الجمعة 10 / شوّال / 1445 - 19 / أبريل 2024
[1] من قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا} الآية:1، إلى قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} الآية:28
تاريخ النشر: ٣٠ / رجب / ١٤٣٥
التحميل: 5165
مرات الإستماع: 8530

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

تفسير سورة المرسلات، وهي مكية.

روى البخاري عن عبد الله -هو ابن مسعود قال: "بينما نحن مع رسول الله ﷺ في غار بمنى إذ نزلت عليه والمرسلات، فإنه ليتلوها وإني لأتلقاها من فيه وإن فاه لرطب بها إذ وثبت علينا حية، فقال النبي ﷺ: اقتلوها، فابتدرناها، فذهبت، فقال النبي ﷺ: وُقِيتْ شرَّكم كما وُقيتم شرَّها"[1]، وأخرجه مسلم أيضاً من طريق الأعمش.

وروى الإمام أحمد عن ابن عباس عن أمه أنها سمعت النبي ﷺ يقرأ في المغرب بالمرسلات عُرفًا[2].

وفي رواية مالك عن ابن عباس: أن أم الفضل سمعته يقرأ: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا [سورة المرسلات:1]، فقالت: "يا بنيّ، أَذْكَرْتني بقراءتك هذه السورة، إنها لآخر ما سمعتُ من رسولِ الله ﷺ يقرأ بها في المغرب"[3]، أخرجاه في الصحيحين من طريق مالك به.

هذه السورة من السور النازلة بمكة، وهذا الحديث -أو الأثر- يدل على ذلك، حينما كان النبي ﷺ في غار بمنى، وابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- ممن تقدم إسلامه، والسورة إذا قيل: إنها مكية فالأصل أنه لا يستثنى منها شيء إلا بدليل، وبعض أهل العلم -وهو مروي عن بعض السلف- قالوا: يستثنى من ذلك آية واحدة وهي قوله -تبارك وتعالى- فيها: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ [سورة المرسلات:48].

وهو خلاف الأصل، فالسورة نازلة بمكة من أولها إلى آخرها، وهذه السورة -سورة المرسلات- تتحدث عن اليوم الآخر بجملتها، وما يحصل فيه من الأهوال والأوجال وتغير نظام هذا العالم العلوي والسفلي، وما يحصل بعد ذلك من الجزاء الذي يلقاه أهل الإيمان وغيرهم، تتحدث عن هذه القضية، وما ذكر فيها سوى ذلك فإنما هو لتقرير هذا المعنى وإلزامهم، مثل قوله: أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ ۝ فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ [سورة المرسلات:20، 21] إلى آخره، فهو يقررهم بهذا، أنّا خلقناكم بهذا الخلق، وأنشأنا خلقكم، ونحن قادرون على البعث والإعادة من جديد، وأنتم لم تُخلقوا هذا الخلق عبثاً وسدى، فهي تتحدث عن هذه القضية قضية البعث وما يحصل فيه.

وذكر هنا أن النبي ﷺ قرأها في المغرب، نستفيد من هذا أن القراءة في المغرب ليست دائماً بقصار السور، قرأ النبي ﷺ بالمغرب، وبالطور، وأكثر من هذا قرأ بالأعراف، فملازمة قصار السور في صلاة المغرب دائماً خلاف السنة، لكن لو قيل: إن ذلك هو الغالب كان هذا صواباً.

قال ابن أبي حاتم عن أبي هُرَيرة: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا قال: الملائكة.

ورُوي عن مسروق، وأبي الضحى، ومجاهد -في إحدى الروايات- والسّدي، والربيع بن أنس مثلُ ذلك.

ورُويَ عن أبي صالح أنه قال: هي الرسل، وفي رواية عنه: أنها الملائكة، وهكذا قال أبو صالح في العَاصِفات والنَّاشِرات والفَارِقات والمُلْقِيات: إنها الملائكة.

الآن انظروا إلى ما ذكره الله ، وكيف كان التعقيب فيه بالفاء أو الواو، فالواو في مبتدئه لا شك أنها للقسم، فالله أقسم بهذه الأمور، فقال: وَالْمُرْسَلاتِ أقسم بالمرسلات، ثم عقب بالفاء قال: فَالْعَاصِفَاتِ الأمر الذي يشعر بأن العاصفات تتعلق بالمرسلات.

