الجمعة 19 / رمضان / 1445 - 29 / مارس 2024
[3] من قوله تعالى: {أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً} الآية 24 إلى قوله تعالى: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} الآية 35
تاريخ النشر: ١٠ / جمادى الأولى / ١٤٢٩
التحميل: 3000
مرات الإستماع: 4945

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المصنف -رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:

أَمِ اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقّ فَهُمْ مّعْرِضُونَ ۝ وَمَا أَرْسلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ [سورة الأنبياء:24، 25].

يقول تعالى: أم اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ يا محمد، هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ أي: دليلكم على ما تقولون هَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ يعني: القرآن، وَذِكْرُ مَن قَبْلِي يعني: الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ناطق بأنه لا إله إلا الله، ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق فأنتم معرضون عنه، ولهذا قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رّسُولٍ إِلاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنّهُ لا إِلَهَ إِلاّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ كما قال: وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [سورة الزخرف:45]، وقال: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [سورة النحل:36]، فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والفطرة شاهدة بذلك أيضاً، والمشركون لا برهان لهم، وحجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله -تبارك وتعالى: أم اتّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةًهذا إضراب انتقالي، وقوله -تبارك وتعالى: هَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي، المعنى الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أنه قال لهم: هذا القرآن وهذه الكتب التي كانت قبله هل يوجد فيها ما يدل على ما ذكرتم، فهي شاهدة بأنه لا إله إلا الله، وأن الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- إنما جاءوا بذلك ودعوا إليه، هَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ يعني القرآن، وَذِكْرُ مَن قَبْلِي،

وهذا كلام الحافظ ابن كثير -رحمه الله، وقال به جماعة من السلف، وهو اختيار ابن جرير يقول: هَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَأي: ما لهم من الثواب، ذِكْرُ مَن مّعِيَ يعني: خبر من معي بما أعد الله لهم من الثواب والجزاء، وَذِكْرُ مَن قَبْلِي يعني: ما فعل الله بهم، يعني الأمم السابقة، ما حصل لهم في الدنيا، وما ينتظرهم في الآخرة، بمعنى أن هذا القرآن مشتمل على ذكر هذا وهذا، على خبر من معه من هذه الأمة، ممن اتبعه، ما لهم من الثواب على إيمانهم به ﷺ، وطاعتهم إياه، هَذَا ذِكْرُ مَن مّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي، خبر من قبلي من الأمم، وما حل بهم، وما ينتظرهم أيضاً في الآخرة من الجزاء، فالقرآن متضمن لذلك جميعاً، فأين ما تزعمون وتقولون من وجود آلهة مع الله -تبارك وتعالى؟

وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ ۝ لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ۝ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ۝ وَمَن يَقُلْ منْهُمْ إِنّيَ إِلَهٌ مّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ [سورة الأنبياء:26-29].

يقول تعالى رداً على من زعم أن له -تعالى وتقدس- ولداً من الملائكة، كمن قال ذلك من العرب: إن الملائكة بنات الله فقال: سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ أي: الملائكة عباد الله مكرمون عنده في منازل عالية ومقامات سامية، وهم له في غاية الطاعة قولاً وفعلاً، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ أي: لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به، بل يبادرون إلى فعله، وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليه منهم خافية يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ.

قوله: وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَداً الذين نسبوا لله الولد، -كما هو معلوم- هم اليهود قالوا: العزير ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وذكر بعض أهل العلم أيضاً أن اليهود قالوا: إن الله -تبارك وتعالى- قد صاهر الجن فكان الملائكة -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، وهذا أيضاً يُنسب إلى بعض العرب، وقال بعضهم: إن الملائكة بنات الله.

وقد رد القرآن عليهم في مواضع كقوله -تبارك وتعالى: وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الحُسْنَى [سورة النحل:62]، وقال: أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنثَى ۝ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى [سورة النجم:21-22]، إلى غير ذلك من المواضع، ولم يكن جميع العرب يقولون هذا، وإنما قاله بعضهم، ولهذا بعض أهل العلم يقول: إن المراد بذلك خزاعة، القبيلة المعروفة.

