الخميس 16 / شوّال / 1445 - 25 / أبريل 2024
المجلس الخامس
تاريخ النشر: ١٩ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 11350
مرات الإستماع: 4049

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

قال الشيخ خالد بن عثمان السبت، زاده الله تأييدًا وتسديدا، وهداية وتوفيقًا، في كتابه الذي أسماه: مختصر في قواعد التفسير، تحت المقصد الخامس: الإظهار والإضمار، والزيادة والتقدير والحذف، والتقديم والتأخير، قال: القسم الثاني: الزيادة.

قاعدة: زيادة المبنى تدل على: زيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فتجدون كثيرًا في القرآن يقال: الحرف الفلاني زائد، مثل: من: زائدة، أو لا؟ زائدة في قوله: لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [القيامة:1]، ومثل هذا التعبير لا يليق مع القرآن، والذين يعبرون بهذا يقصدون: بأن ذلك من قبيل الزيادة إعرابًا، وإلا فلا شك أنه كما قال صاحب المراقي:

تواتر السبع عليه أجمعوا ولم يكن في الوحي حشوا يقع

فلا يمكن أن يوجد في القرآن شيء ليس له معنى، من حروف المعاني، أو من الأسماء، أو الأفعال، أو التراكيب.

وأما الحروف التي في أوائل السور، الحروف المقطعة، فإنها حروف تهجي، يسمونها: حروف المباني، وهذه ليس لها معنى في نفسها، وإنما يمكن أن تكون تشير إلى الإعجاز، أن هذا القرآن مركب من هذه الحروف التي تركبون منها الكلام فأتوا بمثله، على خلاف بين أهل العلم في هذه الأحرف المقطعة.

المهم: إذا وجد مثل:  لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:1]، على خلاف في توجيه، أو في تفسير هذه: لا, لكن من أجود ما قيل فيه: أنها لتقوية القسم، زيادة المبنى لزيادة المعنى، وقوة اللفظ لقوة المعنى.

فهذه الزيادة أحيانًا تكون بحرف، فمثلاً في قوله تعالى:  فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا  [يوسف:96]، ولو قال: فلما جاء البشير ألقاه على وجهه، لفهم المعنى، لكنه قال: فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ، فإن: هذه تفيد التأكيد، وتحقيق هذه الكرامة والمعجزة، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ.

وقد تكون الزيادة أحيانًا: بنقل اللفظ من وزن إلى وزن آخر، وذلك كما في قوله -تبارك وتعالى: فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:42]، وما قال: قادر، أو قدير، وإنما قال: مُقْتَدِرٍ، فهذا أبلغ في القدرة، وكذلك في قوله تعالى: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ [مريم:65]، وما قال: فاعبده واصبر، وإنما قال: وَاصْطَبِرْ، فزادت الطاء، فهذا آكد وأبلغ في الأمر بالصبر، وكذلك:  وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، والأصل: واصبر عليها، فهذا فيه مزيد من الصبر والمصابرة على هذه العبادة، وكذا: إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ [القمر:27]، وهكذا: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا  [فاطر:37]، والأصل: يصرخون فيها، فقال: يَصْطَرِخُونَ، فزادت الطاء، فهذا فيه دلالة أقوى على صراخهم وصياحهم في النار، نسأل الله أن يعيذنا وإياكم وإخواننا المسلمين منها.

وهكذا في قوله -تبارك وتعالى: فَكُبْكِبُوا فِيهَا [الشعراء:94]، والأصل: فكبوا، لكن حينما قال: فَكُبْكِبُوا يدل على: أن هؤلاء يتساقطون على دفعات، فما كبوا مرة واحدة، وإنما حصل ذلك مرة بعد مرة، لاسيما أن تكرار الحروف في اللفظة الواحدة يدل على: تكرر المعنى، وإن لم يكن فيه زيادة، مثل: زلزل، يدل على حركة واضطراب، وليست حركة واحدة، ومثل: جلجل، وصلصل، وهكذا: دكدك.

وأحيانًا يكون هذا بالتضعيف، أي: الشدة، فهي: عبارة عن حرفين، أليس كذلك؟ فمثلاً في بعض القراءات: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تُفَجِّرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90]، فقال: تُفَجِّرَ بالتشديد، وفي القراءة الأخرى: حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90]، فقال:  تَفْجُرَ بالتخفيف، والينبوع معروف، فتُفَجِّرَ أبلغ في الدلالة على هذا المعنى، فكأنه يتكرر هذا الانفجار مرة بعد مرة، إلى غير ذلك.

قال: القسم الثالث: التقدير والحذف.

قاعدة: حذف جواب الشرط يدل على: تعظيم الأمر وشدته في مقامات الوعيد.

حذف جواب الشرط يدل على: تعظيم الأمر وشدته في مقامات الوعيد، في كثير من المواضع في كتاب الله لا تجد جواب الشرط، يقول الله  مثلاً: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ [السجدة:12]، فقال:  وَلَوْ تَرَى، أين الجواب؟ محذوف غير موجود، ما هو التقدير؟ لرأيت أمرًا مفزعًا، فحذفه أبلغ من ذكره؛ من أجل أن يذهب الذهن كل مذهب، أطلق ذهنك في تخيل الوقف العجيب الرهيب الشديد، وكذا:  وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ [سبأ:51]، فالجواب غير مذكور، وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا، يعني: لرأيت أمرًا عظيمًا، أمرًا مذهلاً شديدًا، وهكذا: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا [البقرة:165]؛ لعرفوا ضلالهم وبعدهم، وأنهم ليسوا على شيء، ليسوا على سبيل وجادة، وأنهم ضالون مضلون، حائدون عن الصراط المستقيم، وكذا:  وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ  [الأنعام:30] لرأيت أمرًا عظيمًا.

وهكذا: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ [الأنعام:27]، كل هذا مما حذف فيه جواب الشرط، فلو ذكر فإنه يحصل المقصود، يحصل المعنى، لكن إذا حذف فالذهن يتفرق، وهذا هو المقصود: إيجاد الرهبة في النفوس، والخوف، وتعظيم الأمر في هذه المقامات.. مقامات الوعيد، والله أعلم.

قال: قاعدة: لا يقدر من المحذوفات إلا أفصحها وأشدها موافقة للغرض.