ثم قال: وَالنَّاشِرَاتِ فالواو واو قسم، أقسم بالناشرات، ثم قال: فَالْفَارِقَاتِ [سورة المرسلات:4] الأمر الذي يشعر أن الفارقات هي متعلقة بالناشرات، ثم قال: فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا [سورة المرسلات:5]، وكذلك أيضاً فالفاء تشعر بما سبق، فهذه الأمور المذكورة هنا المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والملقيات، هل هي شيء واحد أو أنها مختلفة في المعنى؟ هذا فيه كلام كثير للسلف -رضي الله تعالى عنهم، والحافظ ابن كثير نقل طرفاً من ذلك هنا أو أشار إليه، والمراد بالعُرف في قوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا يحتمل معنيين:

يحتمل أن يكون ذلك بمعنى التتابع، كما يقال في عُرف الفرس وعُرف الديك.

ويحتمل معنى آخر، وهو العرف الذي يقابل المنكر، يعني المعروف يقال له: عرف، ذلك من العرف، أي: من المعروف، لا يذهب العرف بين الله والناس يعني: لا يذهب المعروف، لا يضيع عند الله وعند الخلق.

إذا كان العرف يحتمل المعنيين -المعروف أو التتابع- فانظر كيف تركّب المعاني، المرسلات: منهم من يقول وهو المشهور جداً: المرسلات هي الرياح، فإذا قلنا: إنها الرياح هل يركب معها تفسير العرف بالمعروف؟ هل يتلاءم؟ لا، فالذي يتلاءم معها هو التتابع.

وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا أي: أن الرياح تأتي متتابعة، أقسم الله بالرياح، عرفاً أي متتابعة، في حال كونها متتابعة، فإذا فسرناه بالرياح فالعاصفات عصفاً لا شك أنها الرياح تعصف عصفاً، أي: شدة هبوبها فهي تعصف، تكون قوية بحركتها ولها صوت في الكثير الغالب من الأحيان، ولربما حصل بسبب ذلك عصف ببعض الخلق من الناس ودوابهم ودورهم أو غير ذلك، يعني ليدخل فيه من قال: تعصف بالناس، أو بمن تُرسَل عليهم عذاباً.

ومن أهل العلم من قال: إن المرسلات بمعنى الملائكة، هذه يأتي معها معني متتابعة، والأحسن منه أن يقال: عرفاً أي: أرسلت بالعرف بالمعروف، ففي الملائكة أليق أن يفسر بالمعروف، العرف بالمعروف، المرسلات أي: الملائكة تُرسَل بالمعروف، والله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس، فهم الذين ينقلون رسالات الله   ووحيه إلى البشر، وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا الملائكة تنقل رسالات الله تأتي بهذا العرف بهذا المعروف ضد المنكر.

فالعاصفات: بعض أهل العلم نقل الإجماع على أن العاصفات هي الرياح، فيكون المرسلات الملائكة والعاصفات هي الرياح، وبعض أهل العلم قال: لا، العاصفات هي الملائكة، وهذا عجيب بعضهم ينقل الإجماع، وبعضهم يقول: لا، العاصفات ليست هي الرياح وإنما هي الملائكة أيضاً، لشدة سرعتها في النزول والطيران تعصف عصفاً بسرعتها، وسواء قيل: إن المرسلات الملائكة عموماً أو جبريل أو غيره فالمقصود أنهم الملائكة على هذا التفسير، والعرف هو المعروف، تأتي بالعرف بالمعروف، فهذان قولان: الرياح وهو المشهور، والملائكة.

ومنهم من يقول: الرسل من الآدميين، وهذا وإن كان يحتمله اللفظ إلا أنه أبعد من سابقيْه، وذلك أنه لم تجر العادة بأن الرسل من الآدميين يجمعون على المرسلات، وإنما يقال: "المرسلين" وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ [سورة الفرقان:20] ولم يجمع على المرسلات قط، ولا حاجة لأن يؤول المرسلات بجماعات الرسل، فهذا تأويل فيه بُعد وتكلف، إذن هذا المعنى وإن كان يمكن أن يحتمله اللفظ لكنه بعيد.

