الثلاثاء 09 / رمضان / 1445 - 19 / مارس 2024
[5] من قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} الآية:26 إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} الآية:25
تاريخ النشر: ١٥ / ذو القعدة / ١٤٢٧
التحميل: 4043
مرات الإستماع: 17752

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى- في تفسير قوله تعالى:

مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۝ لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [سورة الحديد:22-24].

يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ أي: في الآفاق وفي أنفسكم، إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا أي: من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة.

وقال قتادة: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ قال: هي السنون، يعني: الجَدْب، وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يقول: الأوجاع والأمراض، قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ولا نكبة قدم، ولا خلجان عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقول الله -تبارك وتعالى- هنا: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا الضمير هنا الهاء نَّبْرَأَهَا هل يعود إلى الأنفس -وهي أقرب مذكور، أو يعود إلى الأرض، أو إلى أي شيء يعود؟

هنا الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا أي: من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة، مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا أن نبرأ المصيبة، أو نبرأ الأرض، أو نبرأ الأنفس، هذه ثلاثة أقوال للسلف.

كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا من أحسن ما يكون في التفسير، قال: من قبل أن نخلق الخليقة، وعلى هذا يكون الضمير يعود إلى الجميع، من قبل أن يخلق الله النفوس، ومن قبل أن يخلق المصيبة، ومن قبل أن يخلق الأرض، وكل ذلك كائن؛ لأن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.

من قال: قبل أن يخلق الأرض فهذا صحيح دل عليه الحديث، ومن قال: قبل خلق النفوس فهذا صحيح، ومن قال: قبل أن نخلق المصيبة فهذا أيضاً صحيح، فعبر بهذه العبارة: من قبل أن نخلق الخليقة، فصار ذلك شاملاً للجميع، وهذا هو الأحسن في تفسيرها -والله تعالى أعلم، وهو اختيار الحافظ ابن القيم -رحمه الله، وأمّا من قبل أن نبرأ النسمة باعتبار أنه أقرب مذكور فهو قول صحيح، لكن هذا أشمل منه، القول الآخر من أنه قبل أن يخلق ويبرأ النسمة هذا قال به ابن جرير.

وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القَدَرية نُفاة العلم السابق قبحهم الله.

يعني هؤلاء القدرية القدماء الذين انقرضوا منذ عهود متطاولة، لم يعد يقول به طائفة، وإنما القدرية تركوا هذا القول وهجروه، فصاروا إلى ما دونه، فكان أوائلهم ينفون علم الله السابق، يقول: إنه لا يعلم أفعال العباد مثلاً ما سيعملون، فهذا غاية الكفر؛ ولهذا قال من قال من السلف : ناظِروهم بالعلم، فإن أثبتوه خُصموا –إن أقروا خُصموا، وإن جحدوا كفروا.

روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قدَّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة[1].

ورواه مسلم في صحيحه وزاد: وكان عرشه على الماء[2]، ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح.

وقوله تعالى: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها وكتابته لها طِبق ما يوجد في حينها سهل على الله ؛ لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

وقوله تعالى: لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ أي: أعلمناكم بتقدم علمنا وسبْق كتابتنا للأشياء قبل كونها، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم، وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم، فلا تأسوا على ما فاتكم؛ لأنه لو قدر شيء لكان، وَلا تَفْرَحُوا بِمَا أتَاكُمْ أي: جاءكم، وتفسير آتَاكُمْ أي: أعطاكم، وكلاهما متلازم.

هذا من الاختصار الذي يخل، لأن الكلام هنا ليس مستقيماً، يعني: وَلا تَفْرَحُوا بِمَا أتَاكُمْ هذه ضعها بين قوسين، هذه قراءة أبي عمرو قراءة متواترة، فهنا ما أتى بها على أنها قراءة، وَضَعَها هكذا، فالقارئ حينما ينظر إليها يقول: "فلا تأسوا على ما فاتكم"، لأنه لو قدر شيء لكان، وَلا تَفْرَحُوا بِمَا أتَاكُمْ يظن أنها خطأ في الكتابة -فقط الهمزة، وإنما هي قراءة متواترة، الآية قرأها الجمهور: بِمَا آتَاكُمْ أي: بما أعطاكم، لا تفرحوا بما أعطاكم، والقراءة الثانية قراءة أبي عمرو: بِمَا أَتَاكُمْ يعني: جاءكم، وقال: والقراءتان متلازمتان، بمعنى: أن ما أعطاك إياه وصلك، جاءك، وما جاءك فقد أعطاك الله إياه، بينهما ملازمة، وإن كان المعنى يختلف إلا أن المعنيين متلازمان، "لكي لا تفرحوا بما آتاكم".