وقوله: وَقَالُواْ اتّخَذَ الرّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مّكْرَمُونَ، هذا مع قوله: لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يدل على أن المراد بذلك الرد على من قالوا: إن الملائكة بنات الله، وليس المراد بذلك الذين قالوا: إن المسيح ابن الله، فقد رد عليهم في مواضع أخرى، ولا الذين قالوا: إن العزير ابن الله، فهؤلاء جاءوا بقول عظيم، حيث ادعوا أن لله ولداً، وهذا كما قال الله لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ۝ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا ۝ أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ۝ وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا ۝ إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [سورة مريم:89-93]، لكن السياق يدل على أن الآيات في الرد على الذين قالوا: إن الملائكة بنات الله؛ لأنه قال: بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ۝ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ۝ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى إلى آخره، فهذا فيمن زعم أن الملائكة بنات الله.

قال: بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ يعني هؤلاء الملائكة، فهم عباد لله ، قال: لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ يعني لا يتقدمون عليه -تبارك وتعالى- بالقول، وإنما هم في غاية الخضوع والأدب والخشية مع الله ،  وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، كما قال الله تعالى: لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم:6].

وقوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ بعضهم يقول: مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْيعني الآخرة مما يستقبلون، وَمَا خَلْفَهُمْ يعني الدنيا، وبعضهم يقول: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ يعني يعلم ما بين أيدي الملائكة، مما لم يبلغوه ولم يفعلوه، يعني المستقبل، وما سيكون منهم من قول وعمل، وما خلف هؤلاء الملائكة أيضاً مما مضى وانقضى، يعني يعلم ما مضى وما سيأتي، كل ذلك قد أحاط به -تبارك وتعالى، والضمير في قوله: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْيرجع إلى الملائكة؛ لأن ما قبله في الملائكة وما بعده كذلك، قال: وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ، وهذا في الملائكة.

وقوله: وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَىَ كقوله: مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ [سورة البقرة:255]، وقوله: وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سورة سبأ:23]، في آيات كثيرة في معنى ذلك، وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ أي: من خوفه ورهبته مُشْفِقُونَ ۝ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّيَ إِلَهٌ مّن دُونِهِ أي: من ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله، فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظّالِمِينَ أي: كل من قال ذلك، وهذا شرط، والشرط لا يلزم وقوعه، كقوله: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ [سورة الزخرف:81]، وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [سورة الزمر:65].

التعليق بالشرط لا يقتضي إمكان الوقوع، كقوله: قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ، وقوله: وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام:88].

أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ ۝ وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لّعَلّهُمْ يَهْتَدُونَ ۝ وَجَعَلْنَا السّمَاءَ سَقْفاً مّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ۝ وهوَ الّذِي خَلَقَ الْلّيْلَ وَالنّهَارَ وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة الأنبياء:30-33].

يقول تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات، فقال: أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أي: الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره، ألم يعلموا أن الله هو المستقل بالخلق المستبد بالتدبير، فكيف يليق أن يعبد معه غيره، أو يشرك به ما سواه؟ ألم يروا أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً أي: كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه، فجعل السموات سبعاً، والأرض سبعاً، وفصل بين السماء الدنيا والأرض بالهواء، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض؛ ولهذا قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ أي: وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً، وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء.

ففي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَ الّذِينَ كَفَرُوَاْ أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً الرؤية هنا رؤية قلبية بمعنى العلم، أوَلم يعلم؛ لأنهم ما شاهدوا هذا بأعينهم وأبصارهم، ويكون المعنى أَوَلَمْ يَرَ أي: أوَلم يعلم.

وقوله -تبارك وتعالى: أَنّ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ كَانَتَا رَتْقاً الرتق: هو السد، وهو ضد الفتق، فيقال: رتقه أي سده، والسلف اختلفوا في هذا الرتق ما المراد به فبعضهم يقول: كانت السماء ملتصقة بالأرض ثم بعد ذلك فصلت، وبعضهم يقول: كانت السماوات السبع متلاصقة، وكانت الأرضون السبع متلاصقة، ففتق الله هذه وهذه فصارت السماوات طبقات بين كل طبقة وطبقة مسافة.