وبعض أهل العلم يقول ككبير المفسرين ابن جرير الطبري: إن الله ما حد شيئاً دون شيء، وأقسم بالمرسلات، فالمرسلات: الرياح مرسلات: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [سورة الحجر:22] تكون بين يدي المطر، والله أرسل الملائكة أرسلهم إلى الأنبياء بالوحي، وأرسلهم أيضاً بأمور أخرى فيما أراد الله أن يكلفهم به في تدبير أمر هذا العالم، هذا المرسلات، ومنهم الذين يسوقون الرياح، ولهذا من قال: إن العاصفات هي الرياح قالوا: أصلاً هذه الرياح تسوقها الملائكة وتدبرها، فالملائكة والرسل من الآدميين كل هذا يدخل على كلام ابن جرير في أن الله أقسم بالمرسلات.

لاحظتم أن هذا لا يخص به معنى دون معنى؛ لأنه لا يقوم عليه دليل، فالمرسلات عرفاً يدخل فيه ما يرسله الله من الرياح، والملائكة، والرسل من الآدميين -عليهم الصلاة والسلام، وإذا أردنا أن نطلق الخيال أو أن نفسر اللفظة بما يمكن في كلام العرب فلك أن تتصور ما هي الأشياء التي يمكن أن تُرسَل: الملائكة، والرسل من الآدميين، والرياح، والصواعق وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء [سورة الرعد:13]، وقال: أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [سورة مريم:83] الشياطين، فكل هذا يوصف بالإرسال، كله موصوف بالإرسال، لكن ركِّبْه مع ما بعده وهو قوله: عُرْفًا فالذي يصلح مع هذا شيئان: الملائكة والرسل من الآدميين، ويَبعد القول بأن المراد الرسل، ما الذي يُبعده؟ أنه لم يُعهد أن يجمع ذلك على المرسلات، لكن يمكن أن يقال؛ لدخوله ضمن أمور كثيرة ولم يخص وحده حتى يقال: إنه لم يُعهد جمعه بهذا.

وإذا فسرنا عُرْفًا بالتتابع فلا شك أن هذه جميعاً ممكن أن تفسر بهذا، الصواعق، وغيرها، والشياطين وكذا، لكن إذا نظرت إلى ملحظ في المعنى وهو أن القسم إنما يكون بمعظم -كما هي القاعدة- فلا يدخل في ذلك الشياطين، ويدخل فيه الرياح، ويدخل فيه الرسل من الملائكة -عليهم الصلاة والسلام، والرسل من الآدميين، فكل ذلك يمكن أن يدخل فيه.

فإذا أردنا أن نرجح معنى من هذه المعاني فأولاها وأقربها إلى ظاهر اللفظ والسياق هو الرياح، لاسيما أن الله ذكر العصف بعده قال: فَالْعَاصِفَاتِ وهي الرياح قطعاً، وإذا أردنا أن نوسع المعنى نقول: أقسم الله بالمرسلات فيدخل فيه هذه الأمور، والعاصفات تكون في الرياح الخاصة، وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا يقول: قال -يعني عن أبي هريرة: الملائكة، وروي عن مسروق وأبي الضحى وغير هؤلاء أيضاً ومجاهد في إحدى الروايات والسدي والربيع بن أنس، وقال: وروي عن أبي صالح أنه قال: هي الرسل، يعني: من الآدميين، وفي رواية عنه: أنها الملائكة، وبعضهم يقول: المرسلات هي السحاب الله يرسلها بالمطر.

قال أبو صالح في العاصفات والناشرات والفارقات والملقيات: إنها الملائكة، الملائكة تكون عاصفات بسرعة طيرانها وهبوبها وصعودها، بهذا الاعتبار، لكن هذا مستبعد، فالعاصفات هي الرياح.

وقال الثوري عن سلمة بن كُهيل عن مسلم قال: سَأل ابنَ مسعود عن وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا قال: الريح.

هذا قول الجمهور.

وكذا قال: فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا ۝ وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا [سورة المرسلات:2، 3] إنها الريح، وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقطع ابن جرير بأن العاصفات عصفاً هي الرياح.

وهذا كما قلت: بعض أهل العلم قال: من غير خلاف، مع أنه يوجد فيه خلاف.

كما قاله ابن مسعود ومن تابعه.

بعضهم يقول: الملائكة الموكلون بالريح، يعني العاصفات، يعصفون بها، أو يعصفون بروح الكافر.

وبعضهم يقول: العاصفات هي الآيات المهلكة مثل الزلازل والبراكين، وما أشبه ذلك من هذه الأمور التي يحصل بها هلاك كثير من الخلق، فهذه هي العاصفات.

