الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
(12- ب) حرف الهمزة من قوله أوى إلى قوله أرائك
تاريخ النشر: ٠٨ / محرّم / ١٤٣٦
التحميل: 3134
مرات الإستماع: 2118

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير التسهيل لابن جُزي

معاني اللغات (الغريب)

(12- ب) حرف الهمزة من قوله: أوى إلى قوله: أرائك

                                     

يقول الإمام ابن جُزي الكلبي -رحمه الله تعالى-: أوى الرجل إلى الموضع -بالقصر-، وآواه غيره -بالمد-، ومنه:الْمَأْوَىالنازعات: 39.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فإن أصل هذه المادة: الهمزة والواو والياء يأتي بمعنى التجمع، التَّأَوِّي بمعنى التجمع، كما يقول الخليل بن أحمد.

والمعنى الثاني يقال للإشفاق، وهذه كلمة لا زالت مستعملة عندنا، يستعملها العامة، وهي فصيحة، ترجع إلى هذا الأصل، تقول: أويتُ لفلان، يعني: أشفقتُ عليه، ورحمته، فلان لا يأوي لأبيه، أو لا يأوي لولده، يعني: لا يشفق عليه، ولا يرحمه، يقولونها بتسهيل الهمزة، يقولون: ما ياوي، ولا يعذر، يعني: لا يشفق، ويرحم، ولا يلتمس الأعذار، فيبدو أنها مستعملة في بعض البيئات.

فيأوي بمعنى: يُشفق، فلان يأوي لأهله بمعنى: يشفق عليهم، ويأوي لولده يعني: يشفق عليه، ويأوي لقرابته يعني: يشفق عليهم، بمعنى: الإشفاق، وبمعنى: الرحمة، وأويت لفلان: حينما ترق له، وترحمه، فهذا لا يزال يستعمله الناس إلى اليوم، مثلاً: فلان ما يأوي لأحد، فلان ما يأوي لأبيه، فهذا -على كل حال- معنى.

والمعنى الأول الذي هو التجمع، بمعنى: كون الإنسان يأوي إلى بيته، بمعنى: أنه ينضم إليه، ويرجع إليه، كقوله تعالى: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ الكهف: 10، قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ هود: 43، فالمأوى هو مكان التجمع، وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ يوسف: 69ضمه إليه، وهكذا في قوله: تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ الأحزاب: 51في أزواج النبي ﷺ،وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ الأحزاب: 51يعني: تجمعهن إليك، وتضمهن إليك، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ المعارج: 13ينضم إليها، ويجتمع إليها، جَنَّةُ الْمَأْوَى النجم: 15يأوون إليها، أي: يرجعون إليها، ويصيرون إليها، وقال الشاعر:

أُطوِّفُ ما أُطوِّفُ ثم آوي *** إلى بيتٍ قعيدتُه لَكَاعِ

آوي: يعني أنضم، أو أرجع إلى هذا البيت، ونحو ذلك.

فابن جُزي -رحمه الله- قال: "أوى الرجل إلى الموضع -بالقصر-، وآواه غيره -بالمد-، ومنه: الْمَأْوَى النجم: 15"، لكن ما ذكر المعنى، أليس كذلك؟، على كل حال: هو يرجع إلى هذا، وقوله: مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ آل عمران: 197، يعني: يصيرون إليها، ويجتمعون فيها.

قال -رحمه الله تعالى-: أُفّ: كلمة شر.

قال: كلمة شر، فأُفّ هذه تأتي بمعنى: تكرُّه الشيء؛ ولذلك يقولون: هي: اسم فعل، بمعنى أتذمر، ونحو ذلك، اسم فعل، ليست بفعل، فأُف تدل على تكرّه الشيء.

 

قال: كلمة شر، فأُفّ هذه تأتي بمعنى: تكرُّه الشيء؛ ولذلك يقولون: هي: اسم فعل، بمعنى أتذمر، ونحو ذلك، اسم فعل، ليست بفعل، فأُف تدل على تكرّه الشيء.

 

كما أن أصل هذه المادة: الهمزة والفاء في المضعف -الحرف المشدد الفاء: أُفّ- تأتي بمعنى: الوقت الحاضر، جاء على تَئِفَّةِ فلان، وأَفَفِهِ، وجاء على إِفَّانِهِ أي: على حينه، يقول الشاعر:

على إِفِّ هِجْرَانٍ وساعةِ خَلوةٍ *** من الناس نخشى أعيُنًا أن تطلَّعا

على إِفَّ هِجران، وساعة خلوة، يعني: على حين هجران.

