السبت 11 / شوّال / 1445 - 20 / أبريل 2024
[1] من قوله تعالى: {وَالطُّورِ} الآية:1 إلى قوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} الآية:28.
تاريخ النشر: ٠٢ / محرّم / ١٤٣٥
التحميل: 4105
مرات الإستماع: 17595

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المفسر -رحمه الله تعالى:

تفسير سورة الطور وهي مكية

روى مالك عن جُبَير بن مطعم قال: "سمعت النبي ﷺ يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً -أو قراءة- منه"[1]، أخرجاه من طريق مالك.

جبير بن مطعم قدم على النبي ﷺ بعد غزوة بدر في قضية الأسارى.

وروى البخاري عن أم سلمة -رضي الله تعالى عنها- قالت: "شكوت إلى رسول الله ﷺ أني أشتكي، فقال: طُوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفت ورسول الله ﷺ يصلي إلى جنب البيت يقرأ بالطور وكتاب مسطور"[2].

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالطُّورِ ۝ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ۝ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ۝ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ۝ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ۝ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ۝ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ۝ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ۝ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ۝ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ۝ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ۝ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ۝ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ۝ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ ۝ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الطور:1-16].

يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة أن عذابه واقع بأعدائه، وأنه لا دافع له عنهم، فالطور: هو الجبل الذي يكون فيه أشجار، مثل الذي كلم الله عليه موسى، وأرسل منه عيسى -عليهما السلام، وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طوراً، إنما يقال له: جبل.

الطور، من أهل العلم من يفسره بتفسير أوسع من هذا، يقول: هو الجبل، وبعضهم يقول: أصله سرياني، وهذا لا دليل عليه، ومنهم من يفسره بمعنى أضيق إلا أنه واسع أيضاً، كما قال ابن كثير -رحمه الله- هنا، الطور: هو الجبل الذي فيه شجر، ولا يختص ذلك بطور سينا.

ومن أهل العلم من يفسره بتفسير أضيق من هذا ويقول: هو جبل مخصوص، عرفه هنا بـ"ال" المعرِّفة، والطور، وعرفه بموضع آخر بالإضافة، وَطُورِ سِينِينَ [سورة التين:2] وهو الجبل الذي أوحى الله إلى موسى عنده، وكلم موسى عنده تكليماً مباشراً، فهذا الجبل له شرف ومزية على سائر الجبال، فتفسيره بهذا يؤيده قوله -تبارك وتعالى- في الموضع الآخر وَطُورِ سِينِينَ، فقوله: وَالطُّورِ، يفسر بالآية الأخرى، فعُرف هنا بـ"ال" وعرف هناك بالإضافة، وهذا هو الأقرب -والله تعالى أعلم، وهذا الذي عليه عامة المحققين سلفاً وخلفاً، أنه جبل خاص، وهو جبل معروف إلى اليوم، وبهذا قال ابن جرير والحافظ ابن القيم، وكثير من أهل العلم، ومن المتأخرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله.

وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهاراً.

قيل: هو اللوح المحفوظ، وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ السطر يعني: الكتابة، تقول: سطرته يعني كتبته، وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ، مكتوب، وتفسيره باللوح المحفوظ فيه إشكال، وذلك أن الله قال: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ۝ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، والرق كثير من أهل العلم يفسرونه كما سيأتي بالجلد الرقيق الذي يكتب به، ومن قال: إن اللوح المحفوظ من جلد فهذا فيه إشكال.

يقول هنا الحافظ ابن كثير: قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: الكتب المنزلة المكتوبة التي تقرأ على الناس جهاراً، ولا يختص ذلك بكتاب منها، وبعضهم خصه بألواح موسى، مع أنه جاء في صفة الألواح في حديث حسن الإسناد ما يدل على خلاف ذلك، وأنها تحطمت حينما ألقاها موسى -عليه الصلاة والسلام، فليست في جلد، وبعضهم يقول: هو ما تكتبه الحفظة من أعمال بني آدم فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ، كما قال الله : وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [سورة الإسراء:13]، فهو كتاب الأعمال التي كتبت على الإنسان من خير وشر، وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ.

وبعض أهل العلم فسره بتفسير لم يخصص فيه شيئاً دون شيء، وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ يعني: وكتاب مكتوب، يحتمل أن يكون هذا القرآن، وهو ما اختاره ابن القيم -رحمه الله- أعني أنه هذا القرآن، واستدل لذلك -كما سيأتي، ويحتمل أن يكون الكتاب المسطور غير القرآن عند القائل بهذا وهو ابن جرير -رحمه الله، وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ يعني: وكتاب مكتوب، ولم يحدد هذا الكتاب، فيحتمل هذا أو هذا أو هذا، هذا ما اختاره كبير المفسرين، ويقول: التي تقرأ على الناس جهاراً، ولهذا قال: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ.

وتفسيره بالقرآن لعله أقرب -والله تعالى أعلم، وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ۝ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ، والله قد أقسم بالقرآن قال: وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [سورة الزخرف:2]، وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [سورة يس:2]، والقرآن مكتوب في صحف بأيدي الملائكة كما في سورة عبس فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ ۝ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ ۝ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ [سورة عبس:13-15]، فالله أقسم بمواضع من كتابه بالقرآن، وأخبر أنه بأيدي سفرة، كما أنه في اللوح المحفوظ، كما أنه أيضاً نزل جملة إلى سمائنا الدنيا في بيت العزة في ليلة القدر، وهذه الصحف قد تكون هي المرادة -يعني التي بأيدي الملائكة- بقوله تعالى: فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ يعني: في صحف، وهذا القول رجحه ابن القيم -رحمه الله، ومن المعاصرين الشيخ محمد الأمين الشنقيطي.

