الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
(9) من قوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ} الآية 36 إلى قوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} الآية 40‏
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الآخرة / ١٤٣٠
التحميل: 7787
مرات الإستماع: 8842

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً، وبعد:

قال المصنف -رحمه الله تعالى- في تفسير سورة النور قوله تعالى:

رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ ۝ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [سورة النور:37، 38].

لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن، وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقّد من زيت طيب، وذلك كالقنديل، ذكر محلها وهي المساجد، التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته التي يعبد فيها ويُوَحّد، فقال تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [سورة النور:36] أي: أمر الله تعالى برفعها، أي: بتطهيرها من الدنس واللغو، والأفعال والأقوال التي لا تليق فيها، كما قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في هذه الآية الكريمة: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ قال: نهى الله سبحانه عن اللغو فيها، وكذا قال عكرمة، وأبو صالح، والضحاك، ونافع بن جبير، وأبو بكر بن سليمان بن أبي حَثْمة وسفيان بن حسين، وغيرهم من علماء المفسرين.

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ الحافظ ابن كثير -رحمه الله- ربط بين هذه الآية وما قبلها، فضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم بالمصباح في الزجاجة الصافية، قال: وذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض، وهي بيوته إلى آخره، بمعنى أن العلاقة والمناسبة: لما ذكر مثل نوره في قلب عبده المؤمن، ذكر بعد ذلك محلها وموضعها.

ومن أهل العلم من يقول: إنه مرتبط بما قبله: بحيث المعنى هكذا: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ، وهذه المشكاة فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ يعني هذا محل المشكاة، كما يرى في المسجد نور المشكاة التي من صفتها كذا وكذا في الإضاءة والإشراق والتوقّد، وبعضهم يقول: مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ فيها مصباح ذلك المصباح فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ، وهذا اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله تعالى، وبعضهم يقول بقول قريب من هذا، وبعضهم يقول: هذه صفة للزجاجة، وبعضهم يقول: هو حال من المصباح، ومن الكوكب كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ

وعلى هذه الأقوال لا يوقف -يعني الأوْلى- عند قوله "عليم" من جهة المعنى؛ لأن الآية لا زال المعنى فيها لم يكتمل، وإن كان السنة كما هو معلوم أن يقف الإنسان عند رءوس الآيات، ولكن من قال: إنها لا تتعلق بما قبلها وإنما تنشئ معنى جديداً كما يقول بعضهم: إن قوله: فِي بُيُوتٍ متعلق بقوله بعده "يسبح" فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ يعني كأنه يُسبح في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه رجالٌ لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله.

ويمكن أن يقال: إن الله -تبارك وتعالى- ذكر ذلك المثل لنوره في قلب عبده المؤمن، ثم بعد ذلك ذكر حال هؤلاء المهتدين من أهل الإيمان ممن أشرقت نفوسهم بهدى الله -تبارك وتعالى- حيث عمروا بيوته بذكره، وطاعته فأشغلوا جوارحهم بما يقربهم إليه، فيكون ذلك من جملة الثناء عليهم، ذكر ما حصل لهم من إيمان وإشراق للنفوس، وهدى ثم بعد ذلك ذكر ما لهم من الحال والعمل وما يؤثّره ذلك الاهتداء من اشتغال بطاعة الله والتقرب إليه فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۝ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ [سورة النور:36، 37].

الأول في بيان هداه، والثاني في حال من اهتدى بهذا الهدى، وما هو فيه من اشتغال وعمارة للأوقات، وتعمير للمساجد بالذكر باللسان والجوارح، الذكر بنوعيه، قال: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ والمقصود بها المساجد قال: أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها، هذا مِن رفعها أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ والأذن يأتي بمعنى الأمر، والله -تبارك وتعالى- يقول: مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ [سورة الحشر:5]، يعني بأمره بالشرع والقدر، فهنا أذن أن ترفع.

أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ترفع: الرفع بنوعين: رفع البناء، والثاني: هو العمارة والرفع بالعبادة والذكر، ومن أهل العلم من خص الرفع بالتطهير من الدنس وما شابه ذلك مما يتصل بالرفع المعنوي كقولهم: بذكر الله، بعبادته، بطاعته ونحو ذلك، والذي ألجأهم إلى هذا هو ما جاء من النهي عن تشييد المساجد، والتشييد يأتي لمعنيين:

المعنى الأول: رفع البناء.

والثاني: هو تزويقه وتزيينه، يقول: هذا بناء مشيد يعني أنه قد وضع فيه الشيد –الجص- وما شابه ذلك، هذا فيه نهي، وكذلك المبالغة في بناء المساجد ورفعها فوق الحاجة ونحو ذلك، فلما نظروا إلى النصوص الواردة بهذا المعنى حملوا قوله: أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ على معنى لا محظور فيه فقالوا: رفعُها تطهيرها من الدنس، وعمارتها بذكر الله ، هكذا قالوا، ولكن يدخل في رفعها البناء، لا يلزم منه أن يكون البناء مرتفعاً وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ [سورة البقرة:127] فإقامة البناء هو الرفع له.

 أَن تُرْفَعَ أي: أن تعمر حسياً، عمارة المساجد وما جاء في فضل ذلك ولا يلزم من هذا أن يرفع البناء فوق الحاجة، ومسألة بناء المساجد والزخرفة أو التزيين أو نحو ذلك هذه مسألة تختلف من عصر لآخر، فالزخرفة هذه منهي عنها، ينبغي أن تجتنب، لكن مسألة طريقة البناء: في السابق كان الناس يبنون باللبِن والحجارة، وبيوت الناس بهذه الطريقة، وما زاد على ذلك ما زاد عليه من تجصيص ونحو ذلك يكون فيه شيء من المبالغة وغالباً يفعله أهل الجِدة والغنى فمثل هذا في ذلك الوقت يكون من التشييد الذي فيه مبالغة وفيه النهي، لكن حينما تصير عادة الناس أنهم يبنون البناء الحديث، ولا يتركونه حجارة هكذا أو لبِناً فلا يقال: إن المساجد يوضع فيها طوب هكذا كيفما اتفق ثم بعد ذلك تسقف بجريد من غير طلاء، هذا لا يقول به أحد، فما يعد في ذلك الوقت من قبيل التشييد المنهي عنه قد لا يكون بهذا الوقت من التشييد المنهي عنه؛ لاختلاف طبيعة البناء.

أما الزخرفة المعروفة فإنها داخلة في النهي، بمعنى أن طريقة بناء الناس للجدران الآن ونحو ذلك والطلاء في ذلك الوقت يعد هذا من التشييد ومن الزخرفة، ومسألة رفع السقف إذا كان الرفع لحاجة لكثرة المصلين فهذا يحتاج إليه، ولا إشكال في هذا، وإن كان من غير حاجة كما يفعل الكبراء والعظماء ونحو ذلك في قصورهم حيث يرفعون السقوف رفعاً زائداً من غير حاجة، وإنما من باب تعظيم البناء ونحو هذا فهذا منهي عنه، وفيه تضييع للمال.

والمقصود أن نفهم لماذا حمله كثير من أهل العلم على الرفع بالمعنى الآخر؟ هذا مأخذ هذا القول، فإذا فهمت ما سبق انتفى الإشكال، رفْعُ البناء بمعنى إقامته فكل ذلك من رفعها، أذن أن ترفع ببنائها وعمارتها حسياً ومعنوياً، وبينهما ملازمة، فلا توجد بيوت يذكر فيها المعبود -تبارك وتعالى- ويسبح إلا ببنائها وإقامتها.

وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد، واحترامها وتوقيرها، وتطييبها وتبخيرها، وذلك له محل مفرد يذكر فيه، وقد كتبت في ذلك جزءًا على حدَة، ولله الحمد والمنة، ونحن بعون الله تعالى نذكر هاهنا طرفا من ذلك، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة وعليه التكلان:

فعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: من بنى مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة[1]، أخرجاه في الصحيحين.

وروى ابن ماجه، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله ﷺ: من بنى مسجدا يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتا في الجنة[2].

وللنسائي مثله، والأحاديث في هذا كثيرة جدا.

وعن عائشة -ا- قالت: "أمر رسول الله ﷺ ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب"[3]، رواه أحمد وأهل السنن إلا النسائي، ولأحمد وأبي داود، عن سَمُرة بن جُنْدب نحوه.

وقال البخاري: قال عمر: ابنِ للناس ما يكنّهم، وإياك أن تُحمِّر أو تُصفِّر فتفتن الناس[4].

في حديث عائشة -ا: "أمر رسول الله ﷺ ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب" وهو دال على أن تنظيفها وتطييبها كل ذلك من رفعها وعمارتها مع عبادة الله فيها.

وروى أبو داود عن ابن عباس -ا، قال: قال رسول الله ﷺ: ما أمِرْتُ بتشييد المساجد، قال ابن عباس: لَتُزَخرفُنّها كما زَخْرَفت اليهود والنصارى"[5].

يعني هذا تفسير، وكما سبق التشييد يأتي للمعنيين: مِن طلائها بالشيد كالتجصيص ونحوه، وكذلك الرفع يقال له: تشييد، بيت مشيد، قصر مشيد، يقال لهذا وهذا.

وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ: لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد[6]، رواه الإمام أحمد وأهل السنن إلا الترمذي.

وعن بُرَيْدَةَ أن رَجُلا أنشدَ في المسجد، فقال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ فقال النبي ﷺ: لا وَجَدْتَ، إنما بُنِيت المساجد لما بنيت له[7]، رواه مسلم.

أنشد في المسجد بمعنى سأل قال: من دعا إلى الجمل الأحمر؟ يعني من قال: إنه رآه أو وجده أو عنده خبر منه؟ فقال له النبي ﷺ: لا وَجدتَ، إنما بنيت المساجد لما بنيت له، جاء عن عكرمة أنه كان يغلظ على السؤّال في المساجد، الذين يقومون ويخطبون بعد الصلاة ويشغلون الناس عن ذكر الله ، كان يغلظ عليهم ويزجرهم ويضيف ذلك إلى ابن عباس -ا، ولكن الله يقول: وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ [سورة الضحى:10] لكن يُمنع هؤلاء ولا يمكنون من هذا العمل القبيح، لاسيما إذا كانوا يشكون الخالق إلى المخلوق، فهذا أمر لا يطاق ولا يحتمل، لكن من غير زجر.

