الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[13] من قول الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الآية 35 إلى قوله تعالى: {وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا} الآية 39.
تاريخ النشر: ١٤ / شوّال / ١٤٢٦
التحميل: 4036
مرات الإستماع: 2705

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا [سورة النساء:35].

ذكر الحال الأول: وهو إذا كان النفور والنشوز من الزوجة، ثم ذكر الحال الثاني: وهو إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا [سورة النساء:35].

وقال الفقهاء: إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة مما يريانه من التفريق أو التوفيق، وتشوَّف الشارع إلى التوفيق؛ ولهذا قال: إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا [سورة النساء:35].

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فيقول -تبارك وتعالى: فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا [سورة النساء:35]: الحكم من الطرفين سماه الله كما هنا- حكماً، مع أنه في حقيقة الأمر ليس حاكماً وإنما هو مجرد وكيل عن كل طرف من الطرفين، فالمرأة توكل واحداً والرجل يوكل واحداً فيكونا وكيلين عنهما فيتصرفا في حدود الوكالة كأن يكون المراد هو التفاوض وأن يسمع كل طرف من الآخر ما يعيبه على صاحبه وما يطلب منه وما أشبه ذلك، دون أن يحكم فيكون حكمه نافذاً، أو أنه يكون حكمه نافذاً في الحدود التي وُكِّل فيها، كأن تقول المرأة مثلاً: اذهب واحضر وقل لهم: كذا وكذا وكذا، وأنا أريد كذا، وأعيب عليه كذا، وإن اتفقتما على الاجتماع ووافق على الشروط فأنا موافقة أن تحكم بذلك، وإن كان المطلوب هو الفرقة فأنا غير موافقة، أو إن كان المطلوب هو الخلع فأنا ما أقبل أن تحكم بذلك ولن أقبل هذا الحكم، يعني ليس من صلاحياتك أن توافقه على الخلع بحيث أفتدي منه وأدفع مالاً حتى يتم الفراق.

المقصود أن بعض أهل العلم يقول: يحكمان في الحدود التي أنيطت بهما من قبل كل واحد من الزوجين، وبعض أهل العلم يقول: بل هما حَكَََمان وحكمهما نافذ؛ لأن الله سماهما بذلك فقال: فَابْعَثُواْ حَكَمًا [سورة النساء:35] فيجري حكمهما في حال الاجتماع فإذا اتفق هذان الحكمان على الفراق انتهى، وإذا اتفقا على الجمع بينهما أو أن تتنازل عن بعض الحق فالحكم نافذ، وهذا ظاهر الآية. 

والمسألة فيها خلاف بين أصحاب النبي ﷺ فمن بعدهم وليست جديدة، ومثل الحافظ ابن القيم -رحمه الله- يرى أنهما حكمان فيهما شائبة الوكالة؛ لأن هذا يُختار من قبل المرأة وهذا يختار من قبل الرجل، ولا يقتصر أمرهما على الحكم بل يحصل السماع والتفاوض والتشاور والتناصح وما أشبه هذا في كل ما من شأنه أن يقرب ويجمع.

وقوله -تبارك وتعالى: إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا [سورة النساء:35] ظاهر اللفظ المتبادر -كما أشار إليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا أن ذلك يرجع إلى الحكمين، أي إن كان قصدهما الإصلاح يوفق الله بينهما.

ومن أهل العلم من قال: إن قوله: إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا [سورة النساء:35] يرجع إلى الزوجين، لكن الأول أقرب، والله أعلم.

وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: أمر الله أن يبعثوا رجلاً صالحاٍ من أهل الرجل ورجلاً مثله من أهل المرأة.

يعني ليس فقط صلاح الدين وإنما أيضاً صلاح الرأي؛ لأن هذه المسألة تحتاج أيضاً إلى رأي وحكمة، أما إذا جاء كل واحد وهو متعصب لصاحبه ومتشنج يريد أن ينتصر لصاحبه بكل طريقة، فلا فائدة إذن وليجتمع الزوج والزوجة لتحصل بينهما منازعة بدلاً من أن ينوب عن كل واحد منازع، فالمقصود أنه ينبغي أن يأتي إنسان عاقل ينظر ويسمع ويتكلم بإنصاف ويحكم بعدل.

فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة.

يمنعونها النفقة باعتبار أنها ناشز حتى ترجع إلى الطاعة؛ لأن النشوز سبب لإسقاط النفقة، فالمرأة الناشز عن زوجها تسقط نفقتها، وإذا كان الرجل هو المسيء إليها منعت منه؛ لئلا يوصل إليها الإساءة لكن يحفظ لها حقها من النفقة مع منعه من أن يلعب بها ويظلمها ويسيمها الخسف والذل وهي لا تجد مخرجاً من تصرفاته ورعوناته.

 فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز.

