الخميس 09 / شوّال / 1445 - 18 / أبريل 2024
[3] من قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} الآية:10 إلى قوله تعالى: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} الآية:16
تاريخ النشر: ١١ / جمادى الآخرة / ١٤٣٥
التحميل: 6654
مرات الإستماع: 15846

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [سورة الإنسان:10] أي: إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير.

قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- عَبُوسًا ضيقا، قَمْطَرِيرًا طويلا.

وقال عكرمة وغيره عنه في قوله: يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا أي: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عَرَق مثل القَطران.

وقال مجاهد: عَبُوسًا العابس الشفتين، قَمْطَرِيرًا قال: تقبيض الوَجه بالبُسُور.

وقال سعيد بن جبير، وقتادة: تعبس فيه الوجوه من الهول، قَمْطَرِيرًا تقليص الجبين وما بين العينين من الهول.

وقال ابن زيد: العبوس: الشر، والقمطرير: الشديد.

هنا هذه الأقوال في عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا منهم من أرجع ذلك إلى صفة اليوم، ومنهم من أرجعه إلى صفة الناس فيه، كل الأقوال ترجع إلى هذين المعنيين، وذلك من حيث اللغة جائز بلا شك، أن يوصف الشيء بما يقع فيه، وقد يوصف الشيء بصفته المختصة به من حيث هو.

فالحاصل أن اليوم ظرف من الظروف من حيث هو لا يوصف بالعبوس، ولكن العرب قد تصف الشيء بما يقع فيه، لاسيما الظروف مثل الأيام والسنوات وما أشبه ذلك، فاليوم العبوس من جعله من صفة اليوم فسر ذلك بأنه اليوم الطويل مثلًا.

وقول ابن عباس: العبوس الضيق، والقطرير الطويل أو الشديد، ومن جعله من صفة الناس في ذلك اليوم جعل العبوس صفة لأولئك الأشقياء فيه، وأن وجوههم تكون عابسة، والقمطرير أي  تكون مقطبة مثلًا من شدة العبوس، يعني: أشد من العبوس، فذلك اليوم لا شك أنه يوم طويل شديد ضيق، فقول ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- هنا الذي نقله علي بن أبي طلحة عنه عَبُوسًا أي: ضيقًا، ضيقًا يعني: يقع عليهم فيه ضيق وشدة وكرب.

ولا شك أن هذه المعاني متلازمة، هذا المعنى ملازم لمن قال: إنه تعبس فيه الوجوه، لماذا تعبس الوجوه؟ إذا ضاق الإنسان واشتد عليه الأمر، فإنه يحصل له مثل هذا العبوس، بخلاف ما إذا حصل له سرور الباطن فإنه ينبلج وجهه ويستنير، فقال: عَبُوسًا ضيقًا، قَمْطَرِيرًا أي: طويلًا، ولا شك أنه جاء في صفة ذلك اليوم في الكتاب والسنة ما يدل على طوله فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة المعارج:4]، قيل: هو يوم القيامة، وفي رواية عكرمة وغيره عنه في قوله: يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا جعله من صفة الكافر، قال: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران، والقطران معروف، وأحضرناه مرة في درس الفقه.

يقول: وقال مجاهد: عَبُوسًا العابس الشفتين، جعله من صفة الإنسان نفسه، فهذه الأقوال لا منافاة بينها، فإن الكفار الآن يكونون في ضيق وشدة يظهر أثرها على وجوههم بالعبوس، والعبوس معروف وهو ضد التبسم والانشراح، ليس الانشراح فقط، فالتبسم والبشاشة وطلاقة الوجه وما أشبه ذلك يقابله العبوس، وهو ما يحصل من قبض الوجه والتقطيب، والعبوس على منازل ومراتب، فقد يشتد هذا العبوس حتى يصل إلى حالة من الكلوح في الوجه، وتجتمع فيه أطراف الجبهة مع شدة في البسور.