وبعض أهل العلم كالأحناف يشددون في هذا حتى إنهم يمنعون من التصدق عليهم، بل يرون أن الصدقة عليهم يرجع أثرها على المتصدِّق بحيث إنهم لربما ما قبلوا شهادته أو نحو ذلك، والأمر لا يصل إلى هذا، وحديث أبي بكر ، الحديث المعروف من أصبح منكم اليوم صائمًا؟، قال أبو بكر : أنا، قال:فمن تبع منكم اليوم جنازة؟، قال أبو بكر : أنا، قال:فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟، قال أبو بكر : أنا، قال:فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟،قال أبو بكر : أنا، فقال رسول الله ﷺ: ما اجتمعن في امريء إلا دخل الجنة[8]، أبو بكر وجد سائلاً في المسجد فتصدق عليه، فالسائل إذا جاء وجلس في المسجد فإنه لا يُمنع من هذا، ويُتصدق عليه، لكن لا يمكّن من القيام بهذه الطريقة، والتحدث، فرق بين هذا وهذا، عكرمة كان يقول: الناس يأتون للجمعة لذكر الله وهؤلاء يأتون للدنيا والسؤال.

وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ: قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من يَنشُد ضالة في المسجد، فقولوا: لا رَدَّ الله عليك[9]، رواه الترمذي، وقال: حسن غريب.

يدخل في هذا ما نشاهده في يوم الجمعة في كثير من الأحيان في فناء المسجد يبيع سواكاً ونحو هذا، هذا يُنكر عليه ويمنع ويُعلم، ويُعلم الناس أنهم لا يشترون منه، وأنه لا يجلس هنا، ولا يجوز البيع في المساجد، وفناء المسجد من المسجد، وهذا للأسف يتكرر كثيراً.

وروى البخاري عن السائب بن يَزيدَ الكنْديِّ قال: كنت قائمًا في المسجد، فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر بن الخطاب، فقال: اذهب فأتني بهذين، فجئته بهما، فقال: من أنتما؟ أو: من أين أنتما؟ قالا من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله ﷺ![10].

حصبني بمعنى أنه رماه بالحصبا وهي حجارة صغيرة.

وروى النسائي عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال: أتدري أين أنت؟ وهذا أيضًا صحيح.

وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن ابن عمر؛ أن عمر كان يُجَمِّر مسجد رسول الله ﷺ كل جمعة[11]، إسناده حسن لا بأس به، والله أعلم.

في إسناده رجل يقال له: عبد الله بن عمر العمري فيه ضعف، وبعضهم وثّقه، ومسألة تجمير المسجد أمر مشروع، ويوجد من الأدلة غير هذا ما يدل عليه.

وقد ثبت في الصحيحين عن رسول الله ﷺ أنه قال: صلاة الرجل في الجماعة تُضَعَّف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعفًا، وذلك أنه إذا توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج إلى المسجد، لا يخرجه إلا الصلاة، لم يَخطُ خَطوة إلا رُفع له بها درجة، وحطّ عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مُصَلاه: اللهم صل عليه، اللهم ارحمه، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة[12].

وفي السنن: بشِّر المشّائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة[13].

والمستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وأن يقول كما ثبت في صحيح البخاري عن عبد الله بن عَمرو عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم، قال: فإذا قال ذلك قال الشيطان: حُفظ مني سائر اليوم[14].

وروى مسلم بسنده عن أبي حميد -أو: أبي أسَيْد- قال: قال رسول الله ﷺ: إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك[15].

ورواه النسائي عنهما، عن النبي ﷺ.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إذا دخل أحدكم المسجد، فليسلم على النبي ﷺ وليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليسلم على النبي ﷺ وليقل: اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم[16].

ورواه ابن ماجه، وابن خزيمة وابن حِبَّان في صحيحيهما.

مجموع هذه الأحاديث التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- تشتمل على ما جاء في الترغيب في بناء المساجد، وكذلك ما يتصل بتطهيرها وتنظيفها وتطييبها بالإضافة إلى عمارة المساجد بالصلاة والذكر، وكان بالإمكان في نظري في هذا المختصر أن يستغنى عن بعض هذه الأحاديث، كالأحاديث الواردة هنا مثلاً، التي ذكرها فيما يقوله عند دخول المسجد، وعند الخروج منه إلى آخره، فإن ذلك لا يتصل بمعنى الآية اتصالاً مباشراً، ومن عادة ابن كثير -رحمه الله- في مواضع كثيرة أنه يستطرد في الكلام على معنى فيورد ما جاء من الأحاديث مما يتصل بهذا المعنى، ولربما زاد عليه، فشأن المختصر قد لا يتناسب مع مثل هذا الاستطراد -والله أعلم.

وهذه المساجد فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ ذلك يصدق كل بيت من بيوت الله -تبارك وتعالى- لا يختص بالمساجد الثلاثة مثلاً كما قال بعض السلف، ولا يختص بواحد منها، ولا يختص بمسجد بعينه أيًّا كان، وإنما ذلك في كل بيت من بيوت الله، وهذا الأمر ظاهر في الآية، وليس فيها ما يفيد التخصيص إطلاقاً مع أنك تجد مع أقاويل السلف أشياء، ولربما يُستغرب فيها تخصيص مسجد بعينه، كمن يقول مثلاً: المراد بيت المقدس أو من يقول: المساجد الأربعة يعني الثلاثة زائد مسجد قباء، ونحو هذا كله لا دليل عليه.

وقوله: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أي: اسم الله، كقوله: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف:31]، وقوله: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [سورة الأعراف:29]، وقوله: وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا [سورة الجن:18].

قوله: وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ فهذا يصدق على سائر أنواع الذكر لله -تبارك وتعالى، أي اسم الله كقوله: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، والذكر يكون عند كل صلاة خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يعني عند كل صلاة، هذا صحيح عند كل صلاة، ولكن الآن وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، فمن تعظيم الصلاة التي تُبنى المساجد من أجلها أن يتهيأ الإنسان لها، وذلك أيضاً من تعظيم المعبود ، وأخذ الزينة: المقصود به هنا في آية الأعراف أنها نازلة في ستر العورات، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ بمعنى أن الإنسان يستر عورته، لأنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، وتطوف المرأة عارية وتقول كما في صحيح مسلم:

اليوم يبدو بعضُه أو كلُّه وما بدا منه فلا أُحِله[17]

فنهاهم عن هذا، فالزينة المراد بها هذا القدر ستر العورة، ويراد بها ما زاد على ذلك، وكل هذا داخل فيه، أي وإن كانت في ستر العورات إلا أنها تدل على ما هو أوسع من هذا في المعنى، وهو التهيؤ والتزين والتجمل، ومن ذلك تغطية العاتقين لا يصلين أحدُكم بالثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء[18]، هذا من كمال الزينة، وكذلك تغطية الرأس إن كان من عادتهم ذلك فلا يصلي حاسراً كما جاء عن ابن عباس تَلقَى الناسَ هكذا! فالله أحق أن يُتجمل له.

قال ابن عباس:وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يعني: يتلى فيها كتابه.

وقوله: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِأي: في البُكَرات والعَشِيَّات، والآصال: جمع أصيل، وهو آخر النهار.

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۝ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ الغدو هو أول النهار، والآصال جمع أصيل وهو آخر النهار، ومن أهل العلم من قال: إن هذا ينتظم الفرائض الخمس، فالغدو صلاة الفجر، والآصال الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فقالوا: المراد بذلك الصلوات الخمس، يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۝ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ يعني يصلي لله -تبارك وتعالى- فيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وأغلب ما يطلق الأصيل على وقت العصر، وأصدق ما يكون ذلك حينما تنكسر شدة الشمس فتذبل وتميل إلى الاصفرار هذا يقال له الأصيل:

وقفتُ فيها أُصَيْلالاً أُسائلها عَيّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِن أحدِ

وهو أحسن وقت الذكر، ويكون الذكر في أول النهار، والآصال بعد العصر، فالله -تبارك وتعالى- يقول: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ فيدخل في ذلك الذكر المعروف، ويمكن أن يدخل فيه صلاة الفجر وصلاة العصر، وأهل العلم في هذا لم يتفقوا على قول، لكن كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله: المقصود أنه أوقات البكور والعشيات في أول النهار وفي آخر النهار، وهذا قول متجه.

وأما تخصيص ذلك بالصلوات وأن ذلك في كل موضع ذكر فيه التسبيح المراد به الصلاة، فروي ذلك عن ابن عباس فإنه لو صح عنه فإن هذا يعني أن ذكر التسبيح مراد به الصلاة في كل موضع، وهذا فيه إشكال سبح لله، يسبح لله، ولا يقال: إن هذا هو الصلاة فقط، فالتسبيح هو التنزيه فهذا ظاهر اللفظ، وإن كانت الصلاة يقال لها: تسبيح، يقال: سَبحة الضحى مثلاً، يقول ابن عمر : "لو كنت مسبحاً لأتممت"[19]، مسبحاً يعني يصلي السنة الراتبة، لما رأى بعضهم يصلي بعض الصلاة في السفر قال: "لو كنت مسبحاً لأتممت" إذا كنتُ مصلياً غير الفريضة لأتممت.

