الخميس 18 / رمضان / 1445 - 28 / مارس 2024
حديث «كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين..» (1-2)
تاريخ النشر: ٠٩ / شعبان / ١٤٢٥
التحميل: 5448
مرات الإستماع: 7671

كان فيمن كان قبلكم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

أما بعد:

ففي باب التوبة أورد المصنف -رحمه الله- حديث أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري عن نبي الله ﷺ قال: كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مائة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدُل على رجل عالم، فقال: إنه قتل مائة نفس، فهل له من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها أناسًا يعبدون الله تعالى فاعبد الله معهم، ولا ترجع إلى أرضك، فإنها أرض سوء، فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي، فجعلوه بينهم -أي حكمًا- فقال: قيسوا ما بين الأرضيْن، فإلى أيتهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة[1] متفق عليه.

النبي ﷺ يحكي لنا هذا الخبر عن رجل كان ممن قبلنا من الأمم السابقة، قتل تسعة وتسعين نفسًا، قتلُ النفس كما هو معلوم هو من السبع الموبقات، وهو الذنب الوحيد بعد الإشراك بالله -تبارك وتعالى- الذي قال بعض أهل العلم: إنه لا توبة لصاحبه، وجاء فيه الوعيد بالخلود في النار، قال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَاوليس ذلك فقط بل وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء: 93]، فهو من أهل الغضب واللعن.

هل للقاتل توبة؟

والآية في ظاهرها أنه من أهل الخلود في النار، هذا من قتل نفسًا واحدة، وجاء رجل إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- يسأله عن ذلك، يعني: عمن قتل هل له توبة؟ فقال: لا، يعني: لا توبة له، فهذا هو الذنب الوحيد الذي جاء فيه مثل هذا الوعيد، بعد الإشراك بالله -تبارك وتعالى- وقد اختلف بسبب ذلك أهل العلم، هل للقاتل من توبة أو لا؟ بعضهم يقول: لا توبة له -نسأل الله العافية، وإنما أذكر هذا في بيان عظم هذا الذنب، وإلا فالجمهور سلفًا وخلفًا يقولون: له توبة، الشرك الذي هو أعظم الذنوب يتاب منه فكيف بما دونه؟، فالتوبة تجبّ ما قبلها، لكن يبقى حق الإنسان المقتول، فمثل هذا الجرم العظيم قد مضى الكلام عليه مفصلاً في الكلام على الأعمال القلبية، الكلام على التوبة من الأعمال القلبية.

هل للقاتل توبة أو لا؟ ذكرنا أن رأي عامة أهل العلم سلفًا وخلفًا وهو الراجح أنه له توبة، لكن يبقى حق المقتول، عندنا حق لأولياء الدم، القصاص أو قبول الدية، هذا في القتل العمد، لكن المقتول ذهب، يعني: هؤلاء لمّا حصل القتل تشفوا بسبب أنهم أخذوا بالثأر، بهذا القصاص العادل، لكن يبقى هذا الذي ذهب ومات وقُتل، ما أخذ شيئًا، إذا أخذوا الدية أخذتها الورثة وتنازلوا عن القصاص، قبلوا بالدية والذي قُتل ما أخذ شيئًا، فبقي حقه، ولذلك فإنه يأخذ من حسناته يوم القيامة حتى يرضى، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: إن من تاب توبة نصوحة فإن الله -تبارك وتعالى- يُرضي المقتول بما شاء، برفع الدرجات، تكفير السيئات، لكن شيخ الإسلام يقول: عليه أن يحتاط، يعني: هذا القاتل عليه أن يحتاط بالإكثار من الحسنات؛ لأنه قد يمكّن منها المقتول، لأنه حتى مع التوبة يبقى الإشكال أن حقوق العباد لا تسقطها التوبة، التوبة تسقط حق الله ، يعني: القتل فيه حقان حق لله، وهذه جريمة، أقدم على أمر محرم عظيم، من الكبائر، من الموبقات، إذا تاب فهذه الموبقة التوبةُ تجبّها، تذهبها، بقي حق للمقتول.

