الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
تتمة الحديث على آيات الباب وحديث «قل آمنت بالله ثم استقم»
تاريخ النشر: ٢١ / رجب / ١٤٢٦
التحميل: 1604
مرات الإستماع: 2065

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ...}

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

ففي باب الاستقامة أورد المصنف -رحمه الله: قول الله -تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف: 13 - 14].

الاستقامة بمعنى: أن يصح سير الإنسان على الصراط الذي رسمه الله لعباده من أجل سلوكه، وهو: الصراط المستقيم، أن يلزمه، فلا يحيد عنه يمنه ولا يسرة، لا يحصل منه التفاتة عن هذا الصراط، أو ميل عنه إلى الشهوات، أو إلى الشبهات، التي هي البدع، والأهواء، فإنهما طريقان للانحراف عن الصراط، يعني: ينحرف، إما بشهوات، فيعمل المعاصي، أو ينحرف بسبب شبهات، فيقع في الأفكار المنحرفة، والضلالات، والبدع، والأهواء.

فالاستقامة هي: لزوم صراط الله المستقيم، وأن لا يكون في سيره اعوجاج، ولا اضطراب، وإنما يلزم طاعة الله ، ويجتنب معصيته

الاستقامة هي: لزوم صراط الله المستقيم، وأن لا يكون في سيره اعوجاج، ولا اضطراب، وإنما يلزم طاعة الله ، ويجتنب معصيته.

فهنا قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ هنا جمعوا بين هذين الأمرين، الأول: أنهم: قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ الثاني: ثُمَّ اسْتَقَامُوا، رَبُّنَا اللَّهُ هذا الإيمان، هذا التوحيد، ربنا: معبودنا ومألوهنا، الذين نألهه، ونتوجه إليه بالعبادة، هو الله وحده لا شريك له.

فهذا هو الأصل الكبير الذي لا يُنظر في الأعمال ما لم يتحقق، قل آمنت بالله ثم استقم[1]،قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا.

فهذا الذي أعلنها وقال: ربي الله -يعني دونما سواه- لابد أن يسير سيرًا مستقيمًا بعد ذلك، يعني: لا يكتفي بهذه الكلمة، وإنما يحتاج إلى أن يعمل بمقتضاها، من لزوم طاعة الله، واجتناب معصيته.

فهؤلاء هم الموعودون بقوله: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ، لاحظ هنا: نفى الخوف مطلقًا، ما قال: فلا خوف عليهم في الدنيا، أو لا خوف عليهم عند الموت، أو لا خوف عليهم في البرزخ، أو لا خوف عليهم في عَرَصات القيامة، لا، بل لا خوف عليهم مطلقًا، لا في الدنيا، ولا عند الموت، ولا في البرزخ، ولا في الآخرة، ولا في عَرَصات القيامة، ولا في الجنة، وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، فالخوف: قلق من أمر مستقبل، والحُزن: من أمر فائت، والإنسان إنما يؤرقه ويتعبه في هذه الحياة الدنيا: إما أمور مستقبلية تقض مضاجعه، يفكر فيها، ويحمل همها، فهذا هو الخوف، هذا الذي يسبب للإنسان القلق، والأرق، أو يكون ذلك بسبب أمور فائتة ماضية، خسارة، مصيبة، موت إنسان، مواقف صعبة، فهذا يسبب له الحزن، فيكتئب الإنسان، وكلما تذكر هذه الأمور ضاقت به الدنيا، وضاق صدره، فهنا قال: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، لا في الدنيا، ولا في الآخرة.

إذًا، من أراد أن يحيا قرير العين، منشرح الصدر، وأن يكون في سعادة، وفي راحة، وفي طمأنينة، ليس عنده مخاوف، ولا قلق، ولا كآبة، ولا ضيق، عليه أن يحقق هذا: الإيمان، والاستقامة على طاعة الرحمن، فعلى قدر إيماننا، وتقوانا، واستقامتنا، على قدر ما يكون لنا من هذه الأمور التي وعد الله بها: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، فهم في غاية الأمن، والراحة، والطمأنينة.

