الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
حديث «هلمي ما عندك يا أم سليم»
تاريخ النشر: ١٢ / رجب / ١٤٢٩
التحميل: 1473
مرات الإستماع: 6529

سمعت صوت رسول الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فهذا هو الحديث الأخير في هذا الباب، وهو باب فضل الجوع، وهذا الحديث يشبه الحديث الذي قبله أعني، حديث جابر حينما دعا النبيَّ ﷺ يوم الخندق إلى طعام، فدعا أهل الخندق معه ليأكلوا من هذا الطعام...[1].

فهذا حديث أنس بن مالك قال: قال أبو طلحة لأم سليم، قد سمعت صوت رسول الله ﷺ ضعيفا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ فقالت: نعم، فأخرجت أقراصا من شعير، ثم أخذت خمارا لها، فلفت الخبز ببعضه، ثم دسته تحت ثوبي وردتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله ﷺ فذهبت به، فوجدت رسول الله ﷺ جالسا في المسجد، ومعه الناس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله ﷺ: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال: ألطعام؟ فقلت: نعم، فقال رسول الله ﷺ: قوموا فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم، قد جاء رسول الله ﷺ بالناس وليس عندنا ما نطعمهم؟ فقالت: الله ورسوله أعلم. فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله ﷺ فأقبل رسول الله ﷺ معه حتى دخلا، فقال رسول الله ﷺ: هلمي ما عندك يا أم سليم فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله ﷺ ففت، وعصرت عليه أم سليم عكة فآدمته، ثم قال فيه رسول الله ﷺ ما شاء الله أن يقول، ثم قال: ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة» فأذن لهم حتى أكل القوم كلهم وشبعوا والقوم سبعون رجلا أو ثمانون. متفق عليه.
ترجمة أنس بن مالك

وأنس هو خادم النبي ﷺ معروف لما قدم النبي ﷺ المدينة مهاجرًا، جاءت به أمه أم سليم رضى الله عنهما فقالت: هذا أنيس يخدمك، وكان قد بلغ العاشرة من عمره .

وأم سليم رضى الله عنها قيل: هي سهلة بنت ملحان، وبعضهم يقول: رميثة، وبعضهم يقول: رميلة، والمشهور أنها الرميصاء، تلقب بذلك، بنت ملحان رضى الله عنها، وأبو طلحة الأنصاري هو زيد بن سهل من أجواد الصحابة وكرمائهم .

يقول: قال أبو طلحة لأم سليم: قد سمعت صوت رسول الله ﷺ ضعيفًا أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟، أي: أنه أضعفه الجوع فأثر ذلك في صوته ونبرته وكلامه ﷺ فلما لاحظ هذا ذهب إلى امرأته وسألها، وفي حديث جابر بن عبدالله أنه لاحظ الجوع، وذلك بأنه رأى النبي ﷺ قد ربط على بطنه الحجر من شدة الجوع، وهذا يدل على شدة عناية الصحابة بالنبي ﷺ، وعلى محبتهم له.

قال: فهل عندكِ من شيء؟ فقالت نعم، فأخرجت أقراصًا من شعير ثم أخذت خمارًا لها... الحديث.

قوله: أخرجت أقراصًا من شعير، وفي رواية: أن أبا طلحة ذهب يعمل ذلك اليوم، وأجّر نفسه حتى حصّل هذا الشعير، ثم جاء وأعطاه لامرأته، الحاصل هنا في هذه الرواية: فأخرجت أقراصًا من شعير ثم أخذت خمارًا، والخمار: هو الثوب الذي تغطي به المرأة رأسها.

أخذت خمارًا لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته، يقول أنس : ثم دسته تحت ثوبي وردّتني ببعضه، ثم أرسلتني إلى رسول الله ﷺ، جاءت بخمارها ولفت في بعضه الخبز من شعير، يقول هنا: ثم دسته تحت ثوبي، والدس هو إدخال الشيء بكلفة، تقول: دسه تحت الفرشة أو الفراش، أو تحت الوسادة، أو دسه تحته وهو جالس مثلًا.

فالشاهد يقول: وردّتني ببعضه، يعني: هذا الخمار الذي رُبط فيه لُف فيه الخبز لَفت فيه أنسًا وهو ولدها الصغير، يقول: ثم أرسلتني إلى رسول الله ﷺ فذهبت به، فوجدت رسول الله ﷺ جالسًا في المسجد، ومعه الناس فقمت عليهم، يعني: وقف، ما أراد أن يقول: يا رسول الله هذا الطعام، أو تعال يا رسول الله إلى الطعام؛ لأن الطعام قليل، وجاء في بعض الروايات أن أم سليم لما سألها أبو طلحة هل عندكِ شيء؟ ذكرت له هذا أي الأقراص من الشعير والتمرات، قالت: فإن جاء رسول الله ﷺ وحده أشبعه، وإن جاء معه أحد لم يكفهم، أو كما قالت.