فالحاصل إذن يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا تعبس فيه الوجوه لطوله وشدته، ولذلك من قال: إن القمطرير هو الشديد -وهو اختيار ابن جرير -رحمه الله- وكثير من المفسرين- فهذا لا ينافي قول من قال: إنه اليوم الذي يشتد فيه عبوس هؤلاء الكفار، أو من قال: إنه طويل؛ لأن طوله يدل بلا شك أنه شديد، من شدته أنه طويل حتى يعرقون ويحصل فيه ما يحصل.

قال الله تعالى: فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا [سورة الإنسان:11] وهذا من باب التجانس البليغ، فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ أي: آمنهم مما خافوا منه، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي: في وجوههم، وَسُرُورًا أي: في قلوبهم.

جمع لهم بين الأمرين كما أشرنا من قبل، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي: بهاءً وجمالًا وحسنًا في وجوههم، بخلاف أولئك حصل لهم الضيق في النفوس، وظهر أثره على الوجوه بالبسور والتقطيب وكلوح الوجه -نسأل الله العافية، يوم شديد لا تراهم إلا في حال من الكلوح والبسور.

وأما هؤلاء فوجوههم مشرقة مضيئة عليها وضاءة الطاعة -البهاء والحسن، فالمقصود أن الله جمع لهم بين هذا وهذا، وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً أي: نضارة في وجوههم، فهذا في الظاهر، وَسُرُورًا وهو الانشراح في الباطن.

ولا شك أن بين الأمرين ملازمة، إذ إن الانشراح في الباطن يظهر أثره على الظاهر، والعكس، ولذلك تجد أن الثكلى يظهر ذلك في وجهها، والمحزون يظهر الحزن في وجهه ولو حاول أن يخفيه، وهكذا المنبسط المسرور منشرح الصدر يظهر ذلك على وجهه، ولذلك كان النبي ﷺ إذا سُر استنار وجهه ﷺ حتى يكون كفلقة القمر، من إضاءته وإشراقه -عليه الصلاة والسلام.

وهذا كقوله -تبارك وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [سورة القيامة:22، 23]، وصفها بالنضارة وما يحصل لها من اللذة والسرور بالنظر إلى وجه الله ، فهذا كله من هذا الباب، والله يقول: يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا [سورة الأعراف:26]، هذا في الظاهر، وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ فجمع لهم بين هذا وهذا، ذكرهم بهذا وهذا، كما قال في السماء -في وصفها: إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ۝ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ [سورة الصافات:6، 7]، فذكر الزينة الظاهرة للسماء بهذه النجوم، وذكر المعنى الباطن وهو أن ذلك يكون سببًا لحفظها من الشياطين من استراق السمع فلا يصلون إلى ذلك.

وكذلك قول امرأة العزيز: وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ [سورة يوسف:31]، فهؤلاء أعجبوا بهيئته الظاهرة، قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ [سورة يوسف:32] فهذا يدل على جماله الباطن، أنه عفيف موصوف بالعفاف والطهر والنزاهة.

وكذلك في قول الله : إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى ۝ وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى [سورة طه:118، 119]، فقابل بين هذا وهذا، أَلَّا تَجُوعَ هذا ذل الباطن، وَلَا تَعْرَى ذل الظاهر، ولَا تَظْمَأُ فِيهَا هذه حرارة الباطن، وَلَا تَضْحَى ضاحين كما في الحج في صفتهم، بمعنى أنه متعرض لحرارة الشمس لا يقيه منها شيء سقف أو شجر أو نحو ذلك، فـ وَلَا تَضْحَى أي: لا تتعرض لحر الشمس، فنفى عنه حرارة الباطن وحرارة الظاهر.

وهكذا: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [سورة البقرة:197]، تزودوا في أسفاركم بالزاد الذي تحتاجون إليه، تقتاتونه من الطعام والشراب، ثم ذكرهم بالزاد الآخر إلى الآخرة، سفر الدنيا يحتاجون القوت، وسفر الآخرة يحتاجون فيه إلى العمل الصالح، جمع بين هذا وهذا، وهذا كثير في القرآن.

قاله الحسن البصري، وقتادة، وأبو العالية، والربيع بن أنس، وهذه كقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ۝ ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ [سورة عبس:38، 39]، وذلك أن القلب إذا سُرَّ استنار الوجه، قال كعب بن مالك -رضي الله تعالى عنه- في حديثه الطويل: "وكان رسول الله ﷺ إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه فلقة قَمَر".