قوله: "فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز" يعني إذا اتفق الحكمان، أما إذا اختلفا بحيث قال مندوب المرأة أو وكيل المرأة أنا أرى أنها تطلق منه بدون فسخ، وقال الثاني: أنا ما أرى هذا، أرى أنها تطلق بفسخ، يعني تفتدي منه لأنها هي التي طلبت الطلاق، ففي هذه الحال لا ينفذ حكمهما إجماعاً؛ لأنهما اختلفا في الحكم.

ومن المعلوم أن هذين الحكمين يضعهما الحاكم أو نائبه كالقاضي ونحوه، ويمكن أن يكون ذلك ابتداءً من الرجل والمرأة.

وقوله تعالى: وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا [سورة النساء:35] يعني من ذويها كأن يكون أخاً أو ابن عم وما أشبه ذلك من قومها.

فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر، ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي كره ولا يرث الكاره الراضي، رواه ابن أبي حاتم وابن جرير.

هذا على قول ابن عباس في المسألة.

قال الشيخ أبو عمر بن عبد البر: وأجمع العلماء على أن الحكمين إذا اختلف قولهما فلا عبرة بقول الآخر، وأجمعوا على أن قولهما نافذ في الجمع وإن لم يوكلهما الزوجان، واختلفوا هل ينفذ قولهما في التفرقة، ثم حكى عن الجمهور أنه ينفذ قولهما فيها أيضا من غير توكيل.

يقول: "ينفذ قولهما فيها أيضاًَ من غير توكيل" هذا الأمر وغيره من التفاصيل كله فيه خلاف بين أهل العلم.

وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36].

يأمر -تبارك وتعالى- بعبادته وحده لا شريك له فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الآنات والحالات، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته، كما قال النبي ﷺ لمعاذ بن جبل -أتَدْرِي ما حَقُّ الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: أن يَعْبدُوهُ ولا يُشْرِكُوا به شيئًا ثم قال: أتَدْري ما حَقُّ العبادِ عَلَى اللهِ إذا فَعَلُوا ذلك؟ ألا يُعَذِّبَهُم[1].

ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين فإن الله سبحانه جعلهما سبباً لخروجك من العدم إلى الوجود، وكثيراً ما يقرنُ الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين كقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [سورة لقمان:14] وكقوله: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [سورة الإسراء:23].

ثم عطف على الإحسان إلى الوالدين الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث: الصَّدَقَةُ عَلَى المِسْكِينِ صَدَقَةٌ وعَلَى ذِي الرَّحِم صَدَقَةٌ وصِلَةٌ[2].

ثم قال تعالى: وَالْيَتَامَى [سورة النساء:36]؛ وذلك لأنهم قد فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم.

ثم قال: وَالْمَسَاكِينِ [سورة النساء:36] وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون ما يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم، وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة.

كما هو معروف أنه إذا ذكر المسكين دخل فيه الفقير والعكس، لكن إذا ذكرا معاً كان للفقير معنىً والمسكين معنى، وعلى كل حال هنا في هذه الآية ذكر الله  الحقوق، فذكر الحق الأعظم ثم ما يليه، وذكر الإحسان وأن أحق الناس به من كان سبباً في وجودك وهما الأب والأم وكذلك الجد والجدة وإن علوا، لأن أولئك جميعاً يقال لكل واحد منهما والد، وذكر أيضاً من ألوان القرابات الجارَ ذا القربى والجارَ الجنب والصاحب بالجنب، وهؤلاء رتبهم بحسب الأقوى في القرب، فأولاً الجار الذي بينك وبينه قرابة ثم الجار المجاور لك في الدار الذي لم يكن بينك وبينه قرابة، ثم الصاحب بالجنب وهو الذي جمع بينك وبينه سبب غير القرابة وغير مجاورة الدار كمرافقة في السفر أو زميل في العمل أو زميل في الدراسة ونحو ذلك، ويدخل فيه كل من تعاشره من زوجة.

ثم ذكر –جل وعلا- الناس الذين يحتاجون إلى الإحسان من الضعفة في المجتمع سواء كان ضعفه عارضاً كابن السبيل، أو كان ضعفه مستمراً كالفقراء والمساكين واليتامى، فهؤلاء كلهم من الضعفاء الذين هم أولى بالإحسان.

وقوله: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] قال علي بن أبي طَلْحَةَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ -ا: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [سورة النساء:36] يعني الذي بينك وبينه قرابة.

قوله: "يعني الذي بينك وبينه قرابة" هذا هو المتبادر، وهو الذي اختاره جمع من المحققين ومنهم كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- وهذا خلافاً لمن قال: إن الجار ذا القربى هو المسلم أو أنه مجرد القريب في الدار.

وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] الذي ليس بينك وبينه قرابة، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وميمون بن مهران والضحاك وزيد بن أسلم ومقاتل بن حيان وقتادة..

وهذا أيضاً هو الأقرب أنه الجار الذي ليس بينك وبينه قرابة، ومن قال في قوله: وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى [سورة النساء:36]: إنه الجار المسلم قال: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] هذه في اليهودي والنصراني.