فالشاهد أنه وقف، ما أراد أن يتكلم أمام الناس، فالنبي ﷺ فهم ذلك؛ لأن أبا طلحة قد ذهب منه قريبًا فلما رجع أنس دل على أنه رجع لشيء، يقول: فوجدت رسول الله ﷺ جالسًا في المسجد ومعه الناس، وفي رواية أنه قد ربط بطنه بعصابة من شدة الجوع، وفي بعض الروايات أنه وجده في المسجد يتقلب ظهرًا لبطن من شدة الجوع، يقول: فقمت عليهم، وقف، فقال رسول الله ﷺ: أرسلك أبو طلحة؟ فقلت: نعم، فقال: ألِطعام؟ فقلت: نعم، فقال رسول الله ﷺ: قوموا لمن معه في المسجد، جالس بين أصحابه، وهذا يدل على أن أنسًا جاء معه بهذا الخبز من الشعير قد ربطته أمه بالخمار، فلم يتكلم حينما رأى النبي ﷺ مع الناس، فالنبي ﷺ حينما سأله دعا الناس إلى بيت أبي طلحة، قال: قوموا فانطلقوا وانطلقت بين أيديهم، يعني: يمشي أمامهم أنس ليخبر أبا طلحة قبل وصول الناس، يقول: جئت أبا طلحة فأخبرته، وفي بعض الروايات، يقول: وجئت وأنا حزين، يعني: لما رأى من الناس، ويعرف أن الطعام لا يكفي، وفي رواية يقول: فدخلت على أم سليم وأنا مندهش، أي: في حال من الارتباك فوجئ بأن النبي ﷺ دعا الناس، وأنا مندهش، وفي بعض الروايات أن أبا طلحة قال له: فضحتنا، وفي بعض الروايات أنه رماه بالحجارة، الموقف شديد، فقال أبو طلحة: يا أم سليم قد جاء رسول الله ﷺ بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، وهذا يدل على كمال عقلها، عرفت أنه ستكون معجزة، ما دعا الناس لأقراص من شعير إلا لأنه سيكون شيء، النبي ﷺ يعلم أن هذه الأقراص لا تكفي لشيء، وفي بعض الروايات أن أبا طلحة استقبله خرج إليه، وقال: يا رسول الله، إنما دعوناك وحدك، فذكر له النبي ﷺ ما سيقع من البركة في طعامهم، فقالت: الله ورسوله أعلم.

يقول: فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله ﷺ يستقبله، وهذا من الكرم أن يخرج الإنسان لضيفه ليلقاه، لا يقف الضيف إذا جاء لاسيما إذا كان يعلم الإنسان بمجيئه، يجلس في بيته والضيف يطرق الباب ويطول وقوفه عند الباب، فهذا أمر غير جيد، فخرج حتى لقي النبي ﷺ، فأقبل رسول الله ﷺ معه حتى دخلا، وفي بعض الروايات أنه أمر الناس أن يبقوا مكانهم، يعني: ما يدخلون لربما لضيق المكان، لا يكفي، جاء في بعض الروايات أنهم لربما يزيدون على ثمانين رجلًا، وهؤلاء كيف يكفيهم هذا البيت الصغير، فأمرهم أن يجلسوا، أن ينتظروا خارج البيت، يقول: حتى دخل، فدخل النبي ﷺ وأبو طلحة، فقال رسول الله ﷺ يخاطب أم سليم هلمي ما عندكِ يا أم سليم، يعني: هاتِ الطعام الذي عندك، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله ﷺ ففُتّ وعصرت عليه أم سليم عُكّة فآدمته، عصرت عليه عُكّة يعني: النبي ﷺ لما جاء وطلب هذا الخبز طلبوا شيئًا كالإدام يضعونه عليه يلينه فجاءوا بعكة وهذه العُكّة بقي فيها بقية، يقول في بعض الروايات: قد كان فيها شيء، يعني: يحتاج إلى ضغط وعصر، وتعرفون العُكّة تكون من الجلد يوضع فيها السمن غالبًا، وقد يوضع فيها العسل، وتكون أحيانًا جلد ضب صغيرة، وأحيانًا تكون جلدًا لعناق أو غنمة صغيرة، والتي يوضع فيها الماء يقال لها: القربة كما هو معلوم، فهذه عكة فوضعوا عليه شيئًا مما يلينه من سمن أو نحوه وعصرت عليه أم سليم عكة فآدمته.