وأُفّ هذه -على كل حال- لها لغات، أوصلها بعضهم إلى عشر، وبعضهم قال غير ذلك، وابن جرير -رحمه الله- ذكر ست لغات لهذه الكلمة، ست: بالرفع منونة، وغير منونة، وكذلك أيضاً: بالخفض بالتنوين، وغير التنوين، وكذلك أيضاً: بالنصب بالتنوين، ومن غير التنوين، ويفسرها بأنها كل ما غلظ من الكلام، وقبُح، وذكر تفرقة عند بعضهم بين الأُفّ والتُّفّ، يقولون: أصل الأُفّ هو وسخ الأظفار، والتُّفّ: كل ما رفعت بيدك من الأرض من شيء حقير، لكن حتى هذا ليس بمحل اتفاق، يعني: البعض يعكس المعنى، لكن هي قيلت في القرآن -والله -تعالى أعلم-: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ الإسراء: 23مقصوداً بها: أدنى ما يكون من الأذى، ولا زال ذلك مستعملاً إلى اليوم، لا تُكلم فلاناً، لا تقل له: أُفّ، فذلك كما في قوله -تبارك وتعالى-: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه الزلزلة: 7، الذرة: صغار الذر، أي: صغار النمل، فهذا معنى الذرة، ولكنه أيضاً يُقصد به: أقل ما يكون من العمل، هذا من جهة المعنى، فكذلك الأُف: أقل ما يكون من الأذى، فتكون هذه اللفظة داخلة في النهي، وكذلك ما كان من قبيل الأذى قلّ أو كثُر، يعني: إن وُجد شيء أقل من أُفّ من الأذى، أو ما يساويها، فضلاً عما يزيد عليها كل ذلك يكون من قبيل المنهي عنه، فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ الإسراء: 23، وهذه يقولها الإنسان الذي يتضجر، يقول: أُف، وهي كلمة لا شك أنها ثقيلة جدًّا على السمع، لاسيما بالنسبة للوالد، أو الوالدة، إنما يفعل الولد ويمتثل ما طُلب منه، ولكنه يقول: أُف، فهذا أشد إيلاماً وإيجاعاً مما لو أنه لم يفعل، وهذه قد لا يشعر بها إلا من سمعها، كثير من الأشياء قد يُتحدث عنها من الناحية النظرية، ولكن حينما تسمع ولداً يقول لوالده: أُف، حينما يُؤمر بشيء، أو يُنهى عن شيء، تُدرك قبح هذه الكلمة، وأن هذا الوالد لو ذهب يزحف ليحقق هذا المطلوب لكان أهون عليه من أن يأمر هذا الولد العاق بهذا الأمر.

على كل حال: الله -تبارك وتعالى- يقول: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا الإسراء: 23، ويقول: أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الأنبياء: 67، ويقول: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا الأحقاف: 17، ومن أراد أن يتوسع في هذا، ويعرف اللغات الأخرى التي تقال فيها فدونه كتب اللغة.

قال -رحمه الله تعالى-: آلاء الله: نعمه، ومنه: آلاءِ رَبِّكُمَا الرحمن: 13.

الآلاء بمعنى: النِّعم، الواحد منها: ألًى، وإلًى، يعني: واحد الآلاء، المفرد منها: ألًى، وإلًى، بالكسر، والفتح، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ الأعراف: 69يعني: فاذكروا نعم الله، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا الرحمن: 16بأي نعم ربكما؟، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى النجم: 55بأي نعم ربك تتمارى؟، وهكذا.

قال -رحمه الله تعالى-: أسف: له معنيان: الحُزن، والغضب، ومنه: فَلَمَّا آسَفُونَا الزخرف: 55.

هنا جعل له هذين المعنيين: الحزن، والغضب، باعتبار: الاستعمال في القرآن، فهو لا ينظر إلى أصل المعنى، لكن معرفة أصل المعنى مهم جدًّا عند الكلام على تفسير هذه المواضع، فهذا يُحتاج إليه؛ لنعرف أن هذا يرجع إلى شيء واحد أو لا، مثل هذا: الحزن والغضب، هل يرجع إلى شيء واحد أو لا؟ هذا يُرجعه ابن فارس -رحمه الله- إلى الفوت، والتلهف، وما أشبه ذلك، الفوت والتلهف، قال الله تعالى: وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ يوسف: 84، فهو يتلهف عليه، فاته هذا الولد المحبوب، فنفسه تتلهف عليه، فهذا بمعنى الحزن، فالنفس حينما تتلهف على فائت وتحزن له تأسف.

وقوله -تبارك وتعالى-: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا طه: 86، الأسف هنا: يمكن أن يُفسر بمعنى: الغضب، فيكون ذلك من قبيل الصفة الكاشفة، يعني: ليست مقيِّدة، وإنما هي صفة كاشفة، تكشف هذا الوصف الذي قبله، وهو الغضب، غَضْبَانَ أَسِفًا طه: 86، ويحتمل أن يكون بمعنى الحزن، جمع بين الغضب والحزن؛ لحال هؤلاء، وما صاروا إليه، لكن قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ الزخرف: 55، المعنى هنا: الغضب، وما جاء في الحديث أن: (موت الفجأة أخذة أسف)([1])أي: غضب.

فهذا الذي يكون من الغضب بمعنى الأسف، يمكن أن يكون باعتبار: تلهف النفس للانتقام، أو نحو ذلك من المعاني، فإن من مقتضيات الغضب، ومن لوازمه: الانتقام، لكنه لا يصح أن يُفسر به، وإنما ذلك يكون من قبيل التفسير باللازم، والله -تبارك وتعالى- صفاته لا تشبه صفات خلقه، فإذا كانوا يقولون: إن الغضب هو غليان دم القلب بالنسبة للإنسان، فإن غضب الله -تبارك وتعالى- لا يمكن أن يُشبه بغضب الإنسان في حقيقته، كما أن ذات الله -تبارك وتعالى- ليست كذات غيره، فكذلك صفاته، ولا داعي لتفسيره بلازمه، أو تأويل هذه الصفة.

قال -رحمه الله تعالى-: إسوة -بكسر الهمزة، وضمها-: قدوة.