ومن قال: الأولى في القريب في الدار قال: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] هو البعيد في الدار؛ لأن الجيران يتفاوتون قرباً وبعداً، فهذا قد يكون جاراً ملاصقاً لك فهو أولى من الجار الأبعد.

والعلماء مختلفون في حد الجوار، فمنهم من يقول: من يسمع الإقامة ومنهم من يقول: من يسمع الأذان ومنهم من يقول: إلى أربعين بيتاً من كل ناحية، وبعضهم يقول: أهل المحلة الواحدة التي تجمعهم، كما يقال: الحي أو نحو هذا، وعلى كل حال الجار كلمة لا يتساوى فيها الأفراد فهي تدل على معنىً كلي يتفاوت أفراده، فمنهم من يكون أقرب في الجوار كاللصيق والذي يليه وما أشبه ذلك ثم يكون جاراً لكنه أبعد منه. 

ومثل هذا يقال أيضاً في الرحم والقرابات فهي كلمة تدل على معنىً كلي لكن الأفراد يتفاوتون، فالأخ ليس كالعم، والعم ليس كابن العم، وابن العم المباشر ليس كابن العم الذي هو أبعد منه، وما أشبه ذلك، فكل هؤلاء من قراباتك، وأنت مأمور بالإحسان إليهم وبصلتهم ولكنهم يتفاوتون في القرابة فكلما كان أقرب كلما كانت الصلة له آكد، وهكذا.

وقال مجاهد أيضاً في قوله: وَالْجَارِ الْجُنُبِ [سورة النساء:36] يعني الرفيق في السفر، وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار، فنذكر بعضا منها، والله المستعان.

القول الآخر هو أن الجار الجنب هو الرفيق في السفر –كما قال هنا- والأحسن -والله تعالى أعلم- أن يفسر بالرفيق في السفر قوله تعالى: وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ [سورة النساء:36].

الحديث الأول: روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر -ا- أن رسول الله ﷺ قال: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه أخرجاه في الصحيحين[3].

الحديث الثاني: روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو -ا- قال: قال رسول الله ﷺ: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه[4] وروى أبو داود والترمذي نحوه ثم قال الترمذي: حسن غريب من هذا الوجه.

الحديث الثالث: روى أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمرو بن العاص -ا- عن النبي ﷺ أنه قال: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره ورواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب[5].

الحديث الرابع: روى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قال: قال رسول الله ﷺ لأصحابه: ما تقولون في الزنا؟ قالوا: حرام حرَّمه الله ورسوله، فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال: رسول الله ﷺ: لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره قال: ما تقولون في السرقة؟ قالوا: حرمها الله ورسوله فهي حرام، قال: لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره تفرد به أحمد[6] وله شاهد في الصحيحين من حديث ابن مسعود قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك[7].

الحديث الخامس: روى الإمام أحمد عن عائشة -ا- أنها سألت رسول الله ﷺ فقالت: "إن لي جارين فإلى أيهما أُهدي؟ قال: إلى أقربهما منك باباً ورواه البخاري[8]، وسيأتي الكلام في سورة براءة، وبالله الثقة وعليه التكلان.

وقوله تعالى: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [سورة النساء:36] وصية بالأرقاء لأن الرقيق ضعيف الحيلة أسير في أيدي الناس، ولهذا ثبت أن رسول الله ﷺ جعل يوصِي أمته في مرضِ الموت يقول: الصلاةَ الصلاةَ وما ملكتْ أيمانُكُم فجعل يرددها حتى ما يَفِيض بها لسانه[9].

وروى الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله ﷺ: ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة، وما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقه[10] ورواه النسائي وإسناده صحيح، ولله الحمد.

يستدل بهذا الحديث على أن من الأعمال ما يؤجر عليها الإنسان ولو لم يكن له فيها قصد التقرب إلى الله .

وعن عبد الله بن عمرو -ا- أنه قال لِقَهْرمان له: هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا، قال: فانطلق فأعطهم فإن رسول الله ﷺ قال: كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم رواه مسلم[11].

القَهْرمان كلمة أعجمية –فارسية- تطلق ويراد بها من يدبِّر شئون الإنسان المالية من نفقات ونحو ذلك، أي أنه يقوم عليها فيعطي العمال أو الخدم أجورهم، وقد يعمل في جلب وشراء المنافع، وهو في الأصل يعمل في تدبير أمور الملك مثل وزير المالية وأخص منه الذي يقوم على شئونه المالية، وهكذا يقال لكل من يلي هذا الجانب كأن يكون لك إنسان وكلته أن يتصرف في هذه الأشياء ويصرف عليها كالمحاسب ونحوه.

وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق رواه مسلم أيضاً[12].

وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: إذا أتى أحدَكم خادمُه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه وليَّ حرّه وعلاجه أخرجاه ولفظه للبخاري[13].

وقوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36] أي: مختالاً في نفسه، معجباً متكبراً فخوراً على الناس يرى أنه خير منهم، فهو في نفسه كبير، وهو عند الله حقير، وعند الناس بغيض.