وتفسير: آتَاكُمْ أي: أعطاكم، وكلاهما متلازم، أي: لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم، فلا تتخذوا نعم الله أشرًا وبطرًا، تفخرون بها على الناس.

في قوله هنا: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا يمكن أن يحمل كما قال جماعة من السلف على الفرح المذموم، الذي يَحمل على الأشر والبطر والخيلاء والتكبر والتعالي، كما قال من نصح قارون، قالوا له: لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ [سورة القصص:76].

فالفرح منه ما هو محمود مطلوب: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ [سورة يونس:58] الفرح بالإسلام، وبظهوره، وانتشاره، وانتصار المسلمين، هذا كله قربة وطاعة ويدل على الإيمان، والله يحبه، وهناك فرح مباح، كأن يفرح الإنسان بالتفوق في دراسة أو ربح تجارة، أو نحو هذا، فهذا لا إشكال فيه.

والنوع الثالث هو الفرح المحرم الذي يحمل صاحبه على الأشر والبطر والكبر، كما قال الله وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ [سورة الإسراء:37] يعني: فسر بالفرح، لكنه الفرح المذموم، هنا وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ يحتمل أن يحمل على هذا المعنى، ويحتمل أن يحمل على الفرح المعروف، لأنه قابله بالحزن: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ.

ويقول هنا: أي: لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا كدكم، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم، فلا تتخذوا نعم الله أشراً.. إلى آخره، الآن ظاهر من كلام ابن كثير تفسير الفرح هنا بالفرح الذي يحمل على الأشر، الفرح المذموم، ولماذا يعني النهي عن الحزن، واضح أن هذا بقدر، لكن النهي عن الفرح: وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ؟

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- هنا علله كما ترون بأن ذلك ليس من كدكم، يعني: كتب للإنسان رزقه وأجله وعمله وهو في بطن أمه، وهذا التقدير العمري، وكتب أيضاً في اللوح المحفوظ التقدير الأزلي، فهذا ليس من كدكم ولا ذكائكم ولا سعيكم، وإنما كتبه الله لكم وقدره فلا داعي للفرح، وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ.

ويمكن أن يكون النهي هنا عن الفرح أو التعليل بذلك كما قال بعض أهل العلم باعتبار أن هذا زائل عما قريب، والله ساقه لكم وقدره لكم، وتأتي مقادير الله على ما قدر، فسيأتي اليوم الذي تفارقونه فيه أو يفارقكم؛ ولهذا قال بعض أهل العلم: إن ذلك يعني: لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ؛ لأن المصيبة فيه قد كتبت، المصيبة فيه كتبت أبداً، إن حصل اجتماع الأهل والأقارب والأسرة في عيد أو إجازة أو غير ذلك -مناسبة- سيأتي الافتراق، فالمصيبة فيه حاصلة، إن حصل أن الناس خرجوا في نزهة أو نحو ذلك فرحوا فعما قريب يتثاقل الواحد منهم أن يحمل نفسه فضلاً عن أن يحمل أمتعته حينما يرجع، وهكذا في كل أمور الإنسان، فالمصيبة فيها حاصلة، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ.

ومن أهل العلم من يقول: لأن هذا لا يستحق الفرح أصلاً، فهو متاع قليل زائل لا يستحق هذا كله.

والآية مرتبطة بالقدر، وهذا تعليل صريح: لِكَيْلَا يعني: أعلمناكم بذلك لكيلا يحصل منكم هذا، فيكون باعتبار أن الإنسان يعرف أن هذه الأمور مقدرة، فلا يجزع إذا وقعت له مصيبة، ولا تطير به النعمة فيخرج عن طوره ويَبطَر وتأخذه أو تحمله نشوة الفرح على أمور لا تليق، وإنما يبقى على حالة مستقرة ثابتة يلزم فيها الصراط المستقيم في أحواله كلها، في المصيبة وفي أوقات المسرات والفرح، وكثير من الناس لا يتمالك نفسه في الفرح فيتصرف بما لا يليق، إن جاء زواج له أو نحو ذلك وقع منه ما لا يليق.

والناس إذا أردت أن تعرف عقولهم فانظر إلى تصرفاتهم في المصيبة، وفي أفراحهم ومناسباتهم، تعرف عقول الناس، كثير من الناس تجدهم في حال من الرزانة وإذا جاء عندهم عرس رأيتهم في خفة النساء، ورأيت حرصهم وتباهيهم واستماتتهم على الظهور، وإذا نظرت إلى الأصباغ في وجوه النساء والألوان هؤلاء ما عُرفوا بهذا، الناس كانوا يظنون أنهم ناس أهل رزانة، فأصابهم شيء من الخفة في هذه المناسبة، طاشت عقولهم.