يقال: الأُسوة، والإسوة، فهذا بمعنى: القدوة، وأرجعه ابن فارس -رحمه الله- إلى معنى واحد، وهو المداواة والإصلاح، لاحظ الاستعمالات في كلامنا، أو في كلام العرب، تقول: آسيتُ فلانًا، آسيتُه، الآن هذه المؤاساة، أو المواساة في العزاء مثلاً، وفي المصيبة التي حلت به، هذا بمعنى: عزيته، يعني كأنك قلت له: ليكن لك بفلان أُسوة، فقد أُصيب بمثل ما أُصبت به، فرضي، وسلم، فأنت تذكر له في هذه المؤاساة ما يخفف عنه، فمن هنا الأُسوة، تقول: لك أسوة؛ ولهذا ذكر اللهاهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ الفاتحة: 6 - 7، لما ذكر الصراط المستقيم المأمور بسؤال الهداية إليه، ذكر السالكين على الصراط؛ لئلا يستوحش السالك، فله بهم أُسوة، هذا الصراط سلكه أنبياء عظام، ورسل كرام، لست وحدك، فحينما يقال لك: إن هذه العملية، أو هذا الإجراء، أو هذا الدواء أخذه فلان، وأخذه فلان قبلك، فإن ذلك يخفف عنك، لست وحدك الذي تستخدم هذا النوع من العلاج، وهذا النوع من الطب قد سلكه قبلك غيرك، هذا النوع من الدراسة، وهذا النوع من التخصص درس فيه فلان، ودرس فيه فلان، هذه الجامعة درس فيها فلان ممن تأتسي به، ودرس فيها فلان، هذه الكلية تخرج منها فلان، فتنشط النفس، ويخف عنها ثقل ما تتعنّى له، مثل هذا يرجع إلى هذا المعنى، والله تعالى أعلم.

ولهذا قال صاحب الصحاح: إن أصل ذلك هو ما يأتسي به الحزين، ويتعزى به، قال: والأسى -مفتوح ومقصور- وهو المداواة والعلاج، يقول: وهو الحزن أيضاً، والإساء يقولون: هم الأطباء، الإساء جمع الأسِيّ، الطبيب: الأسِيّ، بأي اعتبار؟، باعتبار أن الطبيب يؤاسي، يعني: يُخفف عما يعانيه المريض بالمداواة بالعلاج، فهذا يرجع إلى معنى المداواة والإصلاح الذي اعتمده ابن فارس، وأما صاحب الصحاح فكأنه يميل إلى أن ذلك يختلف، لكن حينما تتأمل هذه اللفظة، وتضم هذه الاستعمالات قد تجد أنها ترجع إلى شيء من هذا، وإن كان يحتاج إلى شيء من التأمل.

فأُسوة: قدوة، ولك في فلان أُسوة: أي قدوة، قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ الأحزاب: 21يعني: قدوة، قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ الممتحنة: 4، قدوة حسنة، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ الممتحنة: 6، فهذا كله بمعنى: القدوة.

والأسوة بعضهم يقول: إنها تقال: للأُسوة الحسنة، وغير الحسنة، تقول: فلان أسوته فلان ممن لا تُحمد سيرته، وفلان يأتسي بفلان ممن لا يكون محموداً مسلكه، فهذا يقال كما يقال أيضاً فيما يُحمد؛ ولهذا قالوا: إن الحسنة تأتي مقيدة: أُسوة حسنة، هكذا قال بعض أهل العلم من المفسرين، قالوا: إنها قُيدت بالحسنة، باعتبار أن الأسوة تقال للحسنة، ولغير الحسنة، فهي: القدوة؛ لذلك فسرها هنا بالقدوة، والقدوة قد تكون حسنة، وغير حسنة، فتقول: فلان صار قدوة سيئة، وأسوة سيئة.

قال -رحمه الله تعالى-: أسَى الرجلُ يأسَى أسًى أي: حزن، ومنه: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ المائدة: 26، فَكَيْفَ آسَى الأعراف: 93.

هناك في الأسوة: الهمزة والسين والواو، وهنا في الأسى: الهمزة والسين والياء، أسى الرجل أسًى يعني: وقع له الحزن، فهذا يرجع إلى هذا المعنى، معنى: الحزن، ولاحظوا صاحب الصحاح هناك في الأسوة قال: وهو الحزن أيضاً، أي: الأسى، يعني: المداواة والعلاج، قال: وهو: الحزن أيضاً، ابن فارس فرق بينهما، وأرجع الأول إلى معنى: المداواة، والإصلاح، فهنا قوله -تبارك وتعالى-: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ المائدة: 68، فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ الأعراف: 93يعني: كيف أحزن؟.

قال -رحمه الله تعالى-: أذان -بالقصر-: إعلام بالشيء، ومنه: الأذان بالصلاة، والآذان -بالمد-: جمع أُذن.

هذه المادة: الهمزة والذال والنون ترجع إلى أصلين، وهما ما ذكرهما ابن جُزي -رحمه الله.

فالأُذُن قالوه: لكل ذي أُذن، والآخر: العِلْم، والاستعمالات تتفرع من هذين، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ الأعراف: 44، أذن مؤذن يعني: أعلم، وهذا المنادي الذي ينادي للصلاة هو: يُعلم بها، وقد ذكرت في بعض المناسبات: أن الأذان يفسره كثير من الفقهاء بأنه الإعلام بدخول وقت الصلاة، وقلت: هذا لا يكون دقيقاً، فإنه يكون بهذا الاعتبار، ويكون أيضاً من قبيل العبادة التي تكون بين يدي الصلاة، من غير قصد إعلام بالوقت؛ ولهذا يؤذن للصلاة ولو بعد خروج الوقت، فلمَّا فاتت النبيَّ ﷺ صلاةُ الصبح، وصلاها بعد خروج الوقت، أذن([2])، وكذلك أيضاً الرجل وحده يؤذن، ويُشرع له الأذان، وكذلك أيضاً يؤذن للصبح الأذان الأول قبل الوقت، قبل دخول الوقت، ومن ثَمَّ فإنه لا حاجة للتقييد لمن أراد التأخير في الصلاة كأن يُبرد بالصلاة   -صلاة الظهر- في الحر، فلا حاجة، أو لا يجب، أو لا يلزم، أو لا يُطالَب المكلف أن يؤذن في أول الوقت، ثم ينتظرون بعد ذلك حتى يُبردوا بالصلاة، لا يلزم، يمكن أن يؤخروا الأذان إلى الوقت الذي يريدون الصلاة فيه، لا إشكال في هذا، والنبي ﷺ قال: (الصلاة أمامك)([3])، لما ذُكِّر بالصلاة، ولم يأمره بالأذان قبل ذلك، والله أعلم.