وبعضهم يقول: كَانَتَا رَتْقاً يعني: فتقها بالهواء، وقوله: فتقها بالهواء يرجع إلى ما سبق، فإذا كانت متلاصقة فمعنى ذلك أنه لا هواء بينها، وبعضهم يقول: كانت مظلمة ففتقها بالنور والضياء، وهذا يرجع إلى أنه لما وجد هذا الفاصل بين السماء والأرض وجدت الشمس والنجوم والقمر فصارت مضيئة، فَفَتَقْنَاهُمَا، وبعضهم يقول: المراد بالرتق أن السماء كانت لا تمطر، والأرض لا تنبت، وقالوا: إن هذا يفسره قوله -تبارك وتعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ ۝ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [سورة الطارق:11، 12]، فالرجع قالوا: هو المطر، والصدع: أي أنها تنصدع عن النبات: تنشق، والله يقول: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ۝ ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا [سورة عبس:25، 26]، فشقها بالنبات.

وهذا كله من دلائل قدرته -تبارك وتعالى، وهذا القول قال به جماعة من أهل العلم وهو قول له وجه قوي من النظر، ولا يبعد أن تكون هذه الآية من سورة الأنبياء مفسرة بالآية الأخرى وهي قوله: وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ ۝ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ، وهناك قرينة أخرى في هذه الآية قد ترجح هذا المعنى وهي قوله بعده: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ، فـ رَتْقاً أي: لا تمطر، يعني السماء، والأرض لا تنبت، فشق هذه بالمطر وشق هذه بالنبات، ثم قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ

وهذا القول رجحه الشنقيطي وانتصر بأدلة متعددة، وزاد بأن قوله -تبارك وتعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا لو كان المراد أنها متلاصقة فإن الكفار لم يروا ذلك، والذين قالوا بأنها كانت متلاصقة، يقولون بأن الرؤية قلبية وليست بصرية، يعني أوَلم يعلم، لكنه يقول: إن الغالب في القرآن أنّ "رأى" المقصود بها الرؤية البصرية في الغالب، لكن إذا حمل على الغالب أن الرؤية بصرية فهم لم يروا السماء ملتصقة بالأرض حينما كانت ملتصقة على القول الآخر، ولكنهم يشاهدون كيف أن المطر ينزل فتنشق الأرض عن النبات.

ويمكن أن يرد على هذا الاستدلال بأن يقال: إن القول بأن الأرض كانت لا تنبت والسماء لا تمطر أنه كان ذلك في أول الأمر، بمعنى أن الأرض أصلاً لا تنبت والسماء لا تمطر أصلاً، ففتق هذه بالمطر وهذه بالنبات، فالذي يشاهدونه هم هو ما آل إليه أمرها ثانياً، أما حينما ذكر الله هذه الصفة فهم ما شاهدوا هذا، فتبقى الرؤية أيضاً قلبية، حتى على هذا القول، ومهما يكن فهذه الأقوال يبقى أن منها ما يرجع إلى القول بأنها كانت متلاصقة، يعني حينما يقال: فتق هذه بالضياء، أو فتق هذه بالهواء، فهذا يرجع إلى القول بأنها كانت ملتصقة.

وابن كثير -رحمه الله- حاول أن يجمع بين الأقوال الأولى، بمعنى أن السماء كانت ملتصق بالأرض، وكل سماء ملتصقة بالثانية، كما أن الأرضين قد التصق بعضها ببعض، كلها، فحاول رحمه الله أن يجمع بين الأقوال بحيث إنه فصل السماء عن الأرض، وفصل كل سماء عن السماء الأخرى، ووجد الضياء بين السماء والأرض، كما وجد الهواء أيضاً، والآية إذا قيل فيها بأن السماوات جميعاً كانت ملتصقة لا يشكل عليه بأن السماء مفرد؛ لأن السماء المقصود بها الجنس، فيصدق على الجمع، ولهذا وصف بالمصدر كَانَتَا رَتْقاً، وأما التثنية هنا كَانَتَا فباعتبار التقابل بين السماء والأرض، فالسماء جنس واحد كما أن الأرض جنس واحد، فقال: كَانَتَا رَتْقاً.