قال مجاهد في قوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً [سورة النساء:36] يعني متكبرا فَخُورًا يعني يعدّ ما أعطي وهو لا يشكر الله تعالى، يعني يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه وهو قليل الشكر لله على ذلك.

لتقريب المعنى يمكن أن يقال: إن الخيلاء الكبر، لكن إذا أردنا أن نفرق يمكن أن نقول: الخيلاء مظهر من مظاهر الكبر وأثر من آثاره يظهر بمشية الإنسان وملبسه وحركاته وسكناته ومركبه وما أشبه ذلك، قال تعالى: وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً [سورة الإسراء:37] أي لا تمشِ مختالاً متبختراً بل امشِ مشية هينة طيبة، إن الله لا يحب من كان مختالاً فخوراً.

وروى ابن جرير عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهروي قال: لا تجد سيئ المَلَكة إلا وجدته مختالاً فخوراً.

يقول: "لا تجد سيئ المَلَكة" ويمكن أن يقال: المِلْكَة، يعني الإنسان الذي إذا حصل له غنى حصلت له غطرسة وترفُّع، وسيء الملكة هذا يظلم خدمه ولا يعطيهم حقوقهم ويؤخر رواتبهم ويمنعهم مما يجب لهم، ويعاملهم بفظاظة، ويظلم من تحت يده من العمال ومن الأجراء وما أشبه ذلك، فهو إذا ملك أو تمكن فإنه لا يراعي حقاً لأحد، فمثل هذا يقول فيه عبد الله بن واقد: لا تجد إنساناً بهذه المثابة إلا وجدته مختالاً فخوراً، يعني أنه ما صدرت منه هذه الأشياء إلا بسبب هذا التعالي والترفع؛ فيحتقر الناس ويظلمهم ولا يرى لهم حقاً ويضيع مالهم ولا يبالي، بخلاف الإنسان الذي يخاف من الله ويتواضع ويرى أن هؤلاء مثله ويرى أنه في يوم من الأيام قد يكون في محل واحد منهم فيُظلم ويؤخذ حقه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه.

قال: لا تجد سيئ المَلَكة إلا وجدته مختالاً فخوراً، وتلا: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ الآية [سورة النساء:36] ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً، وتلا: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [سورة مريم:32].

في الأول تلا: وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [سورة النساء:36] بمعنى أن الله أوصى بهؤلاء الذين تحت يدك ثم عقب ذلك بقوله: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36]، فدل على أن الذي يظلم المماليك فإنه يكون مختالاً ويكون كما وصف الله .

وفي الثاني تلا: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا [سورة مريم:32] أي أن الإنسان إذا كان يتجبر على والديه فهذا أعظم الجبروت فمن كان بهذه المثابة فلا تجده إلا جباراً شقياً، فإذا كان الذي يتجبر على الناس يكون جباراً شقياً فكيف بالذي يتجبر على الوالدين؟ يكفيه من الجبروت والشقاوة أنه يفعل ذلك لوالديه حتى وإن كان يتبسم للناس.

وعن رجل من بَلْهُجَيم قال: قلت يا رسول الله، أوصني، قال: إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المَخِيلة، وإن الله لا يحب المَخِيلة[14].

يقول النبي ﷺ: إياك وإسبال الإزار والإزار مفهوم لقب لا يحتج به على عدم دخول غيره في الحكم بل يدخل فيه الثوب والبشت والسراويل.

قوله: فإن إسبال الإزار من المَخِيلة هذا الحكم تُفسر به الأحاديث الأخرى، فيقال: الإسبال محرم بإطلاق؛ لأنه مظهر من مظاهر الخيلاء سواء قصد الإنسان ذلك أو لم يقصد، فإن قصد فذلك أعظم ويكون من أولئك الذين قال فيهم النبي ﷺ: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، المنان الذي لا يعطي شيئاً إلا منَّة، والمنفق سلعته بالحلف الفاجر، والمسبل إزاره وفي رواية: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم[15] وهذا هو الفرق بين من قصد الخيلاء وبين من لم يقصدها.

وللأسف بدأ يظهر على القنوات من يقول للناس: الإسبال ما فيه شيء، والنووي يقول: لا شيء فيه، والمسألة خلافية، واصبروا كذا سنة وستجدون عامة الملتحين مسبلين، ويقولون: إن اللحية لا تترك بل السنة أن تقص، وبعضهم يقول: يكفي قدر شعيرة، وبعضهم يقول: قدر المشط، ويقال: اصبروا قليلاً وسترون هذا كما انتشر في الصور حيث كان في الماضي لا تكاد تسمع أحداً يقول: إنها جائزة واليوم صار الأمر إلى غير ما كان عليه في الماضي.