القرآن أبلغ الكلام، وأفصحه، فهو: بالغ في الفصاحة غايتها، فينبغي إذا قلنا: إن فيه مقدرًا محذوفًا، أن نقول، وأن نقدر الأفصح والأبلغ؛ لأن العلماء يقدرون أشياء متعددة، وقد يحتمل اللفظ عدة تقديرات، فينبغي أن يتخير ما يليق بالقرآن: الأفصح والأبلغ، وإليك هذا المثال الذي قدر فيه أهل العلم تقديرات، وابن جرير -رحمه الله- صرح بهذه القاعدة عندما اختار هذه التقديرات، واتكأ عليها، وجعلها مرجحة لاختياره،  جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ [المائدة:97]، فقوله:  جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ، بعضهم يقول: جعل الله نصب الكعبة قيامًا للناس، يقوم به دينهم، فهي: قبلتهم، يتوجهون إليها، ويتعبدون عندها، ويحجون إلى البيت، ويطوفون به، وكذلك تقوم دنياهم، فقوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ، أي: نصب الكعبة، هذا تقدير؛ لأن الأحكام لا تتعلق بالذوات، ففيه مقدر،  جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ [المائدة:97]، فهل يمكن هنا أن يقال: ونصب الشهر الحرام، ونصب الهدي؟

الجواب: لا، فالعلماء يقدرون في الثاني والثالث: حرمة الشهر الحرام، وحرمة الهدي والقلائد، والهدي هو: الذي يساق إلى الكعبة، والقلائد هي: ما يقلد به هذا الهدي، فابن جرير -رحمه الله- يقول: إن التقدير هنا: حرمة، فقوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ، أي: حرمة الكعبة، فالتقدير بحرمة أبلغ من تقدير: نصب الكعبة، لماذا؟ قال: لأن القرآن أفصح الكلام، فيقدر فيه الأفصح والأبلغ، ففي الموضوعين لا يمكن أن يقدر إلا الحرمة، فقال: وهكذا هنا، فحينما نقول: إن تقدير الحرمة فصيح جدًا في الثاني والثالث، فإذن هو: الأليق في الأول؛ ليكون الكلام على نسق واحد[1].

قال: قاعدة: يقلل المقدر مهما أمكن لتقل مخالفة الأصل.

الآن نحن عندنا قاعدة، وهي: أن الكلام في قواعد الترجيح التي مثلت بها تمثيلاً عابرًا، أن الكلام إذا دار بين الاستقلال والإضمار، فالأصل: الاستقلال، الأصل: أن الكلام على وجهه من غير حاجة إلى مقدرات، هذا الأصل: أنه مستقلٌ، لا يحتاج إلى تقدير؛ ولهذا ينبغي إن دعت الحاجة إلى التقدير: أن يقلل المقدر؛ لأن القرآن كلام فصيح، فلا داعي أن تقدر شيئًا بإسهاب وتطويل، فهذا على خلاف الفصاحة والبلاغة، فبما أن الأصل عدم التقدير، وبما أن الفصاحة تقتضي الإيجاز، فنظرًا إلى هذا وهذا إذا قيل بالتقدير، فينبغي أن يقلل هذا المقدر، مثلاً في قوله تعالى: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ [الطلاق:4]، فالآن ما معنى الآية؟! الآية فيها أقوال معروفة، من أشهرها وأحسنها وأرجحها: أنه لما ذكر الله لهم عدة الحامل بوضع الحمل، وعدة ذات الأقراء، يعني: التي تحيض بثلاثة قروء، ارتابوا في التي لا تحيض لصغرها، أو لأنها بلغت سن اليأس، فقال الله وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ  [الطلاق:4]، جملة اعتراضية طالما أنه حصل عندكم لبس اسمعوا الجواب، هذا المعنى:  إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، طيب هنا فيه تقدير، فبعضهم يقول:  وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فعدتهن ثلاثة أشهر، فهل الكلام بهذه الطريقة بليغ؟! أو يقال: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ كذلك، هذا الفرق! فإذا قلنا بالتقدير فينبغي أن نقلله قد الإمكان؛ لتقل مخالفة الأصل؛ لأنه خلاف الأصل، فلا نطول في القدرات، وهذا ينقص من فصاحة القرآن وبلاغته كما ترون.

قال: المقصد السادس: الأدوات التي يحتاج إليها المفسر.

قاعدة: إذا جاءت (من) قبل المبتدأ أو الفاعل أو المفعول، فهي: لتأكيد النفي، وزيادة التنكير والتنصيص في العموم.

من: هذه هي: الجارة، ونحن نعرف: أن النكرة في سياق النفي أو النهي أو الشرط أو الاستفهام، أربعة أشياء، النكرة في هذا السياق تكون للعموم، فإذا كانت هذه النكرة مسبوقة بمن الجارة، فإن ذلك ينقلها من حيز الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، بمعنى أنها أقوى في العموم، وهذا يرجع إلى القاعدة، يرتبط بالقاعدة التي ذكرت قبل قليل، وهي: زيادة المبنى لزيادة المعنى، ويكون من قبيل زيادة الحرف، وسيتضح هذا بالأمثلة، فمثلا قبل المبتدأ في قوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ [هود:6]، أين أداة النفي؟ ما، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، أين النكرة؟ دابة، فهي: نكرة في سياق النفي، فأصل الكلام هو: وما دابة في الأرض إلا على الله رزقها، فدابة مبتدأ، ما دابة في الأرض إلا على الله رزقها، فالآن دخلت قبلها من، ولو قلنا: ما دابة في الأرض لكان للعموم؛ لأن دابة نكرة في سياق النفي، فإذا قال: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ، أي ذلك أقوى في العموم: وما من دابة، أو وما دابة؟ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ أقوى، فإذا جاءت من قبل المبتدأ مثل هذا المثال، وما دابة، وما من دابة، أو الفاعل، أو المفعول، فهي: لتأكيد النفي، وزيادة التنكير والتنصيص في العموم، يعني: بدل ما يكون العموم ظاهرًا، يكون نصًا صريحًا قاطعًا قويًا في العموم.

فمثال قبل الفاعل:  أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ [المائدة:19]، أين النكرة؟ بشير، وأين أداة النفي؟ ما: مَا جَاءَنَا، أصل الكلام إذا أزلنا من: ما جاءنا بشير، فبشير إعرابها فاعل، ما جاءنا بشير، وهي: نكرة في سياق النفي، فهي: للعموم، فدخلت عليها من:  مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ، فدخلت قبل الفاعل، فهذا ينقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم، هذي قبل الفاعل.