لاحظ أحوال المسلمين الآن على ضعف الإيمان في قلوبنا، وعلى كثرة ذنوبنا، ومعاصينا، وعلى كثرة البدع، والمخالفات، إلى آخره، كيف حياتنا، وانظر كمثال: من سافر منكم في أرض الله الواسعة، إذا سافرت إلى بلاد الغرب مثلاً، والكفر، تجد القلق والتوتر في وجوههم، يُقرأ واضحًا جدًّا، وتجد الحياة مشدودة، يعني: الذي يعيش معهم، أو يرى ذلك المشهد، يرى حياة صعبة، يعني: الناس يمشون بطريقة معينة في الطرق، وفي المطارات، وفي كل مكان، وعند محطات القطار، حياة صعبة، يعني: كأنك ملحوق وستُسبق، إذا لم تكن تعارك وتصارع فلن يلتفت إليك أحد، حتى الذي يسأل، ويتسول يحتاج أن يأخذ معه معازف، أو شيئًا، من أجل أن يعزف للناس في مراكبهم، أو في القطار، من أجل أن يعطوه شيئًا، حياة قلقة، والقلق ظاهر في وجوههم، سبحان الله! واذهب إلى بلد من بلاد المسلمين تجد شيئًا آخر تمامًا، على ضعف الإسلام في نفوسنا، تجد الهدوء، والطمأنينة، والسكينة في مشيتهم، وفي تصرفاتهم، وفي وجوههم، مع ضعف كبير في التدين، ولزوم السنة، والعمل الصالح.

وذكرت لكم في بعض المناسبات: محمد أسد -رحمه الله- لما أسلم، وكان هو من إحدى الدول الإسكندنافية، أظنه من السويد، فلما أسلم وجاء إلى مصر والشام، ثم ذهب إلى تركيا، وركب القطار من تركيا إلى أوروبا، كان يقول لزوجته: انظري إلى الوجوه، هذا الكلام قبل نحو سبعين سنة، وكان العالم الإسلامي في غاية التخلف، وتحت الاستعمار، وجهل، وبدع، ولا يوجد وعي، إلا ما رحم الله ، ومع ذلك كان يقول: انظري إلى الوجوه التي كنا نراها في مصر والشام، وانظري إلى الوجوه التي نشاهدها الآن في القطار ذاهبة إلى أوروبا، يعني: من الأوروبيين، يعني: يرى أن أولئك في وجوههم الطمأنينة والراحة، وهؤلاء في وجوههم القلق والتوتر، مشدودة هذه النفوس، كان يلاحظ هذا، وأسلم الرجل، وأسلمت زوجته، وحسن إسلامه، وألف مؤلفات جيدة ومفيدة، منها: كتاب اسمه: الطريق إلى مكة، وغير ذلك.

وهذا أمر مشاهد، اذهب إلى بلدين متجاورين، اذهب مثلاً إلى: نيروبي عاصمة كينيا في أفريقيا، كأنها أوربية، لكن اللون أسود، فالحياة مثل أوروبا تمامًا، إلا أن الألوان سوداء، هم قوم من الكفار، تمامًا حياتهم مثل الحياة في أوروبا، الناس، وطريقتهم في المشية، والحياة مشدودة تمامًا، اذهب من عندهم في نفس كينيا إلى النواحي الشرقية، شرق كينيا، لموم باسا، وتلك النواحي، التي هي أصلا بلاد مسلمين، وقديمة، وأهلها من المسلمين في الغالب، إذا ذهبت هناك تجد السكينة، والهدوء، والطمأنينة، وإذا جاء وقت الأذان تسمع الأذان في المساجد، وتجد الرضا على وجوه الناس، مع وجود جهل كبير، وبدع كثيرة، وتصوف، وأمور معروفة، فهذا شيء لا تخطئه العين، يعني: نراه رأي العين، شيء واضح، فهو فرق كبير، فكيف لو كان الناس مستقيمين؟!.

ولذلك بعض رجال الاستخبارات من الإنجليز والفرنسيين وغيرهم أسلموا، وذلك في القرن الماضي، لما كان أيام الاستعمار في ليبيا، وفي الصحراء الكبرى، وفي غيرها، أسلموا وبعضهم كتبوا مذكرات، فيقولون: هناك في أوروبا الناس يقتلهم الاكتئاب، والعيادات النفسية، وكل شيء، ويقولون: وفي الصحراء تهب العاصفة، فتموت الأغنام، ويذهب كل شيء، وتجد هؤلاء الأعراب بكل بساطة يقولون: الحمد لله، قضاء وقدر، يقولون: فهم في غاية الطمأنينة، يقولون: بينما في أوروبا الناس يقتلهم القلق من غير شيء، وهؤلاء بخلاف ذلك، وأنا أتصور الصحراء الكبرى، والناس الذين يعيشون فيها، وماذا عندهم من البدع، والمذاهب المنحرفة، والفرق الصوفية الغالية، كالتيجانية وغيرها، ومع ذلك انظر حياتهم، وكيف كان ذلك سببًا لجذب هؤلاء من الأوروبيين المستعمرين، فدخلوا في الإسلام.