ثم قال فيه رسول الله ﷺ ما شاء الله أن يقول، يعني: كأنه دعا بالبركة، وفي بعض الروايات أنه مسح ثوبه ﷺ بيده، أصابها شيء من أثر هذا السمن أو العسل، فمسحها بثوبه، ثم مسح عليه فصار هذا الخبز ينتفخ، والنبي ﷺ يدعو والخبز ينتفخ.

ثم قال: ائذن لعشرة الناس الآن ينتظرون أكثر من ثمانين، وهذا زواج على أقراص من شعير، فقال: ائذن لعشرة المكان ما يكفي، فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ما أكلوا شيئًا يقيم الصلب، يسد الرمق، يدفع حرارة الجوع فقط، بل أكلوا حتى شبعوا، الآن هذا الطعام يكفي فقط لواحد، أكلوا حتى شبعوا، وهؤلاء عشرة، أنا لا أشك أبدًا أنهم بحال من الجوع لو قدمت لهم شاة أنهم لن يبقوا منها شيئًا، فأكلوا من هذه الأقراص حتى شبعوا، وهذا يدل على أن الإنسان يجوز أن يأكل حتى يشبع، لكن لا يكون هذا عادة له، وقد سبق الكلام على هذا، وأن هذا يضر الإنسان، والنبي ﷺ ما كان يفعل هكذا، يعني: النبي ﷺ قال: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه[2].

ثم قال: ائذن لعشرة فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة  فأذن لهم فأكلوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة حتى أكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون رجلًا أو ثمانون، في الرواية الأخرى أنه قال: بضعة وثمانون رجلًا[3]، متفق عليه.

وهذا أخذ منه بعض أهل العلم كالمصنف -رحمه الله- أعني النووي- أن الأفضل والأولى أن صاحب الطعام أو صاحب الدار أن يأكل بعد الضيوف، لكن هذا يرجع فيه إلى العادة والعرف، أحيانًا عادة الناس لا يطيب لهم ذلك إلا أن يجلس معهم، فيجلس ويكون هذا إيناسًا لهم، وتطيب نفوسهم بذلك، وأحيانًا لا، عندهم عيب أن يجلس على الطعام، بل يضع الطعام ويقول: تفضلوا ثم يذهب فيخرج، فيراعى في مثل هذه الأشياء العرف، إلا إذا كان هذا العرف باطلًا وغير صحيح، أو نحو ذلك.

وفي رواية: فما زال يدخل عشرة ويخرج عشرة، حتى لم يبقَ منهم أحد إلا دخل، فأكل حتى شبع، ثم هيأها، يعني: هذه الصحفة -هذا الإناء- هيأها النبي ﷺ عدلها ورتبها، فإذا هي مثلها حين أكلوا منها، كأنه لم يأكل منها أحد، فعادت كما هي، وفي رواية: فأكلوا عشرة عشرة حتى فعل ذلك بثمانين رجلًا، ثم أكل النبي ﷺ بعد ذلك، وأهل البيت، وتركوا سؤرًا، يعني: بقية من طعام.

وفي رواية: ثم أفضلوا ما بلغوا جيرانهم، يعني: بقي بقية وأعطوها الجيران، وفي رواية عن أنس قال: جئت رسول الله ﷺ فوجدته جالسًا مع أصحابه، وقد عصب بطنه بعصابة، فقلت لبعض أصحابه: لم عصب رسول الله ﷺ بطنه؟، فقالوا: من الجوع، فذهبت إلى أبي طلحة وهو زوج أم سليم بنت ملحان، فقلت: يا أبتاه، وهذا يدل على التأدب مع زوج الأم، هو زوج لأمه، تأدب معه، يقول: يا أبتاه قد رأيت رسول الله ﷺ عصب بطنه بعصابة، فسألت بعض أصحابه، فقالوا من الجوع، فدخل أبو طلحة على أمي، فقال: هل من شيء؟ والرواية السابقة أنه ذكر لها أنه وجد صوت رسول الله ﷺ ضعيفًا، سمعتُ صوت رسول الله ﷺ ضعيفًا أعرف فيه الجوع، هذا يقوله أبو طلحة، فقد يكون ذهب وشاهد وسمع صوت النبي ﷺ ثم قال ذلك: هل من شيء؟ وفي الرواية الأخرى دخل على أم سليم قال: هل عندكِ شيء؟ قالت: نعم عندي كسر من خبز وتمرات فإن جاءنا رسول الله ﷺ وحده أشبعناه، وإن جاء آخر معه قل عنهم، وذكر تمام الحديث[4].