وابن القيم -رحمه الله- في مثل هذه المواضع يربط بين هذه الأقسام وبين النبوات، يعني مثلاً في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ۝ وَطُورِ سِينِينَ ۝ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [سورة التين:1-3]، يقول: هذه دلت على النبوات الثلاث المشهورة، فالتين والزيتون ترمز للشام، وهو موطن عيسى -عليه الصلاة والسلام، وَطُورِ سِينِينَ لموسى ﷺ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعني مكة، للنبي ﷺ، وتجد في بعض الكتب السابقة أن الله تجلى من الطور لموسى ﷺ، ونزل في ساعير، يعني الشام، وتجلى في جبال فاران، يعني جبال الحجاز، أو عبارة نحو هذه في كتبهم، إن لم يكن ذلك مما حُرف، فذكر النبوات الثلاث، فهنا وَالطُّورِ ابن القيم -رحمه الله- يقول: هذا إشارة إلى نبوة موسى -عليه الصلاة والسلام، وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ قسم بالقرآن الذي أنزل على محمد ﷺ، ولهذا يقول أيضاً: إنه قد أقسم بسيد الجبال وهو الطور، وسيد الكتب وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [سورة المائدة:48] وهو القرآن، وسيد البيوت وهو البيت المعمور، والله أعلم.

ولهذا قال: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ۝ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ.

فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ بعضهم يفسر الرق بالجلد الرقيق، "رِق" الجلد الرقيق الذي يكتب به، وقد يكون هذا أصله، ولكن صار ذلك يطلق على كل ما يكتب به من صحيفة من ورق أو نحو ذلك، يقال له: رق.

ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال في حديث الإسراء -بعد مجاوزته إلى السماء السابعة: ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخرَ ما عليهم[3] يعني: يتعبدون فيه ويطوفون، كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم كذلك ذاك البيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة.

البيت المعمور هذا أحسن ما يفسر به، وهذا من تفسير القرآن بالسنة، وهو بحيال البيت المعمور في الأرض –الكعبة، فوقه تماماً، وبعض أهل العلم يقول: لكل سماء بيت معمور، وبعضهم يقول: البيت المعمور المراد به هنا الذي في السماء الدنيا، وهذا لا دليل عليه، ومنهم من يقول: المراد به الكعبة، وأحسن ما يفسر به القرآن القرآن، وكذا أيضاً ما ورد في السنة.

ولهذا وَجد إبراهيمَ الخليل -عليه الصلاة السلام، مسنداً ظهره إلى البيت المعمور؛ لأنه باني الكعبة الأرضية، والجزاء من جنس العمل، وهو بحيال الكعبة، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها، ويصلون إليه، والذي في السماء الدنيا يقال له: بيت العزة، والله أعلم.

هذا بناء على الأثر الثابت عن ابن عباس -رضي الله عنهما- وله حكم الرفع؛ لأن ذلك لا يقال من جهة الرأي، ولا يمكن أن يتلقاه ابن عباس -رضي الله عنهما- من بني إسرائيل، حينما ذكر أن القرآن نزل إلى بيت العزة في سماء الدنيا في ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجماً على النبي ﷺ، فمثل هذا –أي كونه بيت العزة، وكون القرآن نزل جملة واحدة وفي ليلة القدر إلى هذا المكان- لا يمكن أن يقال اجتهاداً، فله حكم الرفع إلى النبي ﷺ.

وقوله تعالى: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: قال سفيان الثوري، وشعبة، وأبو الأحوص، عن سِمَاك، عن خالد بن عَرْعَرَة، عن علي: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني: السماء، قال سفيان: ثم تلا: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ [سورة الأنبياء:32]، وكذا قال مجاهد، وقتادة، والسدي، وابن جُرَيْج، وابن زيد، واختاره ابن جرير.

وهذا قسَمٌ بالسماء موجود في القرآن في مواضع متعددة، وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ [سورة الطارق:1]، وكما سبق وَالسَّمَاء ذَاتِ الْحُبُكِ [سورة الذاريات:7]، وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ [سورة البروج:1]، وما أشبه هذا.

وقوله تعالى: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ قال الجمهور: هو هذا البحر.

قال الجمهور: هو هذا البحر، البحر المسجور؛ لأن بعضهم يقول: هو بحر تحت العرش، والمشهور الذي عليه عامة أهل العلم أن البحر المسجور هو هذا البحر الذي نعهده ونعرفه.

والمراد أنه يُوقَد يوم القيامة ناراً كقوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [سورة التكوير:6] أي: أضرمت فتصير ناراً تتأجج، محيطة بأهل الموقف.

يدل على هذا -يعني هذا التفسير بأن الْمَسْجُورِ الموقد- قول الله : ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [سورة غافر:72]، ومعنى يسجرون يحرقون، تقول: سجرتُ النار بمعنى أوقدتها.

رواه سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه، ورُوي عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وبه يقول سعيد بن جبير، ومجاهد، وعبد الله بن عبيد بن عُمير وغيرهم.

وقال قتادة: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ المملوء، واختاره ابن جرير ووجّهه بأنه ليس موقداً اليوم فهو مملوء.

هذا الذي عليه عامة أهل اللغة إن لم يكن جميع أهل اللغة، يقولون: المسجور يعني: المملوء، فالله أقسم بالبحر، يقولون: ليس بموقد كما نشاهده، ومن معاني المسجور المملوء في اللغة، فابن جرير يقول: أشهر المعاني لهذه اللفظة الْمَسْجُورِ الموقد والمملوء، يقول: وحيث إنه ليس بموقد فبقي المعنى الآخر فصرنا إليه، وهو المملوء، مملوء ماء، كما نشاهد، وهذه آية من آيات الله حيث لا يفيض هذا الماء على أهل الأرض فيغرقوا، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ المملوء.

ومن أهل العلم من يفسره بغير هذا، بعضهم يقول: الممسوك، المحبوس، تقول: سجرتُ الباب، اسجر البابَ، ولا زال هذا مستعملاً إلى اليوم، تقول: سجرت الكلب، منعته، حبسته، ربطته، فهو محبوس لا يفيض ولا يطغى فيغرق أهل الأرض، حبس في مكانه، وبعضهم يقول: المسجور يعني المفجور، وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ [سورة الإنفطار:3]، وبعضهم يقول: هو الذي يختلط فيه العذب والملح، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ [سورة الرحمن:19]، على تفسير هذا بالعذب والآخر بالملح.