وقالت عائشةُ -رضي الله تعالى عنها: دخل عَلَيّ رسول الله ﷺ مسرورا تَبرُقُ أسَاريرُ وَجْهه[1]، الحديث.

وقوله تعالى: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا [سورة الإنسان:13] أي: بسبب صبرهم أعطاهم ونَوّلهم وبوّأهم جَنَّةً وَحَرِيرًا أي: منزلا رحبًا، وعيشا رَغَدًا، ولباسًا حَسَنًا.

وروى الحافظ ابن عساكر في ترجمة هشام بن سليمان الدّاراني قال: قرئ على أبي سليمان الداراني سورة: هَلْ أَتَى عَلَى الإنْسَانِ فلما بلغ القارئ إلى قوله: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا قال: بما صبروا على ترك الشهوات في الدنيا.

هذا كله على ترك الشهوات وعلى فعل الطاعات، والصبر على أقدار الله المؤلمة، فلم يحصل لهم الجزع والتسخط، إنما رضوا بما قدر الله عليهم، و تفسير ذلك بالشهوات يمكن أن يخرج باعتبار أن شهوة الإنسان هي ما يميل إليه بطبعه، ولا شك أن النفس تميل إلى الجزع في حال المصيبة، وتميل إلى الدعة، فيكون ذلك سببًا لترك الطاعة، فإن الداعي إلى ذلك كله إنما هو الهوى الذي يتجارى في نفس الإنسان، ولذلك هنا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا يفسر بذلك كله.

يقال: وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا على الطاعة، حبسوا النفس على طاعة الله ، وهذا فيه مشقة من جهات عدة، وصبروا على ترك المعصية، وصبروا على ما يقع أيضًا من الأكدار والنصَب فهي دار الكبد، مكابدة، لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ [سورة البلد:4]، من كان يظن أنها محل للراحة فهو مخطئ، ومن طال عمره كثرت أحزانه.

فالمقصود أنه هنا ذكر الجزاء وأضافه إلى هذا السبب وهو أنهم بسبب صبرهم جازاهم هذا الجزاء، فهم صبروا وفطموا النفوس عن مطلوباتها وأهوائها وشهواتها ومحبوباتها، ضيقوا عليها في الدنيا فأفضى بهم ذلك إلى سعة الآخرة، الدنيا سجن المؤمن[2]، فحبسوا النفوس عن الأهواء، فحصل لهم هذا الانفراج في الآخرة فعوضهم الله من سعة الجنة وبردها ونعيمها وألوان اللذات التي فطموا النفوس عنها في الدنيا بما لا يقارن ألبته بلذات هذه الدنيا الفانية المنغصة.

وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [سورة الإنسان:12]، الجنة تدل على السعة والبرودة، والإمام الزهري حينما زوج غلامًا له لقيه في الغداة وهو ذاهب إلى صلاة الفجر فقال: كيف وجدت أهلك؟ قال: جنة، وجدتها جنة، قال: الحمد لله، فيقول الإمام أحمد -رحمه الله: فتلطفت به؛ لأبين له المراد، معناها أنها ما لاءمته؛ لأن الجنة تعني السعة والبرودة، وذلك من الصفات المذمومة في معاشرة النساء، وإنما يطلب الضيق والحرارة  -السخونة، فالمقصود أن الجنة تدل على السعة والبرودة، فَهُم الصبر يورث لهم شيئًا من الخشونة والضيق، فأفضى ذلك بهم إلى السعة ولين العيش، جَنَّةً وَحَرِيرًا، الجزاء من جنس العمل.

مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا ۝ وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا ۝ وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَاْ ۝ قَوَارِيرَاَْ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ۝ وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلا ۝ عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلا ۝ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا ۝ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا ۝ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا ۝ إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا [سورة الإنسان:13-22].

يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم، وما أسبغ عليهم من الفضل العَميم فقال تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ وقد تقدم الكلام على ذلك في "سورة الصافات"، وذكر الخلاف في الاتكاء: هل هو الاضطجاع، أو التمرفق، أو التربع أو التمكن في الجلوس؟ وأن الأرائك هي السُّرر تحت الحجال.

يقول: مُتَّكِئِينَ فِيهَا أي: في هذه الجنة، عَلَى الأرَائِكِ، الاتكاء يقول: ذكرنا فيه الاحتمالات، والحافظ ابن القيم فيما أذكره في زاد المعاد أنه جعل ذلك جميعًا من الاتكاء، في الكلام على الاتكاء في الطعام، لا آكل متكئًا)[3]، قوله -عليه الصلاة والسلام، فسواءً كان التمرفق أي يضع مرفقه على ما يتكئ عليه، أو كان التربع باعتبار أنه يكون متمكنًا في جلسته، ويحتاج إلى وضع ذراعيه على فخذيه.

فابن القيم -رحمه الله- جعل هذا من الاتكاء في الطعام في الأكل، وكذلك الاتكاء بالظهر، إسناد الظهر إلى شيء وهو يأكل، وكذلك الميل بالجنب، يعني أن يسند جنبه إلى شيء بجانبه، وكل هذا من الاتكاء، والاضطجاع من باب أولى أبلغ في هذا المعنى.

فالمقصود أنه يرتفق بشيء ويعتمد عليه في جلوسه مثلًا، فالله يقول: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَائِكِ وهذه الجلسة فيها استرخاء، وأيضًا فيها شيء من الاسترواح، متكئين في الجنة على الأرائك، والأرائك جمع أريكة.

وبعض أهل العلم يقولون: كل ما يُتكأ عليه فهو أريكة، الوسائد التي يرتفق بها يقال لها: أرائك، إذا اتكأ على فراش يكون ذلك أريكة، كل ما يُتكأ عليه فهو أريكة، وبعض أهل العلم يجعلون ذلك خاصًا بما كان من سرير ونحوه، المقصود بالسرير ما يجلس عليه -كما يقال: سرير الملك الذي نسميه الآن الكنب- من سرير ونحوه ويكون مغطى بداخل ستور أو نحو ذلك، مثل المنصة التي تجلس عليها العروس، يقولون: هذه هي الأريكة، جلوس أهل النعمة والترف قديمًا بهذا الشكل.

ولذلك لماذا يفعلون هذا للعروس، ويزينون لها المحل ويسمونه الكوشة، وتجده حتى في الصور والدعايات الآن يضعون لها مثل الجلسة كما يقال: سرير الملك، ويتفننون في هذا، ويبالغون في تزيين ذلك بالستور وما شابهه.

وبعضهم يقول: لا يقال له أريكة إلا إذا كان بهذه الطريقة مغطى بهذا، وإلا فهو حَجَلة، يعني هذا المقعد -مكان الجلوس- من غير هذه الستور يقال له: حَجَلة في كلام العرب، ومعها يقال له: أريكة، فاجتماع هذا وهذا يقال له: أريكة، هذا القول مشهور جدًا عن العلماء من أهل اللغة، ومن المفسرين، بل لو قيل: إنه أشهر الأقوال لكان ذلك القول واقعًا في محله، والله تعالى أعلم.

وفي عُرف الناس الأريكة قبل مدة -يعني خمسين سنة أو نحو هذا- لربما أطلقت على ما نسميه الآن بالكنب، وهو المقعد المنجد الذي نسميه الكنب الآن، وفي عرف الناس اليوم الأريكة لون منه، وهي أدعى إلى الاسترخاء والراحة، فليس لها جوانب تحجزها من الناحيتين للاتكاء عليها، وإنما قد يكون لها ناحيتان من أجل التمدد والاسترخاء، أو لها ناحية واحدة في الجنب يسند ظهره إليها في الجنب فقط، مثل الكنب لكن ليس له ظهر، له على الجنب فقط.