لو تاب إنسان من السرقة يتوب الله عليه، لكن بقي حق المسروق منه لابدّ أن يرد إليه، حقوق المخلوقين الأصل فيها المشاحّة، لابدّ أن تؤديها لهم، حق الله الأصل فيه المسامحة، ومن تاب تاب الله عليه، فيبقى حق المخلوق، فهنا هذا المقتول له حق المخلوق، ولهذا قال ابن عباس: ليس له توبة، وقال بعض أهل العلم: إن ابن عباس أراد الزجر؛ لأنه عرف أن الرجل هذا يريد أن يقتل، فإذا تشفّى تاب، فقال: ليس له توبة، هكذا قال بعض أهل العلم.

المقصود أن هذا الرجل ما قتل نفسًا واحدة، قتل تسعًا وتسعين نفسًا، ثم بعد ذلك سأل عن أعلم أهل الأرض، فهذا يؤخذ منه أن الإنسان مهما كان إجرامه فإنا لا نيْأس منه، يعني: تصور إنسانًا قتل تسعًا وتسعين نفسًا لا يبالي بحدود الله، يعني: عنده أمور كثيرة، فإذا كان يقدم على القتل بهذه الطريقة، مجرم واحد قتل تسعًا وتسعين نفسًا؟ هذا معناه أنه سفاك للدماء، أنه مُبير، أنه فاتك، أنه جبار من الجبابرة، فهنا قد يستيقظ الضمير، فلا نيأس من أحد، ولا نتألى على الله ، ما يقال: فلان لا يوفق للتوبة، فلان لا يتوب، فلان لا يمكن أن يرجع، ومن قال لك هذا؟ هذا الرجل بهذه المثابة، وفتح الله على قلبه، فكيف بمن هو دون ذلك؟.

قد يكون هذا الإنسان، قد يكون هذا الولد، قد تكون هذه البنت، قد يكون هذا القريب عنده ذنوب، عنده معاصٍ، عنده أشياء، عنده مخالفات، لكن ما وصل الأمر إلى هذه المواصيل، فكيف نيأس من هدايته؟

وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، فيفتح الله على قلب العبد وتتغير حاله في لحظة، قد يكون هذا بدعوة والد، قد يكون هذا بإحسان، قد يكون بألطاف ربانية أنزلها الله عليه، لا تيأس من ألطافه، ومن رحماته، فالله يفتح على قلب العبد ويحوله من الغواية إلى الهداية.

بعض الغلاظ الأشداء الذين حاربوا النبي ﷺ تحولوا إلى شيء آخر، كما قال الله : عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة: 7] كيف تكون هذه المودة؟ الراجح من أقوال المفسرين أن ذلك يكون بتحولهم إلى الإسلام، وهذا الذي حصل، أبو سفيان الذي كان يقود الجيوش لحرب النبي ﷺ أسلم، وهو أول من قاتل المرتدين، لقي ذا الخمار وهو قادم من اليمن لما توفي النبي ﷺ وأبو سفيان في الطريق، فقاتله، لما ارتد ذو الخمار عن الإسلام، أول من قاتل المرتدين أبو سفيان.

وانظروا إلى الذين قاتلوا وفتكوا في يوم أحد، خالد بن الوليد، وعكرمة، صاروا من أعظم قادة المسلمين الذين نفتخر بهم، ونعتز بهم، ونتشرف بذكرهم، وذكر مآثرهم، مَن مثل خالد وعكرمة؟، وأمثال هؤلاء حتى الذين أسلموا عام الفتح مَن حسن إسلامه مِن هؤلاء كيف تحول؟.