أما ما يزعمه أصحاب الإعجاز العلمي والتفسير العلمي من أن قوله: أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا بأن الأرض كانت ملتصقة بالشمس، وحصلت انفجارات قبل ملايين السنين، فانفصلت الأرض عن الشمس، والحديد الموجود، أو يزعمون أنه موجود في نواة الأرض، وأنه جاء إلى الأرض من الشمس، وإلا فهو ليس من عناصرها أصلاً، وهذا الكلام باطل، ولا صحة له، ولا حصل انفجارات ولا شيء، والله أخبرنا أنه خلق الأرض في يومين، وخلق السماء في يومين، وأن الله دحاها في يومين، وكل ما يقولونه لا أساس له، ومخالف لظاهر القرآن، فالله قال: أَنَّ السَّمَاوَاتِ ولم يقل: أن الأرض والشمس، والشمس لا يقال لها سماء لا لغة ولا شرعاً إطلاقاً، فإذا قيل: السماء فهي ليست الشمس، لكن هؤلاء يأخذون عن هؤلاء الغربيين الذين لا يعرفون الله، ولا يعرفون الوحي، وكل ذلك يبنونه على هذه التخرصات، فلا يجوز تصديقهم في هذا ولا تفسير الآيات بهذا، والله أعلم.

قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ كثير من المفسرين فسروا الماء بأن المراد به النطفة، والله أخبر أنه خلق الإنسان من ماء مهين، وقالوا: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي: من النطفة، ويكون بهذا الاعتبار من قبيل العام المراد به الخصوص، باعتبار أنه قال: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء فالماء هنا يشمل كل ماء، لكنه أريد به النطفة، يعني أريد به معنىً خاص، وهذا الماء هو النطفة، فيكون عاماً في اللفظ خاصاً في المعنى، هذا الذي يسمى العام المراد به الخصوص.

وبعض أهل العلم يحمله على ظاهره، يقول: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أي: الماء الذي أنزله الله من السماء، وصار مختزناً في الأرض، فيخرج منها باستخراج الناس من الآبار، أو بالينابيع، أو غير ذلك، ويكون ذلك إما مباشرة بالحيوانات التي لا تعيش إلا بالماء، وقوامها وحياتها به مباشرة، وهكذا الشرب، وهكذا أيضاً بطريق الواسطة، يعني باعتبار أن هذا الماء يخرج من النبات، والإنسان والحيوان يتغذى على هذا النبات، فالله جعل من الماء كل شيء حي بهذا الاعتبار، فإذا لم يوجد هذا الماء سيهلك الإنسان والحيوان والنبات، ويكون النبات داخلاً فيه بهذا الاعتبار، فالنبات فيه حياة، وإن لم تكن مثل حياة الحيوان.

قال سفيان الثوري عن أبيه عن عكرمة قال: سئل ابن عباس -ا: الليل كان قبل أو النهار؟ فقال: أرأيتم السموات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلا ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار.

على هذا القول المروي عن ابن عباس -ا، يمكن أن يفسر بأنها كانت ملتصقة، يعني لا يخرج عنه.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن عمر -ا- أن رجلاً أتاه يسأله عن السموات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما، قال: اذهب إلى ذلك الشيخ فاسأله، ثم تعال فأخبرني بما قال لك، قال: فذهب إلى ابن عباس فسأله، فقال ابن عباس: نعم كانت السموات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تنبت، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر، وفتق هذه بالنبات، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره، فقال ابن عمر: الآن قد علمت أن ابن عباس قد أوتي في القرآن علماً، صدق هكذا كانت، قال ابن عمر: قد كنت أقول: ما يُعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن، فالآن علمت أنه قد أوتى في القرآن علماً.

الآن..، هذا القول من ابن عمر قد يفهم منه أن ابن عمر كان عنده ما يستند إليه في تفسير هذه الآية بهذا المعنى، فلما رأى أن ابن عباس قاله وعرفه، قال: قد علمت أنه قد أوتي علماً، وإلا لو كان مجرد اجتهاد عند ابن عمر فكيف يجزم أن ابن عباس قد أوتي علماً حين وافقه؟ اجتهاد وافق اجتهاداً، فلو خالفه لا ينفي هذا عن ابن عباس أنه قد أوتي علماً؛ لأنه قد علم أمراً، قال: هكذا كانت، فجزم بهذا، مع أنه شديد التورع، وما كان يقدم على التفسير كإقدام ابن عباس -ا، ولهذا كان يقول: ما كان يعجبني جراءة ابن عباس على تفسير القرآن، فكأنه وجد عنده ما يستند إليه في هذا المعنى، وهذا المعنى هو الذي اختاره ابن جرير واختاره جماعة كثيرة من المفسرين منهم القرطبي، وابن عطية صاحب المحرر الوجيز، أما القول بأنه كانت الأرض ملتصقة بالشمس فهذا ما قال به أحد، وهذا يعود إلى جميع أقوال السلف بالإبطال.