في المحلات الراقية يضعون قطعة بهذا الشكل، فهذا يجلس عليه الإنسان يتمدد، الكنب تُتعب بالجلوس، فيحتاج أنه يتمدد، وأنواع منها يتحرك فيه هزاز، أو أحيانًا الأقدام نفسها تتحرك، وأنواع يرتفع وينزل على الكهرباء بحسب درجة ارتفاع الرجل الذي يريدها، هذا إذا أراد الإنسان أن ينعم نفسه ويترف نفسه، وهي في غالي الأثمان، هذا في عُرف الناس الآن، لكن هذا كله من الأرائك، في أصل لغة العرب هذا يسمى أريكة، إلا عند من قال: إنه إذا كان في داخل هذه الستور. 

فهذا حال أهل الجنة أنهم في غاية اللذة والنعيم، يجلسون في حال من الاسترخاء والتنعم في جلوسهم بأنعم الأماكن، بعدما كانوا يقاسون حر الشمس والتعب والكد في دار الكبَد، صاروا في هذه الأماكن التي وصفها الله في غاية النعيم، هذه الآيات لو أن الإنسان تأملها حقًا لزهد في الدنيا جميعًا بما فيها من أموال ونساء وأثاث ورياش وغير ذلك، لكن القلوب غافلة.

وقوله تعالى: لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا أي: ليس عندهم حَرّ مزعج، ولا برد مؤلم، بل هي مزاج واحد دائم سَرمديّ، لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا [سورة الكهف:108].

يعني ليس فيها حرارة، لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا لا يكونون ضاحين يجدون حرًا، ولا يجدون بردًا شديدًا يؤذيهم، الناس يتأذون بالبرد، ويتأذون بالحر، ولربما تعطلت كثير من مصالحهم، واعتلت أجسامهم بسبب شدة البرد أو شدة الحر، أما الجنة فهي في غاية الاعتدال، والناس إذا جاء الوقت في حال من الغيم مع شيء من لطافة الجو الناس يستريحون جدًا في مثل هذا الجو الذي يعتبر نادرًا في بلادنا.

فالجنة في غاية الاعتدال، لا تؤذيهم فيها الشمس، ولا حر الشمس، ولا تؤذيهم شدة البرد، لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا، لو قال: لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا، لربما ظُن أنها شديدة البرودة، فنفى الزمهرير فدل ذلك على الاعتدال، وهذا هو المشهور عند السلف والخلف، أنهم لا يرون فيها شمسًا فليس فيها حرارة تؤذيهم، وليس فيها شدة البرد، بخلاف من قال: إن الزمهرير هو القمر، قالوا: هذا في لغة طئ يسمون القمر بالزمهرير، ويذكرون قول الشاعر: وليلةٍ... أي: قطعتُها، الشعراء كانوا يفتخرون بقطع الليالي المظلمة في الأسفار وأنهم لا يخافون، ويردون الماء قبل الفجر، ويصفون شجاعتهم وبطولتهم، وهم لربما ما مشوا خمسة كيلو مترات على بعضها في وسط النهار، فالحاصل يقول:

وليلةٍ ظلامُها قد اعتكرْ قطعتُها والزمهريرُ ما زَهرْ

يعني: القمر ما ظهر، يعني في الليالي التي لا يسري فيها أحد، يعني الناس قديمًا يوم كانوا يسافرون بالدواب كانوا يعرفون الليالي التي يمشون بها في الأسفار، فآخر الشهر وفي أوله لا يستطيعون المشي في الليل، فالمقصود أن هذا القول وإن كان لغة لبعض العرب إلا أنه لا يجوز أن يفسر به القرآن هنا في هذه الآية، وذلك أنه لا يجوز العدول عن المعنى المشهور إلى معنى خفي غير متبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه.

وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا أي: قريبة إليهم أغصانها.

هؤلاء الذين قالوا -وهم قلة: الزمهرير هو القمر ما الذي جعلهم يقولون هذا؟ يلجئون إلى لغة طئ؟ أنه ذكر الشمس، فقالوا: إذا فسر الزمهرير بالقمر كان مناسبًا، لا يرون فيها شمسًا ولا قمرًا، لكن هذا القول فيه نظر.

