الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[51] من قوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} الآية 119 إلى قوله تعالى: {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} الآية 123
تاريخ النشر: ٢٩ / ذو القعدة / ١٤٢٥
التحميل: 3734
مرات الإستماع: 2885

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

قال الحافظ -رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [سورة البقرة:119] لا نسألك عن كفر من كفر بك، كقوله: فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ [سورة الرعد:40] وكقوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ ۝ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ الآية [سورة الغاشية:21-22]، وكقوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ [سورة ق:45] وأشباه ذلك من الآيات.

وروى الإمام أحمد عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عَمْرو بن العاص -ا- فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة، فقال: أجل، والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، وأنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، لا فظٍّ ولا غليظ ولا سَخَّاب في الأسواق، ولا يدفع بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا الله فيفتح به أعينا عُمْيًا وآذانًا صُمًّا، وقلوبا غُلْفًا" انفرد بإخراجه البخاري، فرواه في البيوع وفي التفسير[1].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [سورة البقرة:119] الحق الذي أرسل به ﷺ هو هذا الإسلام وهذا القرآن وهذا الوحي الذي جاء به من عند ربه -تبارك وتعالى.

وأرسل ﷺ بشيراً ونذيراً أي: مبشراً ومنذراً والبشارة هي الإخبار بما يسر، وذلك غالب في عرف الاستعمال، وقد تستعمل في الإخبار بما يسوء كما في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الإنشقاق:24] لكن الغالب أن تستعمل في الإخبار بما يسر خاصة، وقيل لها ذلك ربما لأنه يظهر أثرها على بشرة المبشَّر، وذلك أن المشاعر النفسانية تظهر آثارها على الإنسان من حمرة في الوجه وبهجة أو صفرة أو غير ذلك.

والنبي ﷺ جاء بشيراً ونذيراً وجاء أيضاً بأمور أخرى، جاء يعلم الناس الكتاب والحكمة وأشباه ذلك، فهذا لا يدل على الحصر؛ إذ ليست بعثته ﷺ مختصة بذلك فقط وإن كان ظواهر بعض النصوص تدل على هذا، ولكنه إنما يعلِّم ويأمر وينهى ﷺ من أجل الامتثال فهو يبشر هؤلاء من أهل الامتثال وينذر المعرضين.

والمراد بالنذارة الإعلام مع التخويف، فليس كل إعلام بإنذار ولكن كل إنذار يقال له: إعلام، فالنذارة أن يعلمه مع تخويف.

وقوله تعالى: وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [سورة البقرة:119] فتفسيره بما ذكره الحافظ بن كثير -رحمه الله- هو المتعين، وهو المتبادر من ظاهر هذه الآية بأن ليس ذلك مما كلف به وإنما هذا يكون إلى الله وحده لا شريك له.

وفي قراءة أخرى متواترة (ولا تَسْألْ عن أصحاب الجحيم) -بفتح التاء- وعلى هذه القراءة المتواترة يكون معناها أبلغ في الوعيد، مثاله أن تقول: لا تسأل عن حال فلان ما سيصنع به، أي لا تسأل عما وقع لهم، والمعنى أنه وقع لهم أمر شديد، ويمكن أن تحمل هذه القراءة على أن المراد ليس ذلك مما كلفت به.

وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ۝ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:120-121].

قال ابن جرير: يعني بقوله -جل ثناؤه: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبدًا، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم، وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق.

رضا اليهود والنصارى ديننا وعن نبينا محمد –عليه الصلاة والسلام- وعنا لن يتحقق إلا باتباع ملتهم، فـ(حتى) في قوله: وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ للغاية، أي إن كنت على دين اليهود رضي عنك اليهود وغضب النصارى، وإن كنت على دين النصارى رضي النصارى وغضب اليهود، وأسخطت ربك في كل حال.

وأما الكف عن القتال فإنه يمكن أن يتحقق إذا تخلينا عن ديننا، قال تعالى: وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ [سورة البقرة:217] فالقتال مستمر دائم لا يتوقف إلا بالتخلي عن إسلامنا، وإذا تخلينا عن إسلامنا فلن يرضوا بل لا يزالون يناصبونا العداوة، وإنما يكون رضاهم إذا كنا على دينهم وأسخطنا ربنا وهذا شيء مشاهد، فمهما قدمت لهم من التنازلات فإنهم لا يرضون.

وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى [سورة البقرة:120] أي: قل يا محمد: إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى، يعني: هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل.

قال قتادة في قوله: قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى [سورة البقرة:120] قال: خصومة عَلَّمها الله محمدًا ﷺ وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة.

قوله: خصومة عَلَّمها الله محمدًا ﷺ وأصحابه يخاصمون بها أهل الضلالة: الخصومة بمعنى أنه علمهم طريق الجدل وكيف يردون، فإن قالوا كذا فقل لهم كذا، فهو سبحانه علمهم وجه الرد والمجادلة والاحتجاج.

قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى [سورة البقرة:120] هم يريدون أن يكون على ملتهم فعلمه أن يقول لهم: قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى [سورة البقرة:120​​​​​​​]، ودخول "أل" على الهدى هنا في مثل هذا المقام يدل على استحواذه على الوصف الكامل، يعني أنه هو الهدى المطلق الكامل من كل وجه، تقول: فلان هو الرجل، يعني الرجل الكامل في صفات الرجولة، وتقول: هذا هو الغناء، يعني هذا هو الغناء الحقيقي، وتقول: هذا هو العلم، يعني هذا هو العلم الصحيح الكثير المقنع، وتقول: هذه هي الحجة بمعنى الحجة المرضية القاطعة لشبهات أهل الزيغ، وهكذا يستعمل الناس ذلك في كلامهم كثيراً، كقولهم هذا هو المسجد، هذا هو البناء، ومنه قوله تعالى:قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى [سورة البقرة:120​​​​​​​] أي الهدى الكامل الذي اشتمل على كل ما يحتاج إليه الناس لنجاتهم وفوزهم.

 قال قتادة: وبلغنا أن رسول الله ﷺ كان يقول: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله[2] قلت: هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيح عن عبد الله بن عمرو.

وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [سورة البقرة:120​​​​​​​] فيه تهديد ووعيد شديد للأمة عن اتباع طرائق اليهود والنصارى بعد ما عَلِموا من القرآن والسنة عياذًا بالله من ذلك، فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته.

وقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ [سورة البقرة:121​​​​​​​] قال عبد الرزاق عن مَعْمَر عن قتادة: هم اليهود والنصارى، وهو قول عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير.

وقال: سعيد عن قتادة: هم أصحاب رسول الله ﷺ.

وقال أبو العالية: قال ابن مسعود: "والذي نفسي بيده، إن حق تلاوته أن يُحِلَّ حلاله ويحرم حرامه ويقرأه كما أنزله الله، ولا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله".

وقال السدي عن أبي مالك عن ابن عباس في هذه الآية قال: يُحِلُّون حلاله ويُحَرِّمُون حرامه ولا يُحَرِّفُونه عن مواضعه.

وعن عمر بن الخطاب : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها، قال: وقد روي هذا المعنى عن النبي ﷺ أنه كان إذا مرَّ بآية رحمة سأل، وإذا مرَّ بآية عذاب تعوذ.

قوله: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ لا شك أن من تلاوته على الوجه المطلوب أن يتدبره وأن يتفهمه وأن يقف عند مواضع السؤال ويقف عند مواضع الوعيد والتهديد، وأن يعتبر وأن يستشعر أنه مخاطب بهذا الخطاب، وأن يعمل به، يعمل بالكتاب، ويتحاكم إليه، فكل ذلك من تلاوته حق التلاوة.

وذهب بعض السلف -ومشى عليه كبير المفسرين ابن جرير الطبري -رحمه الله- إلى أن المراد بهؤلاء الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ [سورة البقرة:121​​​​​​​] ​​​​​​​في هذا المقام هم علماء اليهود، وهذا على اعتبار أن "أل" هنا عهدية، يعني الكتاب المعهود الذي أنزله الله عليهم وقص الله علينا خبره في مواضع من كتابه، فعند ابن جرير -رحمه الله- هم علماء اليهود الذين آمنوا بالله وصدقوا رسله فأقروا بحكم التوراة وعملوا بما أمر الله - فيها من اتباع محمد ﷺ والإيمان به، والتصديق بما جاء به عن ربه ، فهؤلاء هم الذين يتلونه حق تلاوته؛ من تلاه إذا تبعه -على قول ابن جرير- فالتلاوة تحتمل أن تكون بمعنى القراءة، وتحتمل أن تكون بمعنى الاتباع، تلا يتلو يتلوه بمعنى يتبعه،.

يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ يعني يتبعونه حق اتباعه؛ لأنهم آمنوا بالتوراة وفي ضمن ذلك ما أخبرت به التوراة من بعث محمد ﷺ وأنه رسول من عند الله حقاً، فهؤلاء يتبعونه حق اتباعه، بل نقل الإجماع على أن المراد بتلاوته هنا حق التلاوة هو الاتباع، أي يتبعونه حق اتباعه. 

ومن المعلوم أن ابن جرير -رحمه الله- ينقل الإجماع ويريد به الأكثر وإن خالف فيه بعضهم، فهو يطلق الإجماع على قول الأكثرين، فعلى كل حال يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أي يتبعونه حق اتباعه، ويبقى الاحتمال قائماً بأن التلاوة المراد بها القراءة، ولكن الذين يتلونه بمعنى يقرؤونه حق قراءته لا يكون ذلك متحققاً فيهم إلا إذا اتبعوه حق اتباعه، فلا تكفي التلاوة بل لا بد من التدبر والتفهم، ولا بد من العمل به والتحاكم إليه، وإلا فإن هؤلاء يكونون قد وقعوا في شيء من هجره، كما قال تعالى: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [سورة الفرقان:30]، وهجره كما قال الحافظ ابن القيم: من هجر قراءته فهو هجره، من هجر تفهمه وتدبر معانيه فقد هجره، وكذلك من هجر العمل به أو هجر التحاكم إليه، فكل هؤلاء داخلون في هجره.