وقال سعيد بن جبير: بل كانت السماء والأرض ملتزقتين فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتْقهما الذي ذكر الله في كتابه، وقال الحسن وقتادة: كانتا جميعاً ففصل بينهما بهذا الهواء.

وقوله: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلّ شَيْءٍ حَيّ أي: أصل كل الأحياء منه، وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قلت يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني، فأنبئني عن كل شيء، قال: كل شيء خلق من ماء، قال: قلت أنبئني عن أمر إذا عملت به دخلت الجنة قال: أفش السلام، وأطعم الطعام، وصل الأرحام، وقم بالليل والناس نيام، ثم ادخل الجنة بسلام[1]، وهذا إسناد على شرط الصحيحين إلا أن أبا ميمونة من رجال السنن واسمه سُليم، والترمذي يصحح له.

الحديث هذا ثابت صحيح، وفيه قال النبي ﷺ: كل شيء خلق من ماء ولفظة "كل" أقوى صيغة من صيغ العموم، ولا يرد على هذا أن الإنسان خلق من طين، وأن الجن خلقوا من مارج من نار، فهذا أصل الخلقة، ولكن بعد ذلك فإن الإنسان خلق من نطفة، وهي من الماء، وقوامه إنما هو بالماء.

وقوله: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أي: جبالاً أرسى الأرض بها وقررها وثقلها لئلا تميد بالناس، أي تضطرب وتتحرك، فلا يحصل لهم قرار عليها لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع، فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات والحكم والدلالات؛ ولهذا قال: أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي: لئلا تميد بهم.

يقول أهل العلم من المعاصرين: إن اليابسة تبلغ ما يقرب من الثلث أو أقل من الثلث، يعني يقولون: إن الماء يصل إلى حدود 72 -مع بعض الكسر- في المائة من مساحة الأرض، وإن الباقي هو اليابسة.

يقول: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ يعني الجبال، أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ أي: لئلا تميد بهم، أَنْ تَمِيدَ أي: كراهة أن تميد بهم، أو لئلا تميد بهم، وأصل الميد هو التحرك والدوران، فجعلها أوتاداً، كما قال الله وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا [سورة النبأ:7]، فهي مثل المسامير تمسك الأرض من أجل أن لا تضطرب ولا تتحرك، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا [سورة النازعات:32].

وقوله: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً أي: ثغراً في الجبال يسلكون فيها طريقاً من قطر إلى قطر.

الضمير في قوله:وَجَعَلْنَا فِيهَا يرجع إلى أقرب مذكور، وأقرب مذكور هو الرواسي، وَجَعَلْنَا فِي الأرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا، ولهذا ذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد وَجَعَلْنَا فِيهَا أي: في الرواسي في الجبال، جعل فيها فجوات بحيث ينتقل الناس من خلالها ويعبرون منها، وبعضهم يقول: الضمير يرجع إلى الأرض، وَجَعَلْنَا فِيهَا أي: في الأرض، فِجَاجاً سبلاً، جعل فيها طرقاً يسلكها الناس ويسيرون عليها، ينتقلون في مصالحهم وحاجاتهم.

يسلكون فيها طرقاً من قطر إلى قطر، وإقليم إلى إقليم، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه البلاد، فيجعل الله فيه فجوة –ثغرة- ليسلك الناس فيها من ههنا إلى ههنا؛ ولهذا قال: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.