وفي الحديث من الفوائد أيضًا أن الرجل إذا تكلم مع امرأته يتكلم معها بأدب واحترام، فأبو طلحة يقول: يا أم سليم يكنيها، والتكنية فيها تكرمة للإنسان المكنى، والعرب تحب الكنية، وتكره اللقب، يكرهون أن ينادى الإنسان باللقب ويحبون الكنية، فإنْ أبى الإنسان فلا أقل من الاسم، أن يدعو الإنسان باسمه، أما كأن يفعل الناس: يا هيه، يا هيش، أو يتنزه من ذكر اسمهم احتقارًا، أو نحو ذلك فهذا أمر لا يليق، يناديها يا أم فلان، يخاطبها بذلك، بالاسم الذي تحبه، هذا هو اللائق.

وأيضًا في الحديث والحديث الذي قبله من الفوائد -وهو الشاهد- ذلك الحال الذي كان عليه النبي ﷺ والصحابة معه من التقلل من الدنيا والتقشف والجوع، فمن منا يمر عليه يوم يحتاج أن يربط بطنه؟ بل أكثر من هذا من منا رأى أحدًا في هذا الزمان؟، نعم نحن لا ننكر أنه يوجد في بعض الأماكن أناس لربما يموتون من الجوع، نحن لا ننكر هذا، لكن نحن في بيئتنا التي نعرفها، والتي أنعم الله علينا بألوان الطعام، من منا رأى أحدًا ربط بطنه بحجر من الجوع؟ أنا ما رأيت، حتى البلاد التي زرتها في البلاد الشرقية، وفي إفريقيا ما رأيت أحدًا ربط بطنه من الجوع، نعم الناس في فقر، توجد أماكن مجاعة ما رأيناها، ما رأينا كل الناس، لكن الإنسان يتحدث عما شاهد، ولا يحكم على الجميع، يوجد فقر وعوز، ولا شك في ذلك، لكن أقول: نحن في بيئتنا هنا هل رأينا أحدًا يربط بطنه من الجوع؟، لا، ما رأينا، ولله الحمد.

ولذلك أقول: هذه نعم أفاضها الله علينا، فإن كان معها الشكر فهي في زيادة، وإن استُغلت هذه النعم في الطغيان والبطر وتضييع حقوق الله وحقوق الخلق فتُضيَّع الصلوات، وتفعل المنكرات، وتضيع أجور العمال، والناس المستأجرين، وما أشبه ذلك من المنكرات، فإن هذا لا يمكن أن يستمر.

وفيه من الفوائد أيضًا: أن الغنى وكثرة العرض لو كان هذا من الأمور التي دائمًا تكون كمالًا لكان للنبي ﷺ ولأصحابه، فكانت حالهم على ما سمعتم، ولهذا كان النبي ﷺ يقول: ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم[5].

والله يقول: كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۝ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7] ما قال: إذا افتقر، فإذا افتقر الإنسان انكسر وتواضع، وصار يذهب ويجيء غالبًا إلى المسجد، ما عنده شيء يلهيه، ولا يطغيه، ولا يشغله، لكن إذا صار الإنسان صاحب ثراء فإن هذا مظنة للطغيان إلا من عصمه الله وهدى قلبه، ولذلك لا يتمنى الإنسان دائمًا أن يكون ثريًّا، وربما يقول: أتصدق وأعطي، لا تتصدق، فإن الله ما كلفك بأن تجمع المال من أجل أن تتصدق به، فقد يجتمع عندك المال ولا تخرج الزكاة كما نشاهد، ولو أخرج الأغنياء زكاة أموالهم لما بقي فقير، وهذا معروف، ونقرأ في بعض الإحصاءات أرقامًا مهولة من الزكوات المستحقة على الأغنياء، وأن الذي يخرج منها لا يصل إلا إلى جزء يسير جدًّا لا يذكر، والبقية؟

الإنسان كلما زاد ماله كلما ازداد إمساكًا وحرصًا وشحًّا إلا من رحم الله، لكن هذا هو الغالب في الناس، وما يتقاطع الناس ويتدابرون إلا بسبب المال.