ويمكن أن تكون عامة هذه المعاني صادقة عليه، فهو مملوء ويسجر في يوم القيامة، وهو محبوس؛ لئلا يفيض على الناس فيهلكهم ويغرق أهل الأرض، وهذا الوجه من الجمع وجه حسن مال إليه الحافظ ابن القيم -رحمه الله.

وهذا الموضع يتكلم عليه أصحاب الإعجاز العلمي، ويقولون: إن الله أقسم بالبحر الآن، المسجور الموقد الآن، وما رأيت أحداً من المفسرين قال بهذا، الموقد الآن، يقولون: البحر الآن موقد، وقد قلت لبعضهم: الآن البحر يصور، يصور قعره وينزل إليه الغواصون ويغرق فيه الناس، تغرق فيه السفن ولا يحترقون، أين؟ ما نرى، فيه أسماك وفيه نباتات في قعر البحر، قال: لا، في خنادق، هذه الخنادق الذي يقع فيها ويدخل فيها يحترق، ولهذا وقع فيها قوم فرعون فاحترقوا، وهذا معنى أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [سورة نوح:25] الفاء للتعقيب المباشر، قلت له: فالله قال في حق فرعون وهو كبيرهم الذي أغرقوا من أجله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ [سورة يونس:92] ما احترق، نجا من هذه الخنادق التي أنت تقول عنها، قال: روحه، قلت: إذن هم أرواحهم، غرقوا في البحر فأدخلت أرواحهم النار من باب أولى، يحترقون هم وهو ينجو!، فقوله: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ لا يقال: إنه الآن مسجور وإنما ذلك في يوم القيامة، وإذا فسر بالبحر الآن فهو المملوء، والله أعلم.

وقوله تعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ: هذا هو المقسم عليه، أي: الواقع بالكافرين، كما قال في الآية الأخرى: مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ أي: ليس له دافع يدفعه عنهم إذا أراد الله بهم ذلك.

روى الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا عن جعفر بن زيد العبدي قال: خرج عمر يَعِسّ المدينة ذات ليلة، فمر بدار رجل من المسلمين، فوافقه قائما يصلي، فوقف يستمع قراءته فقرأ: وَالطُّورِ حتى إذا بلغ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ قال: قسمٌ -ورب الكعبة- حق، فنزل عن حماره واستند إلى حائط، فمكث ملياً، ثم رجع إلى منزله، فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه .

وقوله: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا: قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- وقتادة: تتحرك تحريكا، وعن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: هو تشققها، وقال مجاهد: تدور دوراً، وقال الضحاك: استدارتها وتحريكها لأمر الله، وموج بعضها في بعض.

وهذا اختيار ابن جرير، أنه التحرك في استدارة.

يعني من فسره بالحركة فسره بجزء معناه، بجزء المعنى، عبر بعبارة تدل على جزء المعنى، والسلف -رضي الله تعالى عنهم- كانوا يفسرون القرآن بما يقرب المعنى للسامع، دون أن يقصد الواحد منهم استقصاء ذلك المعنى بلفظ مطابق أو بشرح يأتي على دلالات هذه اللفظة، يقربون المعنى للسامع، ما كانوا يتكلفون كما نتكلف، والموْر يدل على حركة في تموج واضطراب، ذهاب ومجيء، تَكَفُّؤ، وقد مثله بعض أهل اللغة بالنخلة العَيْدانة -النخلة الطويلة جداً- إذا جاءت الريح تتكفّأ، فهو حركة بذهاب ومجيء وتَكفُّؤ، يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاء مَوْرًا [سورة الطور:9]، ويلزم من هذا المور التشقق، كما قال الله : إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ [سورة الإنشقاق:1].

وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا أي: تذهب فتصير هباء منبثا، وتُنسف نسفاً.

كما قال الله : وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ [سورة النبأ:20]، وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ [سورة التكوير:3]، وهو معنى قول الله : وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [سورة النمل:88]، وذلك في يوم القيامة في قول جميع المفسرين، إلا أصحاب الإعجاز العلمي اليوم يقولون: هذا في الدنيا وهو دليل على أن الأرض تدور، إذا كان هذا في الدنيا ويدل على دوران الأرض فليست الجبال فقط التي تحسبها جامدة، بل الكثبان ومن عليها من الجمادات والحيوانات وغير ذلك مما يراه الإنسان من الزروع، تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ، كل من على الأرض يتحركون بحركتها، وليس هذا هو المراد، ولا معنى ولا وجه لتخصيص الجبال من بين هذه الكائنات التي على وجه الأرض، والله يقول: أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا [سورة النمل:61]، يعني: مستقرة، فجميع المفسرين يقولون: هذا في يوم القيامة، وهذه الآيات تفسره، وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا، والله أعلم.

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي: ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله بهم، وعقابه لهم.

الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ أي: هم في الدنيا يخوضون في الباطل، ويتخذون دينهم هزوًا ولعبًا.

يَوْمَ يُدَعُّونَ أي: يُدفعون ويساقون.

الدعّ هو الدفع بقوة، الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [سورة الماعون:2]، يدفعه دفعاً، يدفعه عن حقه، فهؤلاء -عياذاً بالله- يدفعون دفعاً قوياً إلى النار، يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا، لا يدخلونها بأقدامهم، وإنما يدفعون إليها دفعاً.

إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا وقال مجاهد، والشعبي، ومحمد بن كعب، والضحاك، والسدي، والثوري: يُدفعون فيها دفعاً.

كما قال الله : خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ [سورة الدخان:47] يعني: إلى وسط النار.

هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أي: تقول لهم الزبانية ذلك تقريعا وتوبيخا.

أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ اصْلَوْهَا أي: ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته.