اقرءوا سيرة الحارث بن هشام ، ولما أراد أن يخرج إلى الشام للجهاد، كيف ضج أهل مكة وخرجوا معه، يقولون: كيف تخرج وأنت خير أهل الوادي؟ مثلك لا يخرج من مكة، فاعتذر إليهم أنه ما تركهم رغبة عنهم، ولا تركهم رغبة في دنيا، وإنما اعتذر إليهم بأنهم قد تأخر إسلامهم ونصرهم للنبي ﷺ ولدين الله وأن أصحابهم سبقوهم إلى هذا الشرف، فأراد أن يستدرك، أن يعوض.

أبو سفيان بن الحارث، وهذا غير أبي سفيان بن حرب، أبو سفيان بن حرب هو الذي كان يقود الجيوش لحرب النبي ﷺ، وهو الذي قال يوم أحد: اعلُ هُبل، اعلُ هُبل، هو والد معاوية .

لكنّ أبا سفيان بن الحارث هذا الشاعر ابن عم النبي ﷺ الذي كان يهجوه دائمًا، وهو أشبه الناس بالنبي ﷺ من حيث الصورة الظاهرة، هو الذي هجاه حسان بن ثابت حينما قال:

ألا أبلغْ أبا سفيانَ عني فأنتَ مُجوَّف نخبٌ هواءُ

وقال:

أتهجوه ولستَ له بكفءٍ فشرُّكما لخيرِكما الفداءُ

وهو الذي يقول فيه:

عَدِمنا خيلَنا إن لم تروها تُثير النقعَ موعدُها كَداءُ

يعني تدخل مكة فاتحة، هذا أبو سفيان بن الحارث، ابن عم النبي ﷺ كان شاعرًا، يهجو النبي ﷺ، أشد الناس عداوة، أسلم، وهو الذي كان آخذًا بخطام ناقة النبي ﷺ ومعه في يوم حنين، وثبت مع أفراد قد لا يزيدون على عشرة، والباقون انهزموا، وهذا ثابت في يوم حنين، أبو سفيان بن الحارث ابن عم النبي ﷺ.

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الممتحنة:7]، قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه -تبارك وتعالى.

فهذا قتل تسعًا وتسعين نفسًا، هذا الإنسان الفاجر الفاسد الذي قد نراه هل وصل به الأمر أنه يقتل تسعًا وتسعين نفسًا؟

الجواب: لا، قد يفعل بعض الكبائر الموبقات، أشياء، لكن قد تدركه رحمة الله، فلا نتألى على الله، ولا نيأس من أحد، ونقدم الدعوة للجميع، ونسأل الهداية للجميع.

ثم إن هذا الرجل توجه إلى طريق صحيح، سأل عن أعلم أهل الأرض، الآن الجناية عظيمة جدًّا، هذا مجرم كبير، قاتل، سفاك للدماء.

فسأل عن أعلم أهل الأرض، هذه تحتاج إلى عالم كبير من أجل أن تأتي الفتيا والجواب على وجه مرضي صحيح، ما ذهب وسأل أي أحد كما يفعل بعض الناس، يقول: سألت إمام المسجد، إمام المسجد هذا من أهل العلم أو لا؟.

يرى إنسانًا في الطواف، أو في السعي، أو في الحرم ملتحيًا فيقول: عندي سؤال ويسأله، وقد لا يكون من أهل العلم، قد يكون مغموسًا في الجهل.

هذا سأل عن أعلم أهل الأرض، وواضح أن الرجل ما كان يعرف أعلم أهل الأرض، ومؤهلاته لا تؤهله لهذا، هو مجرم كبير، كيف يعرف العلماء، وأعلم أهل الأرض، هذا في بيئة أخرى تمامًا.

فدُل على راهب، ما دُل على أعلم أهل الأرض في الواقع، الذين سألهم دلوه على راهب، والراهب عابد، صاحب عبادة عظيمة، ولكن العلم شيء، والعبادة شيء، فغلب عليه هذا الجانب، هذا التخصص، هذا الاهتمام، وهو تغليب جانب الرهبة، والعبادة العظيمة الشاقة، الراهب عندهم يجلس في دير، يجلس في معبد، يجلس في صومعة، ينقطع عن العالم، ويتعبد الله الليل والنهار، ويصوم الدهر، ويقوم الليل، ويترك كثيرًا من الطيبات، ولا يتزوج، كما قال الله : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ [الحديد:27].