كلام ابن كثير واضح أن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهو الجبال، وَجَعَلْنَا فِيهَا أي: في الجبال، فيجعل فيها بين هذه الجبال فجوات بحيث ينتقل الناس ويسيرون، وكل مخترق بين جبلين كما يقول بعض أهل معاني القرآن فهو فج، كل مخترق بين جبلين يقال له فج، وبعضهم يفسر الفجاج بالمسالك، فإذا فسر قوله -تبارك وتعالى: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً أي: في الجبال في الرواسي فيكون بما يوجد من الفجوات التي يمر بها الناس، وإذا قيل بأن ذلك يرجع إلى الأرض باعتبار أن الحديث كان عنها وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا، فجعل في الأرض رواسي، وجعل فيها فجاجاً، فيكون المقصود في الأرض هذه الفجاج الطرق التي يسلكها الناس، لكن إذا قيل: بأن أصل الفج في اللغة هو كل مخترق بين جبلين، فيكون وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً يعني بين هذه الجبال التي أرساها، وهذا القول بينه وبين القول الآخر -إنها الأرض- نوع ملازمة، فإذا جعل بين هذه الجبال فجاجاً فإن هذه الجبال في الأرض، فيكون قد جعل في هذه الأرض فجاجاً سبلاً، قال: لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ يعني إلى مصالحهم وحاجاتهم، ومعايشهم، وما إلى ذلك.

وقوله: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً أي: على الأرض وهي كالقبة عليها، كما قال: وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ [سورة الذاريات:47]، وقال: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [سورة الشمس:5]، أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [سورة ق:6]، والبناء: هو نصب القبة، كما قال رسول الله ﷺ: بني الإسلام على خمس[2]، أي خمسة دعائم، وهذا لا يكون إلا في الخيام كما تعهده العرب، مَحْفُوظاً أي: عالياً محروساً أن يُنال، وقال مجاهد: مرفوعاً.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- يقول في قوله: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً "أي: على الأرض وهي كالقبة"، فالأرض كما هو معلوم كروية، والسماء محيطة بها من كل ناحية، فهي كالقبة على الأرض، ولذلك نحن حينما ننظر إلى الأفق نجد أن المدى في الأرض ينقطع ولا نرى إلا السماء؛ وذلك لكروية الأرض كما هو معلوم، فيقول: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً، محفوظاً: يمكن أن يكون محفوظاً من الشياطين، كما قال الله وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ [سورة الحجر:17]، يحتمل هذا.

والآية التي ذكرها الحافظ ابن كثير -رحمه الله- قال: وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا، و أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ يمكن أن يفسر بأن المقصود بالسقف المحفوظ: المحفوظ من التشقق والتصدع، وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ، والله -تبارك وتعالى- يقول: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ [سورة الملك:3] بمعنى الشقوق، والسماء في غاية الإحكام في خلقها، ليس فيها تصدع، على مر هذه المُدد والأوقات الطويلة على خلقها مع ذلك ليس فيها تشقق، بخلاف ما يبنيه الناس، فإنه إذا طال عليه العهد تشقق وتصدع، فتكون محفوظة من التشقق والتصدع، وقال في قوله: مَحْفُوظاً "أي: عالياً محروساً أن ينال.

وقال مجاهد: مرفوعاً"، وهذا يدل عليه قوله تعالى: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [سورة الطور:5]، وتفسر الآية الأخرى بهذا الاعتبار، وبعضهم يقول: سَقْفاً مَحْفُوظاً يعني: من أن تقع على الأرض، فالله هو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولاً، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي يحفظها من الوقوع وكما يقول: وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [سورة الحج:65]، وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [سورة الروم:25]، تقوم بمعنى أنها تثبت فلا يحصل لها وقوع.

وبعضهم يقول: إنه محفوظ بالنجوم، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً، يعني جعلها الله رجوماً للشياطين، وهذا يرجع إلى قول من قال: مَحْفُوظاً أي: من الشياطين، حفظها بهذه النجوم، جعلها رجوماً للشياطين، وكل ذلك يدل عليه القرآن، فإذا فسر المحفوظ بالمرفوع فهذا قد دل عليه القرآن، والآية تحتمله، وإذا فسر بأنه محفوظ من التصدع والتشقق فهذا دل عليه القرآن، وإذا قلنا: إنه محفوظ من الشياطين وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، فهذا دل عليه القرآن، ولو قال قائل: بأن الآية تفسر بهذا جميعاً لم يكن بعيداً؛ لأن الآية تحتمله، وكل معنى من هذه المعاني يشهد له القرآن.