فتبيّن لكم وجه هذا أو هذا، وما يبنى عليه كل قول من هذه الأقاويل، فتكون وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا كما قلت: إما أن تحمل على العموم أو الرياح، والعاصفات هي الرياح.

ثم قال: وَالنَّاشِرَاتِ فإذا أعدناه إلى ما سبق أيضاً إذا قلنا: إن المرسلات هي الرياح، يمكن أن يقال: هذه أيضاً هي الرياح تنشر السحاب وتفرقه، ويمكن أن يقال غير هذا كما سيأتي، لكن في قوله: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا جاءت منصوبة كما ترون، وأيضاً منونة، فيمكن أن تكون مفعولاً لأجله بمعنى: والمرسلات لأجل العرف، فهذا لا يمكن إلا أن تكون من العرف بمعنى المعروف، وهذا أي الملائكة أو الرسل من الآدميين -عليهم الصلاة والسلام، لأجل العرف، وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا لأجل العرف ضد المنكر، وإذا قلنا: إنه حال وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا أي: متتابعة فهذا يصلح بالمعنى الثاني، وهو أوسع من المعنى الذي قبله.

أو إذا قلنا: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا المرسلات إرسالاً يكون مصدراً، والمصدر معروف أنه يكون من غير لفظه أحياناً، فيكون وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا والمرسلات إرسالاً، فهذا يدخل فيه هذا وهذا، يعني: يصلح للمعنيين اللذين ذكرناهما في المرسلات، والله تعالى أعلم.

ويمكن أن يكون أيضاً بنزع الخافض، يعني ينصب بنزع الخافض، الخافض الذي هو حرف الباء هنا مقدر، تقول: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا والمرسلات بالعرف، فإذا حذف حرف الجر "الباء" صار وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا انتصب ما يُجر بحرف الباء، والله أعلم.

وتَوقّف في وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا هل هي الملائكة أو الريح كما تقدم، وعن أبي صالح: أن الناشرات نشراً هي المطر.

والأظهر أن المرسلات هي الرياح كما قال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ [سورة الحجر:22]، وقال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [سورة الأعراف:57].

هنا قال الله : وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا [سورة الأعراف:57] في القراءة الأخرى "نُشراً" بالنون، يعني: أنها تنشر السحاب وتفرقه، أو تفرق المطر، تنشر المطر.

وهكذا العاصفات هي الرياح، يقال: عصفت الريح إذا هَبّت بتصويت، وكذا الناشرات هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء، كما يشاء الرب .

وقوله تعالى: فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ۝ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ۝ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا [سورة المرسلات:4-6] يعني: الملائكة، قاله ابن مسعود، وابن عباس، ومسروق، ومجاهد، وقتادة، والربيع بن أنس، والسّدي، والثوري، ولا خلاف هاهنا فإنها تنزل بأمر الله على الرسل، تفرق بين الحق والباطل، والهدى والغيّ، والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق، وإنذارٌ لهم عقابَ الله إن خالفوا أمره.

العاصفات هي الرياح، ونقل عليه بعض أهل العلم الإجماع، ولكن يوجد من خالف فيه، لكن إطلاق الإجماع باعتبار قول الأغلب أسلوب معروف عند بعض المتقدمين، هذه هي العاصفات.

ثم الناشرات، قال: وكذا الناشرات هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء، هذا هو المشهور، قال: كما يشاء الرب ، هذا هو المشهور أن الناشرات هي السحاب، ولكن من أهل العلم من يقول غير ذلك.

بعضهم يقول: الناشرات هي المطر، ينشر النبات، وبعضهم يقول: إن الناشرات هم الملائكة، الملائكة تنشر أجنحتها في حال صعودها وهبوطها تطير بأجنحتها، تكون ناشرة لأجنحتها، وينزلون بالوحي أو غير ذلك، فهذا معنى، المعنى الذي قبله أن المراد بها الأمطار؛ لأنها تنشر النبات.

وبعضهم يقول: الناشرات ما ينشر من الصحف والأعمال، وذلك في يوم القيامة، وهذا بعيد، وبعضهم يفسر ذلك ببعث الأبدان والأرواح، ينشر الناس، يوم النشور ويوم النشر يعني البعث تنشر فيه الأرواح والأبدان.