وكذلك في الأحزان تجد الإنسان أحياناً تظنه ثابتاً ورابط الجأش، وقد تجده أحياناً يبكي بكاء النساء أو الأطفال في المقبرة أو في العزاء، أو مما ينتقده عليه حتى الأطفال الصغار، والناس ينظرون إليه وكذا، وقد رأينا من يغمى عليه في الهيئة، ويصيح بأعلى صوته في المقبرة، ويتجمع الناس عليه ويسقط شماغه، فمثل هذه الأشياء الإنسان ما يكتشف حقيقته أحياناً أو لا يعرفها الناس إلا في مثل هذه المقامات.

ولذلك تكلم العلماء على مسألة العطايا والهبات في أوقات الحزن الشديد، وفي أوقات الفرح الشديد، وكره من كره من أهل العلم أخذ ذلك؛ لأنه يندم، فهو في حالة الفرح الشديد يمكن أن يقول: خذ مفتاح السيارة، خذ كذا، خذ لك مائة ألف، وإذا رجع إلى عقله -انتهت السكرة- بدأ يتندم وكيف أنا فعلت هذا؟! هذا كان يمكن أن نعطيه ألفي ريال، كيف أعطيته سيارتي وكيف؟! وهكذا تجده في وقت الحزن الشديد أيضاً قد يتصرف تصرفات عجيبة، والله المستعان.

ولهذا قال تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ أي: مختال في نفسه متكبر، فخور أي: على غيره.

وقال عكرمة: ليس أحد إلا هو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكرًا والحزن صبرًا.

هذا بمعنى الكلام الذي ذكرته آنفاً، لا يحملكم الفرح على ما لا يليق، ولا تحملكم المصيبة على الجزع، والنعمة لا تحملكم على البطر وما لا يحسن ولا يجمل، انظروا إلى الناس في الأعياد وفي غيرها من المناسبات.

وقوله: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ۝ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يعني هل الذين يبخلون عائد إلى ما قبله ويكون كالتفسير له، من هو المختال الفخور؟ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ، لا ليس كذلك، وإنما هذا كلام جديد مستأنف وليس تفسيراً لكل مختال فخور، والمختال الفخور قد لا يكون كذلك، وإنما هو كلام جديد، الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ والخبر مقدر أي فإن الله غني عنهم مثلاً، كما يدل عليه ما بعده.

ثم قال تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي: يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه.

والبُخل فيها قراءة متواترة أخرى، قراءة حمزة والكسائي بفتحتين يعني: البَخَل، والمعنى واحد، هي لغة أهل المدينة، أو لغة الأنصار.

وَمَنْ يَتَوَلَّ أي: عن أمر الله وطاعته، فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ كما قال موسى : إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة إبراهيم:8].

وهذه الآية فيها نوع من القراءة معروف من أوجه الأحرف السبعة، وهو ما يعبرون عنه بالزيادة والنقص، فهنا يقول: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وفي قراءة نافع وابن عامر: فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ بدون هو.

والأحرف السبعة الأقرب في تفسيرها أن المراد بها سبعة أوجه من وجوه التغاير، بالاستقراء غير التام، من ذلك مثلاً الإبدال: إبدال لفظة بلفظة مثل "كالصوف" مكان "كالعهن"، قراءة غير متواترة، وإبدال حرف بحرف التاء والياء: "تعملون ويعملون"، مثلاً السين والصاد: "صراط وسراط"، وكذلك أيضاً التقديم والتأخير: "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم" قراءات غير متواترة، وكذلك أيضاً الزيادة والنقص: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ العَصْرِ} [سورة البقرة:238]، باعتبار أنها قراءة غير متواترة طبعاً، وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ [سورة الكهف:79]، "وكان أمامهم"، هذا من الإبدال، وأيضا "ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً"، "صالحة" غير متواترة.

وهنا: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، "فإن الله الغني الحميد"، وكلاهما متواتر.

وهنا يرد سؤال معروف وهو أنه إذا كان عثمان جمع الناس على حرف واحد وهو حرف قريش، وأيضاً كتب المصاحف، وأمر الناس.. فكيف وُجدت هذه "فإن الله هو، وفإن الله الغني الحميد"؟ يقال: إن ذلك يرجع إلى حرف قريش بالوجهين ففرقه في المصاحف، ما كان يرجع إلى حرف قريش كتبه على وجه في مصحف، وكتبه على وجه في مصحف آخر: تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ.

لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحديد:25].