أقول: للأسف أننا صرنا في وضع عجيب بسبب تأويل النصوص وتحريفها بل والاستدلال بها بما يحقق الرغبات والشهوات، ولذلك نجد اليوم في بعض البلاد دعاة صاروا يقيمون جامعات وكليات فيها اختلاط وتبرج، وإذا ناقشتهم قالوا: لا يوجد دليل على تحريم الاختلاط ويقولون: إن المسجد النبوي ما كان فيه حاجز وهذه الحواجز التي بنيت فيه اليوم ما هي إلا بدعة، ويقولون عن المجامع الدعوية المختلطة: إن من يقوم بالنشاط هم إخوة وأخوات نشاطهم إسلامي ولا إشكال في اجتماعهم طالما أنهم اجتمعوا على عمل صحيح ولم يجتمعوا على باطل ولا رقص ولا شيء من ذلك.

وتجد رفاعة الطهطاوي يوم أن جاء من فرنسا كان يقول عن الرقص الغربي: إنه عبارة عن مجرد موازنة في الحركات وهو رقص نظيف وليس كالرقص الشرقي الذي أخذ الناس عنه فكرة سيئة، ويقول: إذا دعتك في تلك البلاد امرأة للرقص معها فمن الضروري جداً أن ترقص معها لأن هذا من أنماط السلوك والحياة والكرم والضيافة عندهم، فارقص معها فذلك هو عبارة عن مجرد موازنة حركات!! ونحن نقول لهذا وأمثاله: حتى الجماع إنما هو موازنة حركات فماذا يبقى بعد ذلك؟!

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ۝ وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا ۝ وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا [سورة النساء:37 - 39].

يقول تعالى ذاماً الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به- من بر الوالدين والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم من الأرقاء- ولا يدفعون حق الله فيها ويأمرون الناس بالبخل أيضاً، وقد قال رسول الله ﷺ: وأي داء أدوأ من البخل؟ [16] وقال: إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا وأمرهم بالفجور ففجروا[17].

الشح أبلغ من البخل وأشدّ وإن اختلف العلماء في حد كل واحد منهما لكن بينهما فرق، فمن أهل العلم من يقول: البخل أن يبخل بما في يده، والشح أن يتطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وبعضهم يقول: البخل أن يبخل على نفسه، والشح أن يمنع حق الله مثل الزكاة ونحوها، وبعضهم يقول: البخل هو الصفة الموجودة في النفس، والشح هو ما يتأثر منها وينشأ عنها من سلوك للإنسان، ولا شك أن الشح أشد من البخل، فقد يكون الإنسان بخيلاً وأشد منه الشحيح.

في قوله -تبارك وتعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] إما أن هذا يرجع إلى ما قبله بحيث يكون السياق هكذا: إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا [سورة النساء:36] وهؤلاء هم الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] وعلى هذا يكون قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] بدلاً من المختال الفخور سواء قلنا: إنه منصوب على أنه بدل منه أو قلنا: إنه مرفوع يرجع إلى الضمير في قوله: مُخْتَالاً أي: مختالاً هو فخوراً، من هو؟ الذين يبخلون، فهذا تحتمله الآية لتكون هكذا إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [سورة النساء:36-37] من هم المختالون هؤلاء الذين لا يحبهم الله؟ هم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل.

ومن أهل العلم من يقول: هذا استئناف، يعني إنه معنىً جديد، يذم الله فيه صنفاً من الناس وهم الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل، أي أن هذا غير المختال الفخور، ويكون جواب هذا مقدر، يعني الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل لهم كذا وكذا وكـذا من الوعيد.

وإذا قلنا: إنه يرجع إلى "مختالاً فخوراً" فلا يحتاج إلى جواب مقدر، وهذا هو مزية هذا القول أي أنه لا يحتاج إلى تقدير والأصل عدم التقدير، لكن ظاهر السياق قد لا يدل عليه دلالة ظاهرة والله تعالى أعلم.

وعلى كل حال فعلى المعنى الأول يكون قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ [سورة النساء:37] تفسيراً للمختال الفخور، وعلى المعنى الثاني أي إذا قلنا: إنه استئناف فهو يتحدث عن طائفة جديدة مذمومة من الناس وهم الذين يبخلون ويأمرون، وترك الجواب؛ لأنه معلوم، والله أعلم.

والذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله كما يقول بعض العلماء: هذه الصفات مجتمعة هي صفات اليهود، فمن صفاتهم أنهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله، والذي كتموه هو العلم والشهادة بصحة ما جاء به محمد ﷺ فلا يعرِّفون به الناس، ولا يظهرونه. 

ولهذا قال بعض أهل العلم -وهو الذي مال إليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله: إن البخل المراد هنا هو البخل بالعلم واحتج لهذا بقوله: إننا لا نعرف طائفة تتمدح بالبخل وتظهره؛ لأنك لو قلت لأبخل الناس: أنت بخيل، لغضب فهو لا يقر على نفسه بهذه الصفة، إلا أنه يقال: هذا ليس بلازم هنا في الآية، فالله ذكر صفتهم وإن كانوا لا يقرون بها لكن هذه هي حقيقتهم، فالذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وصف موجود في اليهود.