وابن جرير على طريقته في الآية السابقة كما قال في المرسلات بأن الله لم يخصص شيئاً من هذه المعاني، كذا قال في الناشرات، قال: الله أقسم بالناشرات، وما خص معنى دون معنى، فيدخل في ذلك الرياح، ويدخل في ذلك المطر إذ إنه ينشر النبات، ويدخل فيه الملائكة فهي تنشر أجنحتها، وما إلى ذلك من المعاني التي ذكرها السلف.

إذا أردنا أن نرجح فالأقرب أن الناشرات هي الرياح تنشر السحاب الذي يحمل المطر.

وحمله على العموم أيضاً لا شك أنه غير مستبعد، والله تعالى أعلم.

وقوله تعالى: فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ۝ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ۝ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا يعني: الملائكة.

الفارقات يعني الملائكة، وبعضهم يقول: جبريل -عليه الصلاة والسلام، وهذا داخل في الأول، فتخصيص جبريل -عليه الصلاة والسلام- ليس عليه دليل، وإنما نظروا إلى كونه يأتي بالرسالات للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فالفارقات هم الملائكة، وبعض أهل العلم يقول: هي الرسالات أو القرآن باعتبار أنها تكون سبباً للفرق بين الناس، انفراق الناس إلى طائفتين.

وابن جرير على طريقته فيما سبق قال: فَالْفَارِقَاتِ يعم ذلك جميعاً، فيدخل فيه ما ذكر من الملائكة والرسالات، وما إلى ذلك مما تحتمله الآية.

فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا ۝ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا الملقيات ذكراً هنا هم الملائكة، وبعض أهل العلم ينقل على ذلك الإجماع، الملائكة الذين هم الرسل بين الله وخلقه، يلقون الوحي ورسالات الله على الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام.

قال: والحلال والحرام، وتلقي إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق، وإنذارٌ لهم عقابَ الله إن خالفوا أمره، ... إلى غير ذلك.

الفارقات يمكن أن تفسر بالرسل -عليهم الصلاة والسلام- وبالرسالات، وبعضهم يقول: هي الرياح الفارقات تفرق السحاب، فعلى هذا القول يكون كل ما سبق في الرياح، المرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات، هذه الأوصاف الأربعة، لكن لا يمكن أن يفسر ما بعده بالرياح، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا [سورة المرسلات:5] هم الملائكة قطعاً، ومن قال: إن الثلاثة الأُوَل في الرياح قال: الرابع والخامس في الملائكة، وهذا القول مشهور جداً، أن المرسلات والعاصفات والناشرات هي الرياح، وأن الفارقات والملقيات هم الملائكة، هذا هو المشهور عند السلف ، ولا يخفى وجهه.

ومن أهل العلم من يقول غير هذا كالذين يقولون: كل ذلك في الملائكة، المرسلات هم الملائكة، والعاصفات هم الملائكة يعصفون بسرعة حركتهم وانتقالهم، أو يعصفون بأرواح الكفار أو غير ذلك مما ذكر، أو لأنهم موكلون بالرياح يعصفون بها، والناشرات هم الملائكة أيضاً، والفارقات، فيكون كل هذا في الملائكة، وابن جرير يعمم.

فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ۝ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا "عذراً أو نذراً" منصوب فيمكن أن يكون على أنه مفعول لأجله، بمعنى: لأجل الإعذار والإنذار، أو يكون منصوباً بالمصدر، فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا ۝ عُذْرًا أَوْ نُذْرًا، بمعنى: أنه مفعول به، ويمكن أن يكون بدلاً، أي ما هو هذا الذكر الذي تلقيه هؤلاء الملائكة؟ فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا هذا الذكر هو إما إعذار وإما أن يكون إنذاراً.

ويمكن أن يكون بمعنى مُعذِرين ومنذِرين، فالمقصود أن الله أخبر عن هؤلاء الملائكة أنهم يلقون الذكر المشتمل على الإعذار والإنذار، مشتمل على هذا وهذا.

وقوله تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [سورة المرسلات:7] هذا هو المقسم عليه بهذه الأقسام، أي: ما وُعدتم به من قيام الساعة، والنفخ في الصور، وبعث الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاة كل عامل بعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، إن هذا كله لَوَاقِع أي: لكائن لا محالة.

ثم قال تعالى: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ أي: ذهب ضوءها، كقوله تعالى: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ [سورة التكوير:2]، وكقوله تعالى: وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ [سورة الانفطار:2].

وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ أي: انفطرت وانشقت، وتدلت أرجاؤها، وَوَهَت أطرافها.