فعلى كل حال: الأذان يأتي بمعنى الإعلام بالشيء، كالأذان بالصلاة.

أما الآذان فجمع أُذن.

قال الله -تبارك تعالى-: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ يوسف: 70نادى منادٍ يُعلِم بهذا، وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ الحج: 27من الأذان، لكن قوله -تعالى-: يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ البقرة: 19يعني: جمع أُذن، قال: وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا الإسراء: 46، {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ} الكهف: 11، وهكذا.

هل يوجد ارتباط بين هذا وهذا؟ نعم، يوجد نوع ارتباط عند التأمل، يوجد نوع ارتباط، يوجد نوع مقاربة، وذلك أنه بالأُذن يقع علم كل مسموع، فهي: الآلة التي يحصل له العلم بذلك عن طريقها؛ ولذلك قال اللهوَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ الإسراء: 36، فذكر السمع، فهو آلة للعلم، فطريق العلم السمع، وهو أكثر وأبلغ ما يحصل به العلم الذي يصير إلى القلب، وهو الموضع الذي يجتمع فيه العلم، ويستقر.

فالأذان للصلاة، ولا ينكر أن يكون للوقت أيضاً، فهو إعلام بالوقت، لكن ليس ذلك فحسب، إعلام بالوقت وزيادة، وكثير من الفقهاء يحصرونه، ويقولون: الإعلام بوقت الصلاة، وهو أوسع من هذا.

قال -رحمه الله تعالى-: إذن الله: يأتي بمعنى: العلم، والأمر، والإرادة، والإباحة، وأذِنت بالشيء: علمت به بكسر الذال، وآذَنت به غيري بالمد.

الإِذْن: هذه المادة أرجعها ابن فارس إلى أصلين متقاربين في المعنى، مع التباعد في اللفظ:

الأول: الذي هو الأُذن، أُذن كل ذي أُذن، الذي يُجمع على آذان، الذي مضى آنفاً.

والآخر: العلم، كما سبق، فهذا عنده كله يرجع إلى ذلك، الأذان، والإذن، والأُذن، ووجه التقارب بالنسبة للمعنى مع التباعد في اللفظ هو ما ذكرته: أن الأُذن آلة يحصل بها العلم بالإعلام مثلاً، ونحو ذلك، هكذا قال، والله تعالى أعلم.

انظر إلى هذه الاستعمالات، وما ذكره ابن جُزي -رحمه الله- من هذه المعاني: العلم، الأمر، الإرادة، الإباحة، أذِنتُ بالشيء: علمت به، وآذنتُ به غيري بالمد، عند التأمل لهذه الأشياء: فإنها ترجع إلى المعنى الأول الذي هو: العلم، قال الله -تبارك تعالى-: قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ يونس: 59، أذن لكم هنا هل هو بمعنى: العلم، أو الأمر، أو الإرادة، أو الإباحة؟ أذن لكم يعني: أباحه، وقال: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَالحشر: 5، بإذن الله سواء قيل: الإذن الكوني، أو الإذن الشرعي، والأقرب: أنهما مجتمعان، وأن ذلك بإذن الله الكوني والقدري في هذه الآية، وهكذا أيضاً في قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ طه: 109، يعني: أباح له ذلك، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ النور: 36يعني: أذن بمعنى: أمر، على هذا التفصيل الذي ذكره ابن جُزي -رحمه الله-، أمر أن ترفع، وإلا أذن: الإذن الشرعي، والإذن الكوني، كلاهما داخلان فيه، والله أعلم، فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْالنور: 62يعني: الإباحة، والتوسعة بالانصراف، وهكذا في قوله: لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ التوبة: 43، فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ البقرة: 279، هذا بمعنى: الإعلام، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّيالتوبة: 49، الإذن بمعنى: الإباحة، إباحة القعود، والتخلف عن الغزو، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ الأعراف: 167يعني: آذن، وأعلم، كما قاله ابن جرير -رحمه الله-، وأيضاً من أهل اللغة الأزهري في تهذيب اللغة، وهو من أجلّ كتب اللغة، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْإبراهيم: 7، تأذن بمعنى: آذن وأعلم، كما سبق، وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ البقرة: 102يعني: بعلمه، كما قال الأزهري في بِإِذْنِ اللَّهِ، ويمكن أن يقال: الإذن هنا: الإذن الكوني، يعني: بإذن الله، أذِن فيه كوناً، ويمكن أن يُفسر بالإرادة، بإرادته التي ذكرها ابن جُزي، بمعنى: الإرادة، لكن لاحظ الأزهري قال: بعلمه، قَالُوا آذَنَّاكَ فصلت: 47يعني: أعلمناك، آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ الأنبياء: 109أعلمتكم، وهكذا: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ آل عمران: 145يعني: بعلمه، فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ النساء: 25بالعلم، مع أنه يمكن أن يقول قائل: يعني: بإجازة أهلهن، وإباحة أهلهن، ونحو ذلك.

فالواقع: أن مثل هذا -والله أعلم- يرجع إلى معنى: العلم، مهما تصرفت فيه هذه الاستعمالات؛ ولذلك تجد ابن فارس -رحمه الله- قال في غير المعنى الأول الذي ذكره وهو: الأُذن التي تُجمع على آذان، قال في المعنى الآخر وهو: العلم، قال: عنهما يتفرع الباب كله، فكل هذه الأمثلة التي ذكرناها هي ترجع إلى معنى العلم في الإِذْن، لكن إذا أردنا أن ننزلها على معانٍ أوضح، وإن كانت ترجع في الأصل، وفَرقٌ بين الرجوع في الأصل، وبين تفسير الموضع المعين، فإنه لا ينفك عن هذا المعنى الأصلي، ولكن العبارة قد تكون أوضح حينما يقال: إن هذا بمعنى الإباحة، أو الإرادة مثلاً، في الموضع المعين، أو الإعلام، أو نحو ذلك كالأمر، لكن معرفة أصل المعنى هذا يُحتاج إليه.