وجاء عن ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة أن الغدو هي صلاة الغداة، والآصال هي صلاة العصر، وهذا قال به جماعة من السلف، وبعضهم جمع الفرائض كما سبق وقالوا: إن هذا هو العلة، هو العلة في توحيد الغدو، قالوا: لأنها صلاة واحدة الفجر، والآصال قالوا: إنها تشمل أربع صلوات، لكن إذا قيل: إن الأصيل يمتد من وقت الظهر من بعد الزوال إلى ما قبل الفجر فإنه يصح أن يقال فيه: الأصيل ويعبر بالإفراد، وبعضهم يحمل ذلك –الغدو- على ما بعد صلاة الضحى، والمعنى أوسع من هذا، والتسبيح يدخل فيه الصلاة، ويدخل فيه التسبيح المعروف، وبعضهم قرأه يُسبَّحُ له فيها بالغدو والآصال بالبناء للمفعول، وعلى هذه القراءة يكون الوقف على قوله: يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، ويكون الوقف تاماً ثم يبتدئ الكلام رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ فيكون ذلك من قبيل التفسير للفاعل الذي حذف، يُسبَّح، من الذي يُسبِّح؟ رجال رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ وعلى القراءة هذه التي نقرأ بها يُسَبِّحُ فالفاعل هو رجال، ومن ثم يصل القارئ فيقول: يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۝ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ.

وقوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، كقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِالآية [سورة المنافقون:9]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ الآية [سورة الجمعة:9].

يقول تعالى: لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها ومَلاذ بَيعها وريحها عن ذكر ربهم الذي هو خالقهم ورازقهم، والذين يعلمون أن الذي عنده هو خير لهم وأنفع مما بأيديهم؛ لأن ما عندهم ينفد وما عند الله باق؛ ولهذا قال: لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ أي: يقدمون طاعته ومُرَاده ومحبته على مرادهم ومحبتهم.

قوله: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ هؤلاء هم الذين يعمرون هذه المساجد، ويذكرون الله، ويسبحونه بالغدو والآصال، لا تُلْهِيهِمْ يعني لا تشغلهم تجارة ولا بيع، والفرق بين التجارة والبيع بعضهم يقول: إن التجارة هي ما يكون مما يجلب فهذه التجارات، والبيع ما يكون بين المقيمين من أهل السوق، فالتجارة هي البضائع التي تجلب من مكان إلى آخر، والبيع هو ما يتعاطاه الناس من بيع وشراء بسوقهم، تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ، وبعضهم يقول: البيع المعروف: أن يبيع، والتجارة هي الشراء تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ.

ويمكن أن يقال -والله تعالى أعلم: إن المعنى أوسع من هذا فالتجارة يدخل فيها ما يحصل به التكسب مطلقاً، وهذا التكسب يحصل بنقل السلع أو جلبها من مكان إلى آخر من أجل التكسب، وإن لم تكن صفقة البيع منعقدة في حينه، كما يدخل في التجارة أيضاً ألوان الشركات والمضاربات، ويدخل فيها سائر العقود في المعاوضات التي يقصد بها الكسب، هذا كله من التجارة، فالتجارة داخلة بهذا الاعتبار في عموم التجارات، والبيع هو البيع المعروف لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ فالتجارة أوسع من البيع، وعلى هذا الاعتبار كأن ذلك يكون لو قال قائل بأنه من قبيل عطف الخاص على العام؛ لأن البيع أكثر ما يتعاطاه الناس، ولهذا قال الله : إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [سورة الجمعة:9]، مع أن المحرم ليس هو البيع فقط بعد نداء الجمعة الثاني، وإنما يدخل في ذلك عقد الإجارة مثلاً، هو داخل في هذا، وكذلك يدخل فيه لو أنه عقد النكاح مثلاً فإن النكاح لا يصح، وعقد البيع لا يصح، وعقد التجارة لا يصح، وهكذا عقود الشركات ونحو هذا، ويكون خصّ البيع وَذَرُوا الْبَيْعَ؛ لأنه أكثر معاملة الناس، أكثر ما يتعاملون به.

عن سالم، عن عبد الله بن عمر -ا، أنه كان في السوق فأقيمت الصلاة، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد، فقال ابن عمر: فيهم نزلت: رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يقول: عن الصلاة المكتوبة، وكذا قال الربيع بن أنس ومقاتل بن حيان.

وقال السُّدِّي: عن الصلاة في جماعة.

وعن مقاتل بن حيان: لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة، وأن يقيموها كما أمرهم الله، وأن يحافظوا على مواقيتها، وما استحفظهم الله فيها.

الذكر كما سبق أوسع من هذا، ويدخل فيه دخولاً أولياً ما يدل عليه فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ إذاً الصلاة داخلة في هذا الذكر دخولاً أولياً، وكذلك سائر الذكر، فالتجارة والبيع ونحو ذلك لا يشغلهم هذا عن ذكر الله  -تبارك وتعالى، مع أن الاشتغال في التجارة والبيع والشراء كل هذا مظنة للغفلة، ولهذا كانت الأسواق هي شر البقاع، وأفضل البقاع وأحب البقاع إلى الله -تبارك وتعالى- هي المساجد، فهذا جاء في الحديث الذي حسنه بعض أهل العلم أي الذكر الذي يقال في دخول السوق، أو الذكر الذي يقال هناك، وما له من الفضل العظيم، والسبب في هذا أن هذا السوق مظنة للغفلة، ولهذا أوصى النبي ﷺ بعض أصحابه أن لا يكون أول داخل إلى السوق ولا آخر من يخرج منه، فيحضر الشيطان ويضع فيه رايته ينصبها ويكون لحظوظ النفوس والطمع، وما يحصل من جراء ذلك من أيمان كاذبة، كل هذا بسبب هذه الأمور المجتمعة.

وقوله: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ أي: يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار، أي: من شدة الفزع وعظمة الأهوال، كما قال تعالى: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [سورة غافر:18].

 قوله: وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ بمعنى أنْ تُقلّب القلوب والأبصار، والأرجح هو ما ذكره الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أن المقصود بذلك أن تتقلب من شدة الخوف، فالقلوب يحصل لها كما قال الله -تبارك وتعالى: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ [سورة غافر:18]، والحناجر جمع حنجرة، والله يقول: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ [سورة الأحزاب:10].

ومن أهل العلم من يقول: إن رئة الإنسان إذا خاف واشتد خوفه تنتفخ فيرتفع القلب ويصل إلى أعلى، وإن هذا المراد بقوله: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، ولهذا العرب يقولون لمن خاف واشتد خوفه كما جاء في غزوة بدر: انتفخ سحره بمعنى الرئة.

ومن أهل العلم من يقول: هذا كناية عن شدة الخوف حتى إن القلوب تكاد تنخلع وتخرج من شدة الهول، تنخلع من أماكنها، والله -تبارك وتعالى- يقول: إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ ويقول: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ [سورة النازعات:8]، فهذا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ [سورة النازعات:9]، فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا بمعنى أنه لا يستطيع أن يصوب نظره إلى ما يريد أن ينظر إليه من شدة الخوف، فنظره لا يستطيع أن يتحكم فيه، يشخص البصر من شدة الفزع، والله -تبارك وتعالى- ذكر حال الخائف بما ذكر من صفة المنافقين، فمثّلهم بما يغشى عليه مما تدور عيناه لما يحصل له عند الموت، فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ [سورة الأحزاب:19]، فتحرك يمنة ويسرة بحركة، لا يستطيع أن يحرك رأسه؛ لأنه يخشى أن يؤتى من الناحية الأخرى عند هذه الحركة، فهذه تدل على هذا المعنى، قال هنا: يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ يعني لشدة هوله.

وأما من فسر هذا بمعانٍ أخرى بعيدة كقول بعضهم: تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ فبعدما كانت في حال الغفلة ولا تشاهد الحقائق في الدنيا بعد ذلك صارت للآخرة وشاهدت الحقائق، وعاينت وانكشف الغطاء، وتحول الشك إلى يقين، أو التكذيب والكفر إلى يقين، فهذا تقلب وتحول، فهذا كله لا دليل عليه، تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأبْصَارُ بمعنى من شدة الفزع والهول والخوف.

وهكذا من قال: إن المراد بها أنها تتحول من حال الإبصار إلى حال العمى، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طه:124]، على قول من قال بأن المقصود بذلك العمى الحقيقي وهذا هو الصحيح؛ لأنه يقول: رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا [سورة طه:125]، وقال: وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً [سورة الإسراء:72] يعني أكثر عمى، وقد سبق الكلام على هذا المعنى وقول من قال: إنه العمى الحقيقي، وذكرنا هناك أنه يشمل هذا، وأيضاً العمى الآخر فهو لا يبصر الصراط ويكون في ظلمة.

وقال تعالى: إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ [سورة إبراهيم:42]، وقال تعالى: وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ۝ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ۝ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ۝ فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ۝ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [سورة الإنسان:8-12].

وقال هاهنا لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا أي: هؤلاء من الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم.

قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ليجزيهم اللام هذه فسرها بعض أهل العلم بأنها لام العاقبة، يعني أنهم يذكرون الله ويعمرون بيوته، ولا يشغلهم بيع وتجارة عن ذكره -تبارك وتعالى- كل ذلك من شأنه أن يورثهم الجزاء الحسن عند الله -تبارك وتعالى، كما قال الله عن فرعون وموسى ﷺ قال: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [سورة القصص:8] فهذه لام العاقبة، وهم لم يلتقطوه من أجل أن يكون لهم عدواً، لكنهم التقطوه لتكون العاقبة أنه يصير بهذه المثابة عدواً لهم وحزناً في المستقبل.

ومن أهل العلم من يقول: إن هذه اللام للتعليل، بمعنى أنهم يعمرون بيوته ويذكرونه ويتقربون إليه؛ رجاء ثوابه ليجزيهم، يعني يفعلون ذلك ليجزيهم، يعني من أجل أن يجزيهم، وتفسيرها أنها للعاقبة أقرب -والله تعالى أعلم، وهذا الذي اختاره الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله، بخلاف قول من قال: إنها للتعليل، وهو اختيار كبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- هذا الثاني.

ثم قوله -تبارك وتعالى- هنا لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، وأحسن هذه أفعل تفضيل، ويكون المعنى هنا لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا بعض أهل العلم يقول -وهذا تجدونه في بعض كتب شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يذكر الأقوال في هذا.