كما قال الله : وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَابًا ۝ وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [سورة النبأ:19-20].

وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ أي: ذُهِب بها، فلا يبقى لها عين ولا أثر، كقوله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [سورة طه:105].

يعني أصل النسف في كلام العرب هو قلب الشيء ظهراً لبطن، أو بطناً لظهر، فهذه الإزالة السريعة يقال لها: نسف، فالله يزيلها من أماكنها، يفتتها وَبُسَّتِ الْجِبَالُ [سورة الواقعة:5] أي: فتتت فتكون هباء منبثاً، ثم تسير: وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ [سورة النبأ:20]، كما قال الله : وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [سورة النمل:88]، وذلك في اليوم الآخر لا في الدنيا كما يقولون: يدل على دوران الأرض.

وقال تعالى: وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:47].

وقوله تعالى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ قال العوفي عن ابن عباس: جمعت، وقال ابن زيد: وهذه كقوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [سورة المائدة:109]، وقال مجاهد: أُقِّتَت أجلت.

وقال الثوري عن منصور عن إبراهيم: أُقِّتَت أُوعِدت، وكأنه يجعلها كقوله: وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [سورة الزمر:69].

الآن: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ الهمزة هنا بمعنى الواو، أي: وُقتت، والواو إذا كانت مضمومة ضمة أصلية جاز قلبها إلى الهمزة، فتقول: أقتت ووقتت، ومعنى أقتت: الله جعل لها ميقاتاً يحصل به الفصل بينها وبين أعدائها، أعداء الرسل -عليهم الصلاة والسلام، وذلك في يوم الفصل، فهذا أشهر ما فسر به هذا، وهو الأقرب إلى السياق والظاهر، والله تعالى أعلم.

وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ، قيل فيه: جُمعت، وقيل فيه وُعدت، لكن تفسيره بوعدت، أي: جُعل لها ميعاد وميقات محدد يفصل به بينها وبين أعدائها أنْ ناصَبُوهم العداوة وحاربوهم، قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ [سورة سبأ:30]، فهذا الميعاد هو يوم القيامة، فيجعل ذلك ميقاتاً يفصل الله بينهم وبين خصومهم، وبعضهم يقول: أرسلت لأوقات معلومة، يعني: في الدنيا، لكن الله يتحدث عن أهوال القيامة، فكيف يقال: أرسلوا لأوقات معلومة؟ 

فالأظهر -والله أعلم- أن المراد أقتت يعني: جُعل لها ميقات في الفصل بينها وبين أقوامها، ويكونون شهداء على الناس في ذلك اليوم، وكأنه لما فسر قول الثوري عن منصور عن إبراهيم: أقتت أوعدت، كأنه يجعلها من قوله تعالى: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ [سورة الزمر:69]، فابن كثير -رحمه الله- ربط بين هذا وبين قول إبراهيم: أقتت أي: أوعدت، يعني: أوعدت بأن يجعل الله لها ميقاتاً يفصل به بينها وبين خصومها، كما في هذه الآية أخبرنا الله أن ذلك سيقع: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم، فهذا وعد من الله بأن ذلك كائن.

ثم قال تعالى: لأيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ ۝ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ [سورة المرسلات:12-14].

يقول تعالى: لأي يوم أجلت الرسل وأُرجئ أمرها حتى تقوم الساعة، كما قال تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ۝ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [سورة إبراهيم:47، 48] وهو يوم الفصل، كما قال تعالى: لِيَوْمِ الْفَصْلِ.

ثم قال تعالى معظما لشأنه: وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ۝ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي: ويل لهم من عذاب الله غداً.

يعني كقوله -تبارك وتعالى- في "أقتت" يقول: قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ [سورة سبأ:30] هذا هو اليوم الآخر الذي يحصل فيه مثل هذا الفصل بين الناس، وهنا قال الله -عز وجل: لِيَوْمِ الْفَصْلِ ۝ وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ ۝ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:13، 15]، تكررت هذه الجملة عشر مرات في هذه السورة، ولا يوجد في القرآن تكرار محض، وأوضح الأمثلة في سورة المرسلات وفي سورة الرحمن التي يمكن أن يقال: إنها تكرار، نفس الآية تتكرر بلفظها وحروفها: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [سورة الرحمن:13]، ووَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ.

فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يعني: مما ذكر قبله، هذه الأمور، حتى في قوله -تبارك وتعالى: يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [سورة الرحمن:44] لما ذكر الحميم والنار قال: فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا أَبِأي نِعمٍ في الحميم، قال نعم؛ لأنه لا يتبين النعيم على وجهه الكامل إلا بضده وهو الجحيم، فحتى في هذه الأمثلة التي قد تشكل.

وأما هنا: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ فكذلك كل واحد منها يعود إلى ما قبله، فهنا: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ بهذا اليوم الذي هو يوم الفصل، وهذا أسلوب معروف، حينما تذكر أهوال أمر من الأمور وما يحصل فيه تقول: يا ويل من كذب به، ثم تسترسل وتذكر أوصافاً تقول: يا ويل المكذب، ثم تسترسل تقول: ويل للمكذب، فليس هذا من التكرار المحض.

يقول تعالى: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ [سورة المرسلات:16] يعني: من المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به.

ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ أي: ممن أشبههم؛ ولهذا قال تعالى: كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ۝ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:18، 19].

الآن أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ يعني: الأمم المكذبة الماضية، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ، بعض أهل العلم كابن جرير الطبري -رحمه الله- جعل ذلك فيمن وقع به الهلاك، فقوله: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ وهم قوم إبراهيم وقوم لوط، ومن أهلكهم الله بعد ذلك، ومن أهل العلم من يجعل الثاني على سبيل الوعد، والأول على سبيل الخبر، أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ كل الأمم التي وقع فيها الإهلاك، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ يعني: أن الله وعد بإهلاك هؤلاء المكذبين بالنبي ﷺ؛ ولهذا جاء في قراءة شاذة بالسين "سنتبعهم"، فيكون ذلك على سبيل الوعد، والقراءة الأحادية تفسر القراءة المتواترة ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ.

ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ أي: ممن أشبههم؛ ولهذا قال: كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ، ظاهر كلام ابن كثير أن ذلك على سبيل الوعد لمن أشبههم في الكفر والتكذيب أنه سيفعل به ذلك ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ.

وقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي: بإهلاك الأولين -قلنا: إن كل واحدة تعود إلى ما ذكرت قبلها- قال ابن جرير: يعني: من المكذبين للرسل المخالفين لما جاءوهم به، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَكَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ ۝ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ، ابن جرير -رحمه الله- يقول: إن الأولين هم الأمم القديمة: قوم نوح وعاد وثمود، والآخرين هم أصحاب مدين، وقوم لوط، وقوم إبراهيم، ومن جاء بعدهم، فيفرق ابن جرير بين هذا وهذا، إلا إذا كان مراد ابن كثير -رحمه الله: أي: بمن أشبههم ممن أهلك، من الأمم المهلكة، فهذا قول ابن جرير، يعني: الذين جاءوا بعدهم، بعد المتقدمين، والله أعلم.

ثم قال ممتناً على خلقه ومحتجاً على الإعادة بالبداءة: أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّاء مَّهِينٍ [سورة المرسلات:20]، أي: ضعيف حقير بالنسبة إلى قدرة الباري ، كما في حديث بُسْر بن جِحَاش: ابنَ آدم، أنَّى تُعجزُني وقد خلقتك من مثل هذه؟[4].

الآن ليس ضعيفاً حقيراً بالنسبة إلى قدرة الباري، بل حتى بالنسبة للناس، فهذا الماء بالنسبة إليهم شيء مستقذر، يتنزهون منه ويغسلونه.

فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ [سورة المرسلات:21] يعني: جمعناه في الرحم، وهو قرار الماء من الرجل والمرأة، والرحم معد لذلك، حافظ لما أودع فيه من الماء.

يعني القرار المكين أي: الحصين، وتعلمون موضع الرحم حيث إنه محاط محمي مستقر في عظام الحوض وهي أقوى العظام في بدن الإنسان أو بدن المرأة، محاط، وبالرحم والمشيمة فهو في قرار مكين، أي: محفوف متمكن.

وقوله تعالى: إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة المرسلات:22] يعني: إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر.