وكذلك هو موجود أيضاً في المنافقين حيث قالوا: لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا [سورة المنافقون:7] يعني لا تنفقوا عليهم حتى يتفرقوا عنكم فإنهم زاحموكم في أرضكم وفي بلدكم وتكاثروا عليكم حينما قاسمتموهم الأموال فأمسكوا عنهم حتى يبحثوا عن بلد أخرى، ولما كانت غزوة المريسيع وحصل ما حصل قال عبد الله بن أبي: سمِّن كلبك يأكلك، وكان يلومهم ويقول: هذا ما فعلتم بأنفسكم –يعني أنتم السبب في تقويتهم- أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم[18].

وقوله تعالى: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:37] فالبخيل جحود لنعمة الله عليه، لا تظهر عليه ولا تبين، لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله كما قال تعالى: إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۝ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [سورة العاديات:6-7] أي: بحاله وشمائله وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8].

الضمير في قوله: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [سورة العاديات:7] من قوله: إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ۝ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ [سورة العاديات:6-7] يحتمل الرجوع إلى الرب أي: إن الله شهيد على هذا الوصف للإنسان، ويحتمل أن يرجع إلى الإنسان نفسه.

وقوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] الضمير هنا راجع إلى الإنسان، ولذلك من طرق الترجيح في هذا أن الأصل إذا دار الكلام بين اتحاد مرجع الضمائر وتفريقه فالأولى توحيد المرجع، فيقال: هذا في الإنسان، إن الإنسان لربه لكنود، وإنه أي الإنسان على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير أي الإنسان لشديد، أي أن كل ذلك في الإنسان.

وحب الخير في قوله: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات:8] يعني المال كما في قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة البقرة:180] كما قال تعالى: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [سورة الفجر:20] وفي الحديث لما قال النبي ﷺ: إن أكثر ما أخاف عليكم ما يُخرج الله لكم من بركات الأرض قال رجل: أو يأتي الخير بالشر؟ قال: إن هذا المال خَضِرة حلوة وإن كل ما أنبت الربيعُ يقتلُ حَبَطاً أو يُلِمُّ إلا آكلة الخَضِر إلى آخر الحديث[19] فليس المقصود بالخير هنا طاعة الله وطاعة رسوله.

ولقد سمعت أحد الناس وقد خرج في قناة من القنوات يقول: الأصل في الإنسان حب الخير وطاعة الله، فالمشكلة أن الإنسان تسيطر عليه أحياناً بعض التصورات وبعض المشاعر حينما يخرج أمام العالم ويتذكر أنه يخاطب أشراراً وأخياراً وكفاراً ومسلمين وأعداء، ولذلك تجده يقول: الأصل في الناس حب الخير وحب الفضيلة، وهذا الكلام ليس صحيحاً أبداً فالله يقول: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [سورة يوسف:103] ويقول: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ [سورة الأنعام:116] فالقول: إن الأصل في الإنسان حب الخير هذا خطأ كبير فادح.

وقال هاهنا: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:37] ولهذا توعدهم بقوله: وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا [سورة النساء:37] والكفر هو الستر والتغطية، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعم الله عليه.

وفي الحديث: إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه[20] وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العِلْم الذي عندهم من صفة النبي ﷺ وكتمانهم ذلك، ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى؛ فإن سياق الكلام في الإنفاق على الأقارب والضعفاء، وكذلك الآية التي بعدها، وهي قوله: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ [سورة النساء:38].

هذه الطريقة التي سلكها ابن كثير -رحمه الله- هي من مزايا هذا التفسير، فالآية هنا احتملت معنيين هما البخل بالمال والبخل بالعلم، فرجح ابن كثير أنه البخل بالمال بدلالة السياق، وهذه طريقة من طرق الترجيح وذلك أن تكون الآية محتملة معنيين فأكثر ويكون في السياق ما يدل على رجحان أحد هذه المعاني، لذلك قال: المراد هنا المال؛ لأن الآية التي قبلها ذكر الله فيها إعطاء ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إلى آخره، ثم قال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ [سورة النساء:37] يعني يمنعون هذا الإحسان والإنفاق والبذل وما أشبه ذلك. 

ثم قال بعد ذلك: إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40] وقال قبل ذلك: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ [سورة النساء:38] فهو ذكر المانعين وذكر الباذلين الذين يكون بذلهم لغير وجه الله -تبارك وتعالى- وهذه الآية في الوسط فدل على أنها في المال، وإن كان المعنى أعم من هذا كله، وهو أيضًا ظاهر كلام ابن كثير كما سبق وقال: "والظاهر أن السياق في البخل بالمال وإن كان البخل بالعلم داخلًا في ذلك بطريق الأولى". 