اصْلَوْهَا يعني: ادخلوها، وهي تدل أيضاً على مقاساة حرها، تقول: صليت اللحم، صليت الشاة بمعنى أحرقتها أو شويتها، تقول: صلي النار بمعنى الحرارة والإحراق الذي فيها، اصْلَوْهَا، لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى [سورة الليل:15]، يعني: لا يدخلها إلا الأشقى، لا يقاسي حرها، لا يذوق لهيبها إلا الأشقى.

فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أي: سواء صبرتم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا، لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها، إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: ولا يظلم الله أحدا، بل يجازي كلا بعمله.

كما قال الله عنهم: سَوَاءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ [سورة إبراهيم:21] فالعذاب واقع بهم، والجزع لا يدفعه عنهم، ولا الصبر ينفعهم، وفي قوله -تبارك وتعالى: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ هؤلاء الكفار لما أنعم الله عليهم في هذه الدنيا، وتوجهوا بالشكر والعبادة لغير من خَلق كانوا مستحقين بذلك للنار، أرسل إليهم الرسل، أنزل عليهم الكتب، وأقام عليهم الحجة فأمروهم ونهوهم فكذبوهم، فبقوا على التكذيب إلى آخر لحظة في حياتهم، فماتوا على الكفر، فكانت عاقبتهم الخلود في النار، وهم عازمون على ذلك تماماً.

فلو بقوا الآماد الطويلة غير المتناهية فإنهم سيبقون على الكفر، بل إن الله قال عنهم: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [سورة الأنعام:28] حتى بعدما يدخلون النار ويقولون: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ، ومع ذلك لو أنهم ردوا إلى الدنيا لعادوا إلى كفرهم، فهم عازمون تماماً على الإقامة على الكفر، والعزم المصمم يؤاخذ عليه الإنسان وهو بمنزلة العمل.

ولهذا قال النبي ﷺ: القاتل والمقتول في النار، قالوا: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً على قتل صاحبه[4]، فكانت المؤاخذة بالعزم، وبهذا يكون العزم أحد أنواع العمل التي يؤاخذ عليها الإنسان، الله لا يؤاخذ بالهم بالسيئة ولا بخطرات النفوس، وإنما إذا صار ذلك عزماً مصمماً فإن الإنسان يؤاخذ ويعاقب عليه كأنه عمله.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ۝ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ۝ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۝ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ [سورة الطور:17-20].

أخبر تعالى عن حال السعداء فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، وذلك بضد ما أولائك فيه من العذاب والنكال.

فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ أي: يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم، من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك.

فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ قال: أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم، يتفكهون، والفاكه هو المسرور المعجب بالشيء المغتبط به، يقال: فاكه، وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير -رحمه الله- هو ما رجحه ابن القيم أيضاً، ومن أهل العلم من قال: فَاكِهِينَ: أي عندهم فواكه كثيرة، كما تقول العرب: فلان تامر بمعنى عنده تمر كثير، ولابن عنده لبن كثير، وفاكه عنده فاكهة كثيرة، وهذا الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله.

والآية تحتمل هذا وهذا، ولعل الأكثر في الاستعمال -والله تعالى أعلم- أو المتبادر عند إطلاق هذه اللفظة هو أنه بمعنى المسرور المغتبط بالشيء، الملتذّ به، وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ [سورة المطففين:31].

وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ أي: وقد نجاهم من عذاب النار، وتلك نعمة مستقلة بذاتها على حدتها مع ما أضيف إليها من دخول الجنة، التي فيها من السرور ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

هنا إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ۝ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، هذه ثلاثة أشياء، والرابع: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، تأمل هذه الأشياء الثلاثة، الأول: فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ، في عيش طيب وسعة وبرودة، وهذه غاية لذة الأبدان، وهم في غاية السرور، الإنسان قد يكون في سعة من العيش لكنه مكتئب، وهؤلاء في غبطة وسرور، وهذه لذة النفوس، فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ، وهنا قال: وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ، وقاهم عذاب الجحيم فهم في مأمن، فاجتمعت لهم هذه الأشياء.

ثم قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا الهنيء الذي لا تنغيص فيه ولا كدر ولا نكد، وبعضهم يقول: يعني لا يموتون، ولا شك أن الموت ينغص على الإنسان لذته وسروره وراحته، فمهما كان فيه من النعيم فإنه إذا تذكر الموت وأنه مفارق لهذا النعيم تَنغّص عليه وتكدر عيشه، ولهذا نفى الله عنهم في موضع آخر الموت.

وكذلك أيضاً أخبر أنه نزع ما في صدورهم من غل؛ لأن الغل مهما كان الإنسان فيه من نعمة ورفعة ولين من العيش فإن الغل على اسمه غلٌ في القلب، يربط قلبه، فيضيق القلب وينعصر ألماً فهو عذاب، ولهذا لا يمكن أن يكتمل لأهل الجنة النعيم إلا بإزالة هذا الغل وسلّه من نفوسهم، فاكتمل لهم نعيمهم من هذه الوجوه جميعاً، والله أعلم.

وقوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، كقوله تعالى: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ [سورة الحاقة:24]، أي: هذا بذاك، تفضلاً منه وإحساناً.

هو هذا، والباء هنا للسببية، وذلك لا يعارض قول النبي ﷺ: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله[5]، فما ورد في الآيات من أن الإنسان يدخل الجنة بالعمل فإن ذلك يكون سبباً، ولكنه لا يستقل بالمطلوب، بل لابد معه من رحمة الله .

لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته، فهذا لا ينافي ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النحل:32]، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [سورة الحاقة:24]، ففي هذه المقامات يكون قد ذكر السبب، وفي الحديث: لن يدخل أحدكم الجنة بعمله يدل على أن هذا السبب لا يستقل بالمطلوب بل لابد من رحمة الله -تبارك وتعالى، وإلا فإن الإنسان لا يوفي شكر الله وعبادته وحقه بأعماله مهما بلغت.

