَيَّنَ: غير متعدٍ، بيَّنَ يعني: لا يحتاج إلى مفعول، بمعنى: أنك تقول: الصبح بان وبَيَّنَ لذي عينين، بان الصبح وبَيَّنَ، يعني اتضح، لكن المتعدي تقول: بيَّنتُ الكلام لزيد، يعني: وضحت له، بيّنتُ الكلام، فهذا يحتاج إلى مفعول، فهذا متعدٍّ، بينتُ المسألة، لكن لما تقول: بان الصبح، بَيَّنَ الصبحُ يعني: ظهر، بان الحق بمعنى: استبان، أي: ظهر وانكشف، قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ البقرة: 70، هذا متعدٍّ، يعني: يكشف لنا عن صفتها، ويوضحها، وفي قوله -تبارك وتعالى-: إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا البقرة: 160أي: أظهروا ما بينه الله -تبارك وتعالى- للناس معاينة، أو أظهروا ما أحدثوه من التوبة؛ ليقتدي بهم غيرهم، يعني: على هذين القولين: بينوا ماذا؟ بينوا التوبة، أو بينوا يعني: أظهروا الحق الذي لبّسوا به على الناس، وهذان معنيان صحيحان، فمن شروط التوبة في ما يتعلق بالإفساد والتضليل: أنه لابد أن يُبين، إن كان وضع كتباً فينقضها، أو وضع مقالة ينقضها، أو شبهة ينقضها، إلى غير ذلك، فلو أن إنساناً تاب من أمر من الشرور وهو متعدٍّ، مثل: مغنٍّ تاب مثلاً، فما تكفي التوبة بينه وبين الله، فلابد من نقض ما سبق، ونقضه يكون بإتلافه، وإزالته ومصادرته، ومنعه، ونحو ذلك؛ لأن الناس يعلمون الحكم في هذا، لا يلتبس، فذُكر هذان المعنيان، وقوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍالنساء: 19يعني: واضحة لا لبس فيها توضح أمرهن، وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍالنور: 34، يعني: واضحات، أو موضِّحات، مبيِّنات: واضحات في نفسها، هذا غير متعدٍّ، موضِّحات هذا متعدٍّ، هذا يحتمل في مبيِّنات، مبيِّنات يعني: بينات في أنفسهن، أو مبيِّنات للناس يعني: الحق، وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍالزخرف: 18، مُبين: من أبان الرجل إذا أفصح عما في نفسه، وأتى بما يحتج به، فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ النحل: 4، يُبين عن مكنون النفس، ويُظهر ما في نفسه، والذي لا يُبين يقال له: عَيي، ونحو ذلك، يقول الشاعر:

بنفسي وأهلي مَن إذا عَرضوا له
ولم يعتذر عذرَ البريء ولم تزل

***

***

ببعض الأذى لم يدرِ كيف يجيبُ
به ضعفةٌ حتى يقال مريبُ

 

يعني: هو يقول: إنه يسكت حتى يُظن أنه مُريب، هذه واحدة يضربها أهلها -وهذا الشاعر يتغزل بها- ولضعفها وانكسارها لا تستطيع الجواب، فهي لا تُبين، وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ الزخرف: 18، يعني: البكاء يغلبها، فلا تستطيع أن تُبين عما في نفسها، وهكذا في قوله -تبارك وتعالى-: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا [الحجرات: 6]، يعني: تأملوا الأمر وتدبروه؛ ليظهر لكم جليًّا واضحاً، هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ آل عمران: 138، أي: إيضاح وكشف.

قال -رحمه الله تعالى-: بدا يبدو -بغير همزة-: ظهر، وأبديته: أظهرته، والبادي أيضا: من البادية، ومنه: بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ الأحزاب: 20.

على كل حال: يقول: البادي أيضاً: من البادية، من بدا، خرج إلى البادية، وأقام بها، فالبادي من بدا، يعني: خرج إلى البادية، سئلت عائشة -ا- عن البَدو، يعني: هل كان النبي ﷺ يبدو، يخرج إلى البادية؟، فذكرت أنه كان يخرج -عليه الصلاة والسلام- إلى بعض التِّلاع عند إبل الصدقة

 

سئلت عائشة -ا- عن البَدو، يعني: هل كان النبي ﷺ يبدو، يخرج إلى البادية؟، فذكرت أنه كان يخرج -عليه الصلاة والسلام- إلى بعض التِّلاع عند إبل الصدقة

 

([5])، سئلت عن البَدو، يعني: الخروج إلى البادية، وقوله -تبارك وتعالى-: وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ يوسف: 100يعني: من البادية، وقيل لها: بادية؛ لظهورها وانكشافها، وهذا الذي يبدو، ويخرج من البلد هو يظهر، ويبرز منها.

وأما ابن فارس فهو يُرجع هذا إلى معنى: الظهور، ظهور الشيء، قال تعالى: بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الأنعام: 28يعني: ظهر لهم، ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآيَات يوسف: 35يعني: ظهر لهم، وتقول: بدا لي أمر يعني: ظهر لي أمر، وقوله: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ آل عمران: 118يعني: ظهرت، فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ الأعراف: 22يعني: ظهرت لَهُمَا سَوْآتُهُمَا، وفي قوله -تبارك وتعالى-: يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ الأحزاب: 20يعني: لو أنهم خارجون إلى البادية، يعني: يودوا لو أنهم حاصلون في الأعراب، يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يعني: لو أنهم في موقع آخر بعيد في البادية لا ينالهم المكروه، ويسمعون من أخباركم من بُعد ما الذي حصل لكم، وفي قوله تعالى: سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ الحج: 25، أصلها: البادي، من بدا، أي: خرج إلى البادية، أو أقام بها -كما سبق-، لكن هنا أُريد بالعاكف والباد: المقيم والطارئ، كما قلنا: يقال للخارج من البلد ونحو ذلك: بادٍ، فهذا الذي يأتي إلى مكة وليس من أهلها -بل هو من خارجها- يقال له: بادٍ، وليس المقصود أنه جاء من البادية، لكن العاكف هو من كان من أهل مكة، والبادي هو الطارئ عليها، فالمقصود: المقيم والطارئ، وقوله: وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ هود: 27يعني: ظاهر الرأي، فلاحِظْ: بمعنى: الظهور، أي: ظاهر الرأي الذي لا روية فيه، يقولون: هؤلاء سُذّج، وإنما هو شيء لاح لهم، وظهر لهم، فاتبعوه من غير تأنٍّ، وتمعن، وعمق في النظر والتفكير، من غير روية، هكذا يقولون.

والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه. 

 

[1] أخرجه مسلم، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، رقم: (223).

[2] أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب طلوع الشمس من مغربها، رقم: (6506)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، رقم: (2954).

[3] المصدر السابق.

[4] المصدر السابق.

[5] أخرجه أبو داود، كتاب الجهاد، باب ما جاء في الهجرة وسكنى البدو، رقم: (2478)، وصححه الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها: (2/ 56)، رقم: (524).

مواد ذات صلة