فبذل العلم لا يخسر الإنسان منه شيئًا، بل إنه يزيد كثرة ببذله والإنفاق منه، وهذه من فضائل العلم على المال، فالآية تشمل هذا جميعًا، وقد يجتمع هذا في الطائفة الواحدة كاليهود فهم يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله من العلم، وقد يكتمون ما آتاهم الله من فضله من العطاء والإنعام والإفضال في دنياهم من المال وغيره، وقد يوجد هذا في شخص، وقد يوجد بعضه في طائفة والبعض الآخر في طائفة أخرى.

والمقصود أن هذه الأوصاف المذمومة قد تجدها في أناس يبخلون بالعلم وبكل نفع متعدٍّ إلى الناس، وتجد الواحد منهم لا يمكن أن تصدر منه فائدة ولا يعلِّمُ شيئًا إلا بشيء، فإذا قلتَ له: أريد أن أقرأ عليك القرآن، قال: وكم تدفع؟ وإذا قلت: ليس لديَّ مال، قال لك: وما الذي تجيده؟ فإن قلت مثلًا: أجيد التعامل مع الكمبيوتر، قال لك: إذن اقرأ، على أن تعلمني الكمبيوتر، أو على أن تعلمني القيادة، أو توصلني إلى عملي أو نحو هذا، فالمقصود أن مثل هؤلاء الذين يبخلون لا يمكن أن يبذلوا شيئًا إلا بمقابل، إلى درجة أنه قد يبخل عليك حتى بالفتوى، وربما أنكر على الذي يبذل فيقول: أنت لماذا تجهد نفسك من أجل غيرك؟!

ومن الناس من تكون هذه الروح متأصلة فيه بحيث إذا وجد المعلومة لا يمكن أن يخرجها، وإذا كان عنده مخطوطات تنفع الناس ربما لا تراها الشمس ولا يدري عنها أحد شيئًا، ولا يطّلع عليها أحد ولو كان من أخص الناس.

ومن الناس من إذا اضطر فكتب ووجدت في كلامه بعض النفائس التي حصلها بالتعب وجرد المطولات فإنك تجده لا يعزوها إلى المصادر؛ لئلا يوقف على مكانها بحيث إذا نقلها أحد أو استفاد منها يقول: نقلتها من الكتاب الفلاني، أي من كتابه هو، فهذا من ألوان البخل وصوره أراده الله بقوله: وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ [سورة النساء:37] ومنه جحود النعم التي ينعم الله بها على الإنسان، كأن يكون غنيًّا فيكتم ذلك وربما يقول: أنا فقير ومحتاج، أنا ليس عندي شيء؟ وقد يكون هذا الإنسان في عافية في بدنه ويظهر خلاف ذلك، وقد يكون في نعمة من النعم ويكتم ذلك ويجحده. 

ومن أبسط الأمثلة التي تتكرر دائمًا حال الطلاب في المدارس والجامعات والاختبارات، تجد الطالب الذي لا يجارى ولا يبارى إذا خرج من الاختبار يولول ويشتكي أنه لم يحسن الإجابة فيرثي له أضعف الطلاب ويرِقُّون لحاله ثم يتبين أنه حصل على درجة كاملة، وهكذا ديدنه من السنة الأولى الابتدائية إلى أن تخرج من الدكتوراه، وما علم أن هذا جحود لنعمة الله، والله يقول: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [سورة الضحى:11] فإذا كان يخاف من العين فليسكت، أمّا أن يجحد نعمة الله ويكذب فهذا لا يجوز.

ومن أمثلة ذلك أنك تجد بعضهم يتواصى في كتابة الرسائل الجامعية مثلًا فيقول: أبقِ سطرًا في الأخير لا تكتبه، وبما أنه لا بد من تبييض المخطوط قبل البدء بعملية التحقيق فأوصيك بترك آخر سطر واشتغل على الرسالة وأكملها تحقيقًا وكل من سألك فقل له: والله إلى الآن ما انتهيت من تبييض المخطوط، وقد مضت عليه ثلاث سنوات، وتبييض المخطوط يمكن أن يتم خلال شهرين وليس ثلاث سنوات، لكنه يريد بهذا أن يدفع العين، فأقول: لا داعي لمثل هذا الكلام، قل: أنا في خير وعافية والحمد لله على ما يسر.

وكذلك الآية التي بعدها وهي قوله: وَالَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاء النَّاسِ [سورة النساء:38] فإنه ذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يُمدحوا بالكرم، ولا يريدون بذلك وجه الله، وفي الحديث الذي فيه الثلاثة الذين هم أول من تسجَّر بهم النار، وهم: العالم والغازي والمنفق المراءون بأعمالهم يقول صاحب المال: ما تركت من شيء تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك، فيقول الله: كذبت؛ إنما أردت أن يقال: جواد فقد قيل، أي: فقد أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي أردت بفعلك[21] ولهذا قال تعالى: وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ الآية [سورة النساء:38] أي: إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطانُ فإنه سوَّل لهم وأملى لهم وقارنهم فحسن لهم القبائح وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا [سورة النساء:38].