الآن قوله: وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا الجنة ليس فيها شمس، فكيف يكون فيها ظل، نقول: هذا لا يرِدُُ في نعيم الجنة، الأمور الغيبية، هي ليس فيها شمس ولا حر، ولكنها ظلال النعيم، وبعض أهل العلم يلجأ إلى القول بأن المقصود بـ ظِلالُهَا: أن غصونها وفروعها قريبة منهم فقط، الله قال: ظلال، وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا، هذه ظلال النعيم، وإن لم يكن في الجنة شمس.

وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا أي: متى تعاطاه دنا القطْفُ إليه وتدلى من أعلى غصنه كأنه سامع طائع، كما قال تعالى في الآية الأخرى: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ [سورة الرحمن:54].

الجَنَى: يعني ما يجتنى من الثمار، جناها دانٍ أي: قريب في متناولهم، لا يحتاج أن يأتي بعود طويل أو حديدة ويتعانى قطع هذه الثمار، ويلحقه عناء وتعب بسبب ذلك، ولربما تركه بسبب صعوبة الوصول إليه، الآن كثير من الناس من عندهم مثلًا نخيل مزارع، أو في بيوتهم نخيل كثير، أو حتى نخلة واحدة، لربما تركوه وأهملوه، وإذا سألتهم قالوا: من يجنيه؟ صعب، رأيت بعض أهل المزارع يتركونه ثم يجعلونه للدواب، يقطعونه جميعًا ويعطونه الدواب، يقولون: مكلف جدًاً استخراج هذا الثمر في وقته أولًا بأول، بينما ثمر الجنة كما وصف الله ، وَدَانِيَةً، وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا كما قال في مياهها: يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا، بمجرد ما يريد هذه العيون في الجنة تكون طوع إرادته، تأتيه في أي مكان شاء وهو في قصره، وهو في غرفته، وكذلك الثمار ثمار الجنة في متناولهم، بمجرد ما يشتهيها يجد أنها في متناول يده أو تصل إلى فمه، ما يحتاج إلى طلب، أو ينتظر، أو يقوم هو بعملية جنيها.

 وقال -جل وعلا: قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ [سورة الحاقة:23].

قال مجاهد: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا إن قام ارتفعت بقَدْره، وإن قعد تَذللتْ له حتى ينالها، وإن اضطجع تَذللت له حتى ينالها، فذلك قوله تعالى: تَذْلِيلا.

مذللة كما قال الله : وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ [سورة يس:72]، أي: الأنعام بمعنى أنها طوع إرادتهم، فهذه القطوف والثمار بمجرد ما يشتهيها هي تصل إليه، سواء كان مضطجعًا أو قائمًا أو قاعدًا.

وقال قتادة: لا يردّ أيديهم عنها شوكٌ ولا بُعد.

كل هذا من تذليلها، لا يرد أيديهم عنها شوك، بخلاف التي في الدنيا فهي غير مذللة ممتنعة؛ لأن هذه الأشجار التي فيها الشوك هي بمنزلة ما يحصل من الدواب والبهائم والحيوانات والحشرات من العض أو النطح أو غير ذلك مما تدافع به عن أنفسها، فكذلك الأشجار هذا الشوك يكون حاجزًا بين الإنسان وبين الوصول إلى ما يريده منها إلا بنوع من المعاناة.

وقوله -جلت عظمته: وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ [سورة الإنسان:15] أي: يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام وهي من فضة، وأكواب الشراب وهي الكيزان التي لا عُرى لها ولا خراطيم.

وكثير من أهل العلم يقولون: إن الأكواب المقصود بها الكيزان الكبار التي لا عرى لها ولا خراطيم، يعني أنها تكون مثل هذا، مثل الجرة التي لا يد لها ولا خرطوم بمعنى مكان ينسكب منه الماء مخصص له في رأسها، وإنما هي مستوية الطرف في الأعلى، وكذلك لا عرى لها، الكيزان الكبار.

وقوله: قَوَارِيرَ قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ [سورة الإنسان:16] فالأول منصوب بخبر "كان" أي: كانت قوارير.

والثاني منصوب إما على البدلية أو تمييز؛ لأنه بيّنه بقوله: قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ.