وقوله: مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ قال الثوري عن حصين عن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما: السرر في الحجال.

السرر في الحجال، الحجال مثل القبة مزينة بالخرق تجلس فيها العروس، هذا غاية ما يستطيعون من جعلها في مكان في غاية الترفيه والتحسين، لو جئت بإنسان ووضعت له مكاناً مثل هذا ووضعت له مكاناً يجلس فيه في وسط الغرفة فإن هذا زيادة في الرفاهية.

ومعنى مَّصْفُوفَةٍ أي: وجوه بعضهم إلى بعض، كقوله تعالى: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [سورة الصافات:44].

هذا أحسن لأنه دل عليه القرآن، أحسن من قول من قال: إنها مصفوفة أي أن بعضها مصفوف بجانب بعض فتكون متراصة كالخط المستقيم، إنما ما ذكره ابن كثير -رحمه الله- هنا أقرب؛ لأنه قال: عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.

وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ أي: وجعلنا لهم قرينات صالحات، وزوجات حساناً من الحور العين.

فابن كثير -رحمه الله- جمع بين المعنيين؛ لأن كلمة وَزَوَّجْنَاهُمْ يمكن أن تكون بمعنى التزويج المعروف، تكون زوجة له، ويمكن أن تكون بمعنى قرناهم، من أهل العلم من فسرها بهذا، يعني زوجناهم أي قرناهم بحور عين، قالوا: لأن المعروف في اللغة أن التزويج لا يتعدى بالباء، ما تقول: تزوجت بامرأة وإنما تقول: تزوجت امرأة، بدون التعدية بالباء، تزوجت امرأة، فإذا عدي بالباء فمعناه الاقتران، فهذا الذي عليه عامة أهل العلم، وهو المشهور في اللغة وفي الاستعمال، وإن كانت تعديته بالباء ثابتة في لغة عند بعض العرب، ولكن الذين قالوا: هو بمعنى قرناهم قالوا: لأنه عدي بالباء.

ومن أهل العلم من يجمع بين المعنيين مثل ابن كثير هنا وما صرح بوجهه، يعني العلماء أحياناً يعبرون بعبارة ضافية دقيقة جداً قد لا يتبينها القارئ العادي، ولا يعرف خلفيتها، لكنها تنطوي على خلفية معينة، يعني بعض أهل العلم مثلاً الحافظ ابن القيم يوجه مثل هذه القضية يقول: إن قوله: وَزَوَّجْنَاهُمْ بمعنى قرناهم، وزوجناهم بمعنى التزويج المعروف، يقول: التزويج المعروف إذا كان في المشهور في كلام العرب لا يعدى بالباء وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ فإنه لمّا ضمن فعل التزويج معنى قرنّا صح تعديته بالباء، ضمن الفعل زوجنا معنى قرنا، معنى فعل آخر، وقرنا يعدى بالباء، قرنته بكذا، فيقول: زوجناهم من التزويج المعروف وهو مضمن لمعنى قرناهم فعدي بالباء، عدي بما يعدى به الفعل المضمن فيه، وهو قرن، مثل قوله تعالى: عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا [سورة الإنسان:6]، العين يشرب منها، وليس يشرب بها، فعداه بالباء يَشْرَبُ بِهَا؛ لأنه مضمن معنى فعل آخر وهو يلتذ أو يرتوي، عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا أي: يلتذ، يشرب ويلتذ، الشرب المعروف، ويلتذ ويرتوي، فدل على الشرب والالتذاذ بهذا الشرب والارتواء، فقد يشرب الإنسان ولا يلتذ، وقد يشرب ولا يرتوي، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وهذا أحسن من قول من قال: إن يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ أي: يشرب منها، فهنا ابن كثير -رحمه الله- جمع المعنيين، قال: وجعلنا لهم قرينات صالحات وزوجات حساناً من الحور العين.

الحور العين: المشهور أن الحَوَر هو شدة البياض، فمن أهل العلم من فسره ببياض البشرة، بيضاء شديدة البياض، وأكثر من هذا شهرة في التفسير أنه شدة بياض العين، عين الإنسان بالعادة فيها صفرة، وبعض الأطباء يقول: إن عين الصغير –الطفل- شديدة البياض، وإذا تقدم به العمر وكثرت همومه ازداد صفرة مع الأيام والليالي، هكذا يقول بعضهم، وهو صحيح.

فالحاصل أن الجمال هو بشدة بياض العين مع شدة السواد، فهذا غاية الجمال، وإذا كان ذلك مع سعة العين فإن هذا لا يُقادَر قدره في الحسن، ولهذا قال: وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ، عيون بهذه الصفة شديدة السواد مع شدة بياض مع سعة، والمرأة كما يقولون: يطلب فيها في الجمال في البياض أشياء: بياض البشرة، بياض العين، بياض الأسنان، يقولون: أربعة أشياء تطلب في البياض، وأربعة أشياء تطلب في السعة، وأربعة أشياء تطلب في الاستدارة، وأربعة أشياء تطلب في الطول، وأربعة أشياء تطلب في الضيق، إلى غير ذلك مما يذكرون، وهذا موجود ومعروف في كلام كثير من أهل العلم، وبعضهم ينقله من حكمة فارس، فهذه لا شك أنها من صفات الجمال التي لا تكاد توجد في نساء الدنيا، بِحُورٍ عِينٍ، شديدة بياض مقلة العين في شدة سواد الحدقة، والعِين جمع عيناء وهي واسعة العين، عظيمة العين، فهذا منتهى الحسن.