ومثال قبل المفعول: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا [مريم:98]، أين النكرة؟ أحد، في سياق الاستفهام هل، فهذه نكرة في سياق الاستفهام، والنكرة في سياق الاستفهام للعموم، وأصل الكلام: هل تحس منهم أحدًا، وإن شئت أن تقول: هل تحس أحدًا منهم، فأحدًا مفعول به، تحس أحدًا، مفعول به منصوب، هل تحس أحدًا، فالشاهد أن هنا: هل تحس أحدًا مفعول به، فدخلت قبلها من، هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ، فهذا ينقلها من الظهور في العموم إلى التنصيص الصريح في العموم.

قال: قاعدة: إذا دخلت قد على المضارع المسند إلى الله -تعالى، فهي: للتحقيق دائمًا.

قد: إذا دخلت على الفعل الماضي، فهي: للتحقيق، تقول: قد جاء زيد، قد نزل المطر، للتحقيق، وإذا دخلت على الفعل المضارع، مثل: قد يجود البخيل، فهي: غالبا للتقليل، مثل: قد يخطئ الحاذق، فهي: للتقليل، ولكن إذا جاء ذلك في فعل من أفعال الله ، والفعل هذا مضارع، فعل مضاف إلى الله ، فهل يقال: إنها للتقليل، هل يمكن ذلك؟ مثلاً في الأمثلة هذه: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144]، هل هذه للتقليل؟ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ [النور:64]، هل هي للتقليل؟ وكذا: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الأحزاب:18]، فهذه ليست للتقليل، فإذا دخلت قد على الفعل المضارع المضاف إلى الله ، فهي: للتحقيق دائمًا؛ ولهذا بعض الناس يستشكل هذه الأمثلة، يقول: كيف يقول تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ [البقرة:144]، نرى: فعل مضارع، وقد إذا دخلت على المضارع، فهي: للتقليل، والله يرى ذلك قطعًا، فماذا يقال؟ يقال: هذه للتحقيق دائمًا، كلما رأيتها في القرآن لفعل مضاف إلى الله فهي: للتحقيق، وليست للتقليل.

قال: المقصد السابع: الضمائر.

قاعدة: إذا كان في الآية ضمير يحتمل عوده إلى أكثر من مذكور، وأمكن الحمل على الجميع، حمل عليه.

هذه من الأشياء التي يحتاج إليها الإنسان كثيرًا؛ ليكون له بصر في التفسير، ويستطيع أن يرجح، ويجمع بين الأقوال، ويختار ويضم الأقوال التي هي: من قبيل اختلاف التنوع، بل الأقوال التي هي: من اختلاف التضاد، إذا كان يمكن الجمع بينها، وقد ذكرت في بعض المناسبات، أظن في شرح مقدمة أصول التفسير، لشيخ الإسلام، في الكلام على: اختلاف التنوع واختلاف التضاد، اختلاف التنوع هو: الاختلاف الصوري، الذي تختلف فيه العبارة، وإلا فهو: ليس بخلاف حقيقي، قلت: لربما يكون نصف الآثار المنقولة في التفسير هي: من قبيل اختلاف التنوع، وإذا نظرت إلى النصف الآخر تجد أنه يمكن أن تجمع الأقوال فيه بطريقة أو بأخرى، ومن ثم يبقى عندنا قليل مما يحتاج إلى الترجيح، الذي لابد أن نقول فيه: هذا هو: القول الراجح، وهذا قول مرجوح.

فهنا الضمائر مثلاً، هذا مثال عليها، وإذا أسعفنا الوقت سأذكر قواعد متعددة في الجمع بين الأقوال، كيف تجمع بين الأقوال، فالشاهد: الضمير إذا كان يحتمل العود إلى أكثر من موضع، ولم يوجد مانع من حمله على الجميع، فيمكن أن يحمل عليها جميعًا، مثال ذلك: في قوله -تبارك وتعالى- في آية الكرسي:  يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255]، الهاء الضمير هذا: مِنْ عِلْمِهِ يرجع إلى من؟ يحتمل أنه يرجع إلى الله: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ، أي: الله، ممكن ذلك، ويحتمل أنه يرجع إلى أقرب مذكور، فعندنا قاعدة أخرى تقول: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ، أي: علم ما بين أيديهم وما خلفهم، وهذا قال به بعض السلف، هل هذا اختلاف تنوع أو اختلاف تضاد؟ في حقيقته وأصله: اختلاف تضاد، فهل يمكن أن نجمع بين القولين أو لا يمكن؟ يمكن، هذان القولان بينهما تلازم، ما وجه الملازمة بين القولين؟ أن علم ما بين أيديهم وما خلفهم هو: جزء من علم الله ، فعلم الله يشمل ذلك جميعًا، فنقول: قوله:  وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ، يمكن أن يرجع إلى الأمرين، لا يحيطون بشيء من علم الله، ونستطيع أن نقول: ولا يحيطون بشيء من علم ما بين أيديهم وما خلفهم، ومن باب أولى: ولا يحيطون بجميع علم الله -تبارك وتعالى، ولا حاجة للترجيح.

وقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ  [الانشقاق:6]، الضمير يرجع إلى من فيفَمُلَاقِيهِ؟ يمكن: أن تكون إلى الله، فهناك آيات تدل على أن الناس يعرضون على الله، ويقفون بين يديه، مثل:وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30]، فعندنا أدلة تدل على أن الناس يعرضون على الله ويلاقونه، وكقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:46]، وأيضًا: الإنسان سيلاقي عمله، ومن الأدلة التي تدل على أن الإنسان سيلاقي عمله، وهو: الكدح، العمل، وهي: أدلة كثيرة:  وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [الكهف:49].