وبعضهم يقول: إن المراد بـلِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أن الله كريم وأنه يعاملهم بالأحسن، يكون الجزاء والثواب على الأحسن من الأعمال بالأحسن، بمعنى أن أعمال العبد متفاوتة في إحسان العمل، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [سورة الملك:2]، فهي متفاوتة فيما يحصل فيها من حضور القلب والاحتساب وإتقان العمل والقيام به على الوجه المشروع مستوفياً للشروط والأركان والواجبات إلى آخره، فيكون الجزاء لهؤلاء باعتبار الأفضل والأكمل، فيجري ما عداه على اعتبار الأكمل من أعمالهم، يعني ما كان دونه فإنه يُلحق، يجازيهم الله بالجزاء والثواب على الأكمل يعني بمقياس الأكمل من كرمه وتفضله.

ومن أهل العلم من يقول: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا الأشياء التي تصدر منهم منها ما هو من قبيل المباح وهو مستوي الطرفين، ومنها ما هو من قبيل المشروع يعني ما طلبه الشارع، إما طلباً جازماً وهو الواجب، أو طلباً غير جازم وهو المستحب فيجازيهم الله على هذه الأعمال بأحسن ما عملوا فالأحسن هو الواجب والمستحب، وهذا يستدل به الأصوليون وبعض من يتكلم بقضايا العمل والقدر والتحسين والتقبيح على أن المباح من قبيل الحسن.

ومسألة التحسين والتقبيح التي تذكر في كتب العقائد، فهذا صحيح أن المباح من قبيل الحسن لكن المفارقة بين أهل السنة وبين غيرهم كالمعتزلة والأشاعرة أن المعتزلة يقولون: إن التقبيح والتحسين يرجعان إلى العقل فحسب وهذا خطأ، يقولون: الحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحه العقل، والأشاعرة مع أنهم يجعلون العقل قائداً لهم ومعولاً ويردون النصوص التي تخالف العقل في الصفات ونحو ذلك، إلا أن هذه إحدى المسائل التي يتناقضون فيها في مذهبهم، فيقولون: إن التحسين والتقبيح شرعيان لا مدخل للعقل بهما، وإنه ليس للأفعال والذوات حسن ولا قبح ذاتي، بمعنى أن الكذب والظلم والزنا والفواحش والبهتان أو ما أشبه ذلك صار قبيحاً؛ لأن الشارع نهى عنه ولو أمر به لكن حسناً.

نقول نحن: أصلاً لا يمكن أن يأمر الله به، إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء [سورة الأعراف:28]؛ لأن هذه أمور مذمومة قبيحة لها قبح ذاتي والعقل يدرك هذا أصلاً، ولهذا سئل الأعرابي بم عرفت أنه رسول الله؟ قال: ما أمر بشيء فقال العقل: ليته نهى عنه! وما نهى عن شيء فقال العقل: ليته أمر به! فالعقول والفطر السليمة تدرك هذا، وإن كان يخفى عليها بعضه، هناك أشياء لا تدركها العقول لكنها لا تناقض ما جاء به النقل، العقول الصحيحة لا يمكن أن تناقض، ولهذا قالوا: إن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- جاءوا بمحارات العقول، ولم يأتوا بمحالات العقول، جاءوا بمحارات العقول بمعنى أشياء تتوقف العقول فيها لا تدركها ولكن ما جاءوا بمحالات العقول، ما جاءوا بأشياء تحيلها العقول، أغلقوا المستحيل، ما يوجد، ولهذا لا يوجد تناقض بين العقل والنقل.

ولهذا كان العقل من أدلة الشرع وهي الأدلة التابعة، وليست الأدلة الأصلية، ولهذا الصحيح والعبارة الدقيقة ألا يقال: العقل والشرع أو التعارض بين الشرع والعقل؛ لأن العقل من أدلة الشرع، وإنما نقول مثلاً: بين العقل والنقل، دل عليه العقل والنقل، لا نقول: دل عليه الشرع والعقل، فالعقل من أدلة الشرع، وهذه العبارة دارجة كثيراً لكنها غير دقيقة، يعني لا يقال: هذا دل عليه الشرع ودل عليه العقل، فالعقل من أدلة الشرع، يقال: دل عليه النقل والعقل، ولا تعارض بين العقل والنقل، ولا يقال: لا تعارض بين الشرع والعقل، وهنا لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا بعضهم قال: المقصود به المستحب والواجب؛ لأنهما بخلاف المباح فهو حسن فيجزيهم بأحسن، تفضيل، فالمباح حسن والمستحب والواجب أحسن، قال صاحب المراقي:

ما ربُّنا لم ينهَ عنه حَسَنُ وضدُّه القبيحُ والمستهجنُ

لكن المؤلف والناظم من الأشاعرة، ولذلك جاءت عبارته: ما ربنا لم ينه عنه حسن! هذه إذا قالها السني -هذه السنة المحضة- تكون صحيحة، ما ربنا لم ينه عنه حسن، لكن حينما يقولها من يعتقد عقيدة الأشاعرة فإنه يقصد معنى وراء ذلك هو أن مدار ذلك -التحسين والتقبيح- على الشرع فقط، وهذا غير صحيح.

وقوله: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي: يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [سورة النساء:40].

الشيخ الأمين محمد الشنقيطي -رحمه الله- فسر قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا يعني الواجب والمستحب وما زاد عن المباح، فالمباح لا ثواب فيه ولا عقاب، فأحسن ما عملوا هي الطاعات؛ قال: لأنه قال بعده: وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ، أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا، هذا هو الجزاء على الطاعة والزيادة فوق ذلك هي من الله -تبارك وتعالى- حيث يجزي على الحسنة عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال: من أجل ألا يكون هناك تكرار، لو كان المراد لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا يعني بمضاعفة الثواب مثلاً أو نحو هذا فيكون وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ من قبيل التكرار، والقاعدة أن التأسيس مقدم على التوكيد، فالجملة الثانية مؤسسة بمعنى جديد فيجازيهم على أعمالهم الطيبة على القُرَب والطاعات ويزيد هؤلاء من فضله بمضاعفة ذلك إلى أضعاف كثيرة.

وقال تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [سورة الأنعام:160]، وقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً [سورة البقرة:245]، وقال:وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:261]، كما قال هاهنا: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ.

وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ يعني من غير عد ولا إحصاء.

وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [سورة النور:39].

هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار، كما ضرب للمنافقين في أول "البقرة" مثلين ناريًا ومائيًا، وكما ضرب لما يقر في القلوب من الهدى والعلم في [سورة الرعد مثلين مائيًا وناريًا، وقد تكلمنا على كل منها في موضعه بما أغنى عن إعادته، ولله الحمد والمنة.

فأما الأول من هذين المثلين: فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم، الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات، وليسوا في نفس الأمر على شيء، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يُرى في القيعان من الأرض عن بعد كأنه بحرٌ طامٌّ.

والقِيعة: جمع قاع، كجار وجِيرَةٍ، والقاع أيضًا: واحد القيعان، كما يقال: جار وجيران. وهي: الأرض المستوية المتسعة المنبسطة، وفيه يكون السراب، وإنما يكون ذلك بعد نصف النهار، وأما الآل فإنما يكون أول النهار، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض، فإذا رأى السرابَ من هو محتاج إلى الماء حسبه ماءً فقصده ليشرب منه، فلما انتهى إليه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا، فكذلك الكافر يحسب أنه قد عمل عملا وأنه قد حَصَّل شيئًا، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها، ونوقش على أفعاله، لم يجد له شيئًا بالكلية قد قُبل، إما لعدم الإخلاص، وإما لعدم سلوك الشرع، كما قال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [سورة الفرقان:23].

وقال هاهنا: وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، وهكذا رُوي عن أُبيّ بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة وغير واحد.

قوله هنا: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ لما ذكر الله المثل السابق لنوره -تبارك وتعالى، وما يكون من جراء ذلك من اهتداء من شاء الله هدايته لهذا النور ذكر حال من لم يهتدِ بهذا النور، فذكر لهؤلاء مثلين: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ، هذا الأول، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ [سورة النور:40]، وأهل العلم منهم من يقول: إن "أو" للإباحة، بمعنى إن شئت مثلت لهم بهذا وإن شئت مثلت لهم بهذا، لك أن تختار أحد المثلين، فكل ذلك يصدق عليهم.

ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك يختلف باختلاف أحوالهم، فالمثل الأول لطائفة منهم، والمثل الثاني لطائفة أخرى، كما قالوا في المثلين في سورة البقرة المائي والناري: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَترَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ ۝ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:17، 18] ثم ذكر المثل الثاني: أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء [سورة البقرة:19]، وهناك ذكرنا أن من أهل العلم من يقول: إن كل مثل لطائفة تختلف عن الطائفة الأخرى، وهنا يقولون كذلك، فهذا يُحتاج إلى معرفته قبل الكلام على معنى المثلين، هل المثلان للكفار إن شئت مثلت لهم بهذا أو مثلت لهم بهذا؟ أو أن كل مثل يكون لطائفة أو لحال أو لنوع من الأعمال مثلاً، كمن يقول بأن أعمالهم التي يعملونها كالسراب لا يجدون لها ثواباً وجزاء عند الله -تبارك وتعالى، وأما أحوالهم في كفرهم فهم في عمايتهم وجهالتهم وضلالهم كظلمات في بحر لجّي، فالأول تصوير لأعمالهم التي عملوها يرجون ثوابها فإذا وافوا فإنهم لا يجدون شيئاً، فمثّلهم بهذا السراب.

وبعضهم يقول: المقصود الإيضاح، فإن مُثلت أعمالهم بما يوجد فهي كالسراب، وإن مُثلت بما يُرى فهي كالظلمات، بما يوجد ثم يتلاشى، يتبعه الإنسان ثم بعد ذلك لا يحصل منه على شيء، وإن مُثلت بما يُرى فهي كالظلمات، هكذا قال بعضهم كالزجّاج، والله -تبارك وتعالى- يقول: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ، هذا صريح وواضح بأن المثل هذا قد ضرب لأعمال الكافرين، وهذا لا إشكال فيه، يعمل أعمالاً يُرجِّي ثوابها ثم إذا وافى لم يجد من ذلك شيئاً، ووجد الله له بالمرصاد، هذه خلاصة معنى هذا المثل.