ثم قال تعالى: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ اللّهُ الآية [سورة النساء:39] أي: وأيّ شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطريق الحميدة وعَدَلُوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله ورجاء موعوده في الدار الآخرة لمن أحسن عملًا، وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها؟

وقوله: وَكَانَ اللّهُ بِهِم عَلِيمًا [سورة النساء:39] أي: وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ويقيِّضه لعمل صالح يرضى به عنه، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن الجناب الأعظم الإلهي الذي مَنْ طُرِدَ عن بابه فقد خاب وخَسِرَ في الدنيا والآخرة، عياذًا بالله من ذلك.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الاستئذان - باب من أجاب بلبيك وسعديك (5912) (ج 5 / ص 2312) ومسلم في كتاب الإيمان - باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً (30) (ج 1 / ص 58).
  2. أخرجه الترمذي في كتاب الزكاة - باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة (658) (ج 3 / ص 46) والنسائي في كتاب الزكاة - الصدقة على الأقارب (2582) (ج 5 / ص 92) وابن ماجه في كتاب الزكاة - باب فضل الصدقة (1844) (ج 1 / ص 591) وصححه الألباني في المشكاة برقم (1939).
  3. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب الوصاءة بالجار (5669) (ج 5 / ص 2239) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2625) (ج 4 / ص 2025).
  4. أخرجه البخاري في كتاب الأدب - باب الوصاءة بالجار (5669) (ج 5 / ص 2239) ومسلم في كتاب البر والصلة والآداب - باب الوصية بالجار والإحسان إليه (2625) (ج 4 / ص 2025) وأبو داود في كتاب الأدب - باب في حق الجوار (5154) (ج 4 / ص 504) والترمذي في كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حق الجوار (1942) (ج 4 / ص 332).
  5. أخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة عن رسول الله ﷺ باب ما جاء في حق الجوار (1944) (ج 4 / ص 333) وأحمد (6566) (ج 2 / ص 167) والدارمي (2437) (ج 2 / ص 284) وصححه الألباني في المشكاة برقم (4987).
  6. أخرجه أحمد (23905) (ج 6 / ص 8) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (65).
  7. أخرجه البخاري في كتاب الأدب- باب قتل الولد خشية أن يأكل معه (5655) (ج 5 / ص 2236) ومسلم في كتاب الإيمان - باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده (86) (ج 1 / ص 90).
  8. أخرجه البخاري في كتاب الهبة وفضلها - باب بمن يبدأ بالهدية؟ (2455) (ج 2 / ص 916).
  9. أخرجه البخاري في كتاب الجنائز - باب ما جاء في ذكر مرض رسول الله ﷺ (1625) (ج 1 /ص 519).
  10. أخرجه أحمد (17218) (ج 4 / ص 131) والبخاري في الأدب المفرد (82) (ج 1 / ص 42) والنسائي في السنن الكبرى (9185) (ج 5 / ص 376) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (452).
  11. أخرجه مسلم في كتاب الزكاة - باب فضل النفقة على العيال والمملوك وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم (996) (ج 2 / ص 692).
  12. أخرجه مسلم في كتاب الأيمان - باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (1662) (ج 3 / ص 1284).
  13. أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة - باب الأكل مع الخادم (5144) (ج 5 / ص 2078) ومسلم في كتاب الأيمان - باب إطعام المملوك مما يأكل وإلباسه مما يلبس ولا يكلفه ما يغلبه (1663) (ج 3 / ص 1284).
  14. أخرجه أبو داود في كتاب اللباس - باب ما جاء فى إسبال الإزار (4086) (ج 4 / ص 98) وأحمد (23253) (ج 5 / ص 377) وصححه الألباني في المشكاة برقم (1918).
  15. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب بيان غلظ تحريم إسبال الإزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم (106) (ج 1 / ص 102).
  16. أخرجه الطبراني في الكبير (1204) (ج 2 / ص 35) وفي الأوسط (3650) (ج 4 / ص 74) ورواه البخاري موقوفاً على أبي بكر الصديق في كتاب المغازي - باب قصة عمان والبحرين (4122) (ج 4 / ص 1593).
  17. أخرجه أبو داود في كتاب الزكاة - باب في الشح (1700) (ج 2 / ص 61) وأحمد (6487) (ج 2 / ص 159) وصححه الألباني في صحيح أبي داود برقم (1698).
  18. انظر السيرة النبوية لابن كثير (ج 3 / ص 299).
  19. أخرجه البخاري في كتاب الرقاق - باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها (6063) (ج 5 / ص 2362) ومسلم في كتاب الزكاة - باب تخوف ما يخرج من زهرة الدنيا (1052) (ج 2 / ص 727).
  20. أخرجه الطبراني في الكبير (14991) (ج 18 / ص 135) وفي الأوسط (3653) (ج 4 / ص 75) وابن حبان (5417) (ج 12 / ص 235) وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (1712).
  21. أخرجه مسلم في كتاب الإمارة - باب من قاتل للرياء والسمعة استحق النار (1905) (ج 3 / ص 1513).

مواد ذات صلة