إذا فسر بأنه محفوظ من التصدع والتشقق فهذا دل عليه القرآن، وإذا قلنا: إنه محفوظ من الشياطين وهو الذي اختاره ابن جرير -رحمه الله، فهذا دل عليه القرآن، ولو قال قائل: بأن الآية تفسر بهذا جميعاً لم يكن بعيداً؛ لأن الآية تحتمله، وكل معنى من هذه المعاني يشهد له القرآن.

وقوله: وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ، كقوله: وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعرِضُونَ [سورة يوسف:105] أي: لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر، وما زُينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكامله في يوم وليلة، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلا الله الذي قدرها وسخرها وسيرها.

ثم قال منبهاً على بعض آياته: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ أي: هذا في ظلامه وسكونه وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى وعكسه الآخر، وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ هذه لها نور يخصها، وفلك بذاته، وزمان على حدة، وحركة وسير خاص، وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر، وكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ أي: يدورون، قال ابن عباس -ا: يدورون كما يدور المغزل في الفلكة، كما قال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم [سورة الأنعام:96].

وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مّتّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ۝ كُلّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَينَا تُرْجَعُونَ [سورة الأنبياء:34، 35].

يقول تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مّن قَبْلِكَ أي: يا محمد الْخُلْدَ أي: في الدنيا بل كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فان ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ [سورة الرحمن:26، 27].

وقوله: أَفَإِنْ مّتّ أي: يا محمد فَهُمُ الْخَالِدُونَ أي: يؤملون أن يعيشوا بعدك، لا يكون هذا بل كل إلى الفناء.

قوله: أَفَإِنْ مّتّ أي: يا محمد فَهُمُ الْخَالِدُونَ، بعضهم يقول: إن قوله: فَهُمُ الْخَالِدُونَ أن المقصود به الاستفهام، لكن حذفت همزة الاستفهام، يعني أفهم الخالدون؟ وهذا موجود له نظائر في القرآن، وله ما يشهد له من كلام العرب، ومن ذلك قول الشاعر:

رَفَوْنِي وقالوا: يا خُويلدُ لم تُرَعْ وقلتُ وأنكرتُ الوجوهَ هُمُ هُمُ

يعني أهمُ همُ؟

وقول الآخر وهو عمر بن أبي ربيعة:

بَدَا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ
فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ

بسبع: يعني أبسبع رميت الجمر -الجمار، أم بثمان، بسبع أبسبع؟ فحذف همزة الاستفهام، وشواهد هذا كثيرة، فيحتمل أن يكون أَفَإِنْ مّتّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ أفهم الخالدون؟ ويحتمل أن يكون المراد به؛ لأنه ليس هنا استفهام في الثاني، أَفَإِنْ مّتّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ بعدك، ليس الأمر كذلك؛ لأن الله ما جعل لبشر من قبلك الخلد، وأخذ من هذا بعض أهل العلم أن الموت ليس فيه شماتة، فإذا كان بين الإنسان وبين غيره شيء ثم مات فإنه ليس له أن يشمت به لأنه مات؛ لأن هذا أمر يجري على الجميع، لا فرق بين هذا وهذا، وكما قال بعضهم:

فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا

فإذا كانت الشماتة بالموت فهم سيموتون، بخلاف ما يقع للإنسان من سوء العاقبة، بسبب سوء فعله، فإن هذا هو الذي قد يشمت به الناس، ولهذا يحتاج إلى أن يتجلد، وقد قال هارون -عليه الصلاة والسلام: فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء [سورة الأعراف:150]، فحينما يأخذ بلحيته وبرأسه وهم ينظرون، أو يبلغهم هذا، فإن هذا يكون محلاً للشماتة، مع أن الإنسان لا يليق به أن يشمت بالناس.

أي يؤملون أن يعيشوا بعدك، لا يكون هذا، بل كل إلى الفناء؛ ولهذا قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.