فهنا يقولون: هُوَ أُذُنٌ التوبة: 61، والأُذن هو: الذي يسمع ما يقال له، وهم قالوا ذلك على سبيل العيب -قحبهم الله-، يعني: أنه من جاء إليه قبِلَ منه، إن اعتذر إليه بعذر قبل منه العذر، فهو يقبل قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ التوبة: 61يعني: إنما يكون سماعه، وما ينتج عن هذا السماع فيما يكون فيه صلاحكم، وليس ذلك كما يكون الإنسان يسمع كل من جاء، ويصدق كل من جاء، فيما ينفع ويضر، مما يخلط عليه الحقائق، وما يُبنى عليها؛ ولهذا يقولون في أمثال العرب: السلطان أُذن، يعني: يأتي هذا، ويأتي هذا ويتكلم معه، ويأتي هذا ويتكلم معه، فيسمع لهذا وهذا.

قال -رحمه الله تعالى-: إصْر: له معنيان: الثِّقل، والعهد.

هنا في بعض النسخ من هذا الكتاب بعد هذا يقول ابن جُزي -رحمه الله تعالى-: "وأصر على الذنب، يُصر إصراراً: دام عليه، ولم يتب منه"، هذا في بعض النسخ.

وهذه المادة في أصلها: الهمزة والصاد والراء أرجعها ابن فارس -رحمه الله- إلى أصل واحد، تتفرع منه أشياء متقاربة، فالأَصْر: الحبس، والعطف، وما في معناهما، ثم فسر ذلك بأن العهد يقال له: إِصر، والقرابة تسمى: آصرة، وكل عقد وقرابة وعهد فهو: إصر، يقول: الباب كله واحد، يعني بأي اعتبار؟ باعتبار: العهد يقال له: إصر؛ لكونه يحبس عن مجاوزته، يقف عند هذا العهد، لا يتعداه، لا ينكث، لا ينقض، يقول: أعطيته عهداً، فهذا العهد يحبسه، فهو بمعنى: الحبس، والعطف، وما في معناهما.

ابن جرير -رحمه الله- يقول: الآصِر: ما عَطف الرجل على غيره من رحم، أو قرابة؛ لذلك يقال: أواصر القرابة، الأواصر الأسرية مثلاً، أو نحو ذلك، وهكذا أيضاً الراغب أرجعه إلى معنى: عقد الشيء، وحبسه بقهره، فهذه الآصرة تجمع هؤلاء القرابات، كأنها تحبسهم، كالحبس يجمع من بداخله، ويمنعه أيضاً، هذا أصل المعنى.

فهذا الذي ذكره ابن جُزي -رحمه الله- من الثقل والعهد يرجع إلى هذا، باعتبار: أن هذا العهد يثقله عن مجاوزته، والتعدي عليه، وقل مثل ذلك أيضاً في الآصار، كما سيأتي، فهذه تُثقل وتمنع من الانطلاق؛ ولذلك في قوله -تبارك وتعالى-: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الأعراف: 157، فُسر بالأمور التي تثبطهم، وتقيدهم عن الخيرات، لاحظ قال: تقيدهم، مثل: الحبس، وتُثقلهم، فلاحظ ابن جُزي ذكر معنى الثقل، وذكر العهد، وقلنا: لأن العهد أيضاً يمنعه، ففيه المنع؛ ولهذا أرجعه ابن فارس إلى: الحبس والعطف، فالآصار تُثبطهم، وتقعدهم عن الخيرات، وعن الوصول إلى الثواب، والإصر هو العهد المؤكد الذي يُثبط ناقضه عن الثواب، والخيرات، أو يمنعه من النكث، أو نحو ذلك، وذكر ابن جرير -رحمه الله- في الآية: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الأعراف: 157، قولين:

الأول: قال: العهد والميثاق الذي كان قد أخذه على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة، وما فيها من التكاليف الشاقة، بمعنى: الثِّقل، فلاحظ قال: العهد، وقال: التكاليف الشاقة، فهذا الذي اختاره أبو جعفر بن جرير -رحمه الله.

ثم ذكر المعنى الثاني: أنها التكاليف الشاقة، لاحظ الأول قال: العهد الذي أخذه عليهم بالعمل بالتوراة، وما فيها من التكاليف الشاقة، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الأعراف: 157أي: عهدهم، والثاني: أنه التكاليف الشاقة، والتشديد الذي كان على بني إسرائيل، مثل: إذا وقعت النجاسة في الثوب قُرض، ما يُغسل بل يُقطع، الحائض لا تُؤاكل، ولا تُجالس، تنفرد وتنعزل، وهكذا ليس عندهم في القتل العمد دية، ولا عفو، وإنما هو القصاص، والغنائم محرمة عليهم، إلى غير ذلك من التكاليف الشاقة، والتوبة التي كانت على بني إسرائيل لما عبدوا العجل: أن يقتلوا أنفسهم، يقتل بعضهم بعضاً، قيل: أُلقي عليهم الغمام، وصار الرجل يضرب بالسيف وجه أبيه، وأخيه، حتى قُتل منهم في يوم واحد سبعون ألفاً، ثم رُفع ذلك عنهم، قال الله -تعالى-: فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ البقرة: 54، فهذا كله -والله أعلم- يرجع إلى هذا المعنى، قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِيآل عمران: 81يعني: عهدي، فالعهد يمنع، ويحبس صاحبه، ونقضه يثقله عن الخيرات، كما قالوا، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: أيْد: قوة، ومنه:وَأَيَّدْنَاهُالبقرة: 87، بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍالذاريات: 47، والأيدي: جمع يد، فهمزتها زائدة.