على كل حال هذا المذكور هنا يدل على أن سواد العين أجمل وأوفى في الحسن من زرقتها أو خضرتها، ولكن الناس حينما تنتكس أذواقهم، ويحاولون أن يكونوا تبعاً لغيرهم في كل شيء حتى في الدون، يحاولون أن يقلدوهم حتى في هذا، يقلدونهم في ليّ ألسنتهم إذا تكلموا بلغتهم، ويقلدونهم في لباسهم، ويقلدونهم في طرائقهم في معيشتهم ومأكلهم ومشربهم، ويقلدونهم حتى في أشكال عيونهم، مع أن العرب كانت تكره زرقة العين، وكانوا يرون أن ذلك يدل على الغدر، والله يقول: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا [سورة طه:102].

وكثير من المفسرين قالوا: أي زرق العيون، فاجتمعت لهم زرقة العيون في الدنيا وفي الآخرة، ولكن هذا المعنى فيه نظر، ومسألة لون العين هذا خلق من خلق الله لا يد للإنسان فيه، ولا يعاب على هذا ولا يذم ولا يدل على صفة ذميمة فيه، يعني ما كان يعتقده بعض العرب من أن ذلك يدل على الغدر أو نحو ذلك هذا غير صحيح، لكن نحن نقول هذا لبيان ما يتصوره بعض العرب، يعني لاحظ هؤلاء في جهة والمقلدة هؤلاء في جهة أخرى، هذا هو المقصود فقط، وإلا فهذا خلق من خلق الله -تبارك وتعالى- وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ [سورة القصص:68]، ولا يمكن أن يلحق الإنسانَ الذمُّ بما صنعه فيه الله -تبارك وتعالى، إنما يلحقه الذم بأعماله الاختيارية التي يعملها.

بعض أهل العلم يقول: حور عين يعني يحار فيها الطرف، يحار فيها النظر من شدة الحسن والجمال وصفاء الجلد، وصفاء اللون.

وقال مجاهد: وزوجناهم: أنكحناهم بحور عين، وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ۝ وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ۝ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ۝ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ۝ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ۝ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ۝ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ۝ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [سورة الطور:21-28].

يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان يُلحقهم بآبائهم في المنزلة وإن لم يبلغوا عملهم، لتقر أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم.

وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ، الذرية هي الفاعل، اتبعت هؤلاء بهذا الوصف بِإِيمَانٍ، هذا هو المعنى المتبادر الذي يدل عليه ظاهر القرآن، وهو الذي عليه عامة أهل العلم، ولا حاجة لإشغالكم بما عداه، وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ، فهذه القراءة تدل دلالة واضحة على هذا، وهناك قراءة أخرى متواترة قراءة أبي عمرو: والذين آمنوا وأتبعناهم، قرأها بالجمع: وأتبعناهم ذرياتهم بإيمان.

وعلى قراءة الإفراد -إذا أردت أن تجمع بين القراءتين- وأتبعناهم ذريتَهم بالنصب، فـ "ذريتهم" هذه الثانية في ألحقنا بهم ذريتهم قرأها نافع وابن عامر وأبو عمرو بالجمع ألحقنا بهم ذرياتهم، لكن في قراءة أبي عمرو لما قرأ الأولى {أتبعناهم ذرياتِهم} بالنصب والجمع قرأ الثانية ألحقنا بهم ذرياتهم، وعلى قراءة ابن عامر ونافع واتبعتهم ذرياتُهم بالرفع، وذريتهم وذرياتهم ترجع إلى معنى واحد، وإن كانت هذه جمعاً والثانية مفردة، لكن هذا المفرد الذي هو {ذريتهم} ذرية مفرد مضاف إلى معرفة، وهي الضمير الهاء، والمفرد إذا أضيف إلى معرفة فإن ذلك بمعنى الجمع، أَوْ صَدِيقِكُمْ [سورة النور:61] يعني: أو أصدقائكم.  

فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته، للتساوي بينه وبين ذاك.

هو هذا لئلا يتوهم أنه يؤخذ من حسنات الآباء فتعطى للأبناء فيرتفعوا، وإنما هو تفضل من الله يلحقهم بهم، وهؤلاء الذرية الله قال: وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ، قوله: بِإِيمَانٍ هذا القيد لما نظر إليه أهل العلم اختلفوا وافترقت أقوالهم في تفسير الآية، وبيان المراد بها، فبعض أهل العلم قال: المراد بهؤلاء هم الصغار الأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف، فهؤلاء الذين يلحقون بآبائهم بخلاف الكبار الذين بلغوا، ما يلحقون بهم.

والذرية تطلق ويراد بها الصغار أحياناً، وإلا فإن الذرية تطلق ويراد بها الكبار أيضاً، كما قال الله : ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [سورة الإسراء:3]، وقال: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ [سورة الصافات:77]، فهؤلاء ليس المراد بهم الصغار دون سن التكليف، وقال هؤلاء أيضاً: لو كان الكبار يلحقون بالآباء بإيمانهم للحق بهم أيضاً أبناؤهم، وكل جيل، يعني أن التابعين يلحقون بالصحابة، وأتباع التابعين يلحقون بالتابعين، وهكذا إلى يومنا هذا، فنحن نلحق بالصحابة ويكون الجميع على مرتبة واحدة في أعلى الجنة، وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ، إذا قلنا: إن المراد الكبار فهذا مشكل، ولهذا قالوا: المراد به الصغار من الذرية.

ومن أهل العلم من قال: يُلحق بهم ذرية هؤلاء صغاراً كانوا أو كباراً، والآية ليس فيها ما يدل على التخصيص، وابن القيم -رحمه الله- تكلم على هذه المسألة، وناقشها، وذكر الأقوال فيها، ويمكن أن نقرأ كلامه إن شئتم.

وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى: "فهذه الآية تدل على أن الله سبحانه يلحق ذرية المؤمنين بهم فى الجنة، وأنهم يكونون معهم فى درجتهم.