والمثل الثاني: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ، هذا الأقرب أنه تصوير لحال الكافرين في ضلالهم، أَوْ كَظُلُمَاتٍ، ولهذا الله -تبارك وتعالى- يشبه الضلال والكفر بالظلمات، والهدى والإيمان بالنور، فذكر المثل الأول بالنور في هداه، وذكر الضلال هنا بالظلمات، ولهذا قال الله اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [سورة البقرة:257]، فالنور هو الهدى، والظلمات هي الكفر، أَوْ كَظُلُمَاتٍ فهذا تصوير لحال هؤلاء الكافرين في كفرهم وضلالهم وعماهم وجهالتهم، فهما مثلان للكفار، الأول في أعمال يرجونها في أعمارهم، والثاني في كفرهم، حالهم مع كفرهم وضلالهم وجهالتهم، والله أعلم.

وفي الصحيحين أنه يقال يوم القيامة لليهود: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد عُزَيْرَ ابنَ الله، فيقال: كذبتم، ما اتخذ الله من ولد، ماذا تبغون؟ فيقولون: أي رَبَّنَا، عَطشنا فاسقنا، فيقال: ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا، فينطلقون فيتهافتون فيها[20].

وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب، فأما أصحاب الجهل البسيط...

ابن كثير -رحمه الله- هنا يجعل المثلين لفئتين، الفئة الأولى كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ... إلى آخره، هؤلاء من كان جهلهم من قبيل الجهل المركب، يعمل ويعتقد أنه على حق ويجادل ولربما يدعو إليه ويُرجِّي ثوابه وينتظر، ويعتبر هذا هو الهدى، وهذا هو الحق ومن خالفه فهو ضال، وهؤلاء أئمة الكفر، هؤلاء دعاة إلى الضلال، هؤلاء من وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً [سورة الجاثية:23]، فهؤلاء ابن كثير -رحمه الله- يرى أن المثل الأول لهم، هؤلاء يرجون ثواباً، ويرجون كما يقول بعض الضُلال من الرافضة مثلاً: أسأل الله الثبات على هذا، فمثل هذا نسأل الله العافية.

المثل الثاني: هم أولائك الطَّماطم الجُهال الذين لا يفقهون، وإنما هم أتباع لكل ناعق، هؤلاء جهلهم، يقول: جهل بسيط، كَظُلُمَاتٍ هذا في جهالة في عماية، لكن الأول يُرجِّي الجزاء، ويظن أنه على بصيرة، وأنه سيلقى الثواب عند الله -تبارك وتعالى، فابن كثير -رحمه الله- يرى أن كل مثل لفئة من فئات هؤلاء، وهذا قول لبعض أهل العلم في تفسيرها.

قال: وهم الطَّماطم الأغشام، الطَّماطم: رجل طماطم يعني أعجم، طمطمانية يعني العجمة، رجل طمطماني، ويقال للعجمة: طمطمة.

وهم الطَّماطم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون، فمثلهم كما قال تعالى: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ قال قتادة: لُجِّيٍّ وهو العميق، يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْق َبَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا أي: لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده، ولا يدري أين يذهب، بل كما يقال في المثل للجاهل: أين تذهب؟ قال: معهم، قيل: فإلى أين يذهبون؟ قال: لا أدري.

قوله: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ، ظاهر المثل تصوير للضلال وحال هؤلاء الضُلاّل حيث يتمرغون في جهالتهم وضلالتهم وعماهم ظهراً لبطن، لا يبصرون الحق ولا يصلون إليه، فهم في عمى تام عنه، كما قال الله : صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [سورة البقرة:18]، لكن من أهل العلم من يحمل ذلك على معانٍ أخرى، بمعنى أنه يريد حمل المثل: كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ، ما المقصود بهذه الظلمات، والبحر اللجي والموج والموج الآخر والسحاب؟ فيجعلون ذلك من قبيل الكناية عن غيره، وإنما يفسرونه بتفسيرات وإن تفرقت أقوالهم فيها إلا أنها ترجع إلى حمله على غير الظاهر المتبادر، وبعض أهل العلم ينكر هذا، ويجعله من غرائب التفسير، مع أنه منقول عن جماعة من السلف، من الصحابة والتابعين، ويأتي هذا.

وقال أُبيّ بن كعب في قوله تعالى: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فهو يتقلب في خمسة من الظُّلَم: فكلامه ظلمة...

قوله: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ قال قتادة: لُّجِّيٍّ هو العميق، يعني قال: اللجي هو العميق، وأيضاً معظم البحر، فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا أي: لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله، إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، هل المقصود به أنه لا يراها؟ فـ "كاد" إذا جاءت منفية، لم أكد أفعل كذا، فهل معنى ذلك أني لم أفعل؟ لم أكد أراك، هل معنى ذلك أني ما رأيتك؟ وإذا دخلت على الفعل المضارع لم يكد فلان يصل، هل هذا نفي لوصوله أو أنه وصل بصعوبة؟ فأهل العلم يختلفون كثيراً من النحاة وأهل اللغة، وهكذا اختلف فيها أيضاً المفسرون، هل المقصود لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا أنه لا يراها؟ أو أن المقصود أنه يراها بعد معاناة ومشقة وصعوبة لشدة الظلام؟ هذا هو الأقرب، والله أعلم.

وقال أُبيّ بن كعب في قوله تعالى: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فهو يتقلب في خمسة من الظُّلَم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار.

وقال السُّدِّي والربيع بن أنس نحو ذلك أيضًا.

وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ أي: من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر، كقوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُوهذا في مقابلة ما قال...

وقوله: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ابن كثير -رحمه الله- جعل هذا المثل لحال طائفة من هؤلاء الكفار وهم المقلدة، الذين على جهالة وعماية بخلاف الدعاة إلى الكفر والضلال.

ومن أهل العلم من قال بغير هذا كما سبق، بعضهم يقول: إن كانت أعمالهم حسنة فهي كالسراب، وإن كانت سيئة فهي كالظلمات، أو هي كالسراب في الدنيا يؤملون عليها وفي الآخرة تكون ظلمات.

أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يعني: البحر العميق يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ الآن تراكمُ هذه الأشياء يدل على ظلمة شديدة، هذا القدر متحقق، ولا إشكال فيه في الآية، وحينما يكون الإنسان في لجة البحر يعني في المواضع العميقة منه التي هي معظم مائه، ركوب البحر في هذه الأماكن أمر مخوف، فإذا جاء الموج فإن هذا مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ.

بعضهم يقول: مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ أي: متتابع، يعني من بعده موج، موج وفوقه موج وفوقه موج هذا يتبع هذا، فإذا تتابعت هذه الأمواج خاف من ركب البحر، فهو أصلاً في موضع مخوف في بحر لجي، فإذا جاء الموج تضاعف خوفه، فيتتابع هذا الموج عليه فيزداد الخوف، مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ فهذا السحاب فإنه يزيد مخاوفه والسبب أنه لا يرى النجوم في السماء فيهتدي فيضيع في البحر، لا يرى فيه جبالاً ولا يرى أشياء يهتدي بها، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [سورة الأنعام:97]، فوجود السحاب يمنع من الاهتداء، هو لا يعرف إلى أين يتجه، أيضاً السحاب مظنة لنزول المطر، فإذا نزل المطر تضاعفت مخاوفهم، والمطر تحصل معه رياح عادة، وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ [سورة الأعراف:57]، فتأتي الرياح التي تسوق السحاب، فتزداد المخاوف، ووجود المطر كذلك، وما يحصل مع المطر من رعد وبرق، فهذا القدر يصور شدة المخاوف وتَضاعُفَ هذه المخاوف، كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ، فهو أبعد ما يكون عن الأمن -نسأل الله العافية.

وهذا الكافر الضال بعيد عن الأمن، ولهذا قال الله : الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] فالأمن الكامل لأهل الاهتداء الكامل، والحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، على قدر الإيمان على قدر ما يكون للإنسان من الأمن، الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ، على قدر إيمانكم على قدر ما يكون لكم من الأمن في الدنيا والآخرة.

ومن قال: مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ إن هذا يتراكم فهذا فيه زيادة في الظلمة، كَظُلُمَاتٍجمعها هنا فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ هذا تصوير لحال الكافر وما يتقلب فيه من عمى وجهالة.

من أهل العلم من يفسرون الأمثال بتفسير جزئي لا باعتبار التركيب، يعني كل لفظة يريد أن يجعلها تقابل شيئاً معيناً، فكلام ابن كثير -رحمه الله- هنا يقول: نقل عن أبي بن كعب، قبل ذلك قال: فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده ولا يدري أين يذهب، قال: وقال أبيّ في قوله: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فهو يتقلب في خمسة من الظُّلَم: فكلامه ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار، فكل هذه ظلمات بعضها فوق بعض، وهذا ممكن أن يكون من جملة ما يدخل في المعنى، فهو يتقلب في أحواله كلها، وفي أقواله وأفعاله وتصرفاته، في جهالة وعماية، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، ولذلك إذا رأيت إنساناً قد تجمّع عليه ألوان الضلال فتقول: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.

بعضهم كان يفتخر وهو للأسف يعني أحد الأصوليين وينتسب إلى الفقه يفتخر بأنه رافضي وأشعري، وذكر جملة من الأشياء، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [سورة النور:40]، ومنهم من يقول: إن قوله: مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ إلى آخره، يقول: المراد به الغشاوة على القلب والسمع والبصر كما قال الله تعالى: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ، أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ.

وبعضهم -وهذا يروى عن ابن عباس يقول: إن الظلمات هي الأعمال، والبحر اللجي قلب الإنسان يعني الكافر، هذا ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ أعمال الكافر وقلب الكافر، وهذا فيه بعد، والعجيب أن ابن جرير -رحمه الله- اختار هذا القول، عمل الكافر وقلب الكافر، كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ، فالظلمات هي الأعمال والبحر اللجي هو قلب هذا الكافر، يَغْشَاهُ مَوْجٌ هذه الغشاوة التي تكون على القلب والسمع والبصر من الشك والحيرة.

مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ قالوا: هو الران الذي على القلب، وابن جرير ما قال بهذه التفاصيل كلها، لكن قال: قلب الكافر وعمل الكافر، فهذا لا يخلو من تكلف -والله تعالى أعلم، وإنما هو تصوير لحال هذا الكافر وما يتقلب فيه من جهالة وعماية وبعد عن الله -تبارك وتعالى، ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ نسأل الله العافية، والله المستعان.

وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ أي: من لم يهده الله فهو هالك جاهل حائر بائر كافر، كقوله تعالى: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هَادِيَ لَهُ وهذا في مقابلة ما قال في مثل المؤمنين: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء [سورة النور:35]، فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نوراً وعن أيماننا نوراً وعن شمائلنا نوراً، وأن يُعظِم لنا نوراً.

قال أبو جعفر: "يقول تعالى ذكره: ومثل أعمال هؤلاء الكفار في أنها عُملت على خطأ وفساد وضلالة  وحيرة من عُمّالها فيها، وعلى غير هدى مثل ظلمات في بحر لجي، ونسب البحر إلى اللجة وصفا له بأنه عميق كثير الماء، ولجة البحر معظمه يَغْشَاهُ مَوْجٌ يقول: يغشى البحرَ موجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ يقول: من فوق الموج موج آخر يغشاه، مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ يقول: من فوق الموج الثاني الذي يغشى الموج الأول سحاب، فجعل الظلمات مثلاً لأعمالهم، والبحر اللجي مثلاً لقلب الكافر، يقول: عمل بنية قلب قد غمره الجهل، وتغشته الضلالة والحيرة، كما يغشى هذا البحرَ اللجي موجٌ من فوقه موج من فوقه سحاب، فكذلك قلب هذا الكافر الذي مثل عمله مثل هذه الظلمات، يغشاه الجهل بالله، بأن الله ختم عليه فلا يعقل عن الله، وعلى سمعه فلا يسمع مواعظ الله، وجعل على بصره غشاوة فلا يبصر به حجج الله، فتلك ظلمات بعضها فوق بعض"[21].

ويقول الإمام ابن القيم -رحمه الله: "فانظر كيف تضمنت هذه الآيات طرائق بني آدم أتم انتظام، واشتملت عليه أكمل اشتمال، فإن الناس قسمان:أهل الهدى والبصائر الذين عرفوا أن الحق فيما جاء به الرسول -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- عن الله وأن كل ما عارضه فشبهات يشتبه على من قلّ نصيبه من العقل والسمع أمرها، فيظنها شيئاً له حاصل ينتفع به، وهي: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ۝ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ

وهؤلاء هم أهل الهدى ودين الحق أصحاب العلم النافع والعمل الصالح الذين صدقوا الرسول -صلى الله تعالى عليه وآله وسلم- في أخباره ولم يعارضوها بالشبهات، وأطاعوه في أوامره، ولم يضيعوها بالشهوات، فلا هم في علمهم من أهل الخوض الخراصين الذين هم في غمرة ساهون ولا هم في عملهم من المستمتعين بخلاقهم الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة التوبة:69]، أضاء لهم نور الوحي المبين فرأوا في نوره أهل الظلمات في ظلمات آرائهم يعمهون، وفي ضلالتهم يتهوكون، وفي ريبهم يترددون، مغترين بظاهر السراب، ممحلين مجدبين مما بعث الله تعالى به رسوله ﷺ من الحكمة وفصل الخطاب، إن عندهم إلا نخالة الأفكار، وزبالة الأذهان، التي قد رضوا بها واطمأنوا إليها، وقدموها على السنة والقرآن، إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه، أوجبه لهم اتباع الهوى، ونخوة الشيطان، وهم لأجله يجادلون في آيات الله بغير سلطان.

القسم الأول من أهل الجهل.

القسم الأول: أهل الجهل والظلم الذين جمعوا بين الجهل بما جاء به، والظلم باتباع أهوائهم، الذين قال الله تعالى فيهم: إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى [سورة النجم:23].

وهؤلاء قسمان: أحدهما: الذين يحسبون أنهم على علم وهدى وهم أهل جهل وضلال، فهؤلاء أهل الجهل المركب الذين يجهلون الحق ويعادونه ويعادون أهله، وينصرون الباطل ويوالونه ويوالون أهله وهم يحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون، فهم لاعتقادهم الشيء على خلاف ما هو عليه بمنزلة رائي السراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، وهكذا هؤلاء أعمالهم وعلومهم بمنزلة السراب الذي يخون صاحبه أحوج ما هو إليه، ولم يقتصر على مجرد الخيبة والحرمان كما هو حال من أَمّ السراب فلم يجده ماء بل انضاف إلى ذلك أنه وجد عنده أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين فحسب له ما عنده من العلم والعمل ووفاه إياه بمثاقيل الذر، وقدِم إلى ما عمل من عمل يرجو نفعه فجعله هباء منثوراً؛ إذ لم يكن خالصاً لوجهه، ولا على سنة رسوله ﷺ، وصارت تلك الشبهات الباطلة التي كان يظنها علوماً نافعة كذلك هباء منثوراً، فصارت أعماله وعلومه حسرات عليه.

والسراب ما يُرى في الفلاة المنبسطة من ضوء الشمس وقت الظهيرة يسرب على وجه الأرض كأنه ماء يجري، والقِيعة والقاع هو: المنبسط من الأرض الذي لا جبل فيه ولا فيه واد"[22].

لا نبت فيه، أرض مستوية، وبعضهم يقول: قيعان هي: الأرض المنهبطة التي يجتمع فيها الماء، هذا يقال للأرض التي يجتمع فيها الماء، لكن الأرض التي يكون فيها السراب –القيعة- هي الأرض المستوية.

وقال -رحمه الله: "فشبه علوم من لم يأخذ علومه من الوحي وأعماله بسراب يراه المسافر في شدة الحر فيؤمه فيخيب ظنه ويجده ناراً تتلظى، فهكذا علوم أهل الباطل وأعمالهم إذا حشر الناس واشتد بهم العطش بدت لهم كالسراب يحسبونه ماء فإذا أتوه وجدوا الله عنده فأخذتهم زبانية العذاب فعتلوهم إلى نار الجحيم فسقوا ماء حميماً فقطع أمعاءهم، وذلك الماء الذي سقوه هو تلك العلوم التي لا تنفع، والأعمال التي كانت لغير الله تعالى صيرها الله تعالى حميما سقاهم إياه كما أن طعامهم من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع، وهو تلك العلوم والأعمال الباطلة التي كانت في الدنيا، كذلك لا تسمن ولا تغني من جوع، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنونَ صُنْعًا [سورة الكهف:104]، وهم الذين عنى بقوله: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [سورة الفرقان:23]، وهم الذين عنى بقوله تعالى: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [سورة البقرة:167]"[23].

ابن القيم -رحمه الله- يقول بأن كل مثل لطائفة، يعني كلام ابن القيم موافق لكلام ابن كثير، أن الفئة الأولى هم الذي يحسبون أنهم على شيء من الدعاة والمنظرين للضلال، والفئة الثانية لأتباعهم الجهلة.

وقال -رحمه الله: "القسم الثاني من هذا الصنف: أصحاب الظلمات وهم المنغمسون في الجهل بحيث قد أحاط بهم من كل وجه فهم بمنزلة الأنعام بل هم أضل سبيلاً، فهؤلاء أعمالهم التي عملوها على غير بصيرة بل بمجرد التقليد واتباع الآباء من غير نور من الله تعالى كظلمات -جمع ظلمة- وهي ظلمة الجهل، وظلمة الكفر، وظلمة الظلم واتباع الهوى، وظلمة الشك والريب، وظلمة الإعراض عن الحق الذي بعث الله تعالى به رسله -صلوات الله وسلامه عليهم، والنور الذي أنزله معهم ليخرجوا به الناس من الظلمات إلى النور"[24].

هذا التفسير أوضح وأقرب وأليق بالسياق -والله أعلم- في هذه الظلمات، وخلافاً لمن قال كما سبق: إن هذه الظلمات قلب الكافر، وعمل الكافر، والغلاف والران، وكل هذه الأشياء، كفره وجهله وعماه، كل هذه الأمور، أهواؤه المجتمعة، نفسه الأمارة، كل هذه مما يرديه، فهي ظلمات بعضها فوق بعض.

وقال: "فإن المعرض عما بعث الله تعالى به محمداً ﷺ من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات"[25].

وقال -رحمه الله: "يتقلب في خمس ظلمات: قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة، وقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلمة، وإذا قابلتْ بصيرتُه الخفاشية ما بعث الله به محمداً ﷺ من النور جد في الهرب منه وكاد نوره يخطف بصره فهرب إلى ظلمات الآراء التي هي به أنسب وأولى كما قيل:

خفافيشُ أعشاها النهارُ بضَوئهِ ووافقَها قِطْعٌ من الليلِ مظلمُ

فإذا جاء إلى زبالة الأفكار ونخالة الأذهان جال وصال، وأبدى وأعاد، وقعقع وفرقع، فإذا طلع نور الوحي وشمس الرسالة، انحجر في حجرة الحشرات.

قوله: بَحْرٍ لُّجِّيٍّ [سورة النور:40]، اللجي: العميق، منسوب إلى لجة البحر وهو معظمه.

قول الله تعالى ذكره: يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ تصوير لحال هذا المعرض عن وحيه، فشبه تلاطم أمواج الشبه والباطل في صدره بتلاطم أمواج ذلك البحر، وأنها أمواج بعضها فوق بعض، والضمير الأول في قوله: يَغْشَاهُ راجع إلى البحر، والضمير الثاني في قوله: مِّن فَوْقِهِ عائد إلى الموج، ثم إن تلك الأمواج مغشاة بسحاب، فهاهنا ظلمات: ظلمة البحر اللجي، وظلمة الموج الذي فوقه، وظلمة السحاب الذي فوق ذلك كله، إِذَا أَخْرَجَ مَن في هذا البحر يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، واختلف في معنى ذلك، فقال كثير من النحاة: هو نفي لمقاربة رؤيتها، وهو أبلغ من نفيه الرؤية، فإنه قد يُنفى وقوع الشيء ولا تُنفى مقاربته"[26].