فالله يقول: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، لا تقل: بي قلق، وبي كآبة، وبي ضيق، وأشعر بضيق في الصدر، انظر في صلتك بالله ، ودع عنك الكلام الكثير الذي يقوله أطباء النفس، وما إلى ذلك من الشرح الذي لربما تغني عنه عبارة واحدة، ما صلتك بربك؟ هذه النفس إذا ابتعدتْ أجدبتْ، واستوحشت، فالذي هو بعيد عن عبادة الله، ولا يعرف ربه، ولا يذكر ربه، وليس هناك صلة مع ربه، مثل هذا أكيد أنه سيضيق صدره، وسيجد وحشة، وحسرة.

قال: أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:14]، هذا لمن قالوا: ربنا الله، ثم استقاموا، وليس لمن قال: ربي الله وقال: الإيمان في القلب، لا، بل استقاموا، والآية التي قبلها في فصلت قال: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ [فصلت:30] لاحظ: هنا قال: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وهناك قال: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:30-31]، مَا تَدَّعُونَ يعني: قيل: كل ما تطلبون، وقيل: كل ما يخطر في بالكم، وتشتهون، وتتمنون، وقيل: كل ما تدّعونه -أي: من الدعوى- تقول: هذا لي فهو لك، كل ما تدّعيه أنه لك فهو لك، نُزُلًا [فصلت:32] مكان الضيوف، مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت: 32].

قل آمنت بالله ثم استقم
وقوله ﷺ في حديث أبي عمرو، وقيل: أبي عمرة، سفيان بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم[1]رواه مسلم.

يعني: قل لي شيئًا لا أحتاج إلى أن أسأل زيدًا وعمرًا بعدك، قول موجز أحفظه، وأعمل بمقتضاه، فأعطاه هذه الكلمة الجامعة: قل آمنت بالله، مثل قوله تعالى: قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ.

وقال: ثم استقم يعني: لا يكفي أن تقول: آمنت بالله، لا، لابدّ من عمل واقعي، لابد من استقامة على الصراط المستقيم، من غير تشهٍّ، ولا تذوق، ولا اختيار، بل عبد لله ، مطيع، منقاد.

أمّا أن تقول: هذا لا، وهذا صعب قليلا، وهذا يحصل لي فيه فقدان مال، وهذا يحصل لي فيه فقدان وظيفة، وهذا يحصل لي فيه فقدان أصدقاء، وهذا يحصل لي فيه إحراجات مع الناس، وما إلى ذلك، فليست هذه هي الاستقامة، فإذا كان الإنسان يتجارى مع شهواته، وأهواء نفسه، فإنه يكون عبدًا لهواه، والنبي ﷺ يقول: تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس..[2]، إلى آخر ما ذكره ﷺ، فهو عبد، ودعا عليه فقال: تعس، هذا تعيس، هذا ليس بسعيد، بينما الذين هنا يقول فيهم: فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، والملائكة تتنزل لتثبتهم: أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ۝ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وهذا هو السر؛ لأن بعض الناس حينما يحكي شدائد عظامًا، أمثال الجبال مرت به، لا تقف الجبال أمامها، يقول: كنت مبتسمًا، وكنت أشعر براحة، وطمأنينة، من أين جاءت هذه الراحة، مع أنه أمام شدائد مثل الجبال؟ جاءت من أين؟ من هنا: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا، فيحصل لهم منهم الثبات والطمأنينة.

أما البعيد عن ربه -تبارك وتعالى، وعن الاستقامة فمثل: السمكة التي طلعت من الماء، ثم بعد ذلك ما يلبث أنه ينتهي إلى أمراض نفسية، ومشاكل، وانتحار، أو عُقَد، ومصائب، وأمراض، وبلايا، وتظلم الدنيا في عينيه، وأنت تعرف هذا حتى في وجهه، -نسأل الله العافية، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من السعداء، ووالدينا، وإخواننا المسلمين، وأن يصلح حالنا، وأن يجعلنا من أوليائه، وأهل قربه، وعتقائه من النار، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. سبق تخريجه.
  2. أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله، رقم: (2887).

مواد ذات صلة