ومع هذه فلا يتوهم نزول الآباء إلى درجة الذرية فإن الله لم يُلِتْهم أي لم ينقصهم من أعمالهم شيئاً، بل رفع ذرياتهم إلى درجاتهم مع توفير أجور الآباءِ عليهم، ولما كان إلحاق الذرية بالآباءِ في الدرجة إنما هو بحكم التبعية لا بالأَعمال ربما توهم متوهم أن ذرية الكفار يلحقون بهم فى العذاب تبعاً وإن لم يكن لهم أعمال الآباءِ، فقطع تعالى هذا التوهم بقوله تعالى: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ، وتأمل قوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيْمَانٍ، كيف أتى بالواو العاطفة في اتّباع الذرية وجعل الخبر عن المؤمنين الذين هذا شأْنهم، فجعل الخبر مستحقاً بأمرين:

أحدهما: إيمان الآباءِ.

والثانى: إتْباع الله ذريتهم إياهم، وذلك لا يقتضى أن كل مؤمن يتبعه كل ذرية له، ولو أُريد هذا المعنى لقيل: والذين آمنوا تتبعهم ذرياتهم، فعطفُ الاتباع بالواو يقتضى أن يكون المعطوف بها قيداً وشرطاً في ثبوت الخبر، لا حصوله لكل أفراد المبتدأ، وعلى هذا يخرج ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أُتى النبي ﷺ بصبي من الأنصار يصلى عليه: فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا لم يعمل شراً، ولم يدرِ به، قال: أوَغير ذلك يا عائشة؟ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم[6]، فهذا الحديث يدل على أنه لا يُشهد لكل طفل من أطفال المؤمنين بالجنة، وإن أطلق على أطفال المؤمنين في الجملة أنهم في الجنة، لكن الشهادة للمعين ممتنعة، كما يُشهد للمؤمنين مطلقاً أنهم في الجنة، ولا يُشهد لمعين بذلك إلا من شهد له النبي ﷺ "[7].

يعني الجواب عن حديث عائشة -رضي الله عنها- هنا مع أن هذا من أولاد الصحابة، أو طفل صغير مات في الإسلام فيقال: هذا في حق المعين، لكن ما حكم أطفال المسلمين؟ لا شك أنهم في الجنة، هذا بلا شك، وإنما الكلام في أطفال المشركين هل هم في الجنة أو في النار مع آبائهم، أو يمتحنون في الآخرة، أو أنهم يصيرون تراباً، أو غير ذلك من الأقوال التي قيلت فيهم؟ لكن أطفال المسلمين في الجنة، وهذا الحديث يقال في حق المعين.

وقال ابن القيم -رحمه الله: " ولا يُشهد لمعين بذلك إلا من شهد له النبي ﷺ، فهذا وجه الحديث الذي يشكل على كثير من الناس"[8].

هذه المسألة مسألة الأطفال نحن عرفنا أطفال المسلمين في الجنة، لكن أطفال المشركين هل هم في حكم آبائهم، والنبي ﷺ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، أو يقال: إنهم على الفطرة كل مولود يولد على الفطرة[9]، فماتوا على الفطرة فيعطون حكمها فيكونون في الجنة، والولدان الذين كانوا حول إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- فهؤلاء ممن مات على الفطرة؟

والبخاري -رحمه الله- عقد لهذا باباً في الجنائز، يقول: باب ما قيل في أولاد المشركين، وذكر حديث ابن عباس -رضي الله عنهما: سئل رسول الله ﷺ عن أولاد المشركين فقال: الله إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين[10]، هذا الحديث الأول، وذكر حديث أبي هريرة -رضي الله تعالى عنه: سئل النبي ﷺ عن ذراري المشركين فقال: الله أعلم بما كانوا عاملين، وذكر حديثاً ثالثاً عن أبي هريرة : قال النبي ﷺ: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، إلى آخر الحديث، فهذا الباب -باب ما قيل في أولاد المشركين- لم يجزم فيه بشيء فقد يشعر هذا أنه متوقف فيهم، وذكْرُ هذه الأحاديث بهذا الترتيب وذكرُ الحديث الثالث: كل مولود يولد على الفطرة لربما يشعر أنه يميل إلى أنهم في الجنة.

والحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قال: "قوله: باب ما قيل في أولاد المشركين، هذه الترجمة تشعر أيضا بأنه كان متوقفًا في ذلك، وقد جزم بعد هذا في تفسير سورة الروم بما يدل على اختيار القول الصائر إلى أنهم في الجنة كما سيأتي تحريره، وقد رتب أيضا أحاديث هذا الباب ترتيبًا يشير إلى المذهب المختار، فإنه صدره بالحديث الدال على التوقف، ثم ثنى بالحديث المرجح لكونهم في الجنة، ثم ثلث بالحديث المصرح بذلك فإن قوله في سياقه وأما الصبيان حوله فأولاد الناس قد أخرجه في التعبير بلفظ: وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة، فقال بعض المسلمين: وأولاد المشركين؟ فقال: وأولاد المشركين[11]، ويؤيده ما رواه أبو يعلى من حديث أنس -رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً: سألت ربي اللَّاهِينَ من ذرية البشر أن لا يعذبهم فأعطانيهم، إسناده حسن"[12].

قوله: "سألت ربي اللاهين" يعني الأطفال، "فأعطانيهم" هذا يدل أنهم في الجنة.

وقال -رحمه الله: "وورد تفسير "اللاهين" بأنهم الأطفال من حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- مرفوعاً أخرجه البزار، وروى أحمد من طريق خنساء بنت معاوية بن صريم عن عمتها -رضي الله تعالى عنها- قالت: قلت: يا رسول الله من في الجنة؟ قال: النبي في الجنة، والشهيد في الجنة، والمولود في الجنة إسناده حسن"[13].

في قوله: والمولود في الجنة، لم يقل: أولاد المسلمين في الجنة، قال: المولود، و"ال" هذه تدل على العموم، كل من يموت دون التكليف.

وقال -رحمه الله: "واختلف العلماء قديماً وحديثاً في هذه المسألة على أقوال:

أحدها: أنهم في مشيئة الله تعالى، وهو منقول عن الحماديْن وابن المبارك وإسحاق، ونقله البيهقي في "الاعتقاد" عن الشافعي في حق أولاد الكفار خاصة.