وقوله:  يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]، وهكذا، فدلت الأدلة على أن الإنسان سيلاقي ربه، وأن الإنسان سيلاقي عمله، إذن: هنا هل نحتاج إلى الترجيح بين القولين؟

الجواب: لا، فماذا نقول؟ نقول: قوله:  يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ [الانشقاق:6]، أي: ستلاقي ربك، وستلاقي عملك، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، أرأيتم كيف يكون الترجيح؟! مع أن هذا اختلاف تضاد في أصله؛ ولذلك تجد العلماء الذين يكتبون في الخلاف، أحيانًا: يجعلون مثل هذه المواضع من اختلاف التنوع، وأحيانًا: يجعلونها من اختلاف التضاد، والسبب هو: ما ذكرت، أنها في أصلها اختلاف تضاد، لكن حينما تعامل بهذه الطريقة يؤول أمرها إلى الاجتماع، فتكون من قبيل اخلاف التنوع الذي لا نحتاج فيه إلى الترجيح بين القولين، فيسمونها اختلاف تنوع بهذا الاعتبار، وقل مثل ذلك في قوله:  يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا  [طه:110]، كما قلت في آية الكرسي، فقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، أي: لا يحيطون بعلم بين أيديهم وما خلفهم، أو لا يحيطون بالله .

قال: قاعدة: قد يذكر شيئان، ويعود الضمير على أحدهما اكتفاء بذكره عن الآخر، مع كون الجميع مقصودا.

هذه تحتها أقسام، وهي: التي ستعرض الآن، فقد يذكر شيئان، ويعود الضمير على أحدهما اكتفاء بذكره عن الآخر، مع كون الجميع مقصودًا، والعرب لهم في هذا أربعة أحوال، وسنمثل على ذلك من القرآن، والقرآن نزل بلغة العرب:

الأول: أن يعاد الضمير إلى المذكورين جميعًا لفظًا ومعنى، وهذا هو: الذي لا يشكل، يذكر شيئين مثلاً، ويرجع الضمير إليهما بالتثنية، فهذا لا إشكال فيه، كقوله -تبارك وتعالى- مثلاً:  إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا [النساء:135]، فهذا لا إشكال فيه، وكقوله تعالى:  أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا [الأنبياء:30]، فأعاد الضمير بالتثنية، فهذا لا إشكال فيه، وكقوله:  وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1]، فقال:  مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً، وهكذا قوله: امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ [التحريم:10]، فذكر اثنين، وأعاد الضمير بالتثنية، فهذا لا إشكال فيه.

الثاني: أن يذكر شيئين، فيعود الضمير إلى الأول دون الثاني، يقول الله في سورة الجمعة:  وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11]، ولم يقل: إليهما، ولا إليه، وإنما قال: إِلَيْهَا، وإليها هل الضمير مؤنث أو مذكر؟ إليها مؤنث، فالضمير مؤنث:  انْفَضُّوا إِلَيْهَا، فالمذكور الأول: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً هل هي مؤنثة أو مذكرة؟ مؤنثة، واللهو مذكر، وبهذا عرفنا أن الضمير عاد إلى الأول: انْفَضُّوا إِلَيْهَا، ولماذا أعاد الضمير إلى التجارة؟ فهذا العلماء يجيبون عنه بأجوبة متعددة، ومن أحسن هذه الأجوبة، إنما أذكر هذا على سبيل الإفادة، يعني: عرضًا، لكن الهدف: أن تفهم القاعدة بمثالها فقط، لماذا أعاد الضمير إلى التجارة؟ الصحابة ، النبي ﷺ يخطب، وخرجوا وما بقي إلا أثنى عشر رجلاً فقط، فعاتبهم الله بهذه الآية، فقال: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً، لأنها جاءت قافلة تحمل الأقوات من بلاد الشام لدحية بن خليفة الكلبي قبل إسلامه ، وروي: أنه ضرب بين يديها بالطبل، وقد يأتي صاحب هوى، ويقول: الطبل جائز، لهذا: ضرب بين يديها بالطبل، وهذا يمكن الجواب عنه:

أولاً: أن هذا الرجل قبل إسلامه.

ثانيًا: هذه الرواية قد لا تثبت: أنه ضرب بين يديها بالطبل.

ثالثًا: أن النبي ﷺ ما أقره على هذا، كان النبي ﷺ يخطب، وهذا أهله، والرجل ما هو مسلم، وقد يكون قبل تحريم المعازف، والأجوبة معروفه.

فلما ضرب بين يديها بالطبل خرجوا، وكان من عادة العرب إذا جاءت القافلة ضربوا بالطبل إيذانًا إخبارًا إعلانًا بوصولها، فخرجوا، فقال الله -تعالى: وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا [الجمعة:11]، هل هم خرجوا من أجل اللهو أو من أجل التجارة؟ من أجل التجارة، فأعاد الضمير إليها دون اللهو، فهنا ذكر اثنين وأعاد الضمير على الأول.

ومن يقول: إن اللهو هنا ليس المقصود به: الطبل، وإنما المقصود: كل ما يتلهى عن ذكر الله ، فيكون الجميع مقصودًا، فإذن: لماذا أعاد الضمير إلى أحدهما؟ قال: ليدل على الآخر، وهذا الذي يسمونه: بالاكتفاء.

والاكتفاء يكون: بالضمائر، ويكون: بغيرها، مثل قوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النحل:81]، ولم يذكر البرد، والتقدير: سرابيل تقيكم الحر والبرد، فذكر الحر ليدل على البرد، وكما في قوله تعالى على أحد الوجوه في التفسير:  فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، يعني: هل نحن لا نذكر إلا إذا توقعنا أنها تنفع،  فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، أي: وإن لم تنفع، فذكر أشرف القسمين؛ ليدل به على الآخر، على أحد الأقوال في التفسير.

المقصود: إن هذه القواعد تفتق الذهن، تجعل الإنسان يتذوق التفسير، ونحن إن وصلنا إلى هذا الهدف، واستطعنا أن نعطي لحمة: ما هي القواعد؟ فهذا هو الهدف، فنكون بإذن الله حققنا المقصود مما ذكر، ولو توقفنا عند هذا الحد.

ففي هذا المثال عاد الضمير إلى الأول، فقد يعود إلى الأول، وقد يعود الضمير إلى الثاني، الله يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:34]، فهل الذهب مذكر أو مؤنث؟ الذهب مذكر، والفضة ماذا؟ مؤنثة، فقال: وَلَا يُنْفِقُونَهَا، والأقوال فيها كثيرة، بعضهم يقول:  وَلَا يُنْفِقُونَهَا يعني: الأموال، تشمل الذهب والفضة، أو بعضهم يقول: الكنوز، لكن على الشاهد في المثال: وَلَا يُنْفِقُونَهَا أن الضمير يرجع إلى الفضة، ولماذا أعاده إلى الفضة؟ بعضهم يقول: ليدل به على الآخر من باب الاكتفاء، وبعضهم يقول: لأن الدنانير من الذهب والفضة منها الدراهم، والدراهم هي الأوفر والأكثر تداولا بين الناس من الذهب، فلهذا أعاد الضمير إليها، مع أن الجميع مقصودًا، فالجميع مقصود بهذا المثال.