والمقصود هنا إذن يمكن أن يقال -والله تعالى أعلم- بأن الآية تحتمل المعنيين، فالتلاوة بمعنى الاتباع، والتلاوة بمعنى القراءة، وبينهما ملازمة، فإن من قرأه حق قراءته، فلا بد أن يتفهمه وأن يعمل به ويتحاكم إليه.

والقاعدة: أن الآية إذا احتلمت معنيين فأكثر بينهما ملازمة فإنها تحمل على كل هذه المعاني، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، فقوله: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة البقرة:121​​​​​​​] ​​​​​​​أي يقرؤونه حق القراءة، ويتبعون ما فيه وينقادون لذلك، والله أعلم.
وقوله: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِخَبَر عنالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ [سورة البقرة:121​​​​​​​] ​​​​​​​.

أي أن الضمير في قوله: يُؤْمِنُونَ بِهِ يعود على الكتاب المذكور قبله، والمعنى أن الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ من صفتهم كذا وكذا، فهؤلاء هم الذين يؤمنون بالكتاب.

 أي من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته، آمن بما أرسلتك به يا محمد، كما قال تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم الآية [سورة المائدة:66]، قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ [سورة المائدة:68]. 
أي: إذا أقمتموها حق الإقامة وآمنتم بها حَقَّ الإيمان وصَدَّقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد ﷺ ونَعْتِه وصفته والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ الآية [سورة الأعراف:157]، وقال تعالى: قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا ۝ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً [سورة الإسراء:107-108] أي: إن كان ما وعدنا به من شأن محمد ﷺ لواقعًا.

وعلى هذا تحمل الآيات التي هي نظير لهذه الآية، وهي التي يتعلق بها الملبسون المدلسون الذين يذكرون مثل هذه الآيات ليقولوا: إن اليهود والنصارى على دين حق، وقد أثنى الله عليهم ووعد المحسن منهم بالجنة وأنهم ناجون عند الله ، ولا يجوز أن نكفرهم، وكل ذلك من الكذب، بل هم كفار أعداء لله ولرسله، وإنما هذه الآيات التي أثنى الله فيها على طائفة منهم هم الذين كانوا قبل مبعث محمد ﷺ وكانوا على دين صحيح من غير تحريف، أو الذين أدركوه فاتبعوه، فإن إيمانهم بكتابهم حقاً يقتضي الاتباع لمحمد -عليه الصلاة والسلام- فمن لم يتبع رسول الله ﷺ فهو من حطب النار، وهم أكفر أهل الدنيا؛ لأنهم كفروا على علم، حيث أنزل الله عليهم كتبه وأرسل رسله، ومع ذلك وقعوا في هذا التكذيب والجحد والكفر العظيم. 

فما أحوجنا إلى تفهم هذه المعاني وبثها في الناس وخاصة في مثل هذه الأيام!

 وقال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ ۝ وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ۝ أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ [سورة القصص:52-54]، وقال تعالى: وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [سورة آل عمران:20]. 
ولهذا قال تعالى: وَمن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [سورة البقرة:121​​​​​​​] ​​​​​​​كما قال تعالى: وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ [سورة هود:17].

الضمير في قوله:بِهِ يرجع إلى نفس الكتاب المذكور، أي أن كل هذه الضمائر المذكورة ترجع إلى شيء واحد هو الكتاب، سواء في قوله: أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سورة البقرة:121​​​​​​​] ​​​​​​، أو في قوله: وَمن يَكْفُرْ بِهِ [سورة البقرة:121​​​​​​​] ​​​​​​، أو في قوله: هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ [سورة القصص:52].... الخ..

 وفي الصحيح: والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي، إلا دخل النار[3].

يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ۝ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:122-123].

قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة، وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأمي الذي يجدون صفته في كتبهم نعتَه واسمه وأمره وأمته فحذرهم من كتمان هذا، وكتمان ما أنعم به عليهم، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم، من النعم الدنيوية والدينية، ولا يحسدوا بني عَمِّهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم، ولا يحملهم ذلك الحسدُ على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته، صلوات الله وسلامه عليه دائمًا إلى يوم الدين.

على كل حال هذه الآية مضت وتكرار ذلك من أقرب ما يقال في تفسيره وبيان وجهه هو ما ذكره ابن كثير -رحمه الله.

وبعض أهل العلم يذكرون وجوهاً أخرى لتكرارها، ولكن قد لا يظهر وجهها وعليها معارضات، والعلم عند الله والتكلف سبيل غير محمود في الكلام على آيات الله -تبارك وتعالى.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

  1. صحيح البخاري في كتاب البيوع - باب كراهية السخب في السوق (2018) (ج 2/ص 747) وفي كتاب التفسير - باب قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [سورة الفتح:8] (4558) (ج 4 /  ص 1831).
  2. أخرجه مسلم في  كتاب الإمارة - باب قوله ﷺ: لا تزال ظائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم (1923) (ج 3/ ص1 1524).
  3. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان - باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ إلى جميع الناس ونسخ الملل بملة (153) (ج 1/ ص 134).

مواد ذات صلة