المعنى الذي فسر به ابن كثير -رحمه الله: "أي: يؤملون أن يعيشوا بعدك"، على أنه ليست هناك همزة استفهام محذوفة فَهُمُ الْخَالِدُونَ أي: يؤملون العيش بعدك، لا يكون هذا.

وقد روي عن الشافعي -رحمه الله- أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين:

تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلَافَ الَّذِي مَضَى تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قدِ

وقوله: وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً أي: نختبركم بالمصائب تارة وبالنعم أخرى، فننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس -ا: وَنَبْلُوكُمبِالشّرّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةًبالشدة والرخاء، والصحة والسقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال.

وهذه الآية صريحة في أن الابتلاء الذي يحصل للناس يكون بالمحبوب والمكروه، وَنَبْلُوكُم بِالشّرّ وَالْخَيْرِ يعني الغنى والفقر والصحة والمرض وما أشبه ذلك، ولهذا قال بعض السلف: إن الغنى والفقر مطيتا الابتلاء، فالله يقلبهم بهذا وهذا، بل يقلبهم في الأوقات بين الحر والقُر؛ ليستخرج عبوديتهم في الشدة والرخاء، فالرخاء له عبودية، والشدة أيضاً لها عبودية غير عبودية الرخاء، فهذا بالصبر والرضا، وهذا بالشكر، وإن كان هذا أيضاً لا يخلو من صبر ورضا، والآخر أيضاً لا يخلو من شكر، فالله -تبارك وتعالى- يقلبهم، فمن الناس من قد يصبر على البلاء، ولكنه لا يصبر على النعماء والرخاء، ومن الناس من يصبر في العافية ويثبت، ولكنه لا يصبر ولا يثبت في حال الشدة، ويُقلَّب الناسُ بين هذا وهذا اختباراً لهم.

وقوله: وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ أي: فنجازيكم بأعمالكم.

سؤال:

هل يقولون بأن الحديد نزل من الشمس أو كذا، ربما يستدلون بما ذكره الله -جل وعلا- في سورة الحديد وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ [سورة الحديد:25]، كأنه نزل من علو؟

نزل الحديد من علو، لكن لا يلزم أن يكون جاء من الشمس، فإن قوله: وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ الإنزال يعني من أعلى إلى أسفل، فبعض أهل العلم قال بأن أجود الحديد ينزل من الجبال، ويستخرج منها، فهي أرفع من الأرض، فهذا معنى الإنزال، وكما قال الله وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ [سورة الزمر:6] إما أن يكون أصول هذه الأنعام قد نزل من السماء، وإما أن يكون المقصود بأن ذكورها تنزو على إناثها فيستقر ذلك منها بالأرحام، أو باعتبار أن الولد ينزل إلى الأرض حينما يولد، فالإنزال متحقق بهذه المعاني، وتحتمل الآية وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ أن يكون أنزله الله من السماء، لكن من أين لهم أن الأرض كانت ملتصقة بالشمس، وأن هذا الحديد وجد من الشمس، وأن الشمس فيها حديد؟ كيف عرفوا ذلك؟ ويقولون بأن نواة الشمس عبارة عن حديد، ولا يوجد دليل على كل هذه الأشياء، وإنما هي عبارة عن نظريات من الغرب.

ولا يجوز أن يفسر القرآن بالنظريات، فهذه أشياء ليست ثابتة، فرضيات، فلا يفسر بها القرآن، فهذه النظريات جاء بها الغرب، القرآن أجل وأعظم من هذا، وهم لا يحتملون سماع هذا الكلام، يزعجهم جداً، يضيقون به ذرعاً، فلا تضرب أقوال السلف كلها، وتأتي بشيء لا تدل عليه اللغة، كَانَتَا رَتْقًا فتقول: مع الشمس لاصقة، السماء هي الشمس.

  1. رواه أحمد في المسند برقم (7932)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير أبي ميمونة، فقد روى له أصحاب السنن الأربعة، وهو ثقة، والحاكم في المستدرك برقم (7278)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وقال الألباني: "إسناده صحيح" كما في إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل (3/238).
  2. رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب الإيمان وقول النبي ﷺ: بني الإسلام على خمس، برقم (8)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أركان الإسلام ودعائمه العظام برقم (16) من حديث عبدالله بن عمر بن الخطاب .

مواد ذات صلة