الصورة الرابعة: أن يذكر شيئين، ثم يفرد الضمير العائد عليهما، مع أن الجميع مرادًا، هناك قلنا في المثال الأخير: إنه أراد الفضة؛ لأنها أكثر تداولا، وانْفَضُّوا إِلَيْهَا، المراد الأول؛ لأنهم ما خرجوا للطبل مثلاً، وأما هنا فيذكر شيئين، ويعود إلى أحدهما، مع أن الجميع مقصودًا بلا إشكال، مثاله: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ  [التوبة:62]، فعاد الضمير إلى الله ،  أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ، لماذا لم يأت الضمير مثنى؟ يمكن أن يقال مع أن الجميع مقصود: فلابد من إرضاء الله وإرضاء رسوله ﷺ، فيمكن أن يقال: لأن طاعة الرسول ﷺ تابعة لطاعة الله، ورضا النبي ﷺ تابع لرضا الله، وإلا فالجميع مقصود، وكذا:  وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ  [الأنعام:141]، فالنخل هل هو مذكر أو مؤنث؟ مؤنث؛ لأنه جمع نخلة، مثل: النساء مؤنث، فالنخل مؤنث جمع نخلة، فهي: تجمع على نخل ونخيل، فالآن:  وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ، والزرع هل هو: مذكر أو مؤنث؟ مذكر، والنخل مؤنث، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ  [ق:10]، وما قال: والنخل باسق، وما قال: له طلع نضيد، بينما الزرع مذكر، فقال: وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ، فالضمير هل هو مذكر أو مؤنث؟ الضمير مذكر، فهنا إذن: يعود إلى الزرع، مع أن النخل أيضًا مقصود، كذلك النخل مختلف أكله، فيقولون: أعاده إلى أحدهما ليدل على الآخر، وهذا من التفنن في تصريف الكلام.

وقوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ [يونس:5]، وما قال: وقدرهما منازل، بل قال:وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ، فالمنازل هل هي فقط للقمر، أو الشمس والقمر لهما منازل؟ للشمس وللقمر، فأعاد الضمير إلى القمر، فالشمس مؤنثة، والقمر مذكر، قال: وَقَدَّرَهُ، يعني: القمر، مع أن الجميع مقصود، وقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ [البقرة:45]، فقال: وَإِنَّهَا، فالصبر هل هو: مذكر أو مؤنث؟ مذكر، والصلاة مؤنثه، إذن:وَإِنَّهَا أي: الصلاة، ووجوه التفسير موجودة ومتعددة، فبعضهم يقول:وَإِنَّهَا يعني: المذكورات، يعني: الصبر والصلاة، لكن على المثال على القاعدة: قوله: وَإِنَّهَا، أعاده إلى الصلاة، مع أن الصبر أيضًا كذلك كبير إلا على الخاشعين، فعاد الضمير إلى أحدهما؛ ليدل به على الآخر، فالصبر كبير إلا على الخاشعين، والآيات التي وردت في الصبر كثيرة، سواء: اصْبِرُوا وَصَابِرُوا [آل عمران:200]، أو وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمران:186]، فالنصوص الكثيرة تدل على: أن الصبر شيء شديد وصعب؛ ولهذا قال الله :  وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:12]، فلما كان الصبر فيه حرارة، وفيه ضيق وحبس للنفس، جازاهم بالسعة والبرودة التي ترمز إليها الجنة، وبالنعومة في الحرير والليونة والملاسة، بدلا من الخشونة الصبر[2]، فالصبر شديد، فهو: كبير إلا على الخاشعين، وأكثر الناس لا يصبرون؛ ولهذا قال الله :  كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى  [العلق:6-7]، فهذا من قلة صبره في حال الغنى، وكذلك قال تعالى:  إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ۝ إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:19-22].

قال: قاعدة: إذا تعاقبت الضمائر، فالأصل أن يتحد مرجعها.

إذا تعاقبت الضمائر فالأصل أن يتحد مرجعها؛ من أجل أن يكون الكلام على نسق واحد، فتوحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقه، وهذه الطريقة نستطيع بها أن نرجح بين الأقوال المفسرين، مثال على توافق الضمائر: الآن في قوله تعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح:9]، فقوله:لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ، فالضمير يرجع على من؟ عندنا قاعدة: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، من هو هنا؟ النبي ﷺ، وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، أي: الرسول ﷺ، وقوله: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، فالآن لاحظ! إن الأخيرة: وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ترجع إلى الله، تسبحون الله، لكن: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، كثير من المفسرين يقول: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ، أي: الرسول ﷺ، وقوله:  وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، قالوا: أي: الله، فهنا فرق الضمائر، شتتها، فجعل بعضها يرجع إلى الله، وجعل بعضها يرجع إلى الرسول ﷺ، والقاعدة هنا تقول: بأن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها؛ إلا لقرينة، أو دليل، إذا كان المعنى لا يمكن أن يصح، فماذا نقول هنا بمقتضى القاعدة؟ نقول: كل ذلك يرجع إلى الله، ونكون رجحنا الآن بين أقوال المفسرين، فقوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ، أي: تعزروا الله بنصرته، وَتُوَقِّرُوهُ أي: التعظيم والإجلال لله وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً، فكل ذلك يرجع إلى الله ، فانظر كيف استطعنا أن نرجح الآن؟! مع أن الخلاف مشهور جدًا فيها.

والله يقول في عيسى :  وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، والحديث عن عيسى يقول الله -تبارك وتعالى- فيه: وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ۝ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ۝ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:157-159]، فإن هذه نافيه، يعني: ما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به قبل موته، فالشاهد في الهاء هذه:  قَبْلَ مَوْتِهِ، إذا طبقت قاعدة: إن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور:وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، يعني: قبل موت عيسى ؛ لأنه سيرجع آخر الزمان؛ لأنه لم يمت، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فعند ذلك لا يكون أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به، ويعلم أنه ليس بإله، ولم يصلب كما زعمت اليهود، وضُلِلَ النصارى بذلك، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أي: ما من أهل الكتاب، إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ  أي: يؤمنن بعيسى ،  قَبْلَ مَوْتِهِ يعني: قبل موت عيسى  في آخر الزمان، فهذا معنى.