يعني مدة الحمل ستة أشهر إلى تسعة أشهر إلى أكثر من هذا، قد يكون الحمل سنتين أو خمس سنوات، وقد يطول ويقصر ببطء النمو، ربيعة حملت به أمه سنتين، وآخر حملت به أمه خمس سنوات، فالحاصل أنه قد يصل الحمل إلى خمس سنوات، وربما أكثر من هذا، ليس معنى هذا أنه يخرج ابن خمس ويمشي ويتحرك بصورة كأنه ابن خمس سنين، فهو صغير مولود، لكن كان النمو بطيئاً، وقد يحصل له شيء من التعثر والتوقف فترة، يسمونه العوام: "العوار"، ثم بعد ذلك يستأنف؛ لذلك ما يفعلونه في المستشفيات إذا جاء الشهر التاسع يجعلون الطلق الصناعي أو العملية هذا كله خطأ، ولا يقرون عليه أصلاً، وإلا خلها تجلس، تجلس تسعة شهور، تجلس تسعة سنين، وما الذي يضر في ذلك؟

ولهذا قال تعالى: فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ ۝ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:23، 24].

الآن فَقَدَرْنَا وفي القراءة الأخرى المتواترة: (فقدَّرنا)، وكثير من أهل العلم يفسر ذلك بمعنى واحد، فيقول: المقصود به التقدير، "قدَرنا" تفسرها القراءة الأخرى "قدّرنا"، فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَإِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [سورة القمر:49] على أحد التفسيرات.

وبعض أهل العلم يفرق في المعنى: قدَّرنا من التقدير، وقَدَرنا أي: ملكنا، قدَرنا بمعنى ملكنا، والملْك هو التصرف في الشيء، الله يتصرف في هذا الخلق وينقله من طور إلى طور، ويجعل له أمداً محدوداً.

ثم قال تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا ۝ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا [سورة المرسلات:25، 26] قال ابن عباس: كِفَاتًا كِنًّا.

كِنًّا بمعنى وعاء، ومن فسرها بأنها وعاء على هذا هي تكون وعاء لهم في حال الحياة وحال الموت، كيف تكون لهم وعاء في حال الحياة؟ هم يعيشون فوق ظهرها وتكنهم مساكنُهم، بيوتهم، دورهم، وبعد الموت تكنهم القبور، تكون القبور أوعية لهم، أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا أي: تكفتهم، فتكون كالوعاء لهم أو الكِنّ، فهم فوق ظهرها يعيشون في دورهم وبيوتهم، وإذا ماتوا كانوا في داخل قبورهم.

وقال مجاهد: يُكفَتُ الميت فلا يُرَى منه شيء.

معناها تكنه إذا مات، تغطيه.

وقال الشعبي: بطنها لأمواتكم، وظهرها لأحيائكم، وكذا قال مجاهد وقتادة.

هذا بمعنى ما سبق أيضاً، أَلَمْ نَجْعَلِ الأرْضَ كِفَاتًا ۝ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا تعيشون على ظهرها وإذا متم صرتم إلى بطنها، كذلك قول من قال: إنه في حال حياتهم فهم على ظهرها تكنهم دورهم، أو يكنون فيها أي: يسترون فيها -يدفنون فيها- ما يخرج منهم من ألوان الأذى أحياء، وأمواتاً: جيفهم تكون في داخل هذه الأرض.

وأصل الكفت في لغة العرب بمعنى الضم والجمع، فهي تجمعهم على ظهرها في حال الحياة، وتجمع أذاهم في داخلها، وتجمع أجسادهم في داخلها بعد موتهم.

وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ [سورة المرسلات:27] يعني: الجبال، أرسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب.

يعني: "رواسي" بمعنى ثوابت راسخات، و"شامخات" بمعنى الارتفاع، فكل مرتفع فهو شامخ.

وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا أي: عذباً زُلالاً من السحاب، أو مما أنبعه الله من عيون الأرض.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [سورة المرسلات:28] أي: ويل لمن تأمل هذه المخلوقات الدالة على عظمة خالقها، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره.

  1. رواه البخاري، كتاب جزاء الصيد، باب ما يقتل المحرم من الدواب، برقم (1830)، والإمام أحمد في المسند، برقم (4063)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  2. رواه البخاري، كتاب المغازي، باب مرض النبي ﷺ ووفاته، برقم (4429)، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب القراءة في صلاة المغرب، برقم (831)، وأحمد في المسند، برقم (26868)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
  3. رواه البخاري، كتاب الأذان، باب القراءة في المغرب، برقم (763).
  4. رواه ابن ماجه، كتاب الوصايا، باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت، برقم (2707)، وأحمد في المسند، برقم (17842)، وقال محققوه: "إسناده حسن"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (1099).

مواد ذات صلة