الأيْد: غير الأيدي، فالمادة مختلفة، يقال: إن ذلك يرجع إلى القوة، والحفظ، أيده الله: يعني: قواه، فقوله -تبارك وتعالى-: دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ ص: 17يعني: القوة، وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ الذاريات: 47يعني: بنيناها بقوة، بناءً محكمًا، وهكذا سائر الاستعمال مما كان من هذا الباب، يرجع إلى معنى: القوة، فهذه ليست من آيات الصفات،وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍالذاريات: 47، ليست جمع يد، وإنما اليد تُجمع: أيدي، فقوله -تبارك وتعالى-: دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ ص: 17يعني: القوة، فيُفرق بين هذا وهذا، وبعض الناس إذا رأى في بعض كتب التفسير لأئمة أهل السنة، كابن جرير، وابن كثير، ونحو ذلك تفسير مثل هذه المواضع: بالقوة، يظن أن هذا من قبيل التأويل للصفة، وهو: ليس من قبيل التأويل للصفة، فهذه الأيد: أي القوة، وتلك الأيدي: جمع يد.

قال: والأيدي: جمع يد، فهمزتها زائدة، هذا نحتاج إليه فيما بعد في زيادة الهمزة، قال الله -تبارك وتعالى-: فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ إبراهيم: 9جمع يد، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ الفتح: 10، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ المائدة: 64، فهذا كله في الصفة، وقد جاءت متصرفة كما ترون: بصيغة الجمع، والتثنية، والإفراد، مع ما ذُكر مع ذلك، كما جاء أيضاً في الأحاديث من البسط، والقبض، والطي، كما في قوله تعالى: وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ الزمر: 67، وذكْرُ اليمين مع ذكر أيضاً الأصابع، كل هذا جاء في النصوص، فهذا الاستعمال بهذه الوجوه لا يمكن أن يؤول بتأويلات يُحرف فيها المعنى، بل يقال: إن هذا يراد به الصفة قطعاً، وتكون الدلالة عليه من قبيل النص الذي يدل على معنى ولا يحتمل غيره، فإن دلالة النص -انتبهوا لهذا- على نوعين:

النوع الأول: الذي يذكره أكثر المتكلمين من المؤلفين في الأصول، من المعتزلة، والأشاعرة، ونحوهم، وهو الذي يُعبرون عنه، ويقولون: ما دل على المعنى من غير أن يحتمل غيره، يعني: يدل على معنى معين، ولا يحتمل غير هذا المعنى، ويقولون: هذا نادر، كقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ البقرة: 196.

هذا الذي تجدونه في كتب أصول الفقه في الغالب؛ لأن الذين ألفوا هذه الكتب هم من المتكلمين، قالوا: كقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ البقرة: 196، ويقولون: هذا نادر -أي: النص الذي لا يحتمل غيره-، فهم يريدون الوصول بهذا إلى معنى آخر وراء ذلك، وهو: أن دلالة النصوص ظنية، ومن ثَمَّ فإنهم يوهنون النقل، ويبنون عليه: أنه لا يصلح للاحتجاج فيما يُطلب به القطع، فيقولون: إنما يُطلب ذلك من العقل، هكذا يزعمون، فجعلوا النقل -أي: الوحي- لا يصلح للاحتجاج في الاعتقاد، وإنما يكون تابعاً للعقل، وهذا خطأ كبير فاحش، ويبنون هذا على جملة أمور منها: أنهم يقولون: إن دلالة النص نادرة، والواقع أنها ليست كذلك، فالنص على نوعين، وهذا قد ذكره بعض فضلائهم -فضلاء المتكلمين- ونصوا عليه في كتبهم في الأصول، فالأول ما سبق.

والنوع الثاني: قالوا: حينما تتوارد الأدلة في الاستعمال؛ لتدل على معنى بصنوف مختلفة، وصيغ متعددة، فإن ذلك لا يحتمل التأويل، يعني: بمجموعها تكون الدلالة من قبيل النص، هذا النوع لا يكاد يذكره هؤلاء من المتكلمين، إلا بعض المحققين منهم، وهذا يوجد له نظائر كثيرة، وبناء عليه: فآيات الصفات ليست ظنية الدلالة، فاليد لا يجوز أن تؤول بأن يقال: النعمة، أو القوة مثلاً، وإنما اليد تُثبَت لله صفة ثابتة على ما يليق بجلاله، وعظمته، والدلالة عليها من قبيل النص من النوع الثاني: الذي تواردت فيه الأدلة في الاستعمال على تقرير معنى لا يمكن أن يُفهم منه غير هذا.

قال -رحمه الله تعالى-: أُكُل -بضم الهمزة-: اسم المأكول، ويجوز فيه: ضم الكاف، وإسكانها، والأَكْل  -بفتح الهمزة-: المصدر.

هذه المادة: الهمزة والكاف واللام، معناها عند ابن فارس -رحمه الله-: يرجع إلى شيء واحد، وهو: التنقص، في كل استعمالاته يرجع إلى معنى: التنقص.