لماذا كبار السن يقولون: كنا أولا، كنا في السابق مع بعض، والأقارب والجيران يعرف بعضهم بعضًا، وكنا مع الجيران أهل، والمرأة إذا عملت طعامًا أرسلت مرقة، أو أرسلت كذا، وألذ ما يكون، دائمًا يتكلم كبار السن بهذا الكلام، واليوم الجار ما يعرف من هو جاره، لماذا؟ لأنهم استغنوا، استغنى كل إنسان عن الآخر، واستغنى القريب عن قريبه، وانشغل كل إنسان بدنياه، فصرفه ذلك عن جيرانه، وعن قراباته، وحتى رسالة جوال ما يرسلها لهم، ولا يعرفهم.

فهذا نعاني منه كثيرًا، لكن نحتاج أول شيء أن نعرف التقصير، هذا الأمر الأول، المشكلة في الذي لا يعرف التقصير، ومنهم من إذا عُرِّف به أنكر، أبداً، كيف يُعالَج الخلل الذي عنده؟ فنعرف تقصيرنا أولًا ثم نعرف طريق الخروج من هذا، ثم نبدأ بالأمر العملي فنسأل الله أن يعيننا على أنفسنا، فالنفس تحتاج إلى مجاهدة، وإلا فحتى الأشياء البسيطة الإنسان لا تطيعه نفسه أحيانًا أن يكني من يخاطبه، ما تطيعه نفسه، فإذا قلت له: يا أبا فلان، ماذا يضرك؟، قد لا تطيعه نفسه أن يرفع يده لكل من يمر عليه ويقول: السلام عليكم، وما يضرك إذا رفعت يدك وسلمت على الناس الذي تعرف، والذي ما تعرف؟، وابدأ بعمال النظافة والفقراء والمساكين، هؤلاء الواحد منهم إذا سلمت عليه كأنما أعطيته الدنيا، وجلس ينظر إليك إلى أن تتوارى، وتغيب عن نظره ما عاد يشاهدك وهو واقف ينظر إليك، من هذا الذي مر وسلم عليّ؟، مع أننا لا نخسر شيئًا، لكن النفس تحتاج إلى مجاهدة، إذا خاطبت إنسانًا خاطبه بكنيته، بما يحب، سلم على من تعرف، ومن لا تعرف، حاول تتعرف، حاول تصل أقاربك وجيرانك ومن حولك، اعرف تقصيرك، إذا ذُكِّرت بالتقصير قل: نعم، أنا مقصر، هذا صحيح.

أما الغفلة الدائمة هكذا فلا ينبغي، وأما الدنيا فلا يأتي للإنسان منها إلا ما كتب له، الرزق يطارده كما أخبر النبي ﷺ كما يطارده الأجل، ولذلك تجد الذي يكدح ويعمل وينصَب الليل مع النهار، ويجمع الحديدة، وكل شيء يلقاه في الشارع ، والعلب المعدنية لربما مجموع ما يأتيه في الشهر لا يأتي ثمانمائة ريال، وتجد واحدًا واضع رجلا على رجل ولا تراه الشمس، وتأتيه الملايين في اليوم الواحد، لو رفع الهاتف فقط في أرض أو في أي قضية ملايين بمكالمة، ما لو اجتمع ذاك هو وأهله وقبيلته وعشيرته كلهم يجتمعون ويجمعون كل شيء ما جاءوا صفقة واحدة من مكالمة هاتف، الرزق مكتوب للإنسان وهو في بطن أمه، فالإنسان يبذل الأسباب، لكن من غير تعلق القلب، لا نعلق قلوبنا بها، نبذل الأسباب الصحيحة كما أمرنا الله فاتقوا الله وأجملوا في الطلب[6].

هذا، وأسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، ويجعلنا وإياكم هداة مهتدين، وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.

  1. أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، (5/ 108)، برقم: (4102).
  2. أخرجه الترمذي، أبواب الزهد عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء في كراهية كثرة الأكل، (4/ 590)، برقم: (2380)، وابن ماجه، كتاب الأطعمة، باب الاقتصاد في الأكل، وكراهة الشبع، (2/ 1111)، برقم: (3349)، وأحمد في مسنده (28/ 422)، برقم: (17186)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 336)، برقم: (2265).
  3. أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، (4/ 193)، برقم: (3578)، ومسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، (3/ 1612)، برقم: (2040).
  4. أخرجه مسلم، كتاب الأشربة، باب جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، وبتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام، (3/ 1614)، برقم: (2038).
  5. أخرجه البخاري، كتاب الرقاق، باب ما يحذر من زهرة الدنيا والتنافس فيها، (8/ 90)، برقم: (6425)، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، (4/ 2273)، برقم: (2961).
  6. أخرجه ابن ماجه، أبواب التجارات، باب الاقتصاد في طلب المعيشة، (3/ 275)، برقم: (2144)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/ 865)، برقم: (2866).

مواد ذات صلة