يمكن أن يكون هذا تمييزًا لهذه القوارير، ويمكن أن يكون بدلًا، فكأنه قال: وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا، أو وأكواب من فضة، وأكواب الفضة؛ لأنه قال: قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ فإذا كانت بدلًا فهي بهذا المعنى، والقوارير: القارورة هي مستقر المائع، وغالبًا ما تكون هذه القوارير من الزجاج، فهنا قال الله : قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ، فذكْرُ القوارير يدل على الشفافية، وذكرُ الفضة يدل على البياض وجودة المادة والمعدن، بخلاف مادة الزجاج فإنها ليست من الجواهر النفيسة، بل لربما كان أصله من التراب.

فالمقصود أن هذه القوارير لمّا ذكرها المعهود لديهم أن القوارير إذا كانت في غاية الشفافية فهي من الزجاج، فهنا بيّن لهم لونًا آخر من القوارير غير معهود، وهي قوارير الفضة التي تشف عما في داخلها، الفضة في الدنيا لا يمكن أن تشف، ولو كانت -كما قال ابن عباس- كجناح الذباب، يعني في رقتها، ما تشف، فهنا بين لهم لونًا آخر؛ ولهذا بعض أهل العلم يقولون: كل ما في الجنة فإن الله ذكر مما وصف نظيرًا له في الدنيا، يعني يقربه، وإن كان هناك فرق كبير شاسع؛ فليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، يقولون: إلا قوارير الفضة هذه ليس لها نظير، لك أن تطلق خيالك.

قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد، والحسن البصري، وغير واحد: بياض الفضة في صفاء الزجاج، والقوارير لا تكون إلا من زجاج، فهذه الأكواب هي من فضة، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها، وهذا مما لا نظير له في الدنيا.

وقوله تعالى: قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا أي: على قدر رِيّهم، لا تزيد عنه ولا تنقص، بل هي مُعَدّة لذلك، مقدرة بحسب رِيّ صاحبها.

يعني سواء قلنا: إن الذين قدروها هم الملائكة، أو إن الذين قدروها لهم هم الخدم، أو قلنا: إن ذلك يعود إليهم، إلى المنعّمين الشاربين، وهذا هو الأقرب، قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا أي: أنها على قدر رِيّهم تمامًا من غير زيادة ولا نقص، وذلك أنها إذا كانت ناقصة عن الري فإن النفس يبقى فيها طَمْحٌ وجوعة وافتقار إلى هذا المشروب كما هو مشاهد، إنسان عطشان وتعطيه كأسًا صغيرًا يشربه فيشعر أنه ما حصل مقصوده من هذا الشراب، وإذا كانت زائدة كثيرة فإن الإنسان يرتوي ثم بعد ذلك تعاف نفسه هذا السؤر الذي بقي، ولا تميل إليه، وتزهد فيه، أما إذا كان على قدر حاجته تمامًا فهذا هو الأكمل، ولذلك يمكن أن يستفاد من هذا حتى في الدنيا، أن يكون ما يتعاطاه الإنسان للشراب والطعام على قد حاجته، من غير زيادة ولا نقص، أقصد الآنية.

قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا أي: أنها على قدر ريهم، فيأتيهم من هذه الآنية بحسب حاجة نفوسهم، هذا قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا فيكون ذلك عائدًا إليهم، ما يقع في نفسه يأتيه مباشرة بهذه الكيزان.

هذا معنى قول ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبي صالح، وقتادة، وابن أبزى، وعبد الله بن عُبيد الله بن عمير، وقتادة، والشعبي، وابن زيد، وقاله ابن جرير وغير واحد، وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة.
  1. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب صفة النبي ﷺ، برقم (3555)، ومسلم، كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، برقم (1459).
  2. رواه مسلم، في أوائل كتاب الزهد والرقائق، برقم (2956).
  3. رواه البخاري، كتاب الأطعمة، باب الأكل متكئا، برقم (5398)، وأبو داود، كتاب الأطعمة، باب ما جاء في الأكل متكئا، برقم (3769)، وأحمد في المسند، برقم (18754)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط الشيخين، أبو نعيم: هو الفضل بن دكين، وسفيان: هو الثوري".

مواد ذات صلة