يقول تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ أي: بالمعجزات، والحجج الباهرات، والدلائل القاطعات، وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وهو النقل الصدق، وَالْمِيزَانَ وهو العدل، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة، كما قال: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ [سورة هود:17]، وقال تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [سورة الروم:30]، وقال تعالى: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [سورة الرحمن:7]؛ ولهذا قال في هذه الآية: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي: بالحق والعدل وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به، وطاعتهم فيما أمروا به، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [سورة الأنعام:115] أي: صدقًا في الإخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي؛ ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوءوا غرف الجنات، والمنازل العاليات، والسرر المصفوفات: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف:43].

في قوله هنا: وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ الميزان فسره بعض السلف بالميزان المعروف، وفسره بعضهم بالعدل، وكذا في قوله -تبارك وتعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ [سورة الشعراء:182] فُسر بالميزان الآلة، يعني: المستقيم الذي لا عوج فيه ولا تدليس وغش، وفسر بالعدل، وبين المعنيين ملازمة، فالآلة هذه إنما هي آلة العدل، الآلة التي يتوصل بها إلى تحقيق العدل، وَأَنزلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي: أنزل الله معهم العدل وآلة العدل، ومعنى إنزال الميزان فسره جمع من أهل العلم بخلقه، إذا قيل الميزان الحسي، وليس بين المعنيين تعارض.

لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي: بالعدل، ومن فسره بالميزان الآلة قالوا: من أجل ألا يكون تكراراً مع قوله: لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ يعني: أنزل العدل ليقوم الناس بالعدل، لكن الواقع أنه لا تكرار فيه.

وقوله تعالى: وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي: وجعلنا الحديد رادعًا لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه؛ ولهذا أقام رسول الله ﷺ بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة تُوحَى إليه السور المكية، وكلها جدال مع المشركين، وبيان وإيضاح للتوحيد، وبينات ودلالات، فلما قامت الحجة على من خالف شرع الله الهجرة، وأمرهم بالقتال بالسيوف، وضرب الرقاب والهام لمن خالف القرآن وكذب به وعانده.

وقد روى الإمام أحمد وأبو داود عن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: بُعِثتُ بالسيف بين يَدَي الساعة حتى يُعبَد الله وحده لا شريك له، وجُعِل رزقي تحت ظِلّ رُمْحي، وجُعل الذلة والصِّغار على من خالف أمري، ومن تَشبَّه بقوم فهو منهم[3].

ولهذا قال تعالى: فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني: السلاح كالسيوف والحراب والسنان والنصال والدروع ونحوها، وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ أي: في معايشهم كالسكّة والفأس والقَدوم والمنشار والإزميل والمجرفة والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ والخبز، وما لا قوام للناس بدونه، وغير ذلك.

قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ أي: من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسوله، إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ أي: هو قوي عزيز، ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض.

وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ البأس الشديد سواء كان في القتال أو كان في غيره كما هو مشاهد من هذه المراكب التي تحمل الأثقال، وما نشاهده من رافعات وغيرها، ومصانع ومنافع للناس مختلفة من الأشياء الدقيقة والأشياء الجليلة، فإن عامة هذه الصناعات تقوم على الحديد، وَأَنزلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أنزل الكتاب هادياً، ومن لم ينفع معه هدايات الكتاب فإنه ينفع معه الحديد، هذا المعنى، فإذا تعذرت هدايات الكتاب تعينت الكتائب، والله  أنزل هذا وهذا، فمن الناس من يُقبل على هدى الله ، ومن الناس من يعرض عنه ويكابر، فالحديد لمثل هؤلاء.

  1. رواه أحمد في المسند، برقم (6579)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم، رجاله -عدا ابن لهيعة- ثقات رجال الشيخين، غير أبي هانئ الخولاني -واسمه حميد بن هانئ، وأبي عبد الرحمن الحُبُلي -وهو عبد الله بن يزيد المعافري- فمن رجال مسلم. أبو عبد الرحمن شيخ أحمد: هو عبد الله بن يزيد المقرئ، وحيوة: هو ابن شريح، وابن لهيعة: هو عبد الله، وهو سييء الحفظ، لكنه متابع"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4380).
  2. رواه مسلم، كتاب القدر، باب حجاج آدم وموسى -عليهما السلام، برقم (2653).
  3. رواه أحمد في المسند، برقم (5115)، وقال محققوه: "إسناده ضعيف، عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان قد سلف الكلام عليه في الحديث السابق، أبو النضر: هو هاشم بن القاسم"، وقال الشيخ الألباني في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (5/ 109)، عند حديث برقم (1269): "قلت: وهذا إسناد حسن رجاله كلهم ثقات غير ابن ثوبان هذا، ففيه خلاف، وقال الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، وتغير بآخره".

مواد ذات صلة