هنا فسره: بالمأكول، فسره: بالمعنى المباشر، ابن فارس يتكلم عن الأصل، فلا تخلط بين هذا وهذا، يعني: حينما نقول أصله: التنقص، هذا لا ينافي أن الأكل بمعنى: المأكول، وهو: ما يؤكل، هذا لا إشكال فيه، هذا صحيح، لكن ما هو أصل المادة، إذا أردنا أن نُرجعها إلى أصلها؛ لنعرف وجوه المعاني التي تتفرع عن هذا الأصل، فهذا إذا قلنا: إنه يرجع إلى معنى: التنقص، فإذاً الأكل يقال بمعنى: المصدر، ويقال بمعنى: المفعول، بمعنى: المصدر، وبمعنى: المفعول، ما معنى هذا الكلام؟ حينما نقول: الأكل، نقول: اللحم أكل، والفاكهة أكل، والخبز أكل، ما معنى هذا؟ يعني: أنه مأكول، فالأكل: مصدر يقال للمفعول أي: للمأكول، فيقال: الفاكهة أكل، وحينما يُعبر به بمعنى المصدر أي: العملية نفسها، ماذا يقال لها؟ هذه العملية: أخذ الطعام ومضغ الطعام؟ يقال لها: أكل، فهنا أُريد به معنى: المصدر أي: نفس العملية، مثل: الكتابة، والقراءة، ونحو ذلك، حينما نقول مثلاً: هذه كتابة، بمعنى أيش؟ مكتوب، وحينما نقول لمن يكتب: العمل الذي يعمله ما هو؟ يقال له: كتابة، هذا بمعنى: المصدر أي: الكتابة، الذي هو العمل، فيقال بمعنى المصدر، يعني: الفعل، وبمعنى المفعول، يعني: المكتوب، وكذلك القراءة حينما يقرأ الشيخ، هذه يقال لها: قراءة، ولمّا أسمع هذا المقروء، أقول: هذه قراءة من؟ يعني: مقروء من مثلاً؟، فالعمل الذي يقوم به يقال له: قراءة، ولما أسمع هذه القراءة، وأقول: هذه قراءة من؟ يعني: مقروء من؟ فالأكل يقال لهذا وهذا.

فقوله -تبارك وتعالى-: فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ سبأ: 16، فـ"أُكُل" ما المقصود به؟، الأكل -أي العملية نفسها-، أو المأكول؟ ما المقصود؟ المأكول، وقوله: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ الحجرات: 12هذا هو الفعل، لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا الحجرات: 12، وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ البقرة: 188، سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ المائدة: 42، صيغة مبالغة، كثير الأكل للسحت، فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ الفيل: 5.

قال -رحمه الله تعالى-: أيْكة: غَيْضة.

الأيكة: هذه المادة في أصلها ترجع إلى معنى: اجتماع شجر، أصلها يعني: اجتماع شجر؛ ولهذا قال الخليل: إن الأيكة: غَيْضة تُنبت السدر، والأراك، فيجتمع السدر، أو الأراك، وشجر الأراك تعرفون شجرها يتفرع، وتصل فروعه إلى الأرض، وتنتشر هذه الفروع، فهذه الغيضة التي من دخلها فإنه قد لا يُرى، ولا يشاهد، فيدخلها السبُع أي: الأسد، أو نحو ذلك، فهذه يقال لها: أيكة، وأصلها يدل على: اجتماع شجر، بصرف النظر عن نوع هذا الشجر، فهنا الخليل قال: غيضة: تُنبت السدر، والأراك، لكن هل يختص بهذا؟ كأنه ذكر هذا    -والله أعلم-؛ لما يحصل به من كثرة الانتشار، والتفرع في هذين النوعين من الشجر.

قال الله -تبارك تعالى-: وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ الحجر: 78، كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ الشعراء: 176، كل هذا في أصحاب الأيكة، فهم نُسبوا إليها، إلى هذه الغيضة أي: الشجر المجتمع، فهم يُنسبون إلى ذلك، وهم قوم شعيب -عليه الصلاة والسلام-، فيُنسبون إليه، ويُنسبون أيضاً إلى هذا الأمر، فبعضهم يقول: إن هؤلاء واحد، وبعضهم يقول: هؤلاء غير هؤلاء، يعني: هؤلاء قوم، وهؤلاء قوم، باعتبار أنه أُرسل لهؤلاء، وأُرسل لهؤلاء، والله أعلم.

قال -رحمه الله تعالى-: أثاث: متاع البيت.

قال: الأثاث: متاع البيت، أصل هذه المادة: أثَّ، وهذا يرجع إلى معنى: الاجتماع، واللين، وذلك أصل واحد، يقولون: أثّ الشيء: إذا كثُر، فأثّ وتفّ أي: كثُر، وابن دُريد يقول: أثّ النبت يعني: كثُر، وصاحب الصحاح يقول: أثّ وتفّ بمعنى: كثُر، وكل شيء موطَّأ هين لين، كل شيء مُخْمَلي كما يقال، فيُقال له: أثيث، فمركب أثيث يعني: لين موطأ، وأثاث البيت من هذا، ويقال: نساء أثائث يعني: كثيرات اللحم، وامرأة أثيثة: كثيرة اللحم، فهذا أصله، ومن هنا قيل لمتاع البيت: أثاث.

يقول تعالى: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ النحل: 80، يعني: يُصنع منه الفُرش، والوسائد، وما إلى ذلك، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا مريم: 74، وإن كان اليوم في عرف الاستعمال صار يُطلق الأثاث على ما يكون في الدار خاصة، مما لربما يكون من الفُرش، والمجالس، ونحو ذلك، لكنه يقال لمتاع البيت عموماً: أثاث.

قال -رحمه الله تعالى-: أُجَاج: مُر.الأُجاج: أصل المادة: الهمزة والجيم يأتي بمعنى: الحفيف، قالوا: أجّ الظليمُ، إذا عدا فسُمع له حفيف في عدوه، يعني: النعام، فالذكر من النعام يقال له: الظليم، إذا سُمع له حفيف فهذا يقال له: أج، وأجّت القوم: أي حفيف مشيهم

الأُجاج: أصل المادة: الهمزة والجيم يأتي بمعنى: الحفيف، قالوا: أجّ الظليمُ، إذا عدا فسُمع له حفيف في عدوه، يعني: النعام، فالذكر من النعام يقال له: الظليم، إذا سُمع له حفيف فهذا يقال له: أج، وأجّت القوم: أي حفيف مشيهم

 

، واختلاط الكلام بأصواتهم المختلطة يقال: حفيف، أجت القوم.