والمعنى الثاني: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أي: قبل موت الكتابي المذكور قبل قليل، باعتبار: أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، قبل موت هذا الكتابي، يعني: في أي زمان ومكان واحد من أهل الكتاب ما يموت إلا ويؤمن بحقيقة عيسى ، أنه عبد لله ، لكن الإيمان هذا لا ينفعه، وهذا قال به ابن عباس -ا، حتى قيل له: الرجل يضرب بالسيف، يضرب بالسيف يعني: يقتل فجاءه، فكيف يؤمن به قبل أن يموت، مات بلحظة بسكتة قلبية، فابن عباس يقول: لابد ما يموت إلا ويؤمن بعيسى أنه عبد لله ورسوله، وليس بإله، ولكن هذا الإيمان لا ينفعه، فجعل الضمير يرجع إلى الكتابي، فقوله: قَبْلَ مَوْتِهِ أي: قبل موت الكتابي.

فالآن عندنا قولان في قوله:  لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، أي: قبل موت عيسى في آخر الزمان، أو قبل موت الكتابي، سواء الآن أو في أي وقت، فالكتابي قبل ما يموت يؤمن بحقيقة عيسى إيمانًا لا ينفعه.

وقوله:  قَبْلَ مَوْتِهِ، الضمير يرجع إلى من على مقتضى هذه القاعدة: أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها، فماذا نقول؟ والضمائر السابقة إلى أين ترجع، كقوله:وَمَا قَتَلُوهُ [النساء:157]؟ إلى عيسى وقوله:  وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء:157]، أي: عيسى ،  وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ [النساء:157]، أي: عيسى  لَفِي شَكٍّ مِنْهُ [النساء:157]، عيسى  مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ [النساء:157]، عيسى إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا [النساء:157]، عيسى ،  بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158]، رفعه يعني: عيسى ، وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ [النساء:159]، يعني: بعيسى  قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159]، قبل موت عيسى .

أرأيتم كيف؟! فالأصل توحيد مرجع الضمائر مهما أمكن، فأحيانًا ما يمكن هذا، فلو واحد قال: أريد أن أطبق القاعدة في كل الأمثلة، فسيأتي بما لم يأت به الأوائل، فهذه مشكلة، فالجمع بين الأقوال أحيانًا ما يمكن.

ويقول الله هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، هو من؟ الله -تبارك وتعالى،  وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا  [الحج:78]، هو من هنا؟ إذا قلت: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فمن هو أقرب مذكور؟ إبراهيم  ، فمن الذي سمانا بالمسلمين؟ إبراهيم على قاعدة: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، وعلى قاعدة: توحيد مرجع الضمائر، يكون الضمير يعود إلى الله ،  هُوَ  أي: الذي اجتبانا،   هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ  [الحج:78]، أي: الله،  سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ، والدليل على هذا أيضًا: أنه قال:  وَفِي هَذَا، يعني: في القرآن، فإبراهيم ما سمانا في القرآن مسلمين، فالقرآن ما نزل إلا بعد إبراهيم ، مع أن الآية فيها خلاف مشهور في مرجع الضمير: هل الذي سمانا: المسلمين إبراهيم  أو الله؟ فبمقتضى القاعدة: نعرف أن الذي سمانا بذلك هو: الله .

وفي قول الله لأم موسى:  وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [القصص:7]، يعني: موسى ،  فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [القصص:7]، أي: موسى  وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، فهذا كله في موسى .

وقوله:  أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ [طه:39]، أي: اقذفي موسى في التابوت، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه:39]، فهنا: هل اقذفي موسى أو اقذفي التابوت؟ فعلى قاعدة: الضمير يرجع إلى أقرب مذكور، فأقرب مذكور ما هو؟ التابوت، أي: اقذفي التابوت في اليم، على هذه القاعدة، فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ [طه:39]، أي: اليم يلقي التابوت بالساحل، لكن إذا قلنا: بتوحيد مرجع الضمائر، بناء على قاعدتنا هذه، يكون الضمير في جميعها يرجع إلى موسى ، فقوله:  أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ [طه:39]، يعني: اقذفي موسى ، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه:39]، الذي هو: موسى :  فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ  [طه:39]، أي: اليم يلقي موسى .

وقوله: قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ [يوسف:51] إلى من يرجع الضمير في أَنَا رَاوَدْتُهُ؟ يرجع إلى يوسف وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ [يوسف:51]، يعني: يوسف ، ثم قالت:  ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52]، هل يرجع إلى زوجها أو إلى يوسف؟ هذا مثلنا به على قاعدة أخرى: في الكلام على قضية الموصول لفظًا، المفصول معنى، وهنا نأتي به مثالاً على هذه القاعدة، فقوله: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52]، بعضهم يقول: يرجع إلى زوجها، فهي تقول: صحيح أنا حاولت لكن لم يحصل شيء، فليعلم زوجي أن القضية كانت مجرد محاولة، وبعضهم يقول: يرجع إلى يوسف ﷺ فهي تقول: وإن كان غائبًا، فأنا لا أقول فيه إلا خيرًا في حال غيبته،  ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52]، يعني: يوسف ، فمقتضى هذه القاعدة، في توحيد مرجع الضمائر، يكون قولها: أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ يعني: يوسف وهكذا.

أقول: لكن أحيانًا يحتاج، بل لابد من القول بتفريق مرجع الضمائر، وإلا فسد المعنى، فمثلاً في قوله -تبارك وتعالى:  وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا [الكهف:22]، فقوله:  وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ، الضمير يرجع إلى من في قوله: فِيهِمْ؟ إلى أصحاب الكهف، وفي قوله:  مِنْهُمْ إلى من يرجع؟ هل نقول: من أصحاب الكهف، إن قلنا بتوحيد مرجع الضمائر؟ لا يمكن هنا، كيف يستفتي أصحاب الكهف؟! وإنما من أهل الكتاب؛ لأنهم اختلفوا فيهم،  سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ [الكهف:22] الآية، فالله يقول:وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ، يعني: في أصحاب الكهف،  مِنْهُمْ أَحَدًا، أي: من أهل الكتاب، فلو جاء إنسان ليطبق قاعدة توحيد مرجع الضمائر، وقال: نحن درسنا أن توحيد مرجع الضمائر مطلوب ما أمكن؛ ولهذا نقول: بأنه:  وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ يعني: في أصحاب الكهف، مِنْهُمْ أن الراجح: أصحاب الكهف أيضًا، كيف هذا؟! فهذا لا يمكن، فيكون هذا من الخطأ الشنيع في التفسير، لكن قد توجد بعض الأمثلة قد يقال فيها هذا، وأحيانًا تحتمل.

ففي قوله -تبارك وتعالى:  وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ [هود:77]، فهل الضمير يرجع إلى الرسل في: سِيءَ بِهِمْ؟! كيف هذا؟! بل المعنى: سيء بقومه، ساء ظنه بقومه، وقوله:  وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا [هود:77]، بعضهم يقول:  وَضَاقَ بِهِمْ، أي: بالرسل؛ لأنهم جاؤوا على صورة شبان، وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ۝ قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ۝ قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:78-80]، بعضهم يقول: وجه الخطاب إلى الملائكة، يقول لهم: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً ، أي: فأحميكم، أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، أي: ألجأ إليه، واحتمي به، واستند إليه، فأدفع هؤلاء عنكم، فهو: يقول له معتذرًا: إني لا استطيع، ولا أملك الدفع عنكم، فيقولون: إن قوله: وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا [هود:77]، يعني: ضاق بالرسل، لا يدري ماذا يصنع بهم؟ أي: ضاق ذرعه بهم.

وقوله:  إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]، فقوله:  مِنْهَا يرجع إلى أين؟ يرجع إلى الشهور، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، هل هو في الشهور أو في الأربعة؟ في الأربعة، فالآن فرقنا بين مرجع الضمائر في هذه الأمثلة.

قال: المقصد الثامن: الأسماء في القرآن.

قاعدة: إذا كان للاسم الواحد معان عدة حمل في كل موضع على ما يقتضيه ذلك السياق.

إذا كان للاسم الواحد معان عدة، يعني: الآن تجدون في كتب الوجوه والنظائر، وهناك كتاب عظيم جدًا لابن الجوزي، وهو: من أحسن ما كتب في باب الأشباه والنظائر، وهناك كتاب للدامغاني، أُخْرِج وقد غير عنوانه، وغير ترتيبه أيضًا، سمي: قاموس الوجوه والنظائر، فتجدون هناك كلمات: لفظة واحدة لها معان متعددة، فهنا هذه القاعدة: إذا كان للاسم الواحد معان عدة حمل في كل موضع على ما يقتضيه ذلك السياق.

مثلاً: لفظة الأمة لها عدة معان، ففي قوله تعالى: وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ [القصص:23]، المقصود بها جماعة من الناس، وفي قوله تعالى:  كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً  [البقرة:213]، معناه ملة واحدة، فالطائفة المجتمعة على دين واحد، يقال لها: أمة، وفي قوله: وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ [هود:8]، معناه مدة من الزمان، وقوله: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً [النحل:120]، أي: الرجل الجامع لخصال الخير التي تفرقت في غيره، وقوله: وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ [الأنعام:38]، يعني: أصناف، وقوله: وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ  [يوسف:45]، يعني: بعد مده زمنية، فيكون بحسب السياق.

وهكذا: مثل: لفظة الوحي، يقول تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [النساء:163]، هنا فسر بمعنى: الإرسال، وقوله: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم:11]، الذي هو: زكريا ، فمعناه الإشارة والرمز؛ لأن الله تعالى قال له: آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا [مريم:10]، يعني: ما بك علة، وإنما لا يستطيع الكلام من غير علة، إلا إشارة، فأشار إليهم:  أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا، وقوله:  وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:68]، يعني: ألهمها، فهو: بمعنى الإلهام هنا، وقوله: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:5]، أي: الأرض، يعني: أمرها، وقوله: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ  [الأنعام:121]، يعني: الوسوسة، عبد الله بن عمر كان متزوج أخت المختار الثقفي الكذاب الذي أدعى أنه يوحى إليه، فجاء رجل إلى ابن عمر، وقال: إن المختار يقول: إنه أوحي إليه، فقال: صدق، فإن الله يقول:  وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ [الأنعام:121][3] .

قال: المقصد التاسع: العطف.

قاعدة: العطف يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه، مع اشتراكهما في الحكم الذي ذكر لهما.

هنا سنعرض عليكم الأقسام الداخلة تحت العطف، فالعطف يقتضي المغايرة في الأصل بين المعطوف والمعطوف عليه، مع اشتراكهما في الحكم الذي ذكر لهما، والصور الداخلة تحته متعددة، يمكن أن نذكر منها أربع صور:

الأولى: أن يكونا متباينين، يعني: المعطوف والمعطوف عليه بينهما مباينة، ما معنى مباينة؟ يعني: الآن لو قلنا: هذه القارورة، وهذه الساعة، هل هما متماثلان؟ لا، هل هما متناقضان؟ لا، هل هما متضادان؟ لا؛ إذن: هما متباينان، هذا التي يسمونها النسب الأربع، فهما متباينان، والليل والنهار ما هما؟ نقيضان، لا يجتمعان، ولا يرتفعان، يعني: لابد يوجد واحد منهما، يا ليل يا نهار، لكن السواد والبياض متضادان، ممكن لا يكون أسود ولا أبيض، يصير أحمر، والقلم والدفتر متباينان، ويسمونه: متخالفان، ومتغايران.

فعندنا: التباين مثل:  الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام:1]، فالآن الأرض معطوفة على السماوات، فهذان الآن متباينان، فالآن العطف يقتضي المغايرة، فهنا عطف الأرض على السماوات، فهما متباينان، والأمثلة على هذا كثيرة جدًا، مثل قوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98]، فميكال غير جبريل، وقوله: وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران:3].

الثانية: وقد يكون بينهما ملازمة، وهذا خارج عن النسب الأربعة، قد يكون بين المعطوف والمعطوف عليه تلازم، كقوله: وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:42]، فالآن الذي يلبس الحق بالباطل هل يكون كتم الحق أو لا؟ يكون كتم الحق، فيكون بينهما ملازمة، وكقوله: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء:115]، فكل من شاق الرسول ﷺ بعد ما تبين له الهدى يكون قد اتبع، ويلزم من ذلك أن يتبع غير سبيل المؤمنين، وقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا [النساء:136]، فهذه الأشياء بينها ملازمة؛ لأنه إذا كفر بواحد كفر بالباقي.

الثالثة: وقد يعطف بعض الشيء عليه، كقوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، فهي: بعض هذه الصلوات، لكن لأهميتها ذكرها، فهذا يكون من قبيل عطف الخاص على العام، وقوله: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب:7]، فهؤلاء من النبيين، فقوله:  وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ، هذا عام، ثم عطف هؤلاء عليه، فيكون من عطف الخاص على العام، وقوله: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ [البقرة:98]، فجبريل وميكال هما من جملة الملائكة والرسل -عليهم السلام، يقول تعالى: اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ [الحج:75].

الرابعة: وقد يعطف الشيء على الشيء نفسه، لكن لاختلاف الأوصاف روعي فيه ذلك، فإن تغاير الصفات ينزل منزلة تغاير الذوات، فمثلاً قوله تعالى:  سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ۝ الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ۝ وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى ۝ وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى  [الأعلى:1-4]، أليس هذا كله يرجع إلى ذات واحدة؟! فهذا من باب عطف الصفات، فينزل تغاير الصفات منزلة تعدد الذوات، فيصح العطف، وقوله: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ۝ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [البقرة:3-4]، فهذا كله يرجع إلى موصوف واحد، فهذه أربعة أنواع.

قال: المقصد العاشر: الوصف.

قاعدة: الأوصاف المختصة بالإناث: إن أريد بها الفعل لحقها التاء، وإن أريد بها النسب جردت من التاء.

هذه القاعدة لها شاهد، أو ما يشهد لها من القرآن، ولها ما يشهد لها من كلام العرب، فالأوصاف المختصة بالإناث إن أريد بها الفعل لحقها التاء، وإن أريد بها النسب جردت من التاء، الله يذكر أهوال الساعة، ويقول: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:2]، فهنا قال:  يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، ولم يقل: مرضع، فالآن هذا الوصف: مُرْضِعَةٍ، هل هو: مختص بالإناث أو مشترك بين الإناث والذكور؟ مختص بالإناث، فإذا كانت الصفة من الأوصاف المختصة بالإناث، إن أريد بها الفعل لحقتها التاء، وإن أريد بها النسب جردت من التاء، فالآن قوله: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، هل المقصود بالمرضعة: المرأة التي من شأنها الإرضاع؟! مثلاً: هذه المرأة التي في السوق تمشي تشتري وتبيع، وما معها طفل، هل تقول: هذه مرضع أو مرضعة؟ مرضع، وإذا كانت قد ألقمته الثدي؟ يقال: مرضعة، فإن أريد به الفعل لحقته التاء: مرضعة، وإن أريد به النسب، منسوبة إلى الإرضاع، كما تقول: فلان كاتب، وإن لم يكن يكتب الآن، فلان قارئ وإن لم يقرأ الآن، هذا فقط للنسب، لكن إن أريد به الفعل، وهو: وصف مختص بالإناث، نقول: مرضعة، ونلحق التاء، فحينما نفسر أو نريد أن نتصور هذا الموقف المذهل في الآخرة: يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، ما فيه فيما أعلم، ما فيه تصوير أبلغ لأهوال يوم القيامة من هذا، أنا ما أعرف، فكرت وحاولت، وما عرفت، أعلى ما يكون من الحنان والرأفة والشفقة والعطف والأمومة والرقة، وقل ما شئت، يقطر ذلك من جميع أجزاء المرأة، متى؟ إذا كانت قد ضمت الطفل إليها ترضعه، هنا يخرج ما هو فقط حليب، يخرج الحنان، واسألوا النساء، المرأة أحيانًا تكون ما فيها لبن، إما أن طفلها مات، أو ما ولدت بعد، وهي: على وشك الولادة، إذا ضمت صبي إلى صدرها، أي طفل، كولد الجيران، أو أي طفل صغير، عندما تضمه على صدرها، تجد أن الحليب يبدأ يسيل، ويظهر، وهذا شيء موجود ومشاهد ومعروف، فالمرأة في حال الإرضاع تكون في قمة الحنو والعطف والشفقة والرأفة والحنان، والله يقول: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ، التي ألقمت طفلها ثديها، ومع ذلك إذا قامت الساعة قامت المرأة ذاهلة عن ولدها، تتركه من شدة الهول والفزع، هذا الولد الذي ألقمته ثديها، وهي: تقطر حنانًا، وتفيض عطفًا، تذهل عنه، فما بالك بالإنسان الذي لاهي في سوقه، أو الإنسان الذي يلعب، فهذا يدل على: شدة هول الموقف.

وقد رأيت مرة بعيني موقفا، ولا يمكن أن يقارن بهذا، لكن فيه هول شديد، وبعض النساء جالسات، وقد احتضنت المرأة طفلها، فرأيت الجميع يقومون يمشون من كل ناحية، لا يدرون أين يذهبون، وقد تركت المرأة صبيها في الأرض، تذهب وتجري، كأن الناس في القيامة، فجلست أنظر إليها حتى أبعدت، ثم تذكرت ورجعت مسرعة وأخذت الولد وانطلقت هاربة، والناس يهربون من جميع الجهات لا يدرون أين يذهبون، هذا شيء أنا شاهدته، فكيف بالقيامة، وهول القيامة؟!

فإذا استشعرت هذا المعنى في الآية، فهمت هذا المراد: الأوصاف المختصة بالإناث إذا أريد بها الفعل لحقتها التاء، وإذا أريد بها النسب جردت من التاء، فإذا قرأت قوله تعالى:  يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ [الحج:2]، تعرف أنها ألقمت ثديها لهذا الصبي، ومع ذلك لما قامت القيامة فزعت فزعًا شديدًا، فتركته وذهبت ذاهلة عنه تطلب النجاة لنفسها فقط، والله المستعان، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وآله، وصحبه.

  1. انظر: تفسير الطبري (11/ 89) وما بعدها.
  2. انظر: حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص:185).
  3. أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره، (4/ 1379)، رقم: (7840)، وانظر: تفسير ابن كثير (3/ 321).

مواد ذات صلة