فقال له: إنه قتل تسعة وتسعين نفسًا، فهل له من توبة؟ لاحظ هنا الأسلوب والخطاب، ما قال: إني قتلت، هو في الواقع قال: إني قتلت، لكن هذا من باب الأدب في الخطاب، فيغيَّر الضمير لئلا تنسب هذا الشيء المشين إلى نفسك وأنت تتحدث، تقول: فلان من الناس ذهب، وهو مجرم، تقول: ذهب إلى القاضي، فاعترف، وقال: إنه زنى، ما تذكر الخطاب على لسان الرجل بضمير المتكلم، ما يقول: إني، أي المتكلم الناقل للقصة، ما يقول: إني كذا، لماذا؟ تأدبًا لئلا تنسب إلى نفسك هذا الشيء المشين، ولو بالأحرف والكلمات ،وأنت لم تقارب ذلك بالفعل، لكن تحكي فعل غيرك، فإذا أردت أن تحكي فعلاً مشينًا تقول: فلان ذهب وقال: إني فعلت كذا وكذا وكذا.

أبو طالب عند الاحتضار لما كان في مرض الموت، والنبي ﷺ يدعوه إلى الإيمان، قال عند الموت: إنه على ملة عبد المطلب، هو في الواقع قال: إني، لكن تجد الرواية يذكرونها هكذا "إنه" لئلا ينسب الراوي هذا إلى نفسه كأنه يتكلم يقول: إني على ملة كذا، حتى في هذا يتحرى الإنسان، فكيف بالذي يتبجح بالباطل، وبالفساد، ويصدر عنه ويعافسه صباح مساء؟ كانوا يتنزهون من النقل.

وبعض العلماء ذكر في قوله تعالى: وَالضُّحَى ۝ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ۝ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:1-3] ما قال: وما قلاك، من باب التلطف في العبارة، لئلا ينسب إليه أنه فعل به ذلك، قلاه: هجره، وأبعده، وجفاه.

وهكذا في آداب الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام، فهذا إبراهيم يقول: وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: 80].

نسب المرض إلى نفسه، والشفاء إلى الله، هذا كله من باب الأدب، وله أمثلة ذكرناها في بعض المناسبات.

فالحاصل أن هذا دُل على هذا الراهب وسأله هذا السؤال، هل له من توبة؟ فقال: لا، فقتله، فكمل به مائة، هذا يدل على أن روح الجناية تسري في عروقه، وأن الرجل متوثب وأفعى الوادي بين جنبيه، يعني: لا زال الرجل حتى مع هذا النزوع إلى التوبة، لا زال فيه إقدام على الشر واستسهال لهذا الجرم الذي يريد أن يتوب منه، فكمل بهذا الراهب.

وهذا يدل على أنه سريع الانفعال، سريع الغضب، يقتل لكل ما استفزه وأغضبه، سواء بحق أو بباطل، ولا يمكن أن يكون هذا بحق؛ لأنه يبحث عن التوبة، فكمل به مائة.

ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فلا يزال يريد أن يتوب، فدُل على رجل عالم، فالأول راهب، وهذا عالم.

فقال: إنه قتل مائة نفسقال للأول: إنه قتل تسعًا وتسعين نفسًا، فهو يحسبهم وعارف بهم، فهل له من توبة؟

فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة؟ لاحظ الفرق بين العالم والعابد، فالعابد قد لا يكون عنده من العلم والفقه، لكن العالم حاله تختلف عن العابد، أرشده إلى معنى آخر، وهو ترك الأرض التي كان فيها؛ حيث إنها أرض لا تعين على الطاعة.

أسأل الله -تبارك وتعالى- لي ولكم علمًا نافعًا.

مواد ذات صلة