والمعنى الثاني الذي ذكره هو: الشدة، ذكره ابن فارس، الشدة، إما حَرًّا، وإما ملوحة، الشدة في الحرارة، أو الملوحة، والماء الأُجاج يعني: الملح، وكذلك أيضاً يقال للحار المشتعل المتوهج، يقال: تأججت النار، أجج ناراً، قال علي :

لمّا رأيتُ الأمرَ أمراً منكراً *** أجّجتُ ناري ودعوتُ قَنبرا

فهذا أجيج النار، يعني: الاشتعال، شدة النار، وشدة ضرامها، والأجّة تقال: لشدة الحر.

فهنا قال: الأُجاج: المر، فهذا هو المعنى الثاني مما ذكره ابن فارس، شدة الملوحة، وما في معناها، قال الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ الفرقان: 53، فيقال: ماء مِلح، هذا الأكثر في الاستعمال، ومالح هي لغة صحيحة، لكن الأكثر والأشهر أن يقال: هذا ماء مِلح، أي: مالح، وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ يعني: البحر، ماء ملْح، وإذا قال: مالح، فهذا صحيح في اللغة، لكن الأكثر، وهو الذي جاء في القرآن، ولم يأتِ "مالح"، ولا أعلمه في السنة، فهذا ملح، قال: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ فاطر: 12.

لاحظ ما يتفرع من أصل هذه المادة: قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ الكهف: 94، ما علاقة يأجوج بهذه؟ إذا قيل: إنها أسماء أعجمية -وهو الأقرب- فلا إشكال؛ لأن هذه الأسماء الأعجمية لا يُبحث لها عن أصل في الاشتقاق، ومن ثَمَّ المعنى، لكن بعض أهل العلم يقولون: هذه عربية: يأجوج ومأجوج، حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ الأنبياء: 96، فمن قال: إنهما عربيان، يأجوج، ومأجوج بالهمز، يعني: كأنه من أجيج النار، وهو توقد النار، فهؤلاء سُموا: يأجوج ومأجوج؛ لكثرة ضراوتهم، وشدة إفسادهم، من أجيج النار، وبعضهم يقول: من غير أصل، وهو غير مهموز، لكن على كل حال: هو أعجمي، لكن إذا قيل: إنه عربي، فهو يرجع إلى هذا الأصل، فإذا قيل: إن ذلك أعجمي، فلا إشكال.

إذن: المعنى الآخر الذي ذكره ابن فارس، وهو بمعنى: الحفيف، لا يكون هذا من الاستعمالات الواردة في القرآن، فلم يرد في شيء منها، وحتى لو كان يأجوج ومأجوج عربيين، فإن ذلك يرجع إلى الشدة، فيكون المعنى الثاني هو الذي جاء في القرآن، أُجاج: الشدة.

قال -رحمه الله تعالى-: أرائك: أسرّة، واحدها: أريكة.

الأرائك: ابن فارس -رحمه الله- يُرجع أصل هذه المادة: الهمزة والراء والكاف إلى أصلين:

الأول: شجر، ماذا يقصد بالشجر؟ نوع من الشجر الذي هو الأراك، الذي يؤخذ منه السواك.

والثاني: وهو بمعنى: الإقامة؛ ولهذا ابن جرير -رحمه الله- يفسر مثل قوله -تبارك وتعالى-: أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ الكهف: 31، يقول: متكئين في جنة عدن على الأرائك، وهي: السُرر في الحِجال، واحدتها: أريكة، وثعلب -رحمه الله- إمام في اللغة، من أئمة أهل السنة، ومن أصحاب الإمام أحمد -رحمه الله- يقول: إن ذلك لا يقال إلا لما كان كذلك، يعني: السُّرر في الحجال، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ الكهف:31.

فابن جُزي قال: أسرّة، واحدتها: أريكة، ولم يقيده بهذا القيد، وابن جرير، وثعلب، وغير هؤلاء، كثير من الأئمة يقولون: هو مقيد، لا تكون أريكة إلا إذا كانت كما وُصف: السُرر في الحِجال، ما علاقة هذا بموضوع الإقامة: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ؟، كأن هذا -والله أعلم- باعتبار أنه المكان الذي يستقر فيه الإنسان، هل تعرفون الأريكة؟ هي: السُّرر في الحجال، وهو السرير الذي يكون فوقه سقيفة، وهو موجود إلى الآن؛ لزيادة التنعم، لكن أين هذه الأريكة في الدنيا من الأرائك التي في الجنة؟، هي لا شيء، فهذا السرير الذي فوقه مثل السقف، أو المظلة، هذا هو الحِجال، أما السرير الذي لا يكون مسقوفاً فإنه لا يقال له: حَجَلة، والحجال واحدتها: حَجَلة، هذا لا يقال له: حجلة.

إذن: هو يختص بنوع معين من الأسرّة، مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ الكهف: 31، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.



[1] أخرجه أبو داود، كتاب الجنائز، باب موت الفجأة، رقم: (3110)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته: (2/ 1126)، رقم: (6632).

[2] أخرجه البخاري، كتاب مواقيت الصلاة، باب الأذان بعد ذهاب الوقت، رقم: (595).

[3] أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب إسباغ الوضوء، رقم: (139)، ومسلم، كتاب الحج، باب استحباب إدامة الحاج التلبية حتى يشرع في رمي جمرة العقبة يوم النحر، رقم: (1280).

مواد ذات صلة