قال ابن عبد البر: وهو مقتضى صنيع مالك، وليس عنده في هذه المسألة شيء منصوص، إلا أن أصحابه صرحوا بأن أطفال المسلمين في الجنة وأطفال الكفار خاصة في المشيئة، والحجة فيه حديث: الله أعلم بما كانوا عاملين.

 ثانيها: أنهم تبع لآبائهم، فأولاد المسلمين في الجنة وأولاد الكفار في النار، وحكاه ابن حزم عن الأزارقة من الخوارج، واحتجوا بقوله تعالى: رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا [سورة نوح:26] وتعقبه بأن المراد قوم نوح خاصة"[14].

يعني: دعا عليهم جميعاً فهلكوا مع ذرياتهم، وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:27].

وقال -رحمه الله: "وإنما دعا بذلك لما أوحى الله إليه أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ [سورة هود:36]، وأما حديث: من آبائهم أو منهم فذاك ورد في حكم الحربي، وروى أحمد من حديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- سألت رسول الله ﷺ عن ولدان المسلمين، قال: في الجنة، وعن أولاد المشركين، قال: في النار، فقلت: يا رسول الله لم يدركوا الأعمال، قال: ربك أعلم بما كانوا عاملين، لو شئت أسمعتك تضاغيهم في النار وهو حديث ضعيف جداً؛ لأن في إسناده أبا عقيل مولى بهية، وهو متروك.

ثالثها: أنهم يكونون في برزخ بين الجنة والنار؛ لأنهم لم يعملوا حسنات يدخلون بها الجنة، ولا سيئات يدخلون بها النار.

رابعها: خدم أهل الجنة، وفيه حديث عن أنس -رضي الله تعالى عنه- ضعيف، أخرجه أبو داود الطيالسي وأبو يعلى، وللطبراني والبزار من حديث سمرة -رضي الله تعالى عنه- مرفوعا أولاد المشركين خدم أهل الجنة وإسناده ضعيف.

خامسها: أنهم يصيرون تراباً، روي عن ثمامة بن أشرس.

سادسها: هم في النار، حكاه عياض عن أحمد، وغلطه ابن تيمية بأنه قول لبعض أصحابه ولا يحفظ عن الإمام أصلاً.

سابعها: أنهم يمتحنون في الآخرة بأن ترفع لهم نار فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن أبى عذب، أخرجه البزار من حديث أنس وأبي سعيد -رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه الطبراني من حديث معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه.

وقد صحت مسألة الامتحان في حق المجنون ومن مات في الفترة من طرق صحيحة، وحكى البيهقي في كتاب "الاعتقاد" أنه المذهب الصحيح، وتعقب بأن الآخرة ليست دار تكليف فلا عمل فيها ولا ابتلاء، وأجيب بأن ذلك بعد أن يقع الاستقرار في الجنة أو النار، وأما في عَرَصات القيامة فلا مانع من ذلك.

وقد قال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ [سورة القلم:42]، وفي الحديث: يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، فيبقى كل من كان يسجد في الدنيا رياء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبَقاً واحد[15].

ثامنها: أنهم في الجنة، وقد تقدم القول فيه في "باب فضل من مات له ولد"، قال النووي: وهو المذهب الصحيح المختار الذي صار إليه المحققون، لقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15] وإذا كان لا يعذب العاقل لكونه لم تبلغه الدعوة فلأن لا يعذب غير العاقل من باب الأولى، ولحديث سمرة -رضي الله تعالى عنه- المذكور في هذا الباب، ولحديث عمة خنساء المتقدم، ولحديث عائشة -رضي الله تعالى عنها- الآتي قريباً.

تاسعها: الوقف.

عاشرها: الإمساك، وفي الفرق بينهما دقة، ثم أورد المصنف في الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث ابن عباس وأبي هريرة: سئل عن أولاد المشركين، وفي رواية ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- "ذراري المشركين" ولم أقف في شيء من الطرق على تسمية هذا السائل"[16].

فالأدلة تدل على أن أطفال المشركين في الجنة، والله تعالى أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب شهود الملائكة بدرا، برقم (4023)، ولفظه: "يقرأ في المغرب بالطور، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي"، ورواه عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ ، قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الآيَةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخَالِقُونَ ۝ أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَلْ لاَ يُوقِنُونَ ۝ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ" قَالَ: كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ، قَالَ سُفْيَانُ: فَأَمَّا أَنَا، فَإِنَّمَا سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ، يَقْرَأُ فِي المَغْرِبِ بِالطُّورِ وَلَمْ أَسْمَعْهُ زَادَ الَّذِي قَالُوا لِي"، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الغُرُوبِ [سورة ق:39]، برقم (4854).
  2. رواه البخاري، كتاب الحج، باب المريض يطوف راكباً، برقم (1633)، ومسلم، كتاب الحج، باب جواز الطواف على بعير وغيره واستلام الحجر بمحجن ونحوه للراكب، برقم (1276).
  3. رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، برقم (3207)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله ﷺ إلى السماوات وفرض الصلوات، برقم (162).
  4. رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب إذا تواجه المسلمان بسيفيهما، برقم (2888).
  5. رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل، برقم (6464)، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى، برقم (2816).
  6. رواه مسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2662).
  7. طريق الهجرتين وباب السعادتين، لابن القيم (ص:396).
  8. المصدر السابق.
  9. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، برقم (1385)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2658).
  10. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين، برقم (1383)، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين، برقم (2660).
  11. رواه البخاري، كتاب التعبير، باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، برقم (7047).
  12. فتح الباري لابن حجر (3/ 246).
  13. فتح الباري لابن حجر (3/ 246).
  14. المصدر السابق.
  15. رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ [سورة القلم: 42]، برقم (4919).
  16. فتح الباري لابن حجر (3/ 246، 247).

مواد ذات صلة