يعني قد يُنفى وقوع الشيء ولا تُنفى مقاربته، الله يقول: وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى [سورة الإسراء:32]، ما قال: ولا تفعلوا الزنا، ولا تزنوا، فإن النهي عن مقاربته أبلغ من النهي عن مواقعته، فالنهي عن مقاربته هو نهي عن كل ما يوصل إليه.

وقال -رحمه الله: "فكأنه قال: لم يقارب رؤيتها بوجه.

قال هؤلاء: "كاد" من أفعال المقاربة لها حكم سائر الأفعال في النفي والإثبات"[27].

يعني كغيرها، تقول: لم يأتِ زيد، لم يذهب، لم يسافر، نفي للسفر، نفي للذهاب، نفي للإتيان، جاء زيد، أتى زيد، سافر زيد، إثبات، فيقولون: "كاد" مثل ذلك، لم يكد، فكاد من أفعال المقاربة، كاد بالإثبات بمعنى أن ذلك لم يحصل لكنه قارب الوقوع، كاد فلان أن يموت، كاد أن يموت عطشاً، يعني لم يمت، وتقول: لم يكد يصل، بمعنى أنه وصل بصعوبة.

وقال -رحمه الله: "فإذا قيل: كاد يفعل، فهو إثبات مقاربة الفعل، فإذا قيل: لم يكد يفعل فهو نفي لمقاربة الفعل"[28].

وقال -رحمه الله: "وقالت طائفة أخرى: بل هذا دال على أنه إنما يراها بعد جهد شديد وفي ذلك إثبات رؤيتها بعد أعظم العسر؛ لأجل تلك الظلمات، قالوا: لأن كاد لها شأن ليس لغيرها من الأفعال فإنها إذا أثبتت نفت"[29].

إذا أُثبتت نفت، تقول: كاد يصلي بمعنى أنه لم يصل، نفت، وإذا نفيت، لَمْ يَكَدْ فمعناه أنه حصل هذا لكن بصعوبة.

وقال -رحمه الله: "فإنها إذا أثبتت نفت وإذا نفت أثبتت، فإذا قلت: ما كدت أصل إليك فمعناه: وصلت إليك بعد الجهد والشدة، فهذا إثبات للوصول، وإذا قلت: كاد زيد يقوم، فهي نفي لقيامه، كما قال تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا [سورة الجن:19]، ومنه قوله تعالى: وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا [سورة القلم:51] الآية، وأنشد بعضهم في ذلك لغزاً:

أنحويَّ هذا العصرِ ما هي لفظةٌ جرتْ في لسانيْ جرهم وثمودِ
إذا استُعملتْ في صورة النفي أثبتتْ وإن أثبتتْ قامت مقامَ جحودِ؟

وقالت فرقة ثالثة منهم أبو عبد الله بن مالك وغيره: إن استعمالها مثبتة يقتضي نفي خبرها كقولك: كاد زيد يقوم، واستعمالها منفية يقتضي نفيه بطريق الأولى، فهي عنده تنفي الخبر سواء كانت منفية أو مثبتة فـ"لم يكد زيد يقوم" أبلغ عنده في النفي من "لم يقم"، واحتج بأنها إذا نفت -وهي من أفعال المقاربة- فقد نفت مقاربة الفعل وهو أبلغ من نفيه، وإذا استعملت مثبتة فهي تقتضي مقاربة اسمها لخبرها، وذلك يدل على عدم وقوعه، واعتذر عن مثل قوله تعالى: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ [سورة البقرة:71] الآية وعن مثل قوله: وصلت إليك وما كدت أصل، وسلمت وما كدت أسلم، بأن هذا وارد على كلامين متباينين أي: فعلت كذا بعد أن لم أكن مقارباً له، فالأول: يقتضي وجود الفعل، والثاني: يقتضي أنه لم يكن مقارباً له بل كان آيساً منه، فهما كلامان مقصود بهما أمران متغايران.

وذهبت فرقة رابعة: إلى الفرق بين ماضيها ومستقبلها، فإذا كانت في الإثبات فهي لمقاربة الفعل سواء كانت بصيغة الماضي أو المستقبل، وإن كانت في طرف النفي، فإن كانت بصيغة المستقبل كانت لنفي الفعل ومقاربته نحو قوله تعالى: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا، وإن كانت بصيغة الماضي فهي تقتضي الإثبات نحو قوله تعالى: فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ.

فهذه أربعة طرق للنحاة في هذه اللفظة، والصحيح أنها فعل يقتضي المقاربة ولها حكم سائر الأفعال"[30].

يعني لها حكم سائر الأفعال، بمعنى أنها في حال الإثبات تُثبت وفي حال النفي تنفي، لكنه هنا ذكر معنى آخر زيادة على قول من قال بهذا من النحاة، أضاف إليه معنى صحيحاً وهو الواقع الذي يفهمه الناس في كلامهم ويتبادر إلى أذهانهم؛ لأنك حينما تناقش اللفظة من حيث دلالتها التي وضعت لها فدون النظر إلى عرف الاستعمال فإنك قد لا تصيب المعنى، فابن القيم -رحمه الله- ذكر الدلالة في أصل الوضع ثم ذكر ما يدل عليه عرف الاستعمال، فقال: "لها حكم سائر الأفعال ونفي الخبر لم يستفد من لفظها ووضعها فإنها لم توضع لنفيه، وإنما استفيد من لوازم معناها، فإنها إذا اقتضت مقاربة الفعل لم يكن واقعاً فيكون منفياً باللزوم، وأما إذا استعملت منفية فإن كانت في كلام واحد فهي لنفي المقاربة كما إذا قلت: لا يكاد البطال يفلح، ولا يكاد البخيل يسود، ولا يكاد الجبان يفرح ونحوه"، وإن كانت في كلامين اقتضت وقوع الفعل بعد أن لم يكن مقارباً، وهذا التحقيق في أمرها.

وقال -رحمه الله: "والمقصود أن قوله: لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا إما أن يدل على أنه لا يقارب رؤيتها لشدة الظلمة وهو الأظهر، فإذا كان لا يقارب رؤيتها فكيف يراها؟!.

قال ذو الرُّمة:

إذا غيّر النأيُ المحبين لم يكدْ رسيسُ الهوى مِن حبِّ ميّةَ يبرحُ

أي: لم يقارب البراح وهو الزوال فكيف يزول؟ فشبه سبحانه أعمالهم أولاً في فوات نفعها وحصول ضررها عليهم بسراب خداع يخدع رائيه من بعيد فإذا جاءه وجد عنده عكس ما أمّله ورجاه، وشبهها ثانياً في ظلمتها وسوادها -لكونها باطلة خالية عن نور الإيمان- بظلمات متراكمة في لجج البحر المتلاطم الأمواج الذي قد غشيه السحاب من فوقه"[31].

هذا الكلام لابن القيم يختلف عن كلامه الأول، الكلام في أحوال العاملين، أنهم من يعمل من دعاة الضلال ومن الأتباع، وهنا شبه أعمالهم أولاً في فوات النفع بالسراب، وشبهها في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة بالظلمات، فهنا جعل المثلين للأعمال وليسا للعاملين، باعتبار أن الله قال: فشبه أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ [سورة النور:39].

وقال -رحمه الله: "فيا له تشبيها ما أبدعه وأشده مطابقة بحال أهل البدع والضلال وحال مَن عبد الله على خلاف ما بعث به رسوله ﷺ وأنزل به كتابه"[32].

يعني بمعنى المطابقة أن الله قال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ هذا بالمطابقة، باللزوم: يلزم من ذلك أن ما بنيت عليه هذه الأعمال من الأفكار والمعلومات المغلوطة التي هي في الواقع جهالات أنه تشبيه لها كذلك بالسراب، هو يظن أنه على شيء، وأنه يتبع شيئاً، وهو في الواقع يتبع جهلاً وعمى، يظنها أدلة ويظنها براهين ويظنها حقائق، ولكن يبصر عندما تقوم الحقائق ما تحت قدميه.

وقال -رحمه الله: "وهذا التشبيه هو تشبيه لأعمالهم الباطلة بالمطابقة والتصريح، ولعلومهم وعقائدهم الفاسدة باللزوم، وكل واحد من السراب والظلمات مثل لمجموع علومهم وأعمالهم، فهي سراب لا حاصل لها وظلمات لا نور فيها، وهذا عكس مثل أعمال المؤمن وعلومه التي تلقاها من مشكاة النبوة، فإنها مثل الغيث الذي به حياة البلاد والعباد، ومثل النور الذي به انتفاع أهل الدنيا والآخرة، ولهذا يذكر سبحانه هذين المثلين في القرآن بغير موضع لأوليائه وأعدائه"[33].

تشبيه حال الكفار طائفة كذا وطائفة كذا مثلاً أو أنك تختار أحد المثلين للكافرين، إن شئت مثلتهم بهذا، وإن شئت مثلتهم بهذا، للكافرين، والله يقول: أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ، وليس هناك انفصال بين العامل والعمل، فإذا كان هذا تصويراً لأعمالهم، فهو تصوير لأحوالهم؛ لأنهم إنما انقسموا لهذه الأحوال بناء على الأعمال، وإنما جاءت هذه الأعمال بناء على معطيات قامت عليها من علوم وفهوم وعقائد فاسدة، والناس أسرى لأفكارهم وعقائدهم، فجرت هذه الأعمال والفعال القبيحة بناء على العقائد الفاسدة والجهالات والأوهام التي يتبعونها، هذه الأمور متلازمة، عقائد وأفكار، وأعمال، والعاملون، فإذا قال قائل: هذا تمثيل لهم، فهذا صحيح، وإذا قيل: هذا تمثيل لأعمالهم فهذا صحيح، أعمالهم جهالات، وهذه الأعمال تصدر من عاملين، فيلحقهم معرّتها وضررها، وهذا أمر لا يخفى.

وقال -رحمه الله تعالى: "ذكر سبحانه للكافرين مثلين، مثلاً بالسراب ومثلاً بالظلمات المتراكمة، وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان: أحدهما: من يظن أنه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه، وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء، الذين يظنون أنهم على هدى وعلم"[34].

وقال -رحمه الله: "وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي: الأرض القفر الخالية من البناء والشجر والنبات والعالم، فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها، والسراب لا حقيقة له وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى"[35].

هذه من الزيادات على الكلام السابق، يعني من أهل العلم من يحاول أن يطبق كل جزئية من المثل على شيء يتصل بالكافر وصفته، فهنا: كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ، سرِّحْ ذهنك: سراب بقيعة أرض قفر إذاً خالية ما فيها أحد كذا، كذلك قلب هذا الكافر مقفر خالٍ من الخير والهدى والإيمان.

وقال -رحمه الله: "وتأمل ما تحت قوله: يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء والظمآن الذي قد اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء فتبعه فلم يجده شيئاً، بل خانه أحوج ما كان إليه، فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسول ﷺ، ولغير الله جعلت كالسراب فرُفعت لهم أظمأ ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئاً ووجدوا الله سبحانه ثَمّ، فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم"[36].

وقال -رحمه الله: "وهذه حال كل صاحب باطل، فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه، فإن الباطل لا حقيقة له وهو كاسمه باطل، فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلاً، وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله أو على غير أمره بطل العمل ببطلان غايته، وتضرر عامله من بطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله، فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه، بل صار معذباً بفوات نفعه وبحصول ضد النفع، فلهذا قال الله تعالى: وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ، فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى"[37].

وقال -رحمه الله: "النوع الثاني: أصحاب مثل الظلمات المتراكمة: وهم الذين عرفوا الحق والهدى وآثروا عليه ظلمات الباطل والضلال فتراكمت عليهم ظلمة الطبع وظلمة النفوس وظلمة الجهل، حيث لم يعملوا بعلمهم فصاروا جاهلين، وظلمة اتباع الغي والهوى فحالهم كحال من كان في بحر لجي لا ساحل له، وقد غشيه موج ومن فوق ذلك الموج موج ومن فوقه سحاب مظلم، فهو في ظلمة البحر وظلمة الموج وظلمة السحاب، وهذا نظير ما هو فيه من الظلمات التي لم يخرجه الله منها إلى نور الإيمان، وهذان المثلان بالسراب الذي ظنه مادة الحياة وهو الماء، والظلمات المضادة للنور نظير المثليْن اللذيْن ضربهما الله للمنافقين والمؤمنين، وهما المثل المائي والمثل الناري، وجعل حظ المؤمنين منهما الحياة والإشراق، وحظ المنافقين منهما الظلمة المضادة للنور، والموت المضاد للحياة، فكذلك الكفار في هذين المثلين حظهم من الماء السراب الذي يغر الناظر ولا حقيقة له، وحظهم الظلمات المتراكمة، وهذا يجوز أن يكون المراد به حال كل طائفة من طوائف الكفار، وأنهم عدموا مادة الحياة والإضاءة بإعراضهم عن الوحي، فيكون المثلان صفتين لموصوف واحد، ويجوز أن يكون المراد به تنويع أحوال الكفار، وأن أصحاب المثل الأول هم الذين عملوا على غير علم ولا بصيرة بل على جهل وحسن ظن بالأسلاف، فكانوا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وأصحاب المثل الثاني هم الذين استحبوا الضلالة على الهدى وآثروا الباطل على الحق وعَموا عنه بعد أن أبصروه، وجحدوه بعد أن عرفوه، فهذا حال المغضوب عليهم، والأول حال الضالين"[38].

يعني جعل هذا لطائفتين، لكن جعل الأول هم أهل الجهل البسيط، مع أن الواقع أنهم ليسوا أهل جهل بسيط، فهم يحسبون أنهم على حق، والثاني: هم أهل الغي الذين عرفوا الحق وأعرضوا عنه، وجعل الطائفة الثانية أشد، وكلامه الأول: الطائفة الأولى هي الأشد، وهكذا كلام ابن كثير.

وقال -رحمه الله: "وحال الطائفتين مخالف لحال المُنعَم عليهم المذكورين في قوله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ إلى قوله: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ فتضمنت الآيات أوصاف الفرق الثلاثة المنعَم عليهم وهم: أهل النور، والضالون وهم أصحاب السراب، والمغضوب عليهم وهم أهل الظلمات المتراكمة، والله أعلم.

فالمثل الأول من المثلين: لأصحاب العمل الباطل الذي لا ينفع، والمثل الثاني: لأصحاب العلم الذي لا ينفع والاعتقادات الباطلة، وكلاهما مضاد للهدى ودين الحق؛ ولهذا مثل حال الفريق الثاني في تلاطم أمواج الشكوك والشبهات والعلوم الفاسدة في قلوبهم بتلاطم أمواج البحر فيه، وأنها أمواج متراكمة من فوقها سحاب مظلم، وهكذا أمواج الشكوك والشبه في قلوبهم المظلمة التي قد تراكمت عليها سحب الغي والهوى والباطل"[39].

المثل الأول: يقول: لأصحاب العمل الباطل، والثاني: لأصحاب العلم الذي لا ينفع، لا يلتبس عليك هذا، يعني هذا كلام مغاير للكلام الذي قبله، لكنه ينبغي أن لا يلتبس على طالب العلم، فكما قلت: هذه الأمور أصلاً متلازمة، وإن كان الذي أظنه يعني أكثر تبادراً -والله تعالى أعلم- أن المثل الأول هو يمثل أعمالهم كَسَرَابٍ، والمثل الثاني يمثل أحوالهم وما هم فيه من الكفر والجهل والضلال، لكن هذه الأمور كما سبق متلازمة، فأحياناً من أهل العلم من يعبر بالعاملين، وأحياناً بعضهم يذكر العمل، أن ذلك للأعمال وهذه أمور متلازمة، فالعمل ملازم لعامله، والله تعالى أعلم.

  1. رواه البخاري، أبواب المساجد، باب من بنى مسجدا، برقم (439)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب فضل بناء المساجد، برقم (533).
  2. رواه ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب من بنى لله مسجدا، برقم (735)، وأحمد في المسند، برقم (376)، وقال محققوه: "حديث صحيح".
  3. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب اتخاذ المساجد في الدور، برقم (455)، والترمذي، أبواب السفر، باب ما ذكر في تطييب المساجد، برقم (594)، وابن خزيمة في صحيحه برقم (1294)، وابن حبان في صحيحه، برقم (1634)، وقال محققه الأرنؤوط: "إسناده صحيح على شرط البخاري"، وقال الألباني: "إسناده صحيح على شرط الشيخين" في سلسلة الأحاديث الصحيحة، (6/ 496)، في كلامه على حديث رقم (2724).
  4. علقه البخاري في صحيحه (1/ 171)، أبواب المساجد، باب بنيان المسجد.
  5. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد، برقم (448)، وابن حبان في صحيحه برقم (1615)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5550).
  6. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب في بناء المساجد، برقم (449)، وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب تشييد المساجد، برقم (739)، وأحمد في المسند، برقم (12379)، وقال محققوه: "إسناده صحيح على شرط مسلم"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7421).
  7. رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن نشد الضالة في المسجد وما يقوله من سمع الناشد، برقم (569).
  8. رواه مسلم، كتاب الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر، برقم (1028).
  9. رواه الترمذي، كتاب البيوع، باب النهي عن البيع في المسجد، برقم (1321)، والحاكم في المستدرك، برقم (2339)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (573).
  10. رواه البخاري، أبواب المساجد، باب رفع الصوت في المساجد، برقم (458).
  11. رواه أبو يعلى في مسنده، برقم (190)، وقال محققه حسين سليم أسد: "إسناده ضعيف".
  12. رواه البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب وجوب صلاة الجماعة، برقم (620).
  13. رواه أبو دواد، كتاب الصلاة، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلم، برقم (561)، وابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب المشي إلى الصلاة، برقم (781)، والترمذي، أبواب الصلاة عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في الجماعة، برقم (223)، والحاكم في المستدرك، برقم (768)، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (5134).
  14. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، برقم (466)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (4715).
  15. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب ما يقول إذا دخل المسجد، برقم (713).
  16. رواه أبو داود، كتاب الصلاة، باب فيما يقوله الرجل عند دخوله المسجد، برقم (465)، ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب الدعاء عند دخول المسجد، برقم (773)، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (514).
  17. رواه مسلم، كتاب التفسير، باب في قوله تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد، برقم (3028).
  18. رواه النسائي، كتاب القبلة، باب صلاة الرجل في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء، برقم (769)، وأحمد في المسند، برقم (9980)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في صحيح الجامع، برقم (7726).
  19. رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (689).
  20. رواه البخاري، ، باب قول الله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة ۝ إلى ربها ناظرة [سورة القيامة 22، 23]، برقم (7001)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، برقم (183).
  21. جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر الطبري (19/ 197).
  22. اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية، لابن القيم (14-16).
  23. اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم (16، 17).
  24. المصدر السابق، (17).
  25. المصدر السابق، (17).
  26. اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم (17، 18).
  27. المصدر السابق (18).
  28. المصدر السابق (18).
  29. المصدر السابق (18).
  30. اجتماع الجيوش الإسلامية، لابن القيم (18-20).
  31. المصدر السابق (20).
  32. المصدر السابق (20).
  33. المصدر السابق (20).
  34. الأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم (15)، وإعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 181).
  35. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 182)، والأمثال في القرآن الكريم، لابن القيم (15، 16).
  36. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 183)، والأمثال في القرآن الكريم (16).
  37. المصدران السابقان.
  38. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 184)، والأمثال في القرآن الكريم (17، 18).
  39. إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 184-185)، والأمثال في القرآن الكريم